حوار مع الباحثة زهور كرّام: زمـن العـتبة والتخـييل والذاكـرة


فئة :  حوارات

حوار مع الباحثة زهور كرّام: زمـن العـتبة والتخـييل والذاكـرة

 أنس الطريقي: أنت تستعملين مفهوم العتبة للناقد الأدبي الروسي ميخائيل باختين، في وصف حالتنا الحضاريّة الرّاهنة. ماذا تقصدين بمفهوم العتبة؟ وما علاقته بالأزمة الحضاريّة الحاليّة، أو ما الإضافة التي يقدّمها في وصف هذه الأزمة، ما دامت المفاهيم، في العادة، أدوات مقاربة للظواهر يتوقّع منها القدرة على تفهّم أشمل لها؟

زهور كرّام: ما تعيشه المنطقة العربية من تحوّلات خطرة على المستوى السياسي، وانعكاس ذلك على المستوى التاريخي، والاجتماعي، والاقتصادي، وقبل ذلك على المستوى الجغرافي، يثير قلقاً وجودياً؛ إذ لا يتعلق الأمر بمجرد أحداث سياسية عادية تخضع لمواقف سياسية آنية سرعان ما تتم تسويتها في إطار منطق المصلحة، ويعود الوضع إمّا إلى حالته الأولى، ضمن أوضاع إقليمية ومحلية معينة، وإما تفتح الأحداث الباب نحو مسار جديد لتحولات ديمقراطية تستفيد منها الشعوب، وتضمن الاستقرار للمنطقة.

ما تعرفه المنطقة العربية، من دون استثناء، يُحدث لبساً في الفهم التاريخي والمستقبلي، وليس في الفهم البسيط الذي صار مُشتّتاً لدى الكل، في إطار زمن التكنولوجيا. وأصبح الكل يُفتي فيه، ويتخذ منه موقفاً، ويؤسس، من خلاله، لأشكال اجتماعية من الوعي، ولعل الواقع يسمح بذلك المستوى من الفهم، وبتعدُّد مستوياته ودرجاته، كون الأحداث تعرف تحولاتٍ سريعة، وفي الوقت نفسه، متابعةً آنيةً إعلامياً، وتكنولوجيّاً، وعبر الصورة، ما يسمح بانخراط الكل فيما يحدث. لذا، يثير ما يحدث قلقاً وأزمةً تاريخيةً-وجودية بالنسبة إلى البلدان العربية، نتيجة تداخل عناصر كثيرة في طبيعة هذه التحولات، جعلت الأمر يبدو مركباً ومعقداً، وذلك بحكم تداخل السياسي بالديني، والتاريخي بالجغرافي، مع الحضور المهيمن لخطاب إعلامي يعمل على تعقيد الفهم، عندما يتحوّل إلى أداة سياسية من جهة، ومن جهة ثانية، عندما يُفرغ السياسة من منطقها، ويجعلها مجرد لعب بالكلمات، وعندما تتنافس وسائل الإعلام فيما بينها حول تمرير خطاب الدمار الإنساني.

عندما ننظر، اليوم، في الخريطة الجغرافية للعالم العربي، سنجدها خريطة ليست ممزقة فحسب، بل تعيش حالة التآكل، الأمر الذي يتعقّد مع كلّ قرار سياسي مفاجئ. وأقول مُفاجئ؛ لأنّه لا يخضع لمنطق تطوّر الأحداث، وتحولاتها على الأرض، وهذا يثير، بدوره، قلقاً مُضاعفاً، كون الوضع أصبح منفتحاً على كلّ الاحتمالات. زمن الاحتمال صار هو السائد والمتحكّم في تدبير الأحداث، فأنتج ذلك نوعاً من الثقافة التي باتت تقف في موقع الانتظار، تتفاعل بعد الحدث، وليس قبله، أو تستهلك مواصفات خطاب الشارع، وهذا، بدوره، يؤشّر إلى بعض مظاهر أزمة التحليل والتفكير المنطقي والعقلاني لما يحدث. ولنا مظاهر كثيرة من هذه الثقافة، التي تنتشر وتسود -مع الأسف- ما يُعطي الانطباع بانفلات الفهم الواضح.

عندما حدّد ميخائيل باختين مفهوم العتبة، جعلها تختصر زمن الأزمة، أزمة الانتظار، وعدم الحسم في القرارات والمواقف، وجعل العتبة تتجلى في كلّ فضاءات البين - بين، مثل الحدود، والجسور، والنوافذ، والأبواب، والمطارات، والمحطات. ونظرة سريعة على موقع الشعوب العربية، التي تتآكل جغرافيتها وتاريخها، سنجدها توجد في العتبة، موقع الأزمة، أزمة الانتظار. وعندما يرافق الانتظار زمن الاحتمال، فإنّ العتبة تصبح زمناً للإقامة.

أنس الطريقي: فيمَ تتجلّى مظاهر هذه الوضعيّة؛ وضعيّة العتبة، في نظرك؟

زهور كرّام: يكفي أن ننظر في طبيعة الفضاءات، التي تحوّلت إلى إقامة غير آمنة، ودون كرامة للشعوب العربية النازحة من أوطانها، وأرضها، وتاريخها، بسبب الأوضاع الخطرة من قتل، وتدمير، ورعب، حتى نُدرك معنى العتبة. ثم لننظر في الحدود بين الكثير من البلدان العربية، التي تحوّلت إلى مركز للاهتمام السياسي والإعلامي، وأصبحت حاضرة، بقوّة، في المعجم العربي، كونها باتت تشكّل أسئلة كبرى عن مفهوم استقرار كلّ بلد على حدة، وأصبحت موقعاً للتجاذبات السياسية، والعسكرية، والمخابراتية، بعدما شكّلت –فيما مضى- طريقاً للتبادل التجاري، سواء بالقانون أم بالتهريب.

مع هيمنة العتبة، وتحوّلها إلى موقع للإقامة، ذبل مفهوم الوطن في المعجم، وفي الحياة العادية للمواطن، واستُبدل بفضاءات العتبة، من مخيمات يقهرها البرد، والثلج، والحرّ، والصيف، وحدود تحولت إلى إقامة عائمة تتقاذفها السياسات الدولية، وبحر يبلع النازحين والمهاجرين دون أن يشبع، وشواطئ تحولت إلى مقبرة، وهي تستقبل كلّ يوم الضحايا الذين لفظتهم عتبة المخيمات والحدود.

تعددت أشكال العتبة، وأنتجت حالة عربية يحملها كلّ مواطن عربي غادر وطنه قهراً، ولا يزال يبحث في العتبة عن ظلٍّ بسيط ينقذه من عراء الزمن. كما هيمن معجم مُشبع بزمن الأزمة، فبعد رفع شعارات مفاهيم، مثل: المواطنة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير في البلدان العربية، مع تفاوت في درجة الاهتمام والتفاعل، تحوّل المواطن العربي إلى لاجئ، ونازح، ومُهجّر، ومُغتصَب، وشهيد. ولعل ما عرفته قضية النازحين السوريين الأخيرة، على الحدود الأوربية، خير دليل على أننا بتنا نعيش في فضاء العتبة، زمن الأزمة، أزمة الانتظار.

المأساة الكبرى في زمن العتبة أنّ تسارعَ إيقاع الأحداث حوّل الأحداث إلى مشهد عادي؛ لأن العين تعتاد الصور المُتلاحقة للمشهد، من قتل، وتدمير، واغتصاب لمعنى الوجود، والأذن تألف المعجم المُرافق للمشهد (النازح، اللاجئ)، عندها يصبح كلّ شيء عادياً، وغير مُثير أو مُستفز، وتُصبح صور الأطفال، الذين وُلدوا وقتلوا في زمن الأحداث، عادياً، ومن ثمّ ينتقل مفهوم العتبة، أو زمن الأزمة، من واقع الأحداث الجغرافية، والتاريخية، والإنسانية، إلى زمن أزمة الوعي العربي. من العتبة يستطيع الفكر العربي أن يشتغل بجرأة فكرية، وتحليل مسؤول من أجل مستقبل عربي خارج العتبة.

أنس الطريقي: إذا كان هذا المفهوم من مجال الأدب ونظريّته، فهل ترَيْن أنّ الأدب له علاقة بهذه الأزمة الحضاريّة؟ أهو سبب من أسبابها، أو مظهر من مظاهرها، أم حلّ من حلولها؟ كيف ترين علاقة الأدب بهذه الأزمة، من خلال الاحتمالات أو الزوايا السابقة؟

زهور كرّام: الأدب تعبير تخييلي يُشخّص ولا يعكس الواقع، ومن ثمّ، هو أحد تجليات الواقع التاريخي-الاجتماعي؛ لأنه مظهر من مظاهر الحياة الثقافية، والفكرية، والفنية. هناك علاقة تأثُّر وتأثير بين الواقع والأدب، غير أنّ العلاقة ليست آلية، أو مباشرة؛ لأن خطاب الأدب لا يشبه خطاب السياسة، الذي نرى تأثيره أو تأثّره بالواقع بشكل مباشر وملموس، في أغلب الأحيان، في لحظة التأثُّر/التأثير نفسها.

الأدب يتجه نحو الأفق أو المستقبل؛ لأنه يشتغل بمنطقة الوعي الممكن والمحتمل. ومن هذه المنطقة، يستطيع الأدب أن يُنتج وعياً بما حدث ويحدث، عبر إضاءة الواقع والتاريخ بشكل تخييلي. التخييل عنصر جوهري في خطاب الأدب؛ لأنه يسمح بحرية بناء، وإعادة بناء؛ الواقع أو التاريخ، بشكل تشخيصي، يجعلنا أمام ترتيب مُغاير لمواد الواقع، والعالم، والتاريخ، وأمام نظام مُفارق للنظام الذي نحيا فيه من دون أن نُدرك منطقه. هذه الحرية المسؤولة معرفياً، وفنيا، وجمالياً، وأدبياً، تُحقّق للكاتب القدرة على المُكاشفة، والمُساءلة، والتأمُّل، والاقتراب من الواقع والذاكرة من دون رقيب تاريخي، أو سياسي، وما شابه. لهذا، الأدب خطاب حضاري شأنه شأن كلّ الخطابات التي تفعل في وضعية المجتمعات (السياسية، والاقتصادية، والتاريخية...)، غير أن فعل الأدب لا يظهر بشكل أفقي في وعي الأفراد؛ لأنه يشتغل بمناطق أخرى في الإنسان، مثل: الوجدان، والروح، والذهنية، والذاكرة، وهي مقومات حين تكون متوازنة تُؤثّرُ في سلامة التفكير، وعقلنة الأشياء، والمُصالحة مع الذات. ما تعرفه اللحظة التاريخية العربية، اليوم، من هزّات سياسية، واجتماعية، وتاريخية، وجغرافية، يستدعي اشتغال كلّ الخطابات من أجل وعي مسؤول وتاريخي يُرافق هذه اللحظة، والأدب خطاب مُطالب، اليوم، وقبل اليوم، بأن يكون في مستوى اللحظة، ليس بكتابة تقارير عنها، أو توثيقها بشكل مباشر، أو استهلاك الفهم السياسي لها، أو الوقوف عند تحويلها إلى مجرد حكاية عابرة، إنما بعدم تزييف اللحظة إبداعياً.

أنس الطريقي: تتحدّثين، أيضاً، عن عمليّة إفراغٍ للمفاهيم من مضامينها ومحتوياتها، وهذا ينطبق على مفاهيم ذات مدلولات أخلاقيّة وسياسيّة كثيرة عندنا؛ منها مفهوم الحريّة، ومفهوم الديمقراطيّة. هل يمكن أن تشرحي لنا عمليّة هذا الإفراغ، في هذين المستويين؟ وهل يجري هذا الإفراغ، أيضاً، للمفاهيم في المستوى الميتافيزيقي، فمفاهيم اللّه والإنسان، وهي من أهمّ المفاهيم والمنطلقات التي نبني عليها تصوّراتنا للحياة، يبدو أنّها، عندنا، محصورة، أو تُحصر، في تحديدات ميتافيزيقيّة، تتسبّب، إلى حدّ ما، في الأزمة الحضاريّة؟ هل يمكن أن تشرحي لنا ذلك من منظورك الأدبيّ؟

زهور كرّام: هناك شيء حدث منذ بداية ما عُرف بـ«الربيع العربي». ليس على مستوى التحولات السياسية، التي نشهد انعكاساتها على الشعوب العربية، فحسب؛ بل على مستوى التعامل مع مختلف الدلالات، التي تبنتها المفاهيم على مرّ المراحل التاريخية. كان الفكر العربي يناقش المفاهيم ودلالاتها (الحرية، الديمقراطية، المواطنة، الأنا، الآخر، الدولة، الشريعة...)، ويصطدم بإكراهات، إمّا دينية، أو فقهية، أو ذهنية، أو سياسية، وكان ينتج عن شكل هذا الاصطدام وضعية معرفية للمفاهيم تجعل هذه المفاهيم تنتمي، في تداولها واستعمالاتها، إلى السياق العربي، وتحمل علامات دالة على طبيعة التفكير العربي، وموقع المجتمعات العربية في التأثير في هذا التفكير.

ولأنّ كلّ بلد عربي كان يعيش تحديات سياقية خاصّة بأسئلته، كان شكل التعامل مع المفاهيم يستجيب لطبيعة الحركة التاريخية والسياسية في كلّ بلد على حدة، ما جعل المجتمعات تُناقش مفاهيم مثل: المواطنة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، والديمقراطية، والمناصفة، والشراكة، وغير ذلك من المفاهيم، التي انفتحت عليها بلدانٌ سمح وضعها السياسي، والثقافي، والاقتصادي، بإثارتها، وخلق مناخ للجدال حولها، إمّا بتحفيز نضالي من قبل المجتمع المدني، وإما بسبب طبيعة التحولات السياسية، والسعي إلى أجرأتها واقعياً، لتصبح خيارات سياسية ومجتمعية مثل: وضعية المغرب، الذي بدأ تداول مثل هذه المفاهيم منذ الفترة التاريخية التي عاشها سياسياً مع مرحلة الانتقال الديمقراطي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وقبلها مع المجتمع المدني، وأيضاً بلدان أخرى انتبهت إلى ضرورة الانخراط في مفاهيم الحداثة، لاسيما مع التوقيع على الاتفاقيات الدولية حول حقوق الإنسان، والمرأة والطفل، في حين بقيت سياقات عربية بعيدة عن مناقشة هذه المفاهيم، لاعتبارات سياسية، أو لانشغالها بقضايا أخرى. لكن، تحولات كثيرة عرفتها طريقة التعامل مع هذه المفاهيم وغيرها، ولعلّ أول تحول سيؤثّر في وضعية المفاهيم في التفكير والممارسة، يتعلّق الأمر بهذا التحول، الذي اشتمل على الأفراد في المجتمعات العربية، وجعلهم يمتلكون مواقع في المجتمع، من خلال التعبير الحرّ، وإبداء الرأي الذاتي، عبر الوسائط التكنولوجية، الشيء الذي لم يكن ممكناً من قبل؛ لأن بناء المعرفة الدلالية للمفاهيم كان يتم عبر المؤسسات. أمّا مع الربيع العربي، وبعده، فقد تشكّلت ثقافة جديدة تمنح الفرد حرية التصرف في المفاهيم، وإعطائها أبعاداً جديدة، وجعلها تحمل دلالات حسب وجهة نظره. أسهمت في خلق هذه الثقافة، من جهة، حالة الحرية التي انبثقت مع «الربيع العربي»، ومن جهة أخرى، تزامنت تلك الحالة مع الوسائط التكنولوجية، التي فتحت أمام الفرد العربي فضاءً سخياً كي يعبر خارج وساطة المؤسسات، التي أصبحت تقليدية، حين تمّ تجاوزها بتحديدات جديدة للمفاهيم. لهذا، بتنا نشهد دخول موضوعات ومفاهيم إلى منطقة الجدال، في حين لم يكن الأمر ممكناً فيما قبل. كما بدأ الوعي بدلالات المفاهيم المألوفة يتخذ أوصافاً جديدة، ومعاني مختلفة، مثل: الحريّة، التي إذا وقفنا عند تمثلها لدى الوعي المجتمعي، فسنجدها قد أصبحت في ارتباط تامّ مع فعل الإنجاز الفردي.

بمعنى آخر، هناك تحول في دلالة مفهوم الحرية خارج منطق التعريف المؤسساتي. ويتزامن هذا الفهم مع شكل الدفاع عن مفهوم الحقّ الذي بدأ، هو الآخر، يعرف، تدريجياً، تحولاً في استعماله. فيما قبل، كانت هناك توافقات في الدلالات حسب مرجعيات المؤسسات من جهة، وعلاقة هذه المرجعيات/ المؤسسات بواقع التفاعل الاجتماعي. اليوم، مع هذا الشعور بنوع من الاستقلالية عن المؤسسات، وتعويض ذلك بوسائط التكنولوجيا، التي لا تُقيد حرية الفرد، ولا تتدخل في فهمه، ولا تمنعه من تمرير شكل فهمه؛ بل تعطيه الحق في أن يتحول إلى مُنتج للفهم، فقد أصبح الأفراد يقترحون تمثّلاتهم للمفاهيم، ومقارباتهم للتصورات. ولعلّ الخطابين الديني والسياسي يُعدّان من أهم المؤسسات والخطابات التي كان من الصعب على الفرد العربي الاقتراب منها؛ ولهذا نلاحظ أنهما من أكثر الخطابات التي تعرف نشاطاً في الرأي، والتأويل، والاقتراح، والجدال. انعكس هذا على ظهور اجتهادات لمفاهيم خاصّة بالمعاملات في الدين، وبشكل عام في الشريعة. أمّا السياسة، فلم تعد حكراً على مؤسسات الدولة، وإنما أصبحت موضوع الأفراد. نلتقي بجانب آخر من التعامل مع المفاهيم، التي بدأت تفقد معانيها المألوفة، وأحياناً، يُحيط بها الفراغ الدلالي، عندما تُستعمل خارج السياق، أو عندما يتشتت الفهم ويتعدّد/ يتنوّع. مثلاً ما معنى الحرية والحق اليوم؟ أين تبدأ، وأين تقف، حرية الفرد اليوم؟. وما معنى الحق؟ هل لك الحق في نشر صور غيرك على صفحتك في «الفيس بوك» ضمن موقف خاص بك مثلاً؟ وهل لك الحق في نشر بيانات كيفما كان خطابها ومرجعيتها على صفحة غيرك؟ أين الحق في هذا؟ كيف هي الحرية في هذا الفعل؟ ماذا يعني الخاص والعام في استعمال الحق، وممارسة الحرية؟ لو تأملنا هذه الأسئلة، التي قد تبدو بسيطةً جداً، وغير مُفكَر فيها، نظراً لكونها مُحصّنة بمفاهيم أخرى حملتها معها الوسائط التكنولوجية، مثل الشراكة، ونشر وتقسيم المعلومة/ الخبر مع الآخر، والتفاعل، وغير ذلك من مفاهيم الزمن التكنولوجي، فإننا سنقف عند توظيفات جديدة لهذه المفاهيم، التي أصبحت تُنتج سلوكات وممارسات في الحياة. وأحب، هنا، أن أشير إلى ملاحظة قابلة للنقاش؛ إن ما يحدث، اليوم، للمفاهيم في السياقات العربية، أنها أصبحت سلوكاً وممارسة، وليست تنظيرات، أو شعارات حزبية، أو مجرد خطابات نظرية، أو مطالب حقوقية؛ ولهذا، هي تحتاج إلى التفكير فيها، في حين الذي كان سائداً مع زمن خطاب الحداثة، أننا كنّا نفكر في المفهوم، كما تمّ تحديده في سياقه الغربي، ثم نُطالَب بالتربية على ثقافته في أفق أجرأته. هذا الوضع يتطلّب اشتغالاً فكرياً مسؤولاً، ولهذا نحتاج إلى مراكز البحث والدراسات الحقيقية، لكي تشتغل بهذه التحولات التي تحدث على أرض الواقع العربي، كما نحتاج إلى بحث علمي حقيقي يفسح المجال أمام الأبحاث العلمية كي تُفكر علمياً ومنهجياً في خطاب المفاهيم بين الممارسة والتمثل الوظيفي.

أنس الطريقي: ما المساهمة التي يمكن أن يقدّمها الأدب في إعادة التأهيل الحضاريّ المطلوب في العالم العربيّ الإسلاميّ، بعد هذا الانتباه إلى أهميّته في ميدان الحضارة، الذي أبداه أبرز الفلاسفة المعاصرين بداية من هيدغر وصولاً إلى بول ريكور مثلاً؟

زهور كرّام: الأدب حالة ثقافية ومعرفية تُرافق التحولات، ليس بشكل انعكاسي مباشر، أو توثيقي، إنما بشكل وظيفي. والأدب، اليوم، ليس عليه أن يسهم في إعادة التأهيل الحضاري المطلوب فحسب، إنما يجب عليه أن يقوم بذلك بناءً على وظيفته الفلسفية، التي تجعل منه خزان الرؤية للشعوب والحضارات، وحاملاً لذاكرتها الجماعية، بانتصاراتها وانهزامها، بأحلامها وانكساراتها، بآلامها وآمالها. الشعوب التي لا يُرافقها التخييل، في لحظاتها التاريخية، شعوب فانية، والحضارات التي لا تُراهن على الأدب يضيع أثرها في المستقبل. الأدب، اليوم، عليه أن يكون ذاكرة لما يحدث، وأمامه عمل كبير، أولاً، رسم ملامح الشعوب التي تضيع مع زمن العتبة، وتحصين التاريخ والجغرافيا من عبث اللحظة السياسية، وذلك وفق منطق الأدب الذي لا يُهادن، ولا يخضع لوصاية، لسبب بسيط؛ لكونه يشتغل في منطقة حرّة غير تابعة سياسياً، أو دينياً، أو جغرافياً. وإذا ما قمنا بتحليل خطاب الإنتاج الأدبي العربي راهناً، فسنلاحظ بعض التحوّل المهم، الذي بدأ الكثير من النصوص يُعبّر عنه. وتبدو في الأفق بداية تشكّل رؤية للحظة التاريخية. وتعد الرواية من أهمّ الأشكال الإبداعية التي تُرافق التحولات، وتعمل على إنتاج وعي، من خلال النظام الجديد الذي تقترحه لحكايات زمن العتبة. ليس معنى هذا أنّ كلّ الأعمال الروائية، التي تناولت موضوعات ما يحدث، يمكن أن تسهم في تحقيق هذه الرؤية/ ذاكرة اللحظة، إنما التجارب الروائية التي نجحت في الإعلاء من قيمة التشخيص الأدبي، ما جعلها تقترح وعياً بما حدث/ يحدث. وبعيداً عن ذكر النماذج؛ لأنّ المهم، هنا، هو تسجيل ملاحظة على قدرة الرواية العربية/ الأدب على تحقيق هذه المعادلة في مرافقة التحولات. أشير إلى بعض مظاهر الرواية العربية اليوم، ومنها اعتماد التاريخ الراهن في التخييل الروائي، مع القدرة على خلق المسافة معه إبداعياً، وأيضاً إدخال الجغرافيا، والتاريخ، والحضارة، إلى السرد الروائي، وتحصينها من التلف السياسي، بتحويلها إلى موضوعات روائية، وتحقيقها ذاكرة متخيلة. ولعلّ هذا المظهر الأخير يُسهم في الحفاظ على الجغرافيا التي تتآكل، والتاريخ الذي يُدمر، والحضارة التي تُسرق، والإنسان الذي يُوضع خارج معنى وجوده. لذا، نلاحظ أنّ الرواية العربية، في كثير من نماذجها، باتت تُبدع أنظمة تقنية، وخطابات سردية، لكي تُشكّل ذاكرة الوطن، التي نراها تضيع بتدميرها، واغتصابها، وسرقتها، وتزييف تاريخها، وإهانة زمنها. ولنا نماذج كثيرة في الرواية العراقية، والسورية، وغيرهما. كما وجدنا الرواية تدخل المجال السياسي بتخييله، وإعادة تفكيكه وترتيبه وفق رؤية جديدة تجعل منها إمكانيّة لإنتاج وعي بالخطاب السياسي في العالم العربي.

لا شكّ في أنّ الرواية العربية، بكلّ هذه المنظورات التي باتت تُؤسسها، تُعبّر عن وظيفية الأدب بشكل عام في المجتمع، والسياسة، والتاريخ، كما أصبحت تُعبّر عن انتمائها المعرفي إلى التربة العربية. هناك أشياء تحدث في الأدب، لاسيّما مع الرواية بكلّ تنويعاتها السردية. يتطلّب الوضع، فقط، اقتراباً نقدياً وفكرياً وثقافياً لهذا الذي يحدث، وباستطاعته أن يُسهم في توضيح الفهم، حتى لا نبقى في عتبة التاريخ.