حوار مع الدكتور حمادي بن جاء بالله الحداثة: عقلانية وحرية وتنمية


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور حمادي بن جاء بالله الحداثة: عقلانية وحرية وتنمية

حوار مع الدكتور حمادي بن جاء بالله الحداثة: عقلانية وحرية وتنمية

سعياً للتعالي عن المقاربات الاختزالية، وفتحاً لأفق البحث العملي والنقاش الفكري الذي يعيد للإنسان فاعليته المفقودة في السياقات الخطابية الشمولية، وانسجاماً مع ما وضعناه للكتاب من الأهداف؛ أي ما عبرنا عنه بالأفق المعرفي في تعاطينا مع القضايا الراهنة، والكشف عن الأبعاد المتعددة والمركبة للظواهر الإنسانية عموماً، ولإشكالية الحداثة في وطننا العربي والإسلامي بالخصوص، ارتأينا أن يكون حوارنا مع وجه بارز من الوجوه المنافحة عن الحداثة والتحديث في العالم العربي هو الدكتور حمادي بن جاء بالله؛ أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية.

ذ. عبدالله إدالكوس: من هو حمادي بن جاء بالله؟

د. حمادي بن جاء بالله: أشكر لكم بادئ الأمر بادرتكم الأخوية، وآمل أن أكون عند حسن ظنكم الكريم. أنا حمادي بن جاء بالله، وهي باء السببية أي بفضل من الله، مواطن تونسي... تعلمت في مدرسة الجمهورية التي أغدقت علي فضلاً لن أنساه لها، أعمل حاليا أستاذاً بجامعة تونس، أدرس تاريخ الفلسفة الحديثة والإبستيمولوجيا والفلسفة العامة، الاختصاص الأول حصلت فيه على شهادة الدكتوراه بأطروحة عن كانط، والاختصاص الثاني بأطروحة حصلت بها على دكتوراه الدولة عن تكون مفهوم القوة في الفيزياء الحديثة. أما الاختصاص الثالث أو قل شبه اختصاص لعموميته؛ فهو لحصولي على رتبة أستاذ مبرز.

ذ. عبدالله إدالكوس: يطرح تعريف الحداثة، إشكالاً إبستملوجيا، يرجع إلى الأسس التي تستند إليها كل مقاربة على حدة، أهي مرحلة تاريخية، أم حالة فكرية؟ أهي ثورة على التقليد؟ أم أنها هي ذاتها تحمل ملامح التقليد لفعل التنوير الأوربي؟

د. حمادي بن جاء بالله: اسمحوا لي أن أدعي أني أول من خص الحداثة ببحث مستقل، ولم أتحدث فيها في مجرى إشكاليات "تجديد" أو "تحديث" الفكر العربي أو الإسلامي، بل من حيث هي إشكال نظري يستحق الدرس بالذات لا بالعرض كما يقال. ولا يعني ذلك أن ما كتب في ذلك الاتجاه التجديدي قليل الخطورة، فطه حسين معلمي الأول بلا منازع ومحمد إقبال من خيرة من دعوا إلى تجديد الفكر الإسلامي، ولكن ما من أحد منهم خص حداثة عصرنا بمساءلة مفهومية تتجاوز الوقائع لتنفذ إلى الجوهر أعني منظومة القيم التي يكون بها الحديث حديثا.

كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، حيث أتاح لي مؤسس الجامعة التونسية في دولة الاستقلال الأستاذ أحمد عبد السلام رحمه الله تكوين فريق عمل في بيت الحكمة بقرطاج يوم كان رئيساً لها، وذلك بإيعاز من الأخ العزيز الدكتور حمادي صمود أستاذ الأدب العربي بالجامعة. وكنت يومها مساعداً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، وتم بعث هذا الفريق ليشتغل على الحداثة.

وكان ذلك في زمن من أصعب فترات تونس المعاصرة. فقد دفعت تونس عامة ومدرسة الجمهورية خاصة في أواخر عهد الرئيس الحبيب بورقيبة رحمه الله إلى أن تتحسس في ماض وهمي دروب المستقبل المستحيل لاسيما مع تنامي ما يسمى عندنا "التيار الإسلامي" بتشجيع سخي من أسوأ الماسكين بالسلطة الفعلية في الحزب الاشتراكي الدستوري والحكومة معا.

أثمر العمل ضمن هذا الفريق كتابين؛ الأول حرص الأستاذ أحمد عبد السلام نفسه على أن تنشره بيت الحكمة، وهو بعنوان "تحولات العلم الفيزيائي ومولد العصر الحديث"، والثاني نشر "بمركز النشر الجامعي"، وهو بعنوان "الزمن المطلق في العلم الميكانيكي النيوتوني".

في الكتاب الأول، اشتغلت على مشكل ميكانيكي صرف هو مشكل القذائف أو الرماية وبينت فيه كيف أن عشرين قرناً من التنظير الراقي تناوب على الاشتغال عليه خلالها علماء أجلاء من أمثال أفلاطون في "الطماوس" وأرسطو في "الفيزياء" أو "السماع الطبيعي" وابن سينا في كتاب "الشفاء" والفخر الرازي في "المباحث المشرقية" أو جميع علماء أوروبا اللاتينية قبل غاليلي من قبيل ليونادو دي فانشي Léonard de Vinci أو تارتاغلي Tartaglia...، ولكن أحداً منهم لم يوفق إلى فهم حركة القذائف كـأن يرمي أحدنا حجراً من النقطة أ ليقع في النقطة ب. ويكفي أن ننظر في كتاب 'الأنيق في المناجنيق " لابن ارنبغا الزرذكاش (المتوفى سنة 867 هجرية)، لنتبن الهوة الفاصلة بين العقل التقني والعقل العلمي في العصر الوسيط، ولندرك كيف أن المنجنيق هدّ قلاع الأسياد والإمارات دون أن تفهم القرون الوسطى العربية والأوروبية بمهندسيها وعلمائها حركة القذيفة في حين أنه اليوم متاح لأبناء المدارس الثانوية، حيث لن يطمع أحدهم في النجاح في الباكالوريا /الثانوية العامة، إذ لم يكن قادراً على حل جل المشاكل التي يطرحها علم القذائف.

وما كان ذلك ليكون على هذه الدرجة من السهولة، لولا نضال أجيال من العلماء، فما هو اليوم سهل وبديهي لم يكن بالأمس القريب سهلاً ولا بديهياً. إن البداهة العقلية كسب نفوز به حين نقطع مساراً عقلانياً طويلاً، وليست وهبا يلقى في الفكر حدسياً. لذلك سعيت في العمل المشار إليه إلى تبيان كيف توصل غاليلي مستعيناً خاصة بيحي النحوي Jean le Grammairien /Johanus Philoponus وابن باجة إلى حل هذه "المعضلة" كما كان يسميها أفلاطون في أثينا أو ابن سينا في بغداد أو بيريدان Buridan في باريس. وإنما وفق إلى ذلك ببيان ما كان يجري عليه "العلم اليوناني - العربي - الأوروبي اللاتيني" علم أثينا وبغداد وباريس، وهو عصر إبستيمولوجي واحد، من بديهيات فاسدة ومصادرات وهمية، مثل تعريف الحركة عند جميع من ذكرنا بأنها "فعل ما هو بالقوة من حيث هو بالقوة" أو هي انتقال من "الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل" كما كان يقول "المعلم الأول" ومريدوه ومعارضوه على حد سواء باستثناء الذرية الأبيقورية...

كان لابد من تجديد أسس العلم الميكانيكي الأرضي مع غاليلي وديكارت في مجرى تجديد العلم الميكانيكي السماوي مع كوبرنيك وكبلار. فانفجر الكوسموس "اليوناني - العربي - الأوروبي اللاتيني" المغلق المتناهي، ليفسح المجال لعالم مفتوح لامتهناه. وتبعاً لذلك، أزيلت حواجز القرون بين الأرض والسماء بين "عالم ما فوق القمر" و"عالم ما تحت القمر"، وأحيلت "العقول السماوية " أو "الملائكة" "Anges recteurs" التي كلفت مدة قرون بتحريك الأجرام السماوية على التقاعد، ليتوحد العالم أنطولوجيا، وهو ما تعنيه كلمة Univers الفرنسية وكلمة Universum اللاتينية وليتوحد علم العالم؛ أي الفيزياء وعلم الفلك إبستيمولوجيا وبلغ هذا المد الجديد أرقى مراحله مع صياغة قانون الجاذبية الكونية سنة 1687 على يدي صاحب كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" Principia mathematica philosophae naturalis إسحاق نيوتن. فكان ذلك القانون تتويجاً للثورة الكوبرنيكية تلك الثورة التي بدأت مع ظهور كتاب Des Revolutionibue Orbium Coelestium ؛ أي "في دوران الأفلاك السماوية" سنة 1543 حيث تبين "أن الأرض" هي أيضاً "كوكب شريف"Terra astra nobilis، مثل بقية الكواكب وذلك بعد "خسة" دامت قروناً في أذهان العلماء والفلاسفة. وترشدت تلك الثورة تدريجياً مع كبلار Kepler صاحب القوانين الفلكية الثلاثة التي وضعت - هي الأخرى - حداً لهيمنة الدائرة على بقية الأشكال الهندسية في تعقل حركات الأجرام السماوية، لتترك مكانها للاهليج Ellipse. أمّا غاليلي Galilée، فقد ساهم مساهمة حاسمة في إنشاء العلم الحديث بصياغة مبدإ تركيب الحركات Composition des mouvements، وهو ما مكنه من أن يبرهن على أنّ مسار القذيفة مركب من حركتين 1/ حركة سقوط طليق 2/ حركة عطالة. كما وضع ديكارت Descartes في ذات السياق مبدأ العطالة، وهو المبدأ الذي لا يستقيم بدونه العلم الحديث حتى اينشتاين. وانطلاقاً من ذلك المبدإ الديكارتي أصلح هويقانس Huygens أخطاء ديكارت المتعلقة بتوزيع الحركة في الكون بتوسط ظاهرة الاصطدام Choc des corps / وغير هؤلاء كثير...

قرن ونصف تقريباً (1543-1687) من التنظير والتجريب مع ما لحق الكثير من العلماء من المطاردة والسجن والتشريد وحتى القتل، لينتقل الفكر الإنساني في أوروبا من ثقافة "أثينا- بغداد-باريس" أي من العصر الإبستيمولوجي "اليوناني - العربي - الأوروبي اللاتيني" إلى ثقافة العصر الحديث علما وفلسفة ولا هوتا...

لذلك، فان الحداثة هي قبل كل شيء حدث فكري علمي وفلسفي وقيمي عبرت عنه الفلسفة الكانطية أفضل تعبير إلى حد الآن، باعتبارها وريثة الثورة الكوبرنيكية –الديكارتية وامتداداتها في الفكر السياسي والتربوي عند روسو خاصة.

الثورة العلمية أنتجت القانون العلمي، باعتباره دالة رياضيةune fonction mathématique /function ترد الكثرة المتنوعة إلى الوحدة المتجانسة كأن نفهم مثلا أن حركة القمر حول الأرض، تتم وفقاً لذات القانون الذي بمقتضاه تسقط التفاحة في الحديقة أو ترمى القذيفة من المنجنيق، حيث لا فرق بين قوانين الطبيعة وقوانين الصناعة البشرية. كان ديكارت يقول لا فرق بين عملية إثمار الشجرة وبين حساب الوقت بالساعة؛ ففي كلتا الحالتين يتعلق الأمر بتفسير الطبيعة بالحركة والمادة، وهو ما هيأ له أن يصوغ ما سماه اينشتاين انطلاقا من ديكارت نفسه "الثابتة الكونية"La constante cosmique/Cosmic constant أو قل مبدأ بقاء كمية الحركة في العالم P=m.v.

ولما كانت الحركة علاقة بين مسافة مقطوعة وزمن يستغرقه قطعها، فإن تفسير الطبيعة وجميع ما يحدث فيها، إنما يتم بتصريف ثلاثة مفاهيم، وهي الكتلة أو "كمية المادة "كما يقول نيوتن والمكان والزمان. فإلى هذه المفاهيم الثلاثة ترد جميع القوانين الفيزيائبة. الكتلة توزن بالكيلو غرام والمكان يقاس بالمتر والزمان يحسب بالساعة. تلك أدوات القياس المتعارف عليها دوليا اليوم، مثل اتفاقية 1875 لتحديد المتر أو اتفاقية 1964 لتعريف الثانية.

وليس يخفى ما لتوحيد المكاييل والمقاييس عامة من انعكاس مباشر على الحياة الجماعية داخل الوطن الواحد أو بين الأوطان المختلفة، فتوحيد المقاييس في الحياة اليومية قد يكون أبعد أثراً من خطب الساسة في الوحدة الوطنية، ولا ريب أن من عوامل توحيد التونسيين رويداً رويداً من أقصى الجنوب أو من "النخلة" إلى أقصى الشمال أو "الدخلة" توحيد المقاييس والمكاييل، مثل تعريف "الويبة" علميا وتحويل ذلك التعريف إلى قانون مدني كما جاء ذلك بقانون 12 يناير 1895 الذي عرف الويبة بكونها 4018 لتر من الماء الصافي في درجة حرارة مساوية لدرجة حرارة المحيط.. فالفرق كان شاسعاً بين قفيز تونس العاصمة وقفيز باجة، وبين القفيز الكافي والقفيز القفصي إلخ، وهو ما كان التونسيون يعبرون عنه بمثل شعبي: "كل بلاد وأرطالها" كما نتبين ذلك من دراسة أوضاع الفلاح التونسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لفلانزيLucette Valenzi ,Fallahs tunisiens: Léconomie rurale et la vie des campagnes aux 18e et 19 siècles p195/196 ولا أعتقد أنه يوجد اليوم بلد عربي واحد خارج عن الاتفاقيات الدولية المعمول بها حالياً.

فالثورة العلمية الحديثة اقتحمت علينا دارنا من حيث لا نشعر، وبدلت حياتنا وموازيننا دون أن نعي أبعاد ذلك التغيير على حقيقتها، ولعل ذلك راجع إلى أن الفكر في ديارنا لم يتعنّ لدراسة أوجه الحياة البسيطة اليومية، وما يعتمل في صلبها من تغييرات متراكمة؛ أعني أننا لم نتفلسف بعد؛ أي لم نفكر بعد في حقيقة أوضاعنا وكان الفكر عندنا يعيش خارج الزمن؛ أي خارج الحياة.

والحقيقة أن الحداثة هي أيضاً وأساساً ثورة فلسفية أنتجت فكرة "الأنا أفكر" المستقل بالرأي المضطلع بمسؤولية وجوده الذاتي وفقاً لإرادته الحرة، والتعبير الاجتماعي عن تلك الإرادة الفردية الحرة نسميه الديمقراطية. ومن ثمة كانت الثورة الفرنسية هي التعبير التاريخي السياسي عن هذا التحول القيمي الذي لم تشهد الإنسانية مثيلاً له في التاريخ، مثلما أن الثورة التونسية ظاهرة تاريخية لم نشهد لها مثيلاً منذ دستور قرطاج، باعتبارها انتقالاً من ثقافة "أصلح الله الأمير" إلى ثقافة "الشعب يريد". وليس يعنينا هنا ما يحاط ضد الثورة التونسية من مؤامرات، ولا ما يراد لها من تقزيم؛ فالثورات بمستقبلها لا بأسباب انطلاقتها وعلى قدر ما تواجه من المصاعب تكون جدية المواعيد مع التاريخ...

وبالتالي، فان الحداثة نظام من القيم العمدة فيه على العقلانية العلمية، والإرادة الحرة العلم يعطينا قانون نظام الكون المادي أرضيه وسماويه، والحرية تعطينا قانون تنظيم المجتمع البشري وفقا لتعاقد حر على نحو ما بينه روسو في "العقد الاجتماعي" أو جون لوك في "الحكومة المدنية"...وبالتالي، فإن الانتصار للحداثة معناه الانتصار للحقيقة والحرية بما هما شرطان من شروط قوة الأمم وتقدمها.

وليس أدل على ما ندعيه - في الباب الأول المتصل بالحقيقة العلمية والتمشي العقلاني عامة - من توفق الإنسان الحديث إلى تصنيف العناصر الطبيعية وضبطها في جدول، وكأنّما هو حشر الطبيعة برمتها في ذلك الجدول. إنه جدول التصنيف الدوري لمانديلياف Mendéléeff رمزاً لامتلاك ناصية الطبيعية من قبل الإنسان العالم العامل كما كان يحلم بذلك ديكارت. وأنت تشهد في هذا الجدول قوة العقلانية الحديثة وعظمة مغامرة العقل الإنساني كما ترى فيه شاهدا قائما على قوة الأمم. فالأمم التي سجلت اسمها بطريقة ما في جدول مانديلياف هي الأمم التي اكتشفت قوى الطبيعة، وهي الأمم ذاتها المتحكمة في مجرى التاريخ، إذ هي عينها التي تبرم السلم وتعلن الحرب في مجلس الأمن.

وغير ذلك كثير مما يدل على أن الغلبة اليوم موضوعياً لمن اكتسب العلم، وأخضع الطبيعة لقانون الإنسان؛ أي لإرادته على ما قد يكون في ذلك الإخضاع من إسراف لا داعي له، ولكنه عرض إلى زوال، لاسيما مع ظهور حركات "الخضر" المنادية بضرورة عقد "طبيعي" بعد "العقد الاجتماعي".

أما في الباب الثاني "باب الحرية"، فلا أراني في حاجة إلى بيان ما تتيحه الإرادة الحرة من قوة على الإنجاز وقدرة على الابتكار...لذلك كان الاستثمار في التربية موضع تكوين العقول "الدربة على الصواب" والاختيار الديمقراطي اختيار اجتماع الإرادات الحرة أفضل ضروب الاستثمار وأحسنها مردوداً عاجلاً وآجلا، وتلك هي - في الوقت نفسه - أوفى ضروب سياسة الشعوب لحقيقة الإنسان ماهية ووجودا مفهوما وقيمة...لذلك بدا لي منذ أول عهدي بالبحث العلمي - في أطروحة الدكتوراه الأولى - أن الحقيقة والحرية هما لب الحداثة. وقد سعيت إلى مزيد بلورة هذا التصور وتعميقه في أطروحة دكتوراه الدولة.

ذ. عبدالله إدالكوس: تعتقد إذن، أنه لا استعادة لنا للتألق الحضاري والانخراط في فضاء الحداثة معرفياً إلا بالوعي بالعمق الفلسفي للتجربة الحداثية، هل هذا ما دفعك إلى كتابة أطروحتين؟

د. حمادي بن جاء بالله: أردت استعادة التجربة الكانطية؛ أي محاولة فهم الحداثة في العمق. الدكتوراه كان موضوعها "أساس المعرفة في نقد العقل المحض "Le fondement du savoir dans la Critique de la raion pure.، وقد تبين لي أن المراس الفلسفي لا يستقيم لطالبه إلا بزاد علمي لابد منه، بل إن نقد العقل المحض، يمكن اعتباره على الأقل في جزئيه الأولين حواراً جادا مع كتاب المبادئ الرياضية لنيوتن، وهو ما جعل كانط يطمح إلى تحقيق "ثورة كوبرنيكية" في الفلسفة، اعتبرها عن جدارة من شروط استقامة سؤال العلم: ماذا يمكنني أن أعرف؟ واستقامة سؤال العمل ماذا يجب عليّ أن افعل؟ وسؤال العقيدة أو الأمل "ماذا يمكنني أن آمل؟ وهي الأسئلة التي يردها كانط إلى سؤال وحيد: ما الإنسان؟ لذلك كلفت نفسي استعادة الجهد الكانطي دون ادعاء الفوز بما فاز به فقرأت ما قرأ: كوبرنيك وكبلار وغليلي وديكارت ونيوتن وغيرهم كثير. وقد حاولت قدر المستطاع مساءلة العلم الحديث ذاته عما بحداثته،انطلاقا من بحث دام ما يقارب خمسة عشر سنة في "تكون مفهوم القوة في العلم الفيزيائي الحديث" La formation du concept de force dans la physique moderne، وذلك عنوان أطروحة دكتوراه الدولة في الإبستيمولوجيا. وقد نشرت في تونس ثم أعيد نشرها في باريس. وقد استأنست فيها– منهجياً- بعلمين من أعلام الفكر الابستيمولوجي المعاصر، وهما غاستون باشلار Gaston Bachelard وتلميذه جورج كانغلام G.Canguilhem من ناحية والكسندر كواريه Alexandre Koyré صاحب الثورة الفلكيةLa Révolution astronomique ومريد مدرستهBernard Cohen مؤلف كتاب Revolution in Science. من ناحية أخرى..

سؤال مركزي كان يراودني: كيف نفهم الحداثة من أصولها؟ كيف ننفذ إلى ما كان به الفكر حديثا؟ كيف انهارت المنظومة الفكرية؛ "اليونانية-العربية- الأوروبية اللاتينية-؟ ومعنى ذلك أن الفكر الحديث العلمي (كوبرنيك...) والفلسفي (ديكارت...) ردّ ثقافة أثينا وبغداد وباريس إلى موضعها من التاريخ العلمي والفكري عامة، باعتبارها إجمالاً ثقافة "بائدة" ليستبدلها بثقافة ناشئة لم نقف نحن العرب حتى اليوم على حقيقتها رغم أنها هزت أركان ثقافتنا هزا عنيفاً، بل منا من يهرب إلى أقصوصة "ما بعد الحداثة" دون أن يكلف نفسه طرح سؤال الحداثة: كيف انتقلت الإنسانية من ثقافة الأسماء إلى ثقافة الأشياء؟ ومن ثقافة "محاذاة الطبيعة" إلى ثقافة "السيطرة على الطبيعة" ومن ثقافة "النواميس" و"الأسرار" و"العلل الغائية" إلى ثقافة "القوانين الرياضية" و"السببية" العقلية، ومن ثقافة "الحاكم بأمر الله" إلى ثقافة "التعاقد الاجتماعي" ومن ثقافة "الأمير الصالح" إلى ثقافة الحاكم الموظف السامي وفقاً لعقد تكليف محدد في الزمان والمكان؟ كيف انتقلنا من "قبل العلمي" "إلى العلمي" ومن "التسلط" إلى "السلطة" ومن حكم الأشخاص يحكمون بالوراثة أو "العصبية" أو بتفويض الإلهي إلى ثقافة احترام القوانين، نصوغها بإرادتنا دون أن نفكر حتى في من سيحكم بها؟ واختصاراً كيف فازت الإنسانية بالحقيقة والحرية؛ أي بالحداثة؟

ذ. عبدالله إدالكوس: هل الحقيقة والحرية فقط؟

د. حمادي بن جاء بالله: الحرية والحقيقة هما الركنان الأوثقان لحداثة عصرنا والسببان الأنجعان لتقدم الأمم، وهما قيمتان لا تختزلان كل شيء، ولكنهما شرط إمكان كل شيء تقريباً، لاسيما التحرر المادي والاجتماعي وشرط ازدهار الفن وصدق الإيمان الديني وتحقق ضروب التعبير الحر عن تجارب الذات البشرية الحرة.

فما أسميه إجمالاً "الحقيقة" يتضمن تحليلياً كما يقول المناطقة للمبادئ السامية والأفكار النيرة والمثل العليا، ولا يمكن بالتالي قصر "الحقيقة" على القانون العلمي كما تفعل الوضعانية Positivisme عامة، والوضعانية المنطقية خاصة بل الواجب منطقياً ووجودياً إدراج القانون العلمي في نطاق أوسع وأعمق يعبر في وقت واحد عن مبادئ الذهن البشري في تعقّل العالم والتفكّر فيه، وعن هموم العقل المتعالية وغاياته البعيدة في الحياة وفي ما بعد الحياة، حيث لا ينفصل سؤال المعرفة عن سؤال الواجب ولا عن سؤال الرجاء.

وأنت ترى كيف أن العلم والإرادة الحرة مكّنا للمحدثين في أوروبا وفي غير أوروبا من اكتساب القوة على مغالبة أعداء الإنسانية الثلاثة الجهل والفقر والمرض؛ فبعد الثورة العلمية (كوبرنيك وغليلي وديكارت ونيوتن...) والفلسفية (ديكارت...) في القرن السابع عشر كانت الثورة السياسية في القرن الثامن عشر، ثم الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ولا أظن أن هذا التتالي التاريخي لم يخضع لمنطق ما دون الالتزام التزاماً صارماً بالحتمية التاريخية الميكانيكية أو القول "بيد خفية"، كما كان يقول أدم سميث؛ تكفلت بتحقيق التوازن البشري ورعاية مصالحهم، حتى ولو كان معنى ذلك "قانون السوق" التي لم يؤخذ بها إلا عندما تكون في صالح الأقوى اقتصادياً، وقد بينت الأزمة المالية الأخيرة تهافت الليبيرالية الاقتصادية...ولذا أمكن أن نقول، إن الحداثة انتصار للعلم والحرية واكتساب القوة على مغالبة أسباب التخلف، ونحن اليوم أحوج ما نكون لتحديث أنفسنا، وقد كتبت ذاك في أول عمل نشرته في منتصف الثمانينيات، ونذرت حياتي الفكربة والمهنية لنشر تلك القيم. وما زلت أعتقد أن ذلك البرنامج جدير بأن يكون برنامج أمة حازمة لا يلهيها لوك مزايا أمسها عن واجب الاستعداد لملاقاة غدها ولا استعراض فضائلها التاريخية عن إدراك سلبيات وجودها الفعلي...

لو سمحت ذكرت مثالين يوضحان أكثر خصائص حداثة عصرنا وموضعنا الحقيقي منه، وقد أصبحنا اليوم بلا منازع آخر، أمم الدنيا بعد أن كنا علمنا الإنسانية أمس ما لم تعلم. كتب كريستيان هويغانس Ch. Huygens ذات يوم إلى ديكارت يطالبه بالتخلي عن الكسل والانصراف إلى إنشاء طب جديد يحررنا من "عادة الموت السيئة" (Cette fâcheuse habitude de mourir) فأجابه ديكارت بأنه لا يقدر على ذلك، ولكنه يعمل بجد على إنشاء طب يزيد في عمر الإنسان 100عام معتبرا أن الروح خالدة، وأن الموت لا يطال إلا الجسد، والجسد مكنة، والمكنة مركبة من آلات، فكلما لحق العطب إحداها وجب إبدالها بغيرها، فالقلب مثلا مضخة يمكن تعويضه بآلة اصطناعية وهكذا...ولذا وجب تطوير العلم البيولوجي والفيزيولوجي والتشريح استعداداً لصناعة الأعضاء وزرعها للتمديد في عمر الإنسان. كان ذلك في النصف الأول من القرن السابع عشر. ولذا فإن انتصارات العلم في آخر القرن العشرين في اتجاه طب زرع الأعضاء هو انتصار تقني أنجز ما ذهب إليه النظر الديكارتي الإبستيمولوجي والفلسفي القائم على "أنا أفكر إذن أنا موجود"...طموح الشعوب لا يرطل ولا يكال ولا يذرع...إنه موضوع عقل مريد، ولا أظن أن ذلك يتاح لأمة مشتتة الصفوف، مهزومة الإرادة كسيحة الفكر...

مثال ثان، أستمده من إسحاق نيوتن الذي تتلمذ على ديكارت من خلال تتلمذه على مصنف روهولت Rohault في الفيزياء الديكارتية، إن مصنف "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" يتكون من ثلاثة كتب: الأول يتناول الحركة في وسط غير ممانع أو قل في "الخلاء"، والثاني يتناول الحركة في الملاء" ويعتبر فيه ضروبا كثيرة من قوى الممانعة Résistance/Resistance والاحتكاك Frottement/tribo والتلاصق Adhérence/Adhesion. أما الكتاب الثالث، فهو ينطلق فيه إلى دراسة الميكانيكا السماوية وفق ذات المبادئ التي تناول بها دراسة الميكانيكا الأرضية في الخلاء والملاء، وهي في جملتها ثلاثة مفاهيم (كمية الحركة وكمية المادة أو الكتلة والقوة) وثلاث بديهيات أو تعريفات (مبدأ العطالة Inertie وفكرة التسارعAccélération وتساوي الفعل ورد الفعل Actio/réaction وتقابلهما) تلك هي في غير اختزال قوانين العلم الفيزيائي، حتى يومنا هذا، وتلك هي أسس عملية تعقل الطبيعة حتى يومنا هذا.

ولذا، فإن كل ما في نظرية نيوتن في علم الفلك هي مجرد تطبيق لقانون القذائف على حركة الأجرام السماوية، إذ يبرهن نيوتن أنه بمستطاع الإنسان أن يبعث إلى السماء قمراً صناعياً يخضع للقوانين ذاتها التي يخضع لها القمر الطبيعي، بل له أن يبعث أقماراً عديدة تسبح في الفضاء. (انظر ص 551 من الترجمة الإنكليزية لكاجوري نشر المطابع الجامعية لكاليفورنيا ولوس انجلس وباركلي 1966 الفقرة 3). وبالتالي، فإن إنجازات النصف الثاني من القرن العشرين في مجال غزو الفضاء إن هي إلا إنجاز لرؤى نيوتن العلمية، وبالتالي رؤى ديكارت وغاليلي وكبلار وكوبرنيك. إنها انتصارات الفكر الحديث العلمية والفلسفية... في الطب كما في غزو الفضاء الكوني، إنه حلم أصبح واقعاً قائماً في الأعيان، وليس لنا أن نشكو هذا الإنجاز، أو أن نلعنه لأنه يستعمل للتجسس علينا أو لقنبلة ديارنا في حمام الشط بتونس أو في القاهرة أو في الأرض المحتلة. فلا جدوى في ذلك التباكي بل الأقرب إلى الحق أن نأخذ بتلك الأسباب، وأن تكون لنا من القوة ما يردع المعتد ي عن غيه وما يمنع الاعتداء أصلا...فالقوة أنفى للقوة ثم "لكم في الحياة قصاص".

ذ. عبدالله إدالكوس: كيف تحول ما سميته بسط سلطان الإرادة الإنسانية الفاعلة على المادة العاطلة إلى استعمار للإنسان؟ أليس من مساوئ حداثة الاستعمار؟

د. حمادي بن جاء بالله: فعلاً... إن ما يدعو إلى التساؤل ويوجب البحث المعمق هو الاستعمار في عصر أزعم أنه قام أساسا على قيم العقلانية العلمية، والحرية الإنسانية، والحال أن الاستعمار نقيض ذلك كله غير أنه ليس لنا أن نحمل الحداثة إرث القرون؛ فالاستعمار بما هو حرب الإنسان على الإنسان، إنما هو امتداد الروح العسكرية قبل الحديثة في العصر الحديث، وقد جسمتها الحروب الاستعمارية. ويقيني أن يقظة الشعوب "المستضعفة"؛ أي غير الواعية بقوتها وما ألحقته بالاستعمار - على قلة ذات اليد - من هزائم يشير إلى أن المستقبل لقيم الحداثة - طوعا أو كرها - على مستوى كوني؛ أي لقيم العقلانية والحرية، بل إني أزعم أن العصر الحديث وحده هو الذي شهد ظهور "مثقفين" يدعون جهارا بهارا إلى الاستغناء عن الجيوش الوطنية وعن صناعة الأسلحة الحربية والاكتفاء بالأمن الداخلي، مثل أ.كونت وإلى مشروع سلم دائم بين أمم الدنيا كما فعل كانط الأب الروحي لمنظمة الأمم المتحدة التي عليها أن تجتهد أكثر، لتكون في مستوى الرسالة الأخلاقية والسياسية التي أرادها لها منذ أواخر القرن الثامن عشر... وبالتالي، بدا لي أن مسيرة العالم - على مصاعبها وويلاتها - تتجه نحو الوفاء الحقيقي لقيم الحداثة.

وفي تقديري أن نضالات الشعوب الصاعدة هي التي يتوقف عليها اليوم تحرير العالم من رواسب العهود القديمة في صلب حضارة العصر الحديث... هي رواسب عهود "السلام العبراني" Pax hebraica وعهود "السلام اليوناني" Pax greca والسلام الروماني Pax romana وعهود الحروب الدينية والطائفية بالأمس القريب ثم "السلام الأوروبي" Pax europeana و"السلام الأمريكي" Pax americana في يومنا هذا...

هي قرون متطاولة من الدماء يصعب استئصال جذورها من الأبنية الشعورية واللاشعورية في الثقافة الإنسانية، لاسيما في ثقافة الحنين إلى ماض متوهم انفلقت فيه –عند القائلين به- أصباح الجنان، ولا بد من العود إليه لتستقيم شؤون العالم وشؤون الإنسان...والحق أن الإنسانية لم تكن في يوم ما من تاريخها في وضع أفضل من وضعها اليوم على مصاعبه وويلاته. والأمة العربية على مآسي يومها ووهن قواها لم تكن –اجتماعيا على الأقل - في أية لحظة من لحظات تاريخها أفضل مما هي اليوم. خذ لك المعايير الدولية التي يقاس بها اليوم "تقدم الشعوب" و"تأخرها"، وهي كمية وكيفية وطبقها على أوضاعنا البائسة، فستجد أنها أقل بؤسا مما كنا عليه في جميع مراحل تاريخنا، باعتبار العناية بالتربية والصحة والتغذية و"المساواة "بين المواطنين وحفظ الحد الأدنى من حقوق الإنسان فضلاً عن بعض الاجتهاد في الإنتاج الزراعي والحرفي وحتى الصناعي إلخ. وليس مما يعتد به اليوم الاقتصاد الحربي عامة الذي كان مصدر" ثروات الأمم" في العصور الدابرة كما ليس مما يعتد به اليوم "الاقتصاد الريعي"، وما يوفره على أهله من نعم زائفة، لأنها زائلة وإن طال عهدها.

ثم إنه لا مستقبل للاستعمار، ولن تمتد يده إلا على قدر ما تقصر أيدينا، ولا مستقبل للحروب الدينية أو العقدية ولا حتى للتبشير الديني، وليس ينبغي أن ننسى أن ضحايا حروب اليوم هم مصنعو آلات الدمار الحربي. فلا أعتقد أن جميع ضحايا الحروب الاستعمارية يساوون عدداً جزءاً من ضحايا الحرب العالمية الثانية وحدها؛ ستون مليون إنسان، غلبهم من الروس والأوروبيين.

ولا مستقبل كذلك لثقافة الحقد و"الهويات القاتلة" ولا لثقافة "ختن البنات" ولا لعقليات "الرقيق" "الأبيض" منه و"الأسود"، فلقد أضحت الحرية اليوم "روح العالم" كما يقول الرواقيون، وهي وجدانه وإرادته. إن الحرية روح العصر الموضوعية، والحرية لا تقف عند ما تبدأ حرية غيري كما يقال، بل حريتي لا تحقق إلا بحرية غيري.

وحين تنفجر الحرية في الصدور، فلن تسكن ثورتها حتى تتربع على عرش المؤسسات، وما نشاهده اليوم من تلكؤ في الانحسار ومعاودة جهد الانتشار الاستعماري، إن هو إلا من وجع سن اليأس، يطيله ما يلقاه من مظاهر التواطؤ الموضوعي من بعضنا ممن تعودوا ألاّ يردوا يد لامس...

ذ. عبدالله إدالكوس: لابد إذن لفهم ماهية الحداثة، من الرجوع إلى السياق التاريخي والفكري الأوربي الذي تشكلت الحداثة في أفقه، وإلى التحولات التي عرفها العقل الأوروبي، ما هي في نظركم السمات الأساسية التي ميزت العقل الحداثي الأوربي؟

د. حمادي بن جاء بالله: العفو سيدي، الحداثة لم تتشكل في أوروبا سواء رجعنا بتاريخ ابتدائها إلى القرن الثاني عشر مع انطلاق ما يسمى خطأ "الحروب الصليبية"، أو إلى القرن السادس عشر مع كوبرنيك. ومهما كان الاختيار؛ فالأصل عربي كلياً، وإن لم يقصد لذاته لا من قبل العرب ولا من قبل الأوروبيين. فالعربي أصل ثابت من أصول حداثة عصرنا، سواء قيل ذلك على جهة "المستحث" الخارجي أو "المربّي" الذي تحول موضوعياً في أوروبا إلى مستحث باطني وقدوة يجب الأخذ عنها، وإن كان لعنها لفظاً من أصول صناعة التحولات الحضارية الكبرى.

ذلك على الأقل ما ذهب إليه أ.كونت في ا لعديد من أعماله التي خصصها للنظر في تاريخ ميلاد العصر الحديث وظروف نشأته. ولتفسير أسباب الثورة الفرنسية، باعتبارها من نتائج التحديث الأوروبي الفكري والاقتصادي الذي ابتدأ منذ بدايات الحروب الصليبية، ويمكن التفضل بما نشرت عن طريق اليونسكو في هذا الصدد...وذلك هو أيضا ما ذهب إليه. إكواريه في مستوى تاريخ العلم. ومهما يكن من أمر، فإن العربي ليس غريباً عن منابع الحداثة، ولا الحداثة أمكن لها أن تكون بدونه. إن حداثة عصرنا نتاج مطاف تاريخي فكري حلمت به الإنسانية منذ أقدم العهود، وعبرت عنه الأساطير والأديان والفنون، إذ ليس من ثقافة إنسانية مهما كانت درجة وعيها بذاتها إلا وحلم الحرية ثاوٍ في أعماقها. ما أنجزه العصر الحديث حقق جوانب من ذلك الحلم لا يستهان بها بعد أن تهيأ لها بتوسط العقلانية "اليونانية- العربية- الأوروبي اللاتينية" وبفضلها.

غير أنه يبدو لي أن أكثر الأفكار شيوعاً أقربها للوهم وأكثرها عرضة للتناقض وأشدها تهيؤاً إلى أن تصير آلة لتبرير الانتهازية في جميع أبعادها المعرفية والأخلاقية والسياسية.

أولاً: ما يتعلق بالوهم، فهو ناتج عن خطأ في التقدير؛ ذلك أن الحداثة هي فعلاً ظاهرة تبلورت وأثمرت في أوروبا، ولكن ذلك لا يجعل منها ظاهرة أوروبية أو غربية. ولعل الوهم أننا لم نعتبر الحداثة من حيث هي نظام من القيم كما أسلفت، بل من جانب منطق الانفعال بها لا من منطق الفعل فيها أو الانفتاح الإرادي عليها، ولم نعتبرها إلا من جوانبها "الأيديولوجية" وبالتالي من منطلق أسباب الوهن فيها، كالاستعمار، وهو نقيض الحرية أو الاستغلال على مستوى عالمي، وهو نقيض المساواة أو بعض السلوكات الشاذة النابتة على هامش الحرية ممارسة يومية ومثلاً أعلى. وعندها نكون كمن يكتب تاريخ الإسلام استناداً إلى حمق بعض المسلمين، مثل الحجاج ابن يوسف أو تاريخ رجال السياسة عندنا بالرجوع الى المعتصم هذا "العربي" الذي أهان العروبة في عقر دارها.

ثانياً: وأما التناقض، فهو أظهر من أن يخفى؛ فنحن نقبل على ثمار الحداثة وندبر عن روح الحداثة. نقبل على الطائرة والسيارة والحاسوب، ونتداوى عند خيرة الأطباء في أرقى المصحات، عندما تتاح لنا الإمكانيات، ولكننا نرفض عن وعي أو عن غير وعي الفكر الذي كانت تلك المقتنيات نتيجة له. خذ مثلا أنبوب ايديسون Edison. أنه ليس شيئاً يضيء، بل هو ذاتية بشرية تموضعت وفكرة تجسمت وسلسلة طويلة من المعادلات الرياضية أنجزت، حتى لكأنّ المنجزات التقنية إنجاز للمثل الأفلاطونية.

نحن نستعمل ذلك كله وغيره كثير، دون أن نعي ما وراء ذلك كله وما يتخلله من ذاتية مفكرة، فردية وجماعية، وما يعتمل في صلبه من رؤى ميتافيزيقية وعلمية وفلسفة. نحن نستهلك كل تلك المسارات العقلانية وننكرها، ونحن نستفيد منها يومياً، ونشنع على أهلها لكأن موقفنا من الحداثة فلسفة وعلما وتكنولوجيا كموقفنا من البحر في عرف إيليا أبو ماضي إذ يناجيه فيقول:

ترسل السّحب فتسقي أرضنا والشّجرا

قد أكلناك وقلنا قد أكلنا الثّمرا

وشربناك وقلنا قد شربنا المطرا

أصواب ما زعمنا أم ضلال؟

ومعنى ذلك كله، أن الحداثة ثورة حضارية لا تستقيم معانيها في الأذهان، إلا بهذا الربط المتين بين المفاهيم العلمية والإنجازات التكنولوجية والأسس الفلسفية أو الفكرية والثقافية عامة التي تسند ذلك كله.

ولعل ما ذكرت، إن هو إلا تلخيص لمجاز شجرة الحكمة الديكارتية تلك التي جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء وأغصانها الميكانيكا والطب والأخلاق؛ فالميكانيكا لبسط سلطان الإرادة البشرية على ملكوت المادة العاطلة، والطب لحفظ الصحة حين توجد واستردادها حين تفقد، والأخلاق ثمرة الثمار لصون الروح واستقامة الحياة البشرية.

وأنت ترى أن منتهى الحكمة البشرية عند ديكارت قيم أخلاقية عليا، سيجعل منها كانط أساس المعرفة برمتها ومنتهى التفكر في الوجود. وأنت ترى أيضا أن لا تعلق للحداثة بالمادية ولا بالسقوط في الانحراف الأخلاقي، ولا حتى بالمد الاستعماري؛ فديكارت انطلق في أول جملة من "مقالة المنهج" من أن "الحس السليم أعدل الأشياء توزيعاً بين الناس" وانتهي في آخر جملة منها إلى أن ثمار العلم يجب وفقا لمبدإ كسبها أن تتاح للإنسانية جمعاء، فليس من الحكمة في شيء أن يذهب بنا الظن إلى أن تحقيق منافع لنا لا يتأتى إلا بأداء الآخرين أو الاعتداء على حقوقهم، وهو ما فهمه أ.كونت مثلا فدعا إلى عودة الجزائر إلى الجزائريين، ودعا إلى حمل السلاح عند الاقتضاء ضد حكومة بلاده لتحرير بلاده ذاتها من بلاء الإرادة الاستعمارية بما هي إرادة نقيض قيم الحداثة كما سعى ما وسعه الجهد إلى تكوين جمعيات مدنية تناضل من أجل منع الرق وتحرير العبيد في العالم خاصة في أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا. وكذلك فعل سارتر يوم انحاز إلى تحرير الجزائر وأوكلت إليه جبهة التحرير في عملية اقتناء الأسلحة لمقاومة الاستعمار الفرنسي.

وفي تقديري، أنه إذا لم ندرك الحداثة على حقيقتها بما هي نظام فكري علمي وتقني وفلسفي، ومن حيث هي نظام قيمي، فردي وجماعي، أخلاقي وسياسي، فإننا سنظل نطارد أشباحاً تخرجنا من الزمن، فتضيع علينا فرصة استئناف البادرة التاريخية.

ثالثاً: وأما ثالثة الأثافي، فهي الانتهازية الفكرية والأخلاقية والسياسية، وهي ناتجة عن هذا الضياع الذي أفضى بنا إلى هذا الوضع الهش الملتبس من ناحية وعن وهن الإرادة من ناحية أخرى. إنها نتاج التقاء بن واقع مضطرب لا تستقيم سبله وذات فردية أو جماعية خائفة مترددة تخشى فوات الفرص ولا تعلم أنها تكاد اليوم تخسر كل شيء، ولذلك فإن الانتهازية ترك الشأن الإنساني إلى صروف الأيام، وسير الأحداث بلا ضوابط مبدئية ولا حساب للنتائج البعيدة إلا ما كان من منفعة شخصية صرف.

كان "هوبز" يقول إن العقل حساب أية عمليات، جمع وطرح للنتائج المترتبة عن المنطلقات. ويبدو لي أننا لم نتعلم الحساب بعد، فضل فعلنا انفعالاً وحسابنا رمياً في عماية، وكأنّ الفعل الإنساني عندنا مجبر على أن يرضخ للظروف. ولعل عبارة "دعها حتى تقع" تعبر بعض التعبير وفي وجه من وجوهها عن هذا التمشي المتخاذل في مقابل الفكر اليقظ المستعد لطوارئ الأيام؛ فهو يتساءل باستمرار. "أرأيت لو وقع كذا...؟" هؤلاء "الأرأيتيون" يمكن اعتبارهم - بصرف النظر عن بعض الفلكلوريات التي الصقت بهذا التيار- "فقهاء" أو مفكري "الاستشراف" والاستباق بدل اللهاث وراء الأحداث والاكتفاء بالرأي الدّبري.

والحقيقة أن عقلية "اقتناص الفرص" أو "تحيّنها" أو "انتهازها" دالة - إبستيمولوجيا - على انغماس الانتهازي في "الخاص" دون "العام" و"الفردي "دون الجمعي". ولما كان العلم علما بالعام كما يقول أرسطو؛ أي علم بالضروري والكوني، فإن الانتهازية من حيث هي انصراف للجزئي أو الفردي وترصد للحظات السعيدة أو "اللحظة المواتية" كما كان يسمها افلاطون Kairos هي في حقيقتها إعراض عن العلم والقوانين الكلية.

وهذا الضرب من التفكير المعرض عن التفكير يتخذ في أغلب الأحيان أشكالاً نظرية، تجعل من تقزيم العقل وقصره على ظاهر الأشياء وسطح الوجود ركنها الوثيق، حيث تبدأ أو تنتهي إلى احتقار الإنسان فرداً وجماعة، مصادرة على عجزه المبدئي عن الاضطلاع بمسؤولية وجوده حتى لكأنّ لابد له من "أنا أعلى" فوق إنساني يتخذ منه البعض تكأة ليقوموا أوصياء على الضمائر وقيوداً على الحرية ووبالاً على مصير الشعوب. ومن تلك الأشكال "المظهرية" Phénoménisme حين تحوّل إلى حد للعقل، وكأنّ الحس مقاس العقلي، والاسمانية Nominalisme حين تحوّل اللغة إلى أفق لا انعتاق منه يحدد موقفاً نهائياً، يلغي المفهوم Concept بما هو أداة التشريع الإنساني لملكوت المادة وينكر الفكرة Idée بما هي التعبير عن المطلق العقلي يقوم من السلوك الإنساني في الوجود التاريخي مقام الحاض الباطني على طلب الحق والخير والجمال...

أليس من أظهر علامات الانتهازية عندنا - في التعامل مع حضارة عصرنا - إن مصانعنا كثيرة دون مناخ صناعي، وأن تكنولوجيات الاتصال عندنا من آخر ما جد فيها ومن أرقاها تطوراً، لكن دون روح تكنولوجية؟ هل كتب علينا نحن أن نبقي مجتمعات الاستهلاك في خدمة مجتمعات الإنتاج؟ وهل شيء أدعى لاستدامة الاستعمار، الظاهر منه والخفي، وتكريس التخلف من هذه المواقف، وهذه الفلسفات المفلسة، لاسيما حين تتبرقع بزي التقوى وتصادر على أن إكبار الذات الإلهية اسميا، إنما يكون على قدر تصغير الإنسان فعلياً، وإن صاحت ليلاً نهاراً بغير ذلك، وهل استقام يوم ما مع هؤلاء حساب؟ إن المظهرية والاسمانية دجل صرف، حين لا يعتبران مجرد مداخل منهجية أو قل مثل المناطقة إجراءات "بروتوكولية" توضع على عتبة العلم وسيلة لإنتاج العلم المشروط حصوله بأبحاث لم تنجز بعد أو باستدلالات لم تكتمل بعد، كما نتبين ذلك جليا عند غاليلي، وخاصة في الجزء الثالث من كتاب "مبادئ الفلسفة" لديكارت الخاص بعلم الفلك، أو في آخر الجزء الثالث من كتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد. فإذا ما تحولت المظهرية والاسمانية إلى موقف حقيقي كانت النكبة؛ أي الحكم على الإنسان بالتسول الأبدي أمام باب الحقيقة، ولسنا نستبعد أن يكون فيهما ضرب من نكران نعمة الله التي رفعت عن الإنسان غطاءه فبصره اليوم حديد ينفذ بالظاهر إلى الخفي، ويمر يسيرا يسيرا من المعطى الحسي إلى الحقيقة المفهومية ومن التجربة إلى "المثل" و"الأفكار" كما يقول كانط. ومما يجب التنبيه عليه، أنهما تفقدان بعدهما المنهجي ووظيفتهما الإبستيمولوجية، لتصبحا من فلسفات تبرير إهانة الإنسان، إذ هما تعتبران عجزه المفترض ذاك من ضرورات استقامة الإيمان بالله. فللعلم الإنساني عند الاسمانيين الايمانيين ظاهر الأشياء وسطوحها البراقة وللقول الكنسي المدعي وصلا بالأسرار الربانية البت في حقائقها. لذلك كانت الإيمانية الكنسية أو الإسلاموية Fidéism ببعديها المظهري Phénoministe والاسماني Nominaliste من اعتى أدوات الكنيسة في القرن التاسع عشر في مقاومة المد الثوري الفرنسي في أوروبا، وهي عندنا اليوم من أكثر الرؤى بؤساً تستخدم آلة غبية لقمع ثورة "شباب مدرسة الجمهورية".

وفي تقديري المتواضع ألاّ شيء أليق بنا - حين نحسن الظن بالله - من تعظيم الله وإكبار الإنسان؛ أي الإيمان بقدرته على أن يكون سيد نفسه في جميع وجوه الحياة، ولن يكون المؤمن مؤمناً، حتى يقوم الإيمان به شخصياً وبالذات لا بالعرض أو بوصاية فوقية، وحتى يكون مقام التوحيد منه مقام "تحقق" لا "مقام تخلق" كما كان يقول الشيخ محي الدين بن عربي.

فإذا ما تجاوزنا أوهامنا وتناقضاتنا وأشكال الانتهازية السائدة بيننا، كان لنا أن ننفتح على إمكانية فهم الحداثة على حقيقتها، وكان لنا أن نثق بالإنسان وبقدرته على النهوض بأعباء وجوده فكراً نظرياً وقيماً أخلاقية وسياسية وذوقاً فنياً وعقيدة يطمئن بها قلبه وإنجازات ميدانية تكنولوجية واقتصادية يحقق بها فرحة الحياة، وتلك هي مجملة ومجتمعة شروط استئناف صنع التاريخ...

ذ. عبدالله إدالكوس: الثابت إذن، أن الحداثة هي إفراز طبيعي لمسار العقل الأوربي في مستوياته المتعددة، فكرياً وسياسياً واقتصادياً، لذلك يستند العديد من المثقفين إلى هذه المقدمة من أجل ربط تجربة الحداثة بسياقها الجغرافي والتاريخي والقول بانحصارها، أليس في هذا إلغاء للأبعاد الكونية والإنسانية للتجربة الأوربية؟

د. حمادي بن جاء بالله: أنت على حق، أن تكون الحداثة إفرازاً "طبيعياً " لمسار العقل الأوروبي؛ فهذا لا ريب فيه إن كنت لا تقصر معنى "الطبيعي" على ما هو "جواني" أو "ذاتي" صرف، حيث تستطيبه النفس في تلقائية السجية، بل يجب أن تضيف إليه ما هو "برّاني" أو "خارجي" وبالتالي ما ينشد إلى معاني المجاهدة التاريخية بما فيها من انتصارات وانكسارات وسرعة وبطء، وتضحيات وإرهاق وضحايا ودموع ودماء وسهر الليالي والصبر على "الحماقة البشرية".

وهل تراني في حاجة إلى التذكير بمن نكل به من علماء أوروبا المبشرين بالفكر الحديث: لقد حرق برونوBruno وسجن كامبانيلا Campanella حوالي ثلاثين سنة، وفضل ديكارت العيش في الغربة على العيش في بلده، حيث لا يستطيع حتى أن ينشر ما يكتب وحرم تدريس فلسفته في السربون وأدانها برلمان باريس، وهدد "الملك الشمس" لويس الرابع عشر بأقصى العقاب كل من يتجاسر على نشر المقالات الديكارتية سرّاً أو علنا.. . وحكم على غاليلي بالسجن حتى العمى فالموت، وأكره الأب غاسندي Gassendi على الصمت وحرم حتى إمكانية نقد أرسطو...

خذ لك مثالاً آخر فيه عبرة للمعتبر وللعربي خاصة؛ كان إدموند هالي Edmond Halley من كبار علماء العصر بعد نيوتن، وربما فاق نيوتن في الكثير من المعارف التقنية حتى نسب إليه بناء غواصة بقي فيها مع زمرة من أصدقائه أكثر من 90 دقيقة تحت الماء. كان يتقن اللغة العربية وترجم منها كتب الرياضيات لبولونيوس الإسكندري. غير أن سمعته لم تكن على ما يرام، إذ اعتبر من أهل البدع لا لشيء، إلا لأنه بين زيف ما كانت تذهب اليه الكنيسة من تأويل ظاهرة المذنبات وفقاً لما هو متعالم منذ أرسطو والبيروني وغيرهما وجميع علماء الفلك حتى عصر هالي.

وهذا التأويل يستند إلى أرضية إبستيمولوجية غالبة منذ أقدم العصور، وهذه الأرضية يمكن أن نردها إلى ثلاثة أبعاد:

1/ بعد هندسي يحدد مسارات الأجرام السماوية، باعتباره مساراً مستديراً، وقد بقيت تلك المصادرة قائمة الذات عند جميع العلماء، حتى بين كبلار فسادها.

2/ مسار سينيماتيكي Cinématique/Kinematics يحدد سرعات الأجرام السماوية، باعتبارها سرعات منتظمة؛ أي تقطع مسافات متساوية في أزمنة متساوية.

3/ تلك الحركات الدائرية ومنتظمة السرعة هي أيضا لا متناهية فلا مبتدأ لها ولا منتهى، باعتبار أن كل نقطة في الدائرة يمكن أن تعتبر مبتدأ أو منتهى لكن بالاسم لا بالحقيقة في كلتا الحالتين. وذلك هو الركن النظري الهندسي السينيماتيكي في البرهنة على قدم العالم، وفي التمييز بالحقيقة؛ أي فيزيائيا بين عالم "ما فوق القمر" أو العالم الأثيري وعالم "ما تحت القمر" أو عالم العناصر الأربعة، وبالتالي بين الظواهر الفلكيةastronomique والظواهر الجوية météorologique.. الأولى سماوية واقعة فوق فلك القمر لا يلحقها كلال ميانيكيا ولا يطرأ عليها "فساد" فيزيائياوالثانية أرضية واقعة تحت فلك القمر، وهي عرضة "للكون والفساد" أو قل للتغيير.

وطبيعي أننا إذا وضعنا تلك المقدمات لزم عنها أن جميع ما يظهر في الأجواء، دون أن تتوفر فيه المعايير الثلاثة المذكورة؛ فهو أرضي، وبالتالي فإن جميع المذنبات والنيازك مثلها مثل قوس قزح أو السحب ظواهر واقعة تحت فلك القمر.

وتبعاً لذلك، إذا ما ظهر مذنب مثل ذلك الذي رصده تيكو براهيTycho brahé سنة 1572 أو الذي رصده كبلار سنة 1604، وإذا ما كانت المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر صغيرة بالنسبة إلى شعاع مسار تلك "النجوم الجديدة"Stelle Nova كما سميت يومئذ، اضطر العلماء بالرصد والحساب معاً إلى نسبتها إلى عالم ما فوق القمر، وهو أمر لم يسلم به أحد قبل العصر الحديث، إذ أنّى يكون ذلك والحال أنه ممتنع هندسيا، باعتبار أن مسارات المذنبات والنيازك ليست على الاستدارة كبقية الكواكب السيارة ولا سينيماتيكيا، باعتبار أن حركاتها ليست على انتظام ثم إن تلك النجوم الجديدة تظهر ثم تختفي، وكأنما يتداول عليها الوجود بالقوة والوجود بالفعل، مثل ما هو شأن الكائنات الأرضية؟ فكيف لمثل هذه الكائنات أن تسبح في مواضع من الفضاء الكوني، لا "كون فيها ولا فساد" كما قالت اليونان والعرب والإفرنجة؟ وعن هذا التناقض بين الرصد والحساب من ناحية والأسس النظرية التي قام عليها علم الفلك منذ أرسطو على الأقل حتى أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، لزم أن تفزع الإنسانية إلى اعتبار تلك الظواهر غير طبيعية؛ فهي "معجزات" أو "خوارق" فيها تعبير عن غضب رباني، وبالتالي فهي نذر شؤم يحمل الإنسان الضعيف على الاتجاه إلى الله يدعوه ألا يحمل علينا إسراً، وأن يتجاوز عن مساويه ويعفو عن أخطائه، كما فعل المصريون في أوائل القرن الماضي أيام كان طه حسين طفلاً على نحو ما هو وارد في كتاب الأيام (انظر الجزء الاول الفصل 16 ص 67/68 من طبعة الشركة العالية للكتاب بيروت 1997) والمؤمن إلى الله في هذه الحالات يستدر غفرانه، ويطلب إليه في ذات الوقت أن يوجه البلاء إلى الأعداء، وأن يصب غضه على الكافرين بهذا الدين أو ذاك كما فعل المسيحيون يوم طلع عليهم سنة 1456 مذنب سيسمى لاحقاً مذنب هالي فملأ أوروبا رعباً، لاسيما وأنه جاء في زمن سقوط القسطنطينية (1453) عاصمة المسيحية الشرقية ومدينة أية صوفيا في أيدي الأتراك "المحمديين" فضلاً عن وصولهم إلى حصون مدينة بلغراد سنة 1456 فما كان من البابا كاليكست الثالث Calixte III إلا أن يأمر بالصلاة في جميع كنائس أوروبا، ثم كتب "منشورا" يلعن فيه الأتراك والمذنب معاً، عسى الله يغفر ذنوب المسيحين ويدعو كافة "أمراء أوروبا" إلى الاتحاد في مواجهة الزحف التركي إلخ (انظر Robert Grant, History of physical astronomy From the Earliest ages to the Middle of the Nineteenth century,London,1852)

والحق أن هذا السلوك أقرب ما يكون إلى السلوك البدائي الذي لا ينزه الإلهة إلا بإدانة الإنسان. ولك أن تقارن بين سلوك بعض المصريين، وقد جاءهم من القاهرة نبأ النجم الذي سيضرب الأرض بذيله، فإذا هي هشيم وسلوك بابا روما حين أعجزه المد التركي في ديار المسيحية من ناحية، وبين صلاة سيبيون Scipion (انظر Macrobe, Saturnales, III, §9, 7-8 ) لآلهة قرطاج قبل أن يدخلها غازيا، حتى تتخلى عن حماية القرطاجنيين بمقتضى عهد بينهما بحجة أن الآلهة لا تتخلى عن الإنسان ولا تخلف عهداً معه إلا متى نسيها، ولم يكن أهلاً لعنايتها به، حتى لكأن القول بشرف الآلهة يقتضي بالضرورة تأثيم الإنسان.

كل ذلك الهلع في أوروبا في العصر الوسيط، وكل ذلك الجزع في الريف المصري في النصف الأول من القرن العشرين وكل تلك "الهرمينوطيقا"، بل قل كل تلك الثقافة محاها هالي بجرة قلم حين بين استناداً إلى ثالث قوانين كبلار؛ أن ذلك المذنب هو كوكب سماوي كبقية الكواكب، وأنه دوري الحركة حول الشمس، وأن دورته تستغرق 76 سنة، وأن الحسابات الفلكية وتاريخها بين أن الإنسانية تفطنت له منذ القرن الخامس قبل الميلاد في الصين، وأن أوروبا رصدته خلال السنوات 1337 و1534 و1607 و1683، وبين هالي حسابياً أنه سيعود للظهور سنة 1758 فلا داعي لخوف ولا لدق طبول الحرب ولا لتمني الأذى للغير، ولو كان غير مسيحي، ويعني فعلياً تهاوي العالم القديم وتهافت العلم "اليوناني - العربي" "الأوروبي - اللاتيني"، وهو يعني بالخصوص أن علم رجال الكنيسة وأدعية البابوات كانت وهماً في وهم، بل إن هالي ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث بين إمكان تفسير التوراة على غير ما تعودت الكنيسة من ذلك، أنه يمكن اعتبار الطوفان ظاهرة طبيعية كأن نتوهم أن مذنباً ضخماً قرب من الأرض، فهز البحار حتى فاضت وأغرقت الأرض...

ولك أن تخلص مما أسلفنا، أن مسار الحداثة لم يكن يسيراً، ولا هو طريق دون أشواك، رغم أنه ما من أحد من هؤلاء العلماء دعا إلى القتل أو للفتنة السياسية أو التباغض الاجتماعي، بل إنهم نشروا أفكاراً بدت لمعاصريهم بدعاً، في حين أنها تدرس اليوم في معاهدنا الثانوية. دون أن تثير ضجيجاً ودون أن ينكرها أحد، لأنها قوام حضارة العصر، وهي أفكار أصبحت بديهية ومن أساسيات العلوم الرمزية، كالمنطق والرياضيات واللسانيات؛ والعلوم المادية، كالفيزياء والبيولوجيا؛ والعلوم الإنسانية، كالتاريخ أو علم النفس. فالبداهة العقلية نتاج المسارات العقلانية الجادة وليست من معطيات الشعور المباشر كما يعتقد باركسون. إنها كسبية لا وهبية وتاريخية لا حدسية.

لم تكن مسيرة التحديث في أوروبا هينة، ولم ترحب أوروبا العالمة بأي واحد من علمائها وفلاسفتها، بل نكلت بهم واعتبرتهم من الخارجين على الملة، المخربين للعقيدة المفسدين في الأرض، وربما من حلفاء "المحمديين" "أعداء الملة المسيحية".

كان الخطاب الرسمي أقرب ما يكون مما نسمع اليوم عندنا من الشتائم التي تكال "للحداثيين"؛ ذلك هو _عندي_ معنى أن المسار كان طبيعيا: مقاومة عنيفة لفكر ناشئ...إرهاب المنشقين على السائد المعرفي والقيمي...تحميقهم حتى إهدار دمائهم.

كذلك كان الأمر في أثينا يوم أحسنت التتلمذ على قدماء العراقيين وقدماء المصريين وقدماء الهنود. كان الأمر أيضاً في روما يوم أجبرت، وهي الغالبة على التتلمذ على أثينا المغلوبة ويكفي التذكير بمواقف "كاتون المحتسب "أو "الرقيب " Caton le Censeur، لندرك مدى مقاومة روما لحركة التحضر التي قادها الإغريق في عمق روما، وهم المهزومون، حيث وجب التحوط مما ذهب إليه ابن خلدون من أن المغلوب يقتدي بالغالب دائماً؛ فللفكر قوة لا يقهرها السلاح...وللمدنية الرقيقة صولة لا تقاوم ولرقة الحضارة جاذبية لا يقوى على مقاومتها تخوشن البوادي...عرفت روما مرارة الهزيمة العسكرية أمام جحافل الغوليين، وعرفت معنى مقالة المنتصر: ويل للمهزومين Vae victis esse وعرفت روما معنى الهزيمة الثقافية، يوم جرعت أثينا مرارة الهزيمة العسكرية فأذاقتها أثينا مرارة الهزيمة الحضارية فقال قائل الرومان Graecia capta ferum victorem cepit et artis intulit agresti Latio، وكأنه يصيح: انتصرت أثينا - وهي المغلوبه - على غالبها العنيد، وجاءت بالفنون إلى اللاتيوم Latium، حتى لكأنه يقول عكس ما قال له قدماء الفرنجة: ويل للغالب من المغلوب.... والعرب انتصروا على الفرس، ولكنهم قلدوهم في الكثير من شؤون الحياة وطرق بناء الدولة وتنظيم الإدارة، ولا يزال ضجيج الشعوبية الساخرة من بساطة مسكن العربي وشظف عيشه وخشونة ملبسه يصم الأذان، سواء في رسائل الجاحظ أو تاريخ الطبري أو مقدمة ابن خلدون، وحتى في "إحياء علوم الدين للغزالي،"حيث لا يندر الحديث عن "أجلاف العرب"...

أضف إلى ما أسلفنا مقاومة المؤسسة الكنيسية "للغزو الثقافي العربي" لأوروبا في العصر الوسيط، فلا تزال مواقف بابا الفاتيكان من انتشار الفكر العربي عن طريق السربون الفتية شاهداً على رفض تحديث الفكر الأوروبي وتجديد الثقافة الأوروبية. وقد كان توبيخ البابا لأسقف باريس Tempier تامبييه على غاية من العنف حتى أنه جمع في الحال معاونيه وأصدر لائحة مطولة بالمقالات التي ينبغي ألاّ تدرّ س مع تهديد بأقصى العقاب لكل من يخالف "التعليمات" من أشياع الرشدية اللاتينية بجامعة السربون خاصة (انظر في ذلك P.Duhem,Le système du monde De Platon à Copernic,Vol VI ,Paris ,Hermann,1973 p3-122 Voir aussi D. Pichet ,La condamnation parisienne de 1277,Paris ,Vrin ,1999..)

ولنقل إن التحديث عامة في العهود القديمة أو الحديثة لا يكون ذاتيا صرفاً ولا خارجياً صرفاً. فاليونانيون لم يبلغوا ما بلغوا من علو الشأن إلا بعد تتلمذ طويل على قدماء المصريين وقدماء العراقيين، خاصة حتى إن أفلاطون ينقل عن سولون Solonبأن مجد أثينا في الإغريق أنهم "أقزام حملتهم أكتاف جبابرة" في إشارة منه إلى ما تعلموه من قادة الفكر بمصر الفرعونية، والعرب لم يزدهر العلم عندهم إلا بعد طول تتلمذ على الإغريق خاصة، حتى إن أرسطو كان عندهم يوم كانوا سادة العالم "المعلم الأول". أخذنا عن الدنيا في غير وجل وأجزلنا للدنيا العطاء في غير منّ. ولم تغالب أوروبا بدورها جهالة قرون الظلمات إلا بعد طول تتلمذ على التأليفية الفكرية "اليونانية -العربية". واليابانيون لم يخرجوا من انغلاقهم على ذواتهم إلا بعد طول تدرب على تصريف العوامل الذاتية وأهمها حب الوطن والاعتزاز بخدمته مع عقلانية العصر الحديث. وليس مما يحتاج إليه التذكير بان الياباني نجح، حيث أخفق العربي، رغم أن العربي كان سباقاً إلى الحداثة مع محمد علي في مصر ومع خير الدين في تونس إلخ...

لذلك حق لنا أن نقول؛ إن الحداثة ليست غربية، وأن الفكرة القائلة بأنها إنتاج العقل الأوروبي أمر فيه نظر، بل لنقل – اختصاراً – إنه لا وجود لعقل أوروبي تماماً كما أنه لا وجود لعقيدة أوروبية؛ فالعقل في أوروبا إنتاج عربي والعقيدة في أوروبا، سواء عقيدة من هادوا أو النصارى أو الذين قالوا ربنا الله من أنوار الشرق. فموسى مصري، حتى النخاع والمسيح فلسطيني الهوية والهوى ومحمد من واد غير ذي زرع، فليس لأي موضع في العالم أن يصدّر لنا هذه العقيدة أو تلك ولا فرق عندي – من جهة العقيدة- بين فيروز أطال الله بقاءها- وبين سيلين ديون، والعربي المسيحي أخي مثلما هو شأن المسلم. ولا خلاف لي مع اليهود إلا على استعمار وطني بتحالف أجنبي ثم له –في ما خلا ذلك - دينه ولي ديني، ولنقل إجمالاً إن حروب الأديان وراءنا وسياسات التبشير من مخلفات ماض لم نقو بعد على تجاوزه ولكنها إلى زوال - ولا ريب - تماما مثلما هو شأن الاستعمار.

بقيت المعارف والعلوم؛ أي الشأن العقلي بعد الشأن العقدي. فهل لنا أن ندعي أن الحداثة من إنتاج العقل "الغربي" أو "الأوروبي" وهل يمكن أصلاً أن يوجد عقل علمي لا يكون كونياً، حتى ولو تجلّى في لحظة من لحظات التاريخ في هذه الديار أو تلك؟

لكن لنترك هذه العموميات، ولنأت إلى بعض التفصيل المفيد، ولنذكر بما هو متعالم:

1/ما كان لأوروبا – لاسيما بعد طول فترة ما سماها كانط "الهمجية الرومانية"- أن تنهض فكرياً، لولا حركة نقل الفكر "اليوناني –العربي" إلى اللاتينية، وقد بدأت الترجمة مع بداية الحروب الصليبية وانتهت بنهايتها، لتفسح المجال إلى ما يسمي عصر الإحياءLa Renaissnce.، ولطالما بيّن أ. كونت أن من أهم أسباب انفجار الثورة الفرنسية اقتحام العلم العربي المجال الأوروبي بداية من القرن الثاني عشر ميلادي، الأمر الذي ترتب عنه يقظة فكرية وروح نقدية بدّل العقلية الأوروبية ونتج عن ذلك انقسام الكنيسة المسيحية إلى كاتوليكية وبروستانتانية. وباختصار، فإن كونت يرد الثورة الفرنسية إلى عاملين متضافرين؛ فكري ناتج عن "الغزو" المعرفي العربي، واقتصادي ناتج عن تخلخل البنى الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية مع بدايات ظهور الصناعات المعملية وهجرة "اليد العاملة "؛ أي أقنان "القرون الوسطى إلى المدن والاستقرار في أحوازها، حيث نشأت "البورجوازية" الأوروبية، وكلا الظاهرتين تزامنتا مع اندلاع "الحروب الصليبية "التي فتحت عيون أوروبا على التقدم الحضاري الشامل الذي كانت عليه الأمة العربية. وقد بين ألكسندر كواريه A.Koyré أن العرب لم يكونوا مجرد "واسطة" بين الفكر اليوناني والفكر الأوربي، بل كانوا "معلمي أوروبا ومربيها".

والحق، أن العربي كثيراً ما يفخر بمكانته تلك في التاريخ الفكري الأوروبي، ولكنه سرعان ما يتنكر لما أنتجت جهوده، ولو في ديار غيره هو يقبل التشريف ويرفض التكليف؛ أي ما يلقيه عليه واجب "الأبوة" من التزامات نحو الأبناء.

خذ مثالاً على ذلك كوبرنيك أب الحداثة برمتها؛ فقبل أن يطلع على البشرية سنة 1543 بكتابه الشهير "في دوران الأجرام السماوية" تردد أكثر من ثلاثين سنة في نشره للناس، لما كان يتوقعه من ردود فعل مخيفة. فتطوع أحد كبار معاصريه من علماء الفلك لتهيئة العقول، لتقبل النبأ العظيم أو على الأقل لتلطيف حركة الرفض المتوقعة دون أن يكون له نصير فيها، إلا من العلماء العرب بالخصوص، سواء بما أنجزوه من أرصاد فلكية أو بما قاموا به من حساب، مثل الزركلي أو البطرجي أو البتاني (انظر Le narratio prima de Rhéticus ,in Introduction à lastronomie de Copernic ,Blanchard ,Paris ,1975) أو بما اقترحوه من أسس جديدة لفلك "لابطليموسي" يلغي أفلاك التدوير Epicycles والدوائر الخارجة عن المركز Excentriques/Eccentrics وغير ذلك من الحيل الهندسية التي تصنعها بطليومس "لإنقاذ الظواهر" الأمر الذي صير علم الفلك علما صوريا مظهرياً اسمانياً لا علماً بالحقيقة، كما بين ذلك ابن رشد في شرحه لميتافيزيقا أرسطو داعياً الى تجديد علم الفلك على أسس تضمن وحدة المركز الكوني وانتظام حركات الأجرام السماوية واستدارتها؛ ولعل أدنى ما يحق لنا استنتاجه من هذه الإشارات العابرة أن الذكاء العربي لم يكن غريباً على الثورة العلمية التي نتجت عنها الصور الحديثة علماً وفلسفة وتقنيات ونظم اجتماعية وقيم أخلاقية وسياسية، رجعنا بها إلى ثلاثة مفاهيم أساسية؛ الحقيقة والحرية والقوة...ولم تكن هذه الحركة الفكرية الشاملة هادئة وديعة، بل كانت متزامنة مع الحروب بين أوروبا والعرب، فاختلط حبر العلماء بدماء "الأبرياء ممن سخرهم "الملوك" لغزو الشرق. فحروب "الإفرنجة" كما نسميها نحن ليست حروباً دينية، بل هي "حروب ملوك" كما كان يسميها المؤرخ البريطاني جيبون في موسوعته التاريخية الرائعة على أنفاسها الرومنطيقية "وحروب الملوك" هذه سخرت لها جحافل من "الأوغاد" و"الذراري الفارين من أولياهم" كما يقول هيجل، بل إن الكثير ممن تطوعوا إلى تلبية نداء الطمع قد باعهم في سوق النخاسة بالشرق الأوسط من غرر بهم. ولذلك، ما كان لتلك "الحروب" أن تترك هذا الكم الهائل من الوهم يستغل في إشعال نار الحقد بين "الشرق" و"الغرب"، ومن نتائج ذلك اعتبار الحداثة إنتاجاً غربياً غريباً صليبياً استعمارياً إلى غير ذلك من هذا الهذيان الذي لا ينتهي، فنحن طرف رئيس في الإعداد للحداثة.

وأعتقد أنه آن الأوان لنستعيد البادرة التاريخية، ونندرج مجدداً عن وعي وتصميم في مسيرة البشرية نحو مزيد من العقلانية والحرية والتقدم الشامل، ولا شيء يبرر أصلاً تلكؤ بعضنا في الإقبال على اكتساب قيم الحداثة وكأنه يسترد متاعه. فلا غربة إلا الغربة عن الحقيقة ولا ضياع إلا ضياع الحرية ولا اغتراب إلا من وهن القوى على الكسب الشريف.