حوار مع الدكتور سعيد البوسكلاوي


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور سعيد البوسكلاوي

حوار مع الدكتور سعيد البوسكلاوي

مرحباً بكم على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

يوسف بن عدي: لعل من المباحث الأساسية التي لا ُيلقي لها التأليف الفلسفي العربي اليوم بالاً أو اهتماماً هو مبحث السيرة الفلسفية التي هي جزء قوي ومضيء لفكر الفلاسفة، قبل أن أعود إلى هذه النقطة، أقول ما هي سيرتكم الفلسفية؟

سعيد البوسكلاوي: قبل الجواب عن سؤالكم، أرى من الواجب عليّ أن أعبر لكم عن مشاعر امتناني وشكري على هذه الالتفاتة الكريمة إلى سيرتي المتواضعة في حقل تاريخ الفلسفة الإسلامية، كما لا أغفل أن أنوه بالعمل الهادف الذي تقوم به مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" وتجربتها المتميزة في العالم الإسلامي العربي، وأتمنى أن يمتد نسيمها في الزمان والمكان، وفي الخطاب والروح، بل وأن يمتد في سلم الرقي والجودة أيضاً من أجل أن يساهم في الارتقاء بحسّنا العلمي والديني والجمالي والإنساني؛ فما أحوج أرواحنا إلى نسائم الحرية والجمال والخير! فالحرية علم وفن وزهد والعبودية جهل وعنف وجشع. وعن سؤالكم، أجدني في حرج؛ إذ لا يمكنني أن أتحدث عن سيرتي "الفلسفية" لأنني ببساطة لا أملك مثل هذه السيرة، فأنا لست فيلسوفاً لكي تكون لدي سيرة فلسفية، ولا أطمح إلى ذلك؛ أنا باحث مبتدئ يتلمس طريقه في درب المعرفة، ومؤرخ يتعلم أصول الصنعة ويشق خطواته الأولى في مسار البحث التاريخي في الفلسفة الإسلامية. أقول التاريخي، لا الفلسفي، لأنه لا بُدّ من التمييز بين التفلسف والتأريخ للأفكار الفلسفية، وشغلي هو التاريخ لا الفلسفة. ولعل شرط التفلسف "الإسلامي"، أي الإنتاج الفلسفي بالمعنى الكامل للكلمة، أي بما هو انخراط في حركية الفكر الفلسفي العالمي، غير متاح في السياق الإسلامي الراهن عموماً، لأسباب كثيرة ليس هاهنا ربما مجال الخوض فيها.

وإذا كان لا بُدّ من سرد سيرتي الأكاديمية، فثمة مدارس ساهمت في تشكيل مساري الأكاديمي وتوجيه خطواتي نحو تخصص تاريخ الفلسفة، والفلسفة الإسلامية تحديداً، ونحو آفاق في البحث غير الآفاق التقليدية الغالبة في الكتابات العربية عموماً، بفضل ثلة من الأساتذة الذين كانوا ويظلون قدوتي الصالحة في العلم والسلوك. وهم أساتذتي الذين أجلهم وأقدر مساهمتهم ودورهم في تكويني ووجودي الفاعل في جامعتي فاس والرباط وغيرهما. فإذا تجاوزت المرحلة السابقة عن التخصص (حيث تدرجت من تكوين تقليدي إلى تكوين أدبي إلى تكوين فلسفي، وفي هذا الأخير تدرجت من تكوين عام في الفلسفة والعلوم الإنسانية، إلى تخصص تاريخ الفلسفة ومنه إلى الفلسفة الإسلامية)، يمكن أن أقف عند أربع محطات أو مدارس أساسية: جامعة فاس وجامعة الرباط وجامعة يائل الأمريكية (Yale University) وجامعة وجدة.

إنّ مدرستي الأولى هي مركز الدراسات الرشدية بفاس، حضني الأول، وهو يمثل مدرسة متميزة في الفلسفة الإسلامية ومساهمة رواد هذه المدرسة معروفة على المستوى الدولي وخاصة في مجال تحقيق نصوص ابن رشد وابن باجة والمكلاتي وغيرهم. وأنا فخور بانتمائي إلى هذه المؤسسة العلمية الرائدة في المغرب. والأفق الذي أشتغل فيه هو نفسه أفق هذه المدرسة التي يمثلها ثلة من الباحثين، أذكر من الرواد، لا على سبيل الحصر، المرحوم جمال الدين العلوي والمرحوم محمد ألوزاد والأستاذ محمد المصباحي والأستاذ أحمد علمي حمدان أطال الله في عمرهما، وفي عمر تلامذتهما، علاوة على أستاذين بارزين في الفلسفة الحديثة والمعاصرة حافظا دوماً على علاقة رفيعة بالمركز وهما الأستاذان عبد الحي أزرقان وعز العرب لحكيم بناني. ولا أنسى جماعة من طلبة هؤلاء وخريجي هذه المدرسة، وهم اليوم باحثون مرموقون في الفلسفة الإسلامية وأساتذة الفلسفة في مختلف جامعات ومعاهد المغرب. وقد أفدت من هؤلاء جميعاً، وكل واحد منهم طبع مساري بطابعه الخاص. وقد اتخذ الجديد عموماً مع مدرسة فاس وجهين: الأول، تكريس منهج ينحو منحى تاريخياً وبيبليوغرافياً وتحليلياً ونقدياً في دراسة الموضوعات التقليدية، مثل ابن رشد وفلسفته؛ فمع هؤلاء نشأ أفق وترسخت تقاليد ممارسة علمية تقوم أولاً على دراسة النصوص بدءاً بتحقيقها وإخراجها إخراجاً علمياً. أمّا الثاني فهو توسيع دائرة البحث حتى تشمل المحيط العام وفلاسفة ودارسين "مغمورين"، مثل ابن مسرة وابن باجة والمكلاتي وغيرهم؛ وفي هذا الاتجاه يمكن إدراج توجهي نحو الاشتغال على ابن باجة ويحيى النحوي في التراث الفكري الإسلامي، وكذلك ميلي إلى الاشتغال على الفهرسة والترجمة والتحقيق، إلى جانب ثلة من زملائي وأصدقائي.

المحطة أو المدرسة الثانية هي اشتغالي مع فريق البحث في تاريخ العلوم وفلسفتها بكلية الآداب بالرباط واحتكاكي بنخبة من أساتذتها، وهم أساتذة منطق وإبستمولوجيا وتاريخ علوم وعلى رأسهم الأستاذ بناصر البُعزاتي وحمو النقاري والمرحوم سالم يفوت ومحمد مرسلي وغيرهم. واحتكاكي بهؤلاء العلماء فتح عيني على طرائق وأدوات وعوالم أغنت تجربتي السابقة وصقلتها. فقد شاركت مع هذا الفريق في مجموعة من الموائد المستديرة التي كان ينظمها بمراكش بتعاون بين كلية الآداب ومؤسسة كونراد أديناور؛ كما ساهمت في مناقشة مجموعة من الأطاريح في المنطق والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم والفلسفة ضمن وحدتي الدكتوراه "تنقل الأفكار العلمية حول البحر الأبيض المتوسط قبل العصر الحديث" التي يشرف عليها الأستاذ بناصر البعزاتي، بالإضافة إلى وحدة "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" التي يشرف عليها الأستاذ محمد المصباحي الذي انتقل إلى الرباط منذ زمن وكان وراء تأسيس الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية، إلى جانب ثلة من الباحثين المشتغلين بهذا الحقل من مؤسسات وجامعات مختلفة.

المحطة الثالثة هي انفتاحي على الجامعة الغربية، والأمريكية بالخصوص، حيث كانت لي فرصة التلمذة، ولو لفترة وجيزة، على يد أستاذين كبيرين في جامعة يائل: الأستاذ دمتري غوتاس في قسم الدراسات اليونانية العربية بمركز لغات وحضارات الشرق الأوسط والأستاذ جيرهارد بويْرينغ بقسم الدراسات الإسلامية بشعبة الدراسات الدينية، وكذلك الاحتكاك بغيرهم من أساتذة الدراسات الإسلامية والعربية وطلبتها. لقد غيرت هذه التجربة أشياء كثيرة في مساري الأكاديمي وغيرت نظرتي إلى الجامعة والبحث العلمي... أدركت معنى أن يكون المرء باحثاً في جامعة توفر كل شروط البحث في محيط منخرط في مشاريع، في مقابل جامعة تفتقر إلى أدنى تلك الشروط في محيط لا مشروع له. أدركت أنّ من يختار البحث الأكاديمي في مجتمعنا يسبح ضد التيار، يختار شيئاً "لا شيء" للأسف يشجع عليه في جامعاتنا ومجتمعاتنا، بل إنّ "كل" شيء في المحيط يشجع على تركه نحو فضاءات مغرية وسهلة، مثل الكتابة العامة، السياسية أو الدعوية الإصلاحية أو الصحفية المغلفة في صورة فكر أو فلسفة، وما أكثرها! "كل شيء" يغري بالدعوة والانخراط في كلام الإصلاح والكتابة الموسوعية، أقول كلام الإصلاح، لأننا نقوم بكل شيء ومنه الدعوة إلى الإصلاح، ولا نقوم بالإصلاح نفسه، كلنا ندعو إلى الإصلاح؛ فمن سيقوم بهذا الإصلاح يا ترى؟ نقول كلاماً ونأتي عكسه، بحثاً عن السلطة والجاه ومغريات كثيرة. لعل كل فرد منا مدعو إلى إصلاح ذاته أولاً ومجاله ثانياً، وعلى النحو نفسه تقوم كل فئة في قطاعها بعمل متواصل دون ضجيج وكلام غليظ. لقد أدركت على نحو جوهري أنّ الباحث لا يمكن أن يكون في الآن نفسه مصلحاً أو داعية أو رجل سياسة أو غير ذلك، إنه لا يمكن أن يكون سوى ذاته أي باحثاً في مجال معين. وإذا صار داعية فقد تخلى عن هويته الأصلية، وكذلك إذا مارس السياسة، فإنه يأخذ هوية أخرى ويفقد بلا شك هويته الأصلية ومعها يفقد حريته ووقته، بل إنه إذا كان باحثاً في العصر الوسيط لا يمكنه أن يكون متخصصاً في العصور جميعها، وإذا كان متخصصاً ومرجعاً في موضوع لا يمكن أن يكون مرجعاً في الموضوعات جميعها. أدركت أنّ العالم عالم، لا تاجراً ولا صحفياً ولا سياسياً ولا غير ذلك. العالم لا يخاطب الرأي العام، بل يقدم نتائج أبحاثه إلى الجماعة العلمية؛ أي إلى زملائه وطلبته من أهل الاختصاص لا إلى الرأي العام؛ فثمة وسائط أخرى لنشر المعرفة العلمية. فكل شخص في مكانه المناسب، ولكل دوره الخاص. إنّ مثل هذه التقاليد نفتقدها في جامعاتنا، أقول جامعاتنا، ولك أن تتصور حال مجتمعاتنا. ومن النافل القول إنّ مطلب الجودة والمساهمة العلمية لا يتأتى إلا عن طريق البحث عن الإضافة لا اجترار القول، وهذا بدوره لا يتأتى إلا بالانخراط في البحث على المستوى الدولي والانخراط في الجماعة العلمية والتقيد بمبادئ العلماء وأخلاقهم. وهذا يقتضي توجيه الخطاب العلمي لكي يستهلكه العلماء، أولاً، أخذاً وردّاً لا عموم الناس؛ كما يقتضي إنشاء قنوات الصرف والتصفية وانتخاب الأفكار حماية للحاضر والمستقبل. ولعل السؤال هنا يطرح عن سياسة الدول واستراتيجياتها وموقع الجامعة في مجتمعاتنا وما ينتظر منها ومن سياستها وتكوينها.

والمحطة الأخيرة هي تجربتي في التدريس في شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بوجدة التي كانت وتظل تجربة قوية، وإن كانت صعبة أحياناً، لكنها أفادتني كثيراً على مستويات كثيرة. لقد أغنت نظرتي إلى الفلسفة الإسلامية ومباحثها وتاريخها ومكانتها في تاريخها الخاص، أي تاريخ الدراسات الإسلامية من جهة، وفي تاريخها العام، أي تاريخ الفلسفة والعلم. وقد أعدت النظر في كثير من الأحكام الخاطئة التي يتداولها بعض طلبة الفلسفة عن جهل، كما أدركت هول الفراغ المنهجي الذي يخيم على جلّ التكوينات الجامعية عندنا، وعلى رأسها تكوينا الدراسات الإسلامية والدراسات العربية، وهول الأوهام والخطوط الحمراء التي يسطرها بعض أهلها بين طالب العلم والعلم. ومن المؤكد أنّ كثيراً من العمل ينتظرنا من أجل النهوض بأوضاعنا التعليمية؛ لأنّ التربية أساس التمدن والإنتاج الحضاري.

وعموماً، فقد سمحت لي هذه التجربة، والتجارب السابقة، بأخذ العصا من الوسط وتلمس طريق المنزلة الوسطى التي هي منزلة الإنسان ولا شيء غير الإنسان. أحرص على أن أتعلم دائماً ولا أدّعي أبداً امتلاك الحق. أحاول أن أرتقي بطبيعتي نحو مرتبة الإنسانية دون طموح أكثر، لأنّ من يعتقد أنّ هذه المرتبة معطاة وفطرية يقلل من شأن دور التربية والتثقف والتعلم في الارتقاء نحو منزلة الإنسانية والمدنية الحقة فكراً وسلوكاً، والارتقاء لا يكون أبداً عن طريق التخلص من الطبيعة، وإنما من خلال تهذيبها بالثقافة والعلم؛ أحاول أن أرتقي بإرادتي إلى مرتبة المسؤولية والحرية دون طموح طبيعي أكبر؛ لأنني مقتنع تمام الاقتناع بأنّ غايات السلطة والهيمنة وفرض الرأي بالقوة هي للإنسان من جهة ما هو طبيعة وبهيمة لا من جهة ما هو إنسان. وما يجعل من الأخير ما هو ثلاثة مسالك: علم وفن وزهد، كما ألمحت إلى ذلك في البداية.

يوسف بن عدي: قلتم إن "شرط التفلسف "الإسلامي"، أي الإنتاج الفلسفي بالمعنى الكامل للكلمة؛ أي بما هو انخراط في حركية الفكر الفلسفي العالمي، غير متاح في السياق الإسلامي الراهن عموماً، هلا وضحتم ذلك أكثر؟

سعيد البوسكلاوي: قد نجد توضيحاً فعلياً عند كثير من المحققين من أهل العلم الذين لا يعملون سوى على تحقيق النصوص التراثية ودراستها من جهة؛ وترجمة النصوص المعاصرة من لغات العلم في العصر الحديث ودراستها (أو العكس، أي ترجمة النصوص التراثية إلى لغات العلم الحديثة) من جهة أخرى، بعيداً عن مزاعم الإبداع. وفي كلا العملين يقوم هؤلاء بعمل أصيل يهيئون بفضله شروط التفلسف والإبداع ويعيدون إلى المساهمة الإسلامية في العلم والفلسفة منزلتها في التاريخ. إنهم يمارسون النقل المباشر إلى العربية لا النقل المغلف ويعرفون ويعترفون بأنّ أفضل ما يمكن القيام به، في اللحظة التاريخية الراهنة، هو النقل لا محاولة الإبداع من فراغ أو من شبه فراغ لأنّ الأمر ببساطة غير ممكن في الوضع العام الحالي في غياب مشروع علمي حضاري إسلامي يحقق العمل المزدوج المشار إليه، أي استئناف النظر القديم جنباً إلى جنب مع استئناف النظر الحديث. حقاً، لا يمكن الإبداع دون امتلاك التراث الفلسفي الإسلامي الوسيطي والفلسفة الحديثة والمعاصرة على السواء، ولا يمكن امتلاك التراثين معا دون امتلاك التراث اليوناني والشرقي القديمين وغيرهما. والأمر ينطبق على مختلف العلوم الحكمية النظرية والعملية والتقنية والمهنية، دون إغفال أنّ إيقاع الإبداع والبحث الفلسفي والعلمي والفني والتقني سريع جداً في الغرب والصين واليابان وغيرها من بقاع العالم غير الإسلامي. لذلك يجب ألا نستغرب إن ظلت مزاعم الإبداع والتجديد لدى المسلمين محصورة عموماً في الجانبين الأخلاقي والديني؛ مع مفارقة كبرى هي أنّ الواقع اليومي الحالي يبين بالملموس أننا لا نمتلك لا هذا ولا ذاك لاعملاً ولا نظراً؛ أي لا بوصفهما سلوكاً فردياً ومدنياً ولا قيماً عليا فلسفية وتربوية، أقصد لا بوصفهما قيماً عملية راسخة في حياة المجتمع ولا أفكاراً نظرية ثابتة في روح مؤسساته، إذا استثنينا حضورهما لدى أفراد وأسر وفئات قليلة من مجتمعاتنا. ولعله من النافل الإشارة إلى أنه رغم كثرة مظاهر التدين والعفة والكلام المثالي في المجتمعات الإسلامية، فإنّ الواقع لا يعكس ذلك؛ إذ غابت قيم التدين الحقيقي عن كثير من المتدينين. وعلى النحو نفسه، فإنه رغم كثرة الكلام في الدين وباسم الدين غاب علم الكلام بما هو علم الجدل في أصول الدين اعتماداً على المنطق والمعارف العلمية. وفي المقابل، انتشرت قشور الأفكار والتظاهر بالقيم وازدواجية السلوك والجشع المادي بمختلف مظاهره والبحث عن سلطة الدين والدنيا بكل وسيلة، ومعه تنامت أسهم الأنانيات والعصبيات والطائفيات فغابت قيمة الإنسانية عن الإنسان، وصار المرء يصبو نحو الألوهية وهو لم يتجاوز بعد عتبة البهيمية، لمكان غياب الوسط الإنساني الذي أشرت إليه، بغياب الغرض العقلي الذي ترسخه التربية الأخلاقية العقلية ويفرضه تطبيق القانون. وإذا غابت هذه المنزلة الوسطى غابت الغاية الإنسانية عن الأفعال التي يأتيها الناس (ولا أقول الأفعال الإنسانية، وشتان ما بين الأمرين)، وغاب السعي في خير الإنسان بما هو إنسان. ويمكن تلمس بعض عناصر فهم هذه الظاهرة في أنّ المجتمعات الإسلامية توجد في حالة تحول وانتقال عنيف أحياناً؛ فالبنيات التقليدية التي تعود إلى قرون سحيقة كان لا بُدّ أن تنكسر، مع انبلاج صبح العصر الحديث فكراً وتقنية وتواصلاً، ومعها انكسر الكأس بما له وما عليه، دون أن يتفتت كليّة طبعاً، بل امتدت شظايا الانكسار في المكان والزمان. فإذا كان يلاحظ غياب عمق ديني عند الناس فلمكان غياب عمق علمي وأخلاقي وجمالي وتربوي عندهم لا العكس، بل وقد يصح العكس في كثير من الأحيان أيضاً، وإن كان ليس من شرط هذا ذاك، وهذا موضوع آخر.

نحن نعيش مرحلة النقل لا مرحلة الإبداع، ولا يقوم هذا دون ذاك؛ وفي إتقان الأول إتقان الثاني. ويبدو أننا كثيراً ما نسيء فعل الأول، وندعي الثاني فنضيعهما معاً. إنّ جلّ من يكتب في الفلسفة، في بلاد المغرب الكبير مثلاً، ينقل من نصوص الغربيين، لكن القليل من ينسب العمل إلى أهله في شكل ترجمة معلنة وهادفة. ويغلب النقل عن الفرنسيين بشكل فج، بل وننقل أحياناً بشكل سيّئ دراسات وأفكار نشأت في بيئات ثقافية ولغوية مختلفة مثل الألمانية والإنجليزية وغيرها. وحتى لا أبتعد عن موضوع السيرة، أقول إنّ سيرة الباحث وحدها قد تبين لنا ماذا قرأ، وعلى يد من، وأين؛ أي في أي مدرسة تخرج وبأي أدوات ومناهج، قبل أن نصل إلى ما كتب ومن تتلمذ على يديه. أعطيك مثالاً بسيطاً، إذا كان بين يديك كتاب عن فلسفة ابن سينا، لنقل بالإنجليزية أو الفرنسية على سبيل المثال، وتعرف من خلال سيرة صاحبه أنه لا يتقن العربية، فلا يمكن أن تعتد بتلك الدراسة وبأحكامها في الفلسفة الإسلامية. وإذا كنت تقرأ كتاباً عن فلسفة كانط (بالعربية أو الفرنسية مثلاً) وتعرف أنّ صاحبه لا يتقن الألمانية، فأنت تضيع وقتك، بل ويجب أن تعي أنك معرض لآفة سوء الفهم الأصلي. إنّ إتقان اللغة شرط أساس، غير أنه ليس كافياً وحده؛ إذ ليس كلّ من يتقن الألمانية يمكن أن يفهم كانط؛ فلا بُدّ من تملك أدوات أخرى بالإضافة إلى اللغة. أعطي مثالاً آخر، عندما تقرأ كتاباً عن فلسفة ابن رشد، بأي لغة كان، من تأليف شخص لم يتدرج في دروس الفلسفة، أي لم يقرأ أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وابن باجة، وهؤلاء يناقشهم ابن رشد، فماذا عساه يقدمه للقارئ؟ ترى ماذا عسى أن يفهم قارئ لا يمتلك أدوات المنطق واللغة الفلسفية من نص ابن رشد أو غيره من الفلاسفة، وماذا عساه يوصل إلى الناس من أفكاره الفلسفية؟ ولعل ما نفتقده في مجتمعاتنا التي صارت تتعقد أكثر فأكثر هو التخصص المنتِج واحترام قيمته المثلى، والوعي بأهميته الاستراتيجية؛ فلا يمكن اليوم لـ"فقيه القرية" أن يكون هو العالم في كل شيء، فقط؛ لأنه يعرف أن يكتب ويقرأ ويخطب في جماعة من الناس البسطاء لم تتح لهم فرصة التعلم أصلاً أو لم تتح لهم فرصة الإلمام بأدوات التحليل ونقد الخطاب. ونلاحظ للأسف أنّ الكثيرين صاروا مثل "عالم القرية" من مشتغلين بالطب والفلسفة والحديث والميكانيكا والفلاحة والخدمات والهندسة والسياسة والاقتصاد والإعلام وغير ذلك؛ يخوض "علماؤنا"، أقصد علماء القرية والإعلام، في كل شيء ويفتون في كل موضوع. وهذا مظهر من مظاهر غياب دور الجامعة عندنا وغياب القيم التي أشرت إليها داخلها وخارجها على السواء تقريباً.

يوسف بن عدي: ألا تعتقدون، وأنتم كما أعرفكم تدافعون عن النظر في ما لم يدرس في فكر فلاسفتنا القدامى (الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد، وغيرهم كثير)، بأنّ سير هؤلاء وما كتبه المترجمون وكتب الطبقات هي المدخل لإنارة فكرهم من جديد وتوضيح الملتبس فيه؟

سعيد البوسكلاوي: طبعاً يجدر بالبحث والباحثين طرق الجوانب غير المدروسة واستثمار نتائج السابقين ومحاولة النظر أو إعادة النظر في الموضوعات المطروقة أو الأعلام المعروفين من زوايا أخرى. والإنسان بطبعه مقلد وتغريه الشهرة، شهرة أعلام وموضوعات ومسائل ومناهج. ولا يكاد يعرف المبتدئ في الميدان من فلاسفة الإسلام سوى الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، في حين أنّ هؤلاء يخفون غابة شاسعة من الأشجار المثمرة. فالفيلسوف ابن رشد، على سبيل المثال، لم يخرج من فراغ ولا كان هو نهاية النظر في الغرب الإسلامي، بل سبقه فلاسفة أفاد منهم واستثمر أبحاثهم وناقش أفكارهم أخذاً ورداً وترك بدوره تلامذة وهؤلاء خلفوا أيضاً تلامذة. وهؤلاء الأساتذة كما التلامذة تركوا نصوصاً ضخمة أحياناً، وكثير منها غير منشور مع الأسف؛ ولا يكاد يعرف الناس سوى أسماء هؤلاء وبعض المقدمات أو النصوص التي كان لها حظ النشر، أعطي هنا مثال ابن باجة الذي كثيراً ما يخلط الناس اسمه باسم ابن ماجة، (فعلى سبيل النكتة لا تستغرب إن عثرت على منشور عربي يرد فيه اسم ابن ماجة في عمل حول ابن باجة؛ فقد يتدخل أحدهم (وقد يكون مسؤولاً عن النشر) فيصحح الاسم، عن "حسن نية"، معتقداً أنّ ثمة خطأ وقع في اسم ابن ماجة، لأنه لم يسمع أبداً بشخص اسمه ابن باجة)، والأمر كذلك بالنسبة إلى ابن طملوس والمكلاتي وغيرهم. وابن رشد نفسه قبل أن تنشر شروحاته كان الناس يعرفون فقط ثلاثيته (فصل المقال، والكشف، والتهافت)، وكانوا يبنون عليها أحكاماً تعمّ فلسفة ابن رشد. غير أنّ نشر شروحاته سمح بإعادة النظر في كثير من الأحكام سواء تلك التي تخص ابن رشد نفسه أو التقاليد التي تفاعل معها في الشرق أو في الغرب الإسلاميين. والبحث ما زال يراوح بداياته، سواء حول ابن رشد أو أساتذته (المباشرين أو غير المباشرين) أو تلامذته (المباشرين أو غير المباشرين) أو المحيط الذي عاش فيه. فكثير من الأمور ظلت غامضة في جوانب مهمة من حياته وتكوينه، ومن يقرأ كتاب محمد بن شريفة عن سيرة ابن رشد سيكتشف هول ما نجهله عن الرجل وسياق فكره. وابن رشد أخذته هنا مثالاً وحسب، فما قلته هنا ينطبق على جميع علماء الإسلام فلاسفة وأصوليين وصوفية وغيرهم.

أتفق معكم في أنّ السيرة مبحث عزيز ومفيد في معرفة وفهم كثير من القضايا التي تطرحها نصوص المؤلفين. ومن المؤكد أنّ سيرة المؤلف ومسار تكوينه، إلى جانب حيثيات عصره التاريخية العامة، قد تساعد كثيراً على تسليط الأضواء على جوانب من أفكاره ومقاصده. وأتفق معكم تماماً في أنّ كتب الطبقات هي المدخل دائماً في معرفة سير الفلاسفة المسلمين ومؤلفاتهم وتوضيح معالم فكرهم وتسليط الضوء على جوانب غامضة في نصوصهم، غير أنها ليست بديلاً عن نصوص هؤلاء الفلاسفة المحتفظ بها. إنها المدخل الضروري إن شئتم، لا المبتدأ والمنتهى. وفي كل الأحوال، تبقى كتب الطبقات مفيدة جداً في الكشف عن أعلام مغمورين ومؤلفات مفقودة، فنفهم كيف أنّ العثور على نصوص معينة قد تغير نظرتنا إلى كثير من القضايا وقد تصحح كثيراً من الأحكام السائرة، فما وصلنا من مؤلفات الكندي قليل جداً ممّا ألفه في الأصل، وبعض نصوصه احتفظ بترجمات لها في لغات أخرى، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الفارابي وأبي بكر الرازي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد والمكلاتي وغيرهم. وفي القرن الماضي اكتُشفت، على سبيل المثال، نصوص كلامية كثيرة؛ فكتب المعتزلة كان جلها، حتى لا أقول كلها تقريباً، في عداد المفقود وشاءت الأقدار أن تكتشف وتنشر (وما زالت تكتشف وتنشر) نصوص كثيرة للمعتزلة خاصة ما اكتشف منها في اليمن وصرنا نعرف أكثر فأكثر عن فكر المعتزلة خاصة المتأخرين منهم مثل القاضي عبد الجبار وابن متويه والزمخشري والقاسم بن محمد بن علي والحسين البصري والملاحيمي وتقي الدين النجراني وغيرهم. بالفعل، إنّ إلقاء نظرة على لوائح مؤلفات علماء الإسلام التي يقدمها مؤلفو الفهارس القديمة ومقارنتها بما احتفظ به من نصوص، تجعلنا ندرك هول الفاجعة وحجم الخسارة التي لحقت الحضارة الإسلامية من جراء عدد المؤلفات في مختلف العلوم والفنون التي ضاعت إلى الأبد من جهة، أو الكم الهائل من النصوص التي ظلت مخطوطة إلى يومنا هذا، وكثير منها يلحقه المصير نفسه عندما لا تصان أو لا تجد أياديَ أمينة وخزانات رحيمة تعتني بها حفظاً وصيانة. وإنّ إلقاء نظرة على فهارس خزانات تركيا وأوروبا وأمريكا ومصر والمغرب وغيرها لكفيل بأن يبرز الكم الهائل من المخطوطات التي تنتظر أن تمتد إلىها أيادي الباحثين بالدراسة والتحقيق.

غير أنه لا بُدّ من الإشارة إلى ضرورة الحذر أثناء التعامل مع مضامين الفهارس القديمة، ولا بُدّ من التعامل معها، كما مع غيرها من المصادر، على نحو نقدي. فليس كل ما أورده ابن النديم وابن القفطي وابن أبي أصيبعة وغيرهم قرآناً منزلاً؛ إذ نقف عندهم على مظاهر خلط بين أسماء الأعلام وسيرهم وتواريخهم وعصورهم ومللهم وأفكارهم ونسب مؤلفات إلى غير أصحابها ونقل خاطئ وما ينتج عنه من تحريف الأسماء والمعلومات التاريخية. وهي أمور لا بُدّ من الانتباه إليها واستحضارها، بل وضبطها قبل الشروع في بناء المقدمات، اعتماداً على هذه المصادر، وما يترتب عنها من أحكام واستنتاجات و"حقائق" يكررها "العلماء" دون تمحيص ويأخذها عنهم الطلبة ويكررونها فتكثر الأفكار الخاطئة و"الحقائق" الزائفة لمكان فقدان ذلك الأصل المنهجي الأول، علاوة على ما نلاحظه اليوم من سعي "محموم" إلى بناء الأفكار الكبيرة دون التدقيق في المعلومات البسيطة. ولا بُدّ من تتبع تلك الأخطاء نفسها أولاً والبحث في مصادرها؛ هل يمكن بناء حقائق دون تفنيد ما قد يشوبها من وجوه اعتراض ومن شبه ومقدمات غير مضبوطة؟ وهل يمكن تشييد أفكار بعيدة عن الواقع والتاريخ واللغة؟ ولعل هذا ما أعطى ويعطي الشرعية للبحث التاريخي والنقد الفيلولوجي؛ فهل يمكن أن يقوم تاريخ للأفكار الفلسفية دون أن يستند على هذه الطرائق وإعادة النظر في نتائج المؤرخين السابقين وطرائقهم ومن بينها هذه الطرائق نفسها؟ لكن دون أن يعني هذا تبديلها بطرائق تعوم في الهواء وتستغني عن التاريخ واللغة والنصوص المصدرية؛ بل ينبغي، بالأحرى، إغناء تلك المناهج والتدقيق في نتائج أصحابها والكشف عن عناصر خلفياتها ومكامن ضعفها بغية تطويرها والمساهمة في تقدم البحث والحصول على معرفة أدق. وهل يمكن بناء منظومات فكرية على أسس ومعلومات خاطئة؟ وهل يمكن أن نكوّن أجيالاً بطرائق النقل والحفظ والاجترار دون مساءلة الأصول التي نبني على أساسها أحكامنا، ودون مساءلة ووضع طرائق واضحة بسيطة لاستخراج الأحكام من تلك الأصول؟ تقدم لنا مادة "يحيى النحوي" مثالاً صارخاً في هذه الموسوعات السير- فهرسية التي أجمعت على أنه عاش في العصر الإسلامي والرجل توفي قبل مجيء الإسلام بزمن؛ فانظر إلى هذا الخطأ التاريخي، وكيف يتكرر إلى يومنا هذا في الكتابات العربية وأحياناً في كتابات في "تاريخ الفلسفة الإسلامية"! وهذا النوع من الأبحاث والموضوعات، وما أكثرها، هي التي يجب أن نوجه إليها مجهوداتنا وأنشطتنا العلمية.

يوسف بن عدي: أعرف أنكم نظّمتم في جامعة وجدة مجموعة من الأنشطة العلمية، وتحرصون على المشاركة في أشغال الندوات المتخصصة في المغرب وخارج المغرب، التي تسير في هذا الاتجاه؛ فما أهم الندوات التي قمتم بها إشرافاً أو تنسيقاً أو مشاركة تصبّ في هذا المجال؛ أي مجال إحياء القول الفلسفي العربي القديم؟

سعيد البوسكلاوي: بالفعل، أشرفت على مجموعة من الندوات والكتب الجماعية بعضها منشور وبعضها قيد النشر أو قيد الإعداد، جلها من تنظيم فريق البحث في الفلسفة الإسلامية (كلية الآداب، جامعة محمد الأول) بتعاون أحياناً مع مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، وأحياناً أخرى مع المركز الوطني للبحث العلمي، (ونتمنى أن نتعاون أيضاً في المستقبل مع مؤسستكم الرائدة في هذا المجال)؛ أذكر منها: آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط (نشرت أعمال الندوة عن مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، بتعاون مع الزميل توفيق فائزي)؛ قضايا في الفلسفة، عروض في كتب منشورات الكلية (قريباً)؛ العلم والتعليم في بلاد المغرب بين القرنين التاسع والثاني عشر الهجريين (منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة (قريباً)؛ قضايا في علم الكلام (قريباً)؛ الكندي ومدرسته، أعمال مهداة إلى الأستاذ محمد المصباحي (قريباً)؛ قضايا في التصوف (قريباً). ومن المرتقب أن ينظم فريق البحث في الفلسفة الإسلامية (كلية الآداب، جامعة محمد الأول) هذا العام ندوتين دوليتين بحول الله: الأولى في موضوع الفارابي ومدرسته وأخرى في موضوع الفكر العملي عند محمد بن عبد الكريم الخطابي، وغير ذلك. ولعله من المفيد الإشارة إلى أنّ طريق البحث العلمي يمرّ عبر الجامعة وعبر الانخراط في المؤسسات العلمية ومناقشة آخر ما يستجد في الساحة مع زملاء متخصصين في مؤتمرات وندوات وأيام دراسية وموائد مستديرة ومجلات وكتب جماعية متخصصة وغير ذلك. وقد أدركت أهمية ذلك بتوجيه من أساتذتي الأجلاء؛ فأنا عضو في هيئات علمية متخصصة وأشارك في جلّ الأنشطة التي تنظمها هذه المؤسسات بدءاً بفريق البحث الذي أتشرف بتنسيق أنشطته؛ كما شاركت وأشارك في مختلف أنشطة مركز الدراسات الرشدية بفاس؛ وساهمت في سلسلة من الندوات التي كان ينظمها فريق البحث في تاريخ العلوم وفلسفتها (كلية الآداب، الرباط) بمراكش بتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور وجلها منشور؛ وأحرص على المشاركة في الندوات التي تنظمها الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية بالرباط؛ وأساهم كلما سنحت الفرصة في الأنشطة التي تنظمها جمعيتان دوليتان لهما وزنهما في تاريخ العلوم والفلسفة الإسلامية، أقصد الجمعية الدولية لتاريخ العلوم والفلسفة العربية بالمعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا؛ والجمعية الدولية لدراسة الفلسفة في العصر الوسيط بألمانيا؛ وغير ذلك.

يوسف بن عدي: أعلم أنكم تشتغلون على مشروع دراسة مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلامية، وقد نشرتم الجزء الأول من هذا المشروع البحثي الواعد بعنوان مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلامية المشائية، وهو موضوع غير مدروس، على ما يبدو، وذو أهمية خاصة، فما بواعث بحثكم في هذا الموضوع؟ وما أهم الخلاصات والآفاق المرتقبة؟

سعيد البوسكلاوي: موضوع الإرادة هو نافذتي التي أطلّ من خلالها على العالم، فبأي عين نظرتُ، لا أرى في العالم غير الإرادة ومنتوجاتها؛ لا أرى في الأشياء والبهائم والناس والإله غير الإرادة، فهي المبدأ والغاية، وهي الأصل الأول لكل فعل: إنها أصل الوجود ومبدأ استمراره واستمرار الحركة فيه، والأمر سيّان في العالمين الكبير والصغير، عالم الطبيعة كما عالم الحيوان مع تداخلات واحتواءات وانفلاتات قد يعبر عنها بالحرية والحتمية أو بالاختيار والضرورة وغير ذلك؛ وما هي إلا تداخلات، لأنّه لا شيء من هذه الثنائيات يوجد مستقلاً وكاملاً، لكن مع تمييزات ودرجات ومنازل وتبعاً لظروف وأحوال وغير ذلك. لقد أخذ بلبي هذا الموضوع منذ بحث الإجازة عندما اخترت الخوض في مفهوم الإرادة عند هيجل تحت إشراف الأستاذ عبد الحي أزرقان عام 1993، وتناولته فيما بعد في السلك الثالث عند أرسطو وابن باجة في إطار سؤال الأخلاق، تحت إشراف الأستاذ المرحوم محمد ألوزاد، ووسعته في الدكتوراه لكي يشمل فلاسفة إسلاميين آخرين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، (مع تركيز أكبر على ابن سينا ممثلاً الفلسفة المشرقية وابن باجة ممثلاً الفلسفة المغربية دون إعطاء أهمية تذكر لهذا التمييز الجغرافي، بل فرضته اعتبارات تتعلق بموضوع البحث نفسه وتوافر مادته وإبداع هذين الفيلسوفين فيه خاصة في الحقل الفيزيائي والسيكولوجي، وعلى الأخص ابن باجة الذي أبدع بحق في الفيزياء ولم تولَ مساهمته بعد ما تستحقه من عناية)، وقد ناقشت أطروحتي عام 2003 بفاس بعنوان: إشكالية الإرادة لدى فلاسفة الإسلام، القول الطبيعي والمدني والإلهي، تحت إشراف الأستاذ المرحوم محمد ألوزاد والأستاذ أحمد علمي حمدان. ولأنّ موضوع الإرادة موضوع فلسفي بامتياز يرتبط به كثير من مفاهيم الفلسفة النظرية والعملية على حد سواء، فقد كان فرصة لتذوق حلاوة فعل التفلسف في تشعباته وفي مصادره ولدى أهله، ومعرفة معنى الفلسفة وقيمتها، لكن لا أكثر. وقد اكتشفت أهمية هذا الموضوع باكراً، إلى حد ما، مع كانط وهيجل وشوبنهاور وغيرهم من الفلاسفة المحدثين قبل أن أغير الوجهة نحو أرسطو وفلاسفة الإسلام.

أما بواعث الخوض في هذا الموضوع فهي كثيرة؛ منها ما أشرت إليه من أهمية الموضوع في ذاته؛ فهو مفهوم فلسفي خالص يسمح بتعلم أبجديات الفلسفة، لمكان اختراقه لجلّ مباحث الفلسفة من فيزياء وميتافيزياء وسيكولوجيا وأخلاق وسياسة وقانون وغير ذلك، ويسمح في الآن نفسه بالبحث فيما وراء الظواهر الطبيعية والنفسية والسلوكية الفردية أو المدنية. إنه مفهوم مركزي في الفلسفة يجمع بين النظر والعمل، وبين الطبيعة والروح، وبين الجسم والنفس، وبين الغريزة والعقل، بين النبات والحيوان، وبين الحيوان غير الناطق والحيوان الناطق، وبين الإنسان والإله. ومنها ما يتعلق بأهميته في محيطنا الإسلامي؛ إذ من شأن الوقوف على مفهوم الإرادة عند المسلمين أن يفيد كثيراً في الجواب عن كثير من الأسئلة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والتشريعية التي تطرحها المجتمعات الإسلامية اليوم علينا وعلى العالم بإلحاح شديد. وقد أولاه الفلاسفة والأصوليون القدامى عناية كبرى، غير أنه لم يدرس في السياق الإسلامي الحديث. ندرس الأخلاق والسياسة والقانون، غير أننا نادراً ما ننتبه إلى ما يشكل مبدأها جميعاً، أي الإرادة التي هي مبدأ الأخلاق والسياسة والاقتصاد والقانون. بل إننا نولي أهمية أكبر للعقل في حين نغفل عن الإرادة التي هي مبدأ كل إنتاج عقلي (نظري وعملي على السواء)؛ نولي أهمية للحرية أيضاً ونغفل الإرادة التي هي مبدأ كل مسؤولية وحرية. إنّ المفهوم المرسخ عن الإرادة في الإسلام، منذ الترسيم العقائدي، ما زال حاضراً بقوة في مجتمعاتنا الإسلامية ينتج ويعيد إنتاج المنظومات التقليدية نفسها على مستوى الروح الجمعية. والملاحظ أنه تغلب على محيطنا الإسلامي، عموماً، ثقافة لا تنظر إلى الإنسان بوصفه إرادة، فتسلب عنه أعز مبدأ في المبادرة والإبداع؛ وتغفل أنّ الإرادة مبدأ كل تقدم وازدهار لأنها مبدأ كل إنتاج وصناعة وثروة مادية ورمزية. إنّ ما ينتج الحضارة ليس هو العقل، بل الإرادة، أي العقل العملي. والعقل وحده لا ينتج شيئاً إذا لم يكن مدفوعاً بإرادة البحث والمغامرة الفكرية والعملية؛ بل الانتاج العقلي هو نفسه غرض من بين أغراض الإرادة حتى لا أقول وسيلة لتحقيق أغراض عملية اقتصادية وسياسية وأخلاقية وتقنية وحضارية في النهاية. إنّ الإرادة هي التي تدفع في طلب ذلك العلم وهي من يستثمر نتائجه. وليس العقل، في آخر المطاف، سوى آلة في يد الإرادة لا العكس، إنه جزء منها وليست هي جزءاً منه. ولذلك، فإنّ ما يجب العمل على تكوينه هو الإرادة الطيبة الحرة المبدعة من خلال التربية الحرة المبدعة لا شحن العقول بأصناف المنقولات وبطرائق عفا عليها الزمان. والعقل قد يستعمل في الخير والشر على السواء والإرادة وحدها من يقرر ذلك. وإذا كانت شريرة تبع العقل ضرورة في حين أنه إذا كانت الفكرة شريرة، فإنّ الإرادة الحرة الخيرة وحدها تقول لا. فمن الأهم، إذاً، ومن المقرر ومن الحاكم: العقل أم الإرادة؟ ومن المفيد التذكير بأنّ التربية السياسية تقوم على الفلسفة لا على غيرها، على فلسفة الإرادة وفلسفة الإنسان لا على غير ذلك.

وقد تناولت أطروحتي في أربعة أبواب نشرت منها الأبواب الثلاثة الأولى: الباب الفيزيائي ويتناول الإرادة بوصفها مبدأ طبيعياً؛ ثم الباب السيكولوجي ويفحص الإرادة بوصفها مبدأ حيوانياً؛ والباب المدني ويدرسها بوصفها مبدأ إنسانياً والباب الإلهي وينظر فيها بوصفها مبدأ إلهياً. وقد اكتفيت بنشر الأبواب الثلاثة منها، وفي مخططاتي القريبة والمتوسطة استكمال البحث في باب الفلسفة الإلهية فلسفة وكلاماً وتصوفاً، وإنجاز دراسة شاملة حول مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلامية؛ أي دراستها في الفلسفة والكلام والتصوف والتشريع. وإذا كنا نجد في العصر الإسلامي الكلاسيكي اهتماماً كبيراً بالإنسان، وهو اهتمام تراجع اليوم كثيراً، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ العصر الكلاسيكي عرف تصوراً مهماً للإرادة، وخاصة لدى الفلاسفة المشائين. ولعل أهم خلاصة انتهيت إليها في بحثي هي أنه رغم الأهمية التي أولاها فلاسفة الإسلام لموضوع الإرادة، مقارنة بأرسطو مثلاً، ورغم أنهم جعلوا من الإرادة عنصراً جوهرياً في حد النفس، وخاصة منهم ابن سينا وابن باجة، وحددوا وظيفتها في السياسة في حين حصروا وظيفة العقل في العلم، إلا أنهم وضعوا، في آخر المطاف، غرض الإرادة الحقيقي فيما وراء ذاتها، أي في النظر لا في العمل، وفي التأمل لا في الفعل.

يوسف بن عدي: تعدّ الفهرسة التي تقومون بها من أهم وأرسخ الطرائق العلمية في التقاليد الغربية المعاصرة. لماذا تتجهون دائماً نحو اتخاذ مسلك تحليلي ونقدي ومسلك الفهرسة كرصد للأفكار أو المراجع أو الاهتمامات..؟

سعيد البوسكلاوي: لا علم دون تحليل ونقد. يشكل التحليل والنقد جوهر المعرفة العلمية. المعرفة التي تقوم على التلقي السلبي وعلى استهلاك المضامين الجاهزة وتصورات الغير للعالم هي مرحلة سابقة عن المعرفة الحقة، أي المعرفة الفاعلة. صحيح أنّ الإنسان لا يختلف كثيراً عن الحيوان غير الناطق في الإدراكين الحسي والخيالي، ولا يصح حسبان المعرفة السلبية المشار إليها مرحلة طفولية بالضرورة؛ لأنه يمكن للطفل أن يتعلم أدوات التحليل والحذر في تعامله مع المعلومات التي ترد عليه في فترة متقدمة من العمر. فهذه أدوات وتقنيات تتعلم وترسخ بالممارسة، وهي شرائط ضرورية في كل معرفة علمية يوضحها ويكرسها درس الفلسفة في المرحلة الثانوية مع التكوين النهائي، أو يكاد، لشخصية الإنسان الحر المدني الواقعي صاحب رأي وتصور للعالم وصاحب مشروع في الحياة، فما بالك بمن اختار طريق البحث العلمي؟ ولأننا لا نكوّن، في مدارسنا في الغالب، شخصية التلميذ والطالب وإرادته، بل نشحن عقله بكثير من الأفكار والأوهام التي تستمر في العمل الجامعي إلى درجة صرنا معها نفتقد إلى أوليات المعرفة العلمية ومبادئها الأولى البسيطة في جامعاتنا ومنتوجاتها. فالفهرسة أو وضعية البحث شرط أول في كل مشروع بحث بعد تحديد مجال البحث وموضوعه. فلا بُدّ من معرفة ماذا كتب عن الموضوع الذي نود أن ندرسه. والعمل الفهرسي هو أول خطوة في البحث الجاد، وهي خطوة منهجية لا نني نكررها أمام طلبتنا. لكن شتان ما بين القول والعمل؛ فنحن نقول ما لا نفعل في مؤسساتنا الأسرية والسياسية والتربوية وهذه مشكلة كبيرة جداً. نقول لأولادنا وطلبتنا أموراً نظرية جميلة ونأتي عكسها. إنّ ما يتعلمه الباحث المبتدئ أولاً في طرائق البحث هو تحديد وضعية البحث في الموضوع الذي اختار الخوض فيه؛ أي رصد كل ما كتب عنه تمهيداً للجواب عن سؤال أين وصل البحث في ذلك الموضوع. وهذا الأمر ممكن ومتاح اليوم، والعالم العربي ليس جزيرة منعزلة، بل العالم قرية صغيرة وإمكانات التواصل والحصول على النصوص والترجمة متاحة. أقول ذلك لأنّ هذا الأمر لم يكن متاحاً لدى الجيل السابق مثلاً، ومع ذلك فقد ترك لنا أعمالاً عظيمة.

وانشغالي بالفهرسة في أعمالي لا يخرج عن هذا الإطار؛ أي محاولة الالتزام بقواعد البحث العلمي وأولياته والمساهمة في توفير شروطه. فجلّ ما نشرته، على سبيل المثال، عن الفيلسوف اليوناني يحيى النحوي إلى حد الآن يندرج في هذا الإطار، أي إطار السيرة والفهرسة التي هي الخطوة الأولى في البحث. وفي الإطار نفسه يندرج عمل آخر اشتغلت عليه هذا العام هو فهرسة الدراسات الفارابية الصادرة في الألفية الثالثة في مختلف اللغات. ويشرفني أنكم استمعتم وناقشتم شخصياً عرضين في هذا المنحى ألقيتهما ضمن أنشطة الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية مؤخراً بالرباط، الأول بعنوان "يحيى النحوي في الكتابات العربية الحديثة" والثاني "فهرس الدراسات الفارابية (2000-2013)، ملاحظات أولية". وفي نيتي توسيع الدائرة حتى تشمل فلاسفة إسلاميين آخرين، غير الفارابي، وذلك بغرض توفير المادة الضرورية للباحثين الذي يعتزمون البحث في الفلسفة الإسلامية حتى يكون المنطلق صحيحاً. وقد وقفت على حجم الدراسات التي كتبت عن أبي نصر الفارابي في العقد الأخير، في موضوعات مختلفة، خاصة في الفارسية والتركية والإنجليزية وغيرها، والتي قد لا يسمع بها الباحثون عندنا فيزعم بعضهم أنهم يطرقون موضوعات لأول مرة. وقد يعتقد بعضهم ممن يقدم عملاً لنيل شهادة أو غير ذلك أنه فتح فتحاً مبيناً، وأنه أول من افتتح القول في ذلك الموضوع، ولا تجد في لائحة مراجعه ما كتب عنه من أعمال رصينة بالعربية، فبالأحرى بلغات العالم. فيصير صاحبنا، بعد نيل الشهادة، هو العالم المرجع بين عامة الناس، فيضيع العلم والأخلاق وتضيع ثمرتهما. وهذا يكشف عن النقص الذي يلازم كل دراسة لا تبدأ من حيث يجب البدء، أي معرفة ما كتب عن موضوع الدراسة واستثمار نتائج الدراسات السابقة ومحاورتها من أجل التقدم في البحث وإتيان إضافة حقيقية ومساهمة يذكرها التاريخ. وبسبب هذه الثغرة المنهجية، إلى جانب ثغرات أخرى طبعاً، كثرت في جامعاتنا الكتابة الإنشائية الفارغة التي تفتقد إلى إشكالية بحث وطموح إلى الإضافة والدفاع عن أطروحة مدعمة بشواهد ودلائل قوية. والباحث إذا أضاع فرصة الدفاع عن أطروحة علمية جيدة، فقد يضيع مساره العلمي جملة.

يوسف بن عدي: قليلون هم من يعرفون أنّ الدكتور سعيد البوسكلاوي يهتم بيحيى النحوي (فيلوبونوس) الذي قال فيه أبو أصيبعة في عيون الأنباء: "إنه من الذين شرحوا كتب جالينوس"، كما شرح أرسطو وغيره، علاوة على ما كتبه من ردود قوية على أرسطوطاليىس وبرقلس في موضوع قدم العالم، وكان له تأثير كبير في الفلسفة الإسلامية حتى قال البيهقي في أبي حامد الغزالي إنّ "أغلب ما أورده حجة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله ـ في تهافت الفلاسفة هو تقرير كلام يحيى النحوي". أنا أعرف أنّ البحث في هذه الشخصية تطلبت منكم سنوات طويلة لإعادة فهرسة كتبه ومعاودة النظر في ما كتب عنه في الثقافة العربية. فما الدراسات التي قمتم بها حوله؟ ألا يحتاج هذا البحث إلى التسلح باللغات الحديثة والقديمة من إنجليزية ولاتينية ويونانية...؟

سعيد البوسكلاوي: بالفعل، أشتغل منذ أكثر من عقد من الزمان على هذا الفيلسوف المتكلم اليوناني الإسكندراني النصراني وحضوره في الفلسفة الإسلامية. والمشروع انطلق كما سبقت الإشارة من مركز الدراسات الرشدية بفاس، وهو مشروع يربط الفلسفة الإسلامية بتاريخها السابق، وتحديداً بمدرسة الإسكندرية في القرن السادس الميلادي. وهذه المدرسة استمرت في الإسلام بكتبها وأساتذتها ومذاهبها في الوجود والمنطق والأخلاق. وقد رمت أولاً رصد مواضع ومعالم حضور يحيى النحوي لدى الفلاسفة والمتكلمين؛ وثانياً جمع وتحقيق نصوصه؛ وثالثاً، ترجمة بعض نصوصه والدراسات المنجزة عنه. ففي الجانب الأول، نشرت بعض الفصول من هذا المشروع كما يلي: "مدرسة الإسكندرية وبعض عناصر استمرارها في العصر الإسلامي"؛ "يحيى النحوي في المصادر البيو-بيبليوغرافية العربية"؛ "مؤلفات يحيى النحوي في العربية"؛ "دليل الأعراض بين يحيى النحوي والمتكلمين"؛ "يحيى النحوي والغزالي في أدلة الخلق [بالإنجليزية]" وغيرها. كما درست حضوره لدى كثير من فلاسفة الإسلام في فصول أخرى جلها غير منشور وبعضها حرر باللغة الإنجليزية. وأيضاً درست مؤلفاته: "كتاب الرد على أرسطوطالىس وحضوره في العربية"؛ و"كتاب الرد على برقلس وحضوره في العربية"؛ و"رسالة في حدث العالم وحضورها في العربية"، وسوف تنشر هذه الأعمال قريباً. وفي جانب الجمع والتحقيق من المشروع عمدت إلى جمع نصوص يحيى النحوي المحتفظ بها في العربية، وأنا أشتغل على تحقيقها أو إعادة تحقيقها وإخراجها في عمل واحد ييسر على الباحثين الاطلاع على بعض أعمال هذا الفيلسوف المبدع. ومن هذه النصوص أجزاء مهمة من كتاب في حدث العالم، وأجزاء من شرح السماع الطبيعي وأجزاء من شرح كتاب النفس، ومقاطع من كتاب الرد على أرسطوطاليس، ومقاطع من كتاب الرد على برقلس وغيرها. وفي مجال الترجمة نقلت إلى العربية بعض الدراسات الكلاسيكية التي صارت بمثابة مصادر لا غنى عنها اليوم في موضوع يحيى النحوي وتلقيه في الفلسفة الإسلامية، جمعتها في كتاب سوف ينشر قريباً بعنوان يحيى النحوي في التراث الإسلامي. وفي مخططاتي ترجمة أو استعادة كتابيه في الرد على برقلس والرد على أرسطوطاليس المفقودين في العربية.

ولا أخفي أنّ هذا البحث دفعني إلى تعلم لغتين: الإنجليزية واليونانية القديمة، وهي أدوات لا غنى عنها لمن أراد أن يشق طريق البحث في الفلسفة الإسلامية وفي غيرها اليوم. وقد سعيت في الحصول عليهما ولو بعد أن تقدم بي العمر نسبياً، وهي أمور يجب أن نعمل على إتاحة التكوين فيها في السنوات الأولى من الإجازة في برامجنا الجامعية. أقصد تكويناً حقيقياً في اللغات الحديثة والقديمة على السواء. وأشير، في هذا السياق، إلى أنني حصلت قبل سنتين فقط على شهادة الإجازة في الدراسات الإنجليزية، وكنت أحرص قبل ذلك على تحرير بعض دراساتي، وتحديداً مداخلاتي في المحافل الدولية، في هذه اللغة وأترجم دراسات غيري إلى العربية. وأقرأ (أو بالأحرى أتهجى) باللغة اليونانية القديمة، وأحاول أن أقرأ أيضاً بلغات أخرى حين لا يكون لي بدّ من ذلك، مع استثمار وسائل الترجمة والقواميس الحديثة.

لقد أثرتم سؤالاً في غاية الأهمية يتعلق بالأدوات الضرورية لممارسة العلم. ولعل من بين أدوات ممارسة البحث في تاريخ الفلسفة إتقان اللغات القديمة، وعلى رأسها اليونانية، وكذلك اللغات التي ينتج بها العلم حديثاً، وعلى رأسها الإنجليزية، لتتبع آخر ما يصدر في مجال التخصص، علاوة على لغات أخرى ضرورية حسب كلّ تخصص. ويمكن أن نجمل الأدوات الأساسية في دراسة التراث الإسلامي في التحقيق والفهرسة والتأريخ واللغة وغير ذلك. ولا بُدّ من النبع من المصدر في عمل يروم بعض الأصالة، ولا بُدّ في ذلك أيضاً من التسلح بأدوات الصنعة والتدرج في مراتبها وملازمة معلم أو معلمين والنهل من مصادر مختلفة، وأختصر بالقول على لسان الفيلسوف الكندي، إنه لا بُدّ من "عشق لازم وصبر جميل وروع خال وفاتح مفهم ومدة طويلة".

يوسف بن عدي: أخيراً، ماهي مشاريعكم الفكرية والفلسفية؟ منشورات ومخطوطات؟

سعيد البوسكلاوي: يشكل المشروع السابق العمل الرئيس الذي أشتغل عليه في الوقت الراهن، وأرجو أن أتوفق في إخراج بعض أجزائه قريباً، أقصد خلال السنتين أو السنوات الثلاث المقبلة، وهو مشروع حضور يحيى النحوي لدى فلاسفة الإسلام، دراسة وتحقيقاً وترجمة. تشمل الدراسة، كما سبقت الإشارة، رصد معالم حضوره في كتب الطبقات والفلسفة والكلام؛ ويهم التحقيق أو إعادة التحقيق كل ما احتفظ به من نصوصه في العربية؛ والترجمة تهم بعض مؤلفاته وأهم الدراسات التي أنجزت حوله في اللغة الإنجليزية. وفي نيتي التفرغ، بعد هذا المشروع، لاستكمال مشروع مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلامية فلسفة وكلاماً وتصوفاً وتشريعاً، وقد ذكرته سلفاً. وقد فتحت نوافذ بحثية أخرى بحيث جمعت مادة مهمة في تاريخ الفرق والمذاهب في الإسلام على مدى سنوات تدريسي هذه المادة في كلية الآداب بوجدة، وقد يكون من المفيد نشر هذا العمل إذا سمح لي الوقت بالتفرغ له، مستقبلاً، من أجل تطويره وإغنائه. كما فتحت نافذة أخرى على تاريخ علم الكلام في الغرب الإسلامي فوجدتها شيقة ومثيرة جداً، وكتبت بعض الدراسات في الموضوع قد أوسعها مستقبلاً في كتاب يرصد ملامح علم الكلام في بلاد المغرب في القرنين الثامن والتاسع الهجريين. علاوة على مباحث ومشاريع أخرى في الفهرسة والترجمة أشرت إلى بعضها. وثمة مخططات أخرى في المستقبل إذا أطال الله في العمر.

وأختم بالتأكيد أننا نحتاج إلى النبش أكثر فأكثر وإعادة الكرّة مراراً من أجل فهم أفضل وأعمق للتراث الفكري الإسلامي ومساهمة أعلامهم في تاريخ الفلسفة والعلم ودراستهم في سياقهم التاريخي في علاقتهم بالسابقين وبمحيطهم وبلاحقيهم. وفي كل ذلك، نحتاج إلى دراسة نصوصهم ونصوص معاصريهم وتلامذتهم من أجل تجاوز القشور وإعادة النظر في الأحكام السائرة التي ليست صحيحة دائماً، وذلك من أجل الوقوف على حقيقة مساهمة المسلمين في المجال العلمي والفلسفي، أعني في قضايا دقيقة، وهو أمر لا يتأتى إلا بمعرفة ما نقلوه عن غيرهم وكيف، والمدارس التي تفاعلوا معها وأين ومتى وفيم وكيف، وما أضافوه وما نقله غيرهم منهم وكيف، وغير ذلك من الأسئلة. أعطي مثالاً واحداً فقط، وهو مثال دال: إنّ تفاعل المسلمين مع النصارى واليهود في مختلف المراحل التي مرت بها الحضارة الإسلامية لم يدرس بشكل كاف، ناهيك عن دراسة تفاعلهم مع الحضارات السابقة والتالية في مختلف جوانبها. إننا لم نتجاوز التصورات والأحكام التقليدية، سواء من داخل المجتمعات الإسلامية (وهي الأخطر) أو من خارجها، حول أهمية الفلسفة والعلم في الإسلام ومكانتهما في تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تاريخ الفلسفة والعلم العالميين. ولعل أكبر تحدٍ يواجه حكماء المسلمين اليوم هو إعادة الاعتبار إلى مكانة الفلسفة والعلم في تاريخهما الخاص؛ أي في الحضارة الإسلامية، وفي تاريخهما العام، أي في الحضارة الإنسانية. ولا بُدّ من إدراك أنّ التمييز في الحضارة بين الفلسفة والعلم تمييز غير ذي جدوى، لأنّ العلم، كيفما كان نوعه هو ابن الفلسفة والسؤال والبحث الإنساني الجزئي والنسبي لا ابن المعرفة اللاهوتية الشمولية والمطلقة. فالفصل الذي يحاوله البعض بين العلوم والفلسفة في الحضارة الإسلامية غير ممكن إلا في إطار التخصص الدقيق في إطار المعرفة الفلسفية التاريخية الإنسانية العامة التي تشكل المعرفة اللاهوتية جزءاً منها لا العكس. إنّ مصائبنا الأصلية الكبرى التي نعاني منها اليوم خرجت من كهف التاريخ، ويجب تتبعها إلى أصولها فهناك يكمن حلها أيضاً.

يوسف بن عدي: تحية وتقدير للأستاذ والصديق الدكتور سعيد البوسكلاوي.