حوار مع الدكتور عدنان مقراني (الجزء2) و الأخير


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور عدنان مقراني (الجزء2) و الأخير

عدنان المقراني، من مواليد تونس سنة 1966، أستاذ الدراسات الإسلامية والعلاقات الإسلامية المسيحية لدى الجامعة البابوية الغريغورية، والمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما (إيطاليا)، حيث يقيم منذ حوالي خمسة عشر عاما. تحصل على الدكتوراه في المعهد المذكور، وعلى دكتوراه المرحلة الثالثة من جامعة الزيتونة في تونس. وله إسهامات في مجال الحوار بين الأديان وفي مجال الدراسات القرآنية الحديثة.

نادر الحمّامي :أودّ أن أنتقل إلى مجال البحث الذي تهتم به أساسًا، وهو الدراسات القرآنية، على الرغم مما يقال في الدراسات القرآنية الاستشراقية، وفي الاستشراق الكلاسيكي خاصة، ثم الاستشراق الأنجلوسكسوني؛ فإن هنالك اتجاها آخر في الدراسات القرآنية التي لها في حقيقة الأمر البعد الإنساني الذي لطالما ألححتَ عليه، فهل ينسجم هذا مع ذاك؟ هل يمكن أن توصل هذه الدراسات القرآنية إلى تقارب، وصولاً إلى كسر هذه الحواجز بين الأديان والنصوص، وهي حواجز ربما تكون في الأذهان أكثر ممّا هي موجودة في الواقع؟

د. عدنان المقراني : لفد أفادتني تجربتي في الجامعات الكاثوليكية كثيرًا في الانفتاح على أفق جديد؛ ففي اللاهوت المسيحي ثمة أكثر من فرع من اللاهوت، فمنه ما يسمى بلاهوت المسائل الحدودية، وهي مسائل أكثر خصوبة وأكثر خطورة أيضا، ومنه لاهوت التحرير حول المسألة الاجتماعية، ثم لاهوت الأديان حول مسألة التعددية الدينية. وهناك جدل كبير وأحيانًا حاد ومتشدد حول هذه القضايا، فأنا شخصيًا تعلمت من عديد اللاهوتيين المسيحيين الكبار في موضوع لاهوت الأديان، وحاولت أن آخذ الجانب الإيجابي وبدأت بدراسة التعددية في القرآن؛ تعدد الأديان في القرآن، ثمّ نظرات المسلمين للأديان الأخرى. وأدرّس المادتين باستمرار، وكتبت فيهما بالإيطالية والانجليزية. واكتشفت فيما بعد، أنّ ثمة مفكرين مسلمين يشاركون الأفكار نفسها ولكن عن بعد، وهذا مما أثرى البحث.

وهنالك ظاهرة جديدة في العالم، وهي ظاهرة الأساتذة والمفكرين المسلمين الذين يدرّسون الإسلام في الجامعات المسيحية، وعددهم ليس بقليل؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية لي صديق اسمه، توم ميشال، وهو أب يسوعي قام بمبادرة تتمثل في جمع الأساتذة المسلمين في الجامعات التابعة لليسوعيين في أمريكا، فوجد عشرة أساتذة وقدم بندوة، أنا اقترحت عليه تنظيم لقاء يجمع بين جميع الأساتذة المسلمين في الجامعات الكاثوليكية في أوروبا وأمريكا الشمالية وكندا، وعددهم غير قليل. هذه تجربة قد تعطي بعدًا آخر لتجربة تدريس الإسلام والدراسات الإسلامية، لأنّ هذه التجربة تسمح بالتفكير في إطار عالمي في تحدّ وتوتر إيجابي مستمر، لأنّ هذه الجامعات الكاثوليكية هي في حوار مع الجامعات غير الدينية.

نادر الحمّامي :لماذا قطعت الدراسات القرآنية، باعتبارها تخصصًا قائم الذات، أشواطًا كبيرة عند غير المسلمين. أمّا المسلمون، فأعتقد أنّهم قاموا في الغالب بمهاجمة تلك الدراسات بدعوى أنّها تفتري على النص القرآني، وكذا على التعميم، هل السبب عائق معرفي؟ أم هو عائق اجتماعي؟ أم عائق ديني؟

د. عدنان المقراني : في المعهد الذي أدرّس فيه "المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية" لدينا كتاب سنوي عنوانه دراسات عربية (Etudes Arabes) نختار نصوصًا مهمة حديثة باللغة العربية، ونترجمها إلى اللغات الأوروبية، إنه كتاب سنوي حول موضوع من الموضوعات، ونجد في السنوات الأخيرة صعوبة حقيقية في إيجاد نصوص نوعية، نصوص فيها أفكار جديدة، والإسلام في الغرب وفي الجامعات الغربية يقترح الآن أفكارًا تجديدية جديرة بالاهتمام، حسب اعتقادي، ونحتاج إلى ترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية، خاصة في الدراسات القرآنية. ولابد من تكوين مجموعات في الترجمة من أهل الاختصاص وليس في الترجمة التجارية، لأن المشكلة هي مع المقدس ومع التاريخ المقدّس وغياب الحسّ النقدي واختلاط السياسي بالديني، وكلها حواجز تجعل المساس بها مزالق ومخاطر قد يدفع فيها الإنسان حياته أو استقراره أو عمله.

نادر الحمّامي :أتعتقد أنّه حان الوقت لإنشاء معاهد أو مراكز بحث خاصة بالدراسات القرآنية في البلدان الإسلاميّة، أو هل من الممكن أن يكون قسم خاص في كليات الآداب والحضارة واللغة؟ وهل ترى أنه من المهمّ ترجمة البحوث الغربيّة في هذا التخصص؟ فالملاحظ وجود احتراز كبير عند التعامل مع تلك الدراسات الغربيّة، وهو احتراز، فيما أحسب، راجع إلى خلفيّات إيديولوجية، وهذا ما يظهر من خلال الانتقاء الكبير حتّى عند الذين نعتقد أنّهم باحثون جيّدون، لا أدري إن كنت تشاطرني الرأي؟

د. عدنان المقراني : تذكرت شيئًا وددت شرحه من قبل، المشكلة في الدراسات القرآنية لها شقّان: شقّ مرتبط بمشكلة العلوم الإسلامية عمومًا، وقد كانت المنظومة التقليدية منظومة معقدة ومتكاملة؛ بمعنى أنّ الشيخ الزيتوني أو الأزهري كان قبل قرن يعرّف نفسه بتعريف ثلاثيّ الأبعاد، فيقول مثلاً: هو مالكي في الفقه أشعري في العقيدة شاذلي في التصوف. أما الآن، فقد أصبحنا إزاء تعريف مسطّح؛ لأنّ العلوم الإسلامية فقدت الفلسفة أولاً ثمّ فقدت الكلام ولم يبقَ إلاّ الفقه، والفقه نفسه يعاني من مشكلات كبيرة نتيجة التغير الجذري في ظروف العصر وانحطاط المؤسسة الدينية والجامعة الدينية، وهذا أثّر بشكل مباشر في علوم القرآن أو الدراسات القرآنية؛ فأصبحت ما ترى. وعندما تقرأ السيوطي تجد فيه كثيرًا من الآراء لا يجرؤ أحد على طرحها اليوم؛ فالسيوطي أكثر جرأة من مسلمي اليوم. وسأروي لك قصة في المعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية، لدي زميل شيخ وكاهن هو ميشال لاغارد أفنى حياته في دراسة تفسير الرازي، ومن بين الأشياء الطريفة في نهاية الدرس السنوي في تفسير الرازي، الرازي في نهاية التفسير يطلب من قارئ التفسير قراءة الفاتحة ترحمًا على ابنه الفقيد الذي توفي أثناء حياته، يقرأ ميشال لاغارد الفاتحة على روح ابن الرازي. ولدينا في الشهر المقبل يوم دراسي طلب منّي أنا كمسلم أن أقدّم المقاربات الحديثة، باعتباري مشجعًا أو من بين المدافعين عن المقاربات الحديثة. أما لاغارد، فلديه رأي مخالف تمامًا، إذ قال: يا مسلمين إذا كنتم تريدون آراء عميقة وجيدة ومفيدة اليوم وبالفعل، فالتقليد والتراث كافيان، وسيقدّم لاغارد محاضرة حول الجوانب الإيجابية والقابلة للتطوير في المقاربة التقليدية. وعليه، فلسنا اليوم أوفياء حتى للتراث، فكيف ندرّس التراث اليوم؟ هناك تشوه أو ضمور في معرفتنا الدينية، فنتحدث عن الحوار والاستفادة من التجارب الحديثة دون معرفة كافية عميقة بالتراث، في حين لابد من الرجلين واليدين، هذا من ناحية الصعوبة الأولى. أما الصعوبة الثانية في الدراسات القرآنية، فهي الرفع من المرتبة اللاهوتية للنص، ولا نعني الرفع من قيمته الحقيقية، لأنّ النظرية الأولى للمعتزلة كانت في أنّ القرآن مخلوق، تمّ التخلّي عنها ومحاربتها، ما يسمّى الآن بالأرثوذكسية الإسلامية السنّيّة وأهل الحديث القرآن غير مخلوق، ولكن هذا لا يعني تفعيل القرآن، ولا يعني فهم القرآن كما ينبغي. إن القراءة مجتزأة، فالقرآن هو المصدر الأوّل، ولكن الحديث هو المصدر الأول من الناحية العملية. وهذا له أمثلة عديدة في الأديان، فعلي شريعتي كان يقول: ما عاش ومات من أجله الحسين أهمّ من الحسين؛ بمعنى من يقدّس الحسين بطريقة مبالغ فيها في التشيع، لا يعني أنّه فهم القيم المرتبطة بشهادة الحسين، أو من يقدّس المسيح بشكل مبالغ فيه، لا يعني أنّه فهم ما عاش من أجله المسيح، نحن نعيش حالة غير معلنة من الوثنية القرآنية، سميتها بالإيطالية "كورانولاترية". فقد أصبح القرآن مطلقًا، وأصبح مركز الدين، إلى درجة دفعت بعض المسيحيين للمقارنة بين مركزية المسيح في المسيحية ومركزية القرآن الكريم في الإسلام، وفي رأيي هذه قسمة ضيزى، فعندما تجد الإنسان هو مركز دين معين، وتجد نصًا هو مركز دين آخر، تكون إزاء مشكل؛ ففي المقارنة إشكالية كبرى، فمركز الإسلام هو الله، الله في الإنسان. أنا أؤمن بالله الذي يؤمن بالإنسان، والمؤمن هو اسم من أسماء الله. إذا اعتبرت النص مركزًا، هذا يكون على حساب التجربة الدينية. وإن ما حاول التصوف إعادة الاعتبار له هو التجربة الدينية، وهي أساس التدين وليس النص، كما قلت اليوم كان هناك إسلام قبل القرآن. وهناك أيضًا إسلام بعد نزول القرآن، بدون القرآن لمن لم يعرف القرآن. الإسلام كتوجه، كعلاقة مع الله، النص يمكن أن يثري ويغذي التجربة الدينية، ولا يمكن أبدًا أن يعوضها بدون تجربة دينية وبدون الرؤية. هناك حديث جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، بدون إحسان، وهو أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك، بدون هذه الرؤية التي هي في علاقة بالنظر، هو تبادل النظرات، كل الباقي لا معنى له، هو نواة النواة، جوهر الجوهر. كل الباقي هو تعبير عن تلك التجربة، عن تلك العلاقة، تعبر عنها فكريا من خلال الإيمان، العقيدة، الفلسفة، الكلام فتعبر عنها اجتماعيا وشعائريا وجسديا عن طريق الإسلام ولكن التجربة الدينية هي الأساس.

نادر الحمّامي :لو عدنا إلى مفهوم مركزي تحدثت عنه، أقصد "وثنية النصّ" واعتباره مركزًا على حرفيّته، وهذا مما تعده حائلاً دون الجوهر، ولكن بالعودة إلى الدراسات القرآنية التي كنت أشرت إليها نجدها تلحّ على ضرورة الأخذ بالمقاربات التقليدية كما صنّف فيها القدامى، وبالمقاربات الحديثة كذلك. ألا تعتقد أنّه حتّى المقاربات الحديثة لم تتخلص من وثنية النصّ هذه في بعض الجوانب؟ فإلى اليوم يرفض كبار الذين يقاربون النص مقاربات حديثة التخلي عن بعض تلك الوثنية في المقاربات القديمة، لأنّهم إن تخلوا عنها فلن يستطيعوا دراسة هذا النص مطلقًا، أو هكذا يتخيلون؛ فقضية التوقيف في ترتيب الآيات مثلاً، لم يتمّ التخلّي عنها إلى اليوم في الدراسات القرآنية؛ فالسورة تعتبر وحدة ويجب دراستها على هذا الأساس، رغم العلم المسبق في الدرس التاريخي أنّ النص القرآني رتّب لاحقًا، وأنّ هذا الترتيب بشري، وأنّ مقولة التوقيف هي مقولة عقائدية بالأساس، ولم تتحقق في التاريخ، ألا يعتبر ذلك مساهمة في وثنية هذا النص؟

د. عدنان المقراني : ليس بالضرورة؛ بمعنى أن هناك توجهًا يسمي نفسه تقليديًا، يمثله رينيه قينان، وشوارد، والسيد حسين نصر، ووليام شيتك. إن تلامذة هذه المدرسة موجودون في الغرب خاصة، وتسمى هذه المدرسة بالتقليدية، والتي أدت على الرغم من انغلاقها الظاهري على المناهج الحديثة، في رأيي، خدمات ضخمة جدًا في شرح النصوص القديمة، وليس هناك اختيار بين القديم أو الجديد. وليست هناك قطيعة ضرورية، ولكن يمكن أن نبني على أفضل ما هو موجود في القديم، لأنّنا لن نخترع من اللا شيء، أو من العدم، ولكن نوعًا من التواصل قد يكون ممكنًا. إن موقف السيد حسين نصر من الحداثة والفلسفة الحديثة موقف رافض بشكل جذري، وأراه متشددًا ولكن أرى من تلامذته من تجاوزوه في إيجاد تركيبة ممكنة بين القديم والحديث. ولعلّ من أطرف ما قرأت في ذلك ميشال كويفرس، عندما نشر كتابه بالفرنسية عن سورة المائدة وتطبيق منهج البلاغة السامية في دراسة الصورة، هذه النظرية ترى في ترتيب وتركيب القرآن ونظم القرآن كما هو الآن قمة الكمال. كل ما قاله بلاشير عن فوضى أو شذوذ أو آيات تبدو في غير مكانها...الخ، فقد وجد بهذه النظرية لكل شيء معنى، هذا موقف غريب من كاهن مسيحي، وميشال كويفرس يسمّى بالأخ الصغير ليسوع، وقد اختار لمقدمة هذا الكتاب أمير معزي، وقد قال أمير معزّي في هذه المقدمة: إنه لا يؤمن بهذا المنهج ويؤمن بالمنهج التاريخي النقدي الجذري الذي يختلف تمامًا عن منهج البلاغة السامية. والبلاغة السامية تحترم النص كما هو، بل إن مبرر وجودها هو نظم النص كما هو، في حين أن النقد التاريخي الجذري يحاول إعادة ترتيب النص والنظر إلى العناصر الخارجية والمصادر وفعل التاريخ.

نادر الحمّامي:أمير معزي متأثر بالمدرسة الفرنسية، أليس كذلك؟ ألا تعتقد أن المدرسة الفرنسية قد اقتربت أكثر اليوم في الدراسات القرآنية من المنهج الأنجلوسكسوني الجديد، بعد دراسة جون وانسبرو(John Wansbrough) سنة 1977 "دراسات قرآنيّة" (Quranic Stuadies) خاصة، وقد طرح باتريشيا كرون(Patricia Crone) «التجارة المكّيّة» ( The meccan Trade) في السنة نفسها تقريبًا، وفي«الهاجريّون» (Hagarism) مع مايكل كوك (Michael Cook). ولماذا تنكّر كلود جيليو أحد أعلام المدرسة الفرنسية في الدراسات القرآنية مما كان يكتبه من قبل، لينساق وراء نظريات من قبيل نظريات كريستوف لكسونبرغ؛ فالأمر عند كلود جيليو أصبح متطابقًا في نظرته في مقالاته الأخيرة حول النص القرآني، لماذا هذا الانزياح في المدرسة الفرنسية، التي كانت تقترب في أذهاننا، مما يسمى الأنسنة (Humanisme) والدعوة إلى الحوار، إلى المدرسة الأنجلوسكسونية التي أراها في حقيقة الأمر معادية وبعيدة جدًا عن العلمية في كثير من الأحيان، هل من أسباب وراء ذلك؟

د. عدنان المقراني :أنا شخصيًا لا أجدني في الموقع الذي يسمح لي بالتقييم أو المقارنة بين المدرسة الفرنسية والمدرسة الأنجلوسكسونية أو إعطاء حوصلة.. أشعر أنّي مازلت في موقع مبتدئ أو ربّما هناك أشخاص آخرون هم أقدر منّي على ذلك، ولكني أريد أن أشير إلى مسألة المقارنة بالدراسات الكتابية، كوني في روما وفي لاقريقوريانا، ومن معاهد لاقريقوريانا البيبليكوم معهد دراسات الكتاب المقدس، وهو من أهم وأشهر المعاهد من نوعه في العالم. وقد اكتشفت من حديثي مع الزملاء والأصدقاء من دارسي الكتاب المقدس، أنهم ينظرون اليوم النظرة السائدة، ومفادها أنّ منهج النقد التاريخي الجذري موضة قديمة، فلا تركز الجهود الآن على هذا المنهج، بل يعد من آثار القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. أما المناهج التي تدرّس الآن أكثر، فهي المناهج الأدبية والسردية. ربّما كان المنهج التاريخي النقدي حاجة زمنية للحداثة، ونحن الآن في ما بعد الحداثة وعودة الديني بشكل آخر، فهناك عطش من المتدين للمعنى، ولا تروي النزعة التفكيكية النقدية هذا العطش، بل هي تهدم أكثر ممّا تبني، فيبقى المتديّن أو المؤمن بدون جواب، في حين أن المناهج الأدبية هي الأقدر على توليد المعنى. وأنا من خلال وجودي في لاقريقوريانا في أوقات فراغي أحاول أن أتابع دروس الأساتذة الكبار في هذا المجال، فتابعت محاضرات جون لويس سوني، وهو من كبار المتخصصين في المنهج السردي أو (Metodo narrativo)، وهو المنهج الذي يحترم النص كما هو، فيحاول إيجاد العلاقات من أجل توليد المعنى، وقد نحتاج نحن مسلمين ومختصين في الدراسات القرآنية للأمرين معًا؛ أي الجمع بين مناهج مختلفة.

نادر الحمّامي:تحدثت عن الحداثة وهذا المنهج التاريخي النقدي هو وليد الحداثة، وحين أفكّر تاريخيًا، أرى كأنّ الأمور تتكرر؛ فالبحوث الفيلولوجية حول النص القرآني من قبيل عمل جيفري حول المصاحف وجمعه للقراءات القرآنيّة، كان نوعًا من متابعة لمقال الأثر السرياني في القرآن لألفنسو مينغانا في أوائل القرن العشرين، تكرّر الأمر في بداية القرن العشرين بعد صدور كتاب لكسونبرغ كانت، وتأسّس فريق البحث الألماني (Corpus Coranicum) للبحث في القراءات وأصول النص القرآني، وكأنّ المسألة ترتبط بفعل وردّ فعل. ثمّة شيء آخر أحسبه فاعل في توجّهات الدراسات القرآنيّة، وأقصد الظرف السياسي العالمي، مثلا دراسات من قبيل ما نشره ألفرد لويس دي بريمار (Alfred-Louis de Premare) خاصّة كتاب (les fondements de l’Islam) أحسبه مرتبط بأحداث 11 سبتمبر، فكأنّه كلما يأتي زلزال سياسي أو شيء من هذا القبيل أو حدث فكري عالمي يمس الجانبين الغربي والإسلامي تولد موجة جديدة من الدراسات القرآنية.

د. عدنان المقراني : هذا مرتبط في جزء منه بالعلاقة بين النشر والماركتنغ أو التسويق، فيتم أحيانًا استغلال ظروف من أجل بيع نوعية معينة من الكتب، ولكن على ذكر (Corpus Coranicum) أمنيتي في الدراسات القرآنية أن تصبح تخصصًا فوق الأديان. ما حدث للدراسات الكتابية أنّها أصبحت فضاء مشتركًا للباحثين من مختلف المشارب والمذاهب والكنائس، البروتستانتي مع الكاثوليكي مع اللاديني، كلهم يدرسون ويتبادلون ويتعاونون بدون أي حدود، وهذا مرتبط بمفهوم تراث الإنسانية. فليس القرآن كتاب المسلمين وحسب، بل هو كتاب للإنسانية وتراث للإنسانية يتجاوز المواقع الأثرية والمادية، وهو التراث المعنوي والروحي والمعرفي. وعليه، فهو مشروع (Corpus Coranicum)، وأيضا خلق شبكات من الأبحاث مثلا، سابين شميدت (Sabine Schmidtke) في مجموعة بحثها عن (Islamicate world)، جمع متتخصصين في دراسات الأدب العربي، وفي الدراسات الفارسية، وفي الدراسات السريانية، وفي الدراسات القرآنية، وفي الأديان...الخ، وهي تخصصات لا تجتمع ظاهريًا، ولكن جمعها في مجموعة واحدة وتكوين المشاريع وإيجاد الوسائل المادية والمعنوية من أجل دفع مثل هذه المشاريع يفتح آفاقًا للمعرفة غير مسبوقة. ونحن في مرحلة ما بعد الاستشراق، وهي مرحلة معرفة قد تكون مواتية لجمع خيرة الباحثين في العالم الإسلامي من أجل مشاريع علمية تتجاوز الإيديولوجيات وتتجاوز المصالح الضيقة، وما يدفعها هو عشق الحقيقة ومتعة اكتشاف الحقيقة. إنّ المثقف الملتزم هو الذي لابد أن يدفع بالمجتمع، ولكن المعرفة أبعد من ذلك. أنا عضو في مجموعات تبادل المعلومات أو موضوعات معينة، مثل التصوف والفلسفة...الخ وهذه المجموعات تجد فيها أشخاصًا من مختلف المشارب، فتجد أشخاصًا ممن أعرفهم علاقتهم بحزب الله في لبنان، وأشخاص من إسرائيل وأشخاص من مختلف أنحاء العالم، أشخاص لا يمكن أن يلتقوا، ولكن رغبتهم في التعارف وفي تبادل المقالات والكتب والمعلومات جعلتهم أصدقاء في هذا الفضاء المعرفي. هذا هو أمل الإسلام وأمل الإنسان.

نادر الحمّامي:أظن أنّه بهذه الملاحظة يلتقي ما ذهبت إليه مع ما يطمح إليه منبر مؤمنون بلا حدود، لكن الأمر يبقى مشروعًا لا يمكن تحقيقه إلاّ بتوفّر شروط موضوعية يجب التفكير فيها وتوفيرها، حتى يتحقيق هذا المشروع. حسب رأيك ما هي هذه الشروط تحديدًا؟ هل هي معرفية؟ هل هي اجتماعية؟ هل هي سياسية؟ أترك لك في الختام أن تحدثنا عن هذه الشروط كما تراها.

د. عدنان المقراني : إن اسم مؤمنون بلا حدود جميل جدًا، ليس فقط لأنّه بلا حدود، ولكن لأنّه لا يحدد معنى الإيمان، هو إيمان بالله وإيمان بالإنسان. أنا أجد مشكلة في الربط بين المجال الأخلاقي والإيمان عند بعض المتدينين، وأرى أنّ الإنسان الذي يؤمن بالقيم الأساسية، يؤمن بالعدل، يؤمن بالتضامن، يؤمن بالمساواة، يؤمن بحقوق الإنسان ويعمل من أجل ذلك، ولو كان لا يؤمن علنا أو صراحة بالكائن المتعالي وهو الله، هو يؤمن به بأسمائه فعليا، لأنّ أسماء الله هي قيم عليا هي مثل عليا. هذا الأمر يجمع أصناف الإيمان بمختلف تنوعها ويبعدنا عن نوع من الإقصائية. والإقصائية في حقيقة الأمر هي قسوة وانعدام الرحمة وعدم الإحساس بالآخر وعدم إيجاد مبرر أو عذر للفكر المختلف. بهذا المعنى، المعنى الشامل للإيمان بالله وبالإنسان، أرى في هذا المشروع أمل، خاصة بعد الثورات العربية وانفتاح الناس على بعضهم البعض. قبل سنوات قليلة أول سؤال يطرحه تونسي عندما يرى تونسيا آخر"هل تعود إلى تونس" وإذا أجابه "أعود إلى تونس" يتكلم معه، وإذا أجابه "لا أعود" احتمال أنّه لاجئ سياسي، له مشاكل.. فإما أن يغير الموضوع أو الطريق أو يتظاهر بأنّه لم يره ولا يلتفت إليه.. الآن بعد هذه الثورات أنا أصبحت أرجع إلى تونس، ألقي محاضرات عامة، ألتقي يوميا بأشخاص تونسيين وأصدقاء جدد وإمكانيات العمل والتبادل والتعاون ومشاريع.. هذا الأمل الحقيقي. إذا كانت الثورات لم تغير فينا مثل هذه النزعة التشاؤمية السوداوية، فإنّ الوضع كارثي وفي أي اتجاه نسير.. ما الفائدة؟ فأتصور أنّ مؤمنون بلا حدود هي الترجمة الثقافية لعالم عربي يتغير بإيجابية وبتفاؤل.