حوار مع الدكتور محمد الشيخ حول قضايا الحداثة في الفكرين العربي والغربي


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور محمد الشيخ حول قضايا الحداثة في الفكرين العربي والغربي

 حوار مع الدكتور محمد الشيخ

حول قضايا الحداثة في الفكرين العربي والغربي


تعتبر مادة هذا الحوار خلاصة أهم القضايا التي اشتغل عليها الباحث والمفكر المغربي محمد الشيخ عبر مساره التاريخي في مجال التاْليف الفلسفي؛ فسيرورة الحوار تعبر بالفعل عن اْهم لحظات الباحث الفكرية، فهي تترجم انشغالاته سواء على مستوى دراساته للتراث الغربي أو التراث العربي. فطبيعة فكره وترحاله بين فضاءات إبستيمية مختلفة مكنته من تكوين تصور مختلف عما هو سائد في المجال التداولي المغربي، باْسئلته القلقة والشقية وبأفكاره المركبة وبلغته البديعة الخاصة. وهذا ما جعل منه مفكرا يصعب تصنيفه ضمن أي تيار، وتياره هو النقد والمساءلة وعدم السكون للراهن، ربما هنا تكمن قوة إبداعه.

حسن الحريري: كيف يقدم محمد الشيخ نفسه للقارئ العربي ؟

محمد الشيخ: محمد الشيخ، باحث في فلسفة الدين وفلسفة السياسة والفلسفة الحديثة. تتوزع اهتماماته بين الفكر الفلسفي الغربي (نظرية الحداثة ونقادها) والفكر الحكمي العربي (كتاب الحكمة العربية)، حيث يحاول الإفادة مما أنتجه الفكر الغربي الحديث والمعاصر، وإثماره في الفكر العربي الكلاسيكي والمعاصر، مع إدراك الفوارق وبيان التخوم والحدود، ومن دون اعتداد بما أنتجه الفكر العربي، لا ولا عقدة نقص اتجاه ما أنتجه الفكر الغربي.

حسن الحريري: يعلق الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن أحداث مايو68 بقوله: "كشفت أحداث مايو 68 عن الناس في واقعيتهم، عن الصيرورة. لقد كانت تلك الأحداث صيرورة ثورية من غير مستقبل ثوري"، اْلا يمكن أن نقول الأمر ذاته عما تمخض عن انتفاضات "الربيع العربي"؟ خصوصا واْنك في كتابك المتميز "المثقف والسلطة" قمت بتشريح دقيق لتمفصلات السلطة والمثقف في الواقع السياسي الفرنسي المعاصر.

محمد الشيخ: تصعب المقارنة بين ثورة الطلاب في مايو عام 1968 بفرنسا وما يحدث في الربيع العربي، وذلك لأن حركة مايو الطلابية تمت في جدل مع الحركة الفكرية النشيطة التي عرفتها المجتمعات الغربية (مدرسة فرانكفورت، فكر الاختلاف، لاهوت التحرير...)، بينما في الربيع العربي كاد المثقف أن يغيب، وذلك بفعل التغييب شبه المبيت لدور المفكرين في العالم العربي، مقابل انفتاح المجال الإعلامي أمام الداعية والواعظ الذي عادة ما يدغدغ عواطف الناس، من غير ما أن يقدم تشريحا عقلانيا لواقعهم المعيش.

 لكن لربما كان وجه الشبه متمثلاً في أن الاثنين ينطبق عليهما مفهوم "الحدث" كما حدده الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: ما ينبلج فجأة هكذا من غير ما توقع مسبق، وما يتجاوز حدود التحليل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأكاديمي التقليدي، وما لا تدرك كل عواقبه في الحين...

حسن الحريري: يعتبر المثقف مبدئيا "نبي كل الثورات". وفي هذا الصدد، رأى البعض في الانتفاضات العربية اْو "الربيع العربي" فضيحة للمثقف، فكاْنما عرته وكشفت عن "حقيقته " اْو على الأقل اْبانت عن حيرته وتيهه، بعد أن فصمت بينه وبين ما كان يركن إليه. على ضوء هذا التحول، كيف تقراْ علاقة السياسي بالثقافي في المغرب الراهن؟

محمد الشيخ: يعسر الحديث عن دور للمثقف في مجتمعات عربية بعضها تحول إلى مجتمعات استهلاكية محضة بفعل العائد النفطي، وبعضها تحول إلى شعوب مقهورة على أمرها يستهلكها التفكير في الخبز اليومي. وفي الحالين معا، نجد أنفسنا أمام مجتمعات لا تكاد تقرأ. وإذا ما صحت الفكرة التي ما فتئ يرددها المفكر الفرنسي ميشيل دو سيرتو من أنه كلما أعلن السياسي عجزه عن تغيير الفعل في الواقع، برز دور العامل الديني البروز الأكبر، فإنه يصعب علينا محاسبة المثقفين على غياب مفترض لهم عن أحداث الربيع العربي. إن مسالك تأثير المثقف في الوضع العربي ـ إذا ما افترض أن له تأثيرا حقاـ مسالك خفية ومعقدة ومنبثة. ويكفي المفكر العربي إنجازا إذا ما اعترف له مجموعة من الشباب الذين راجعوا مواقفهم المتطرفة، في بعض بلدان الخليج، بأنهم قرؤوا أفكاره في السجون، وأن ذلك دفعهم إلى الخروج من قناعاتهم التي عادة ما شكلت سجونا داخلية لهم. وهذا ما ينطبق على كتابات المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري مثلا.

حسن الحريري: يلاحظ المتتبع لإنتاجك الفكري والفلسفي اْن قضية "الحداثة" تخترق جل مشروعك، والتي تعتبرها "قضية القضايا"، سواء على مستوى تاْصيلك لها من خلال تناولك للتراث الغربي (هيغل، نيتشه، هايدغر، كوجيف، فايل...) اْو من خلال اشتغالك على بعض المشاريع الفكرية المغربية (علي اْومليل، الجابري، طه عبد الرحمان، العروي، سبيلا...) اْو من خلال بعض الفلتات التي جاد بها التراث العربي الإسلامي (التوحيدي، المعري، الجرجاني، ابن رشد، ابن خلدون...)، اْلا تخشى أن يتحول هذا المفهوم إلى شاْن "مقدس"؟

محمد الشيخ: أرى بالعكس من ذلك أنه لا تعد الحداثة حداثة، إن هي لم تمارس على نفسها ضربا من النقد والمراجعة. وكما قال المفكر المغربي عبد الله العروي تعني الحداثة تطليق المطلقات. فلا يمكن للحداثة نفسها أن تتحول إلى مطلق جديد، والذي يحمل المرء على التفكير في أمر الحداثة واستشكال شأنها، ما يلمسه في واقعه من هيمنة مبادئ القدامة: الجماعة، التقليد، الحجر على الفكر... وما يلمسه في المجتمعات الحداثية من إطلاق المبادرة للفرد، ومن التشجيع على الابتكار، ومن سريان حرية الفكر... ومن نقد المجتمع الغربي لنفسه، ومن نقد الحضارة الغربية لذاتها، ومن نقد المثقفين الغربيين لممارساتهم...  وكأنهم مروا أمام مرآة، وعندما أدركوا بعض الخلل لم يتهموا المرآة، وإنما اتهموا ذواتهم... وفي كل هذا يبدو أن الفكر الغربي لا يقدس لحظة الحاضر، لحظة الحداثة، بقدر ما يثمن بعض إيجابيات هذه اللحظة، ويسعى إلى تجاوز بعض سلبياتها.

أما مشكلتنا ـ نحن العرب والمسلمين ـ مع الحداثة، فتتمثل في أننا نقبل بما أسميه "أواني الحداثة"ـ الحداثة التقنية بكل مخترعاتها، بينما لا زلنا نتلكأ في القبول بما أسميه "معاني الحداثة"؛ أي القيم التي تحملها الحداثة من فردية متوسطة، وعقلانية معتدلة، وحرية عاقلة.

حسن الحريري: لقد ارتبطت الحداثة بمفاهيم العقلانية والفردانية والحرية، وارتبط التحديث بعمليات ترسيخ هذه المبادئ والقيم. فهل نحن أمام "حداثة أشياء" اْم "حداثة إنسان"؟ خصوصا وأن كتابك "ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟" تطرق إلى معنى "الأسرة الحداثية " و"الدولة الحداثية" و"المجتمع الحداثي".

محمد الشيخ: لابد من إجراء التفرقة بين "أواني الحداثة" و"معاني الحداثة"، لا اختيار للإنسان العربي في القبول أو عدم القبول بأواني الحداثة، فهذا صار كأنه قدر مقدور. أما في ما يخص "معاني الحداثة"، فلا زال الإنسان العربي مترددا في القبول بها، وما زال منكفئا على "خصوصية" قد تصير مُقصية لغيرها، وعلى "هوية" قد تصبح قاتلة. وقد لا ينتبه الإنسان العربي إلى "قيم الحداثة" ـ لا سيما قيمة الفردـ إلا حين يحصي كل يوم ضحاياه الذين صاروا يقدرون بالعشرات، ويرى كيف أن الإنسان الغربي إذا ما فقد له فرد تداعى الكل لإدانة ضياعه. ههنا قد يدرك الإنسان العربي أنه يعد نفسه للموت لا للحياة، وأن مجتمع الموتى هو الذي صار يحكم مجتمع الأحياء. وإلا كيف يمكن أن نفسر كون صراعات دينية وسياسية مضى عليها أزيد من أربعة عشر قرنا لا زالت تتحكم في مصير أحياء اليوم؟ بل كيف يمكن أن نفهم فتاوى صدرت أيام الحروب الصليبية، تنبعث اليوم وتتسبب في مقتل الآلاف من البشر؟

حسن الحريري: هل اشتغالك على متون فلسفية كبرى تنتمي إلى التراث الغربي، وخاصة الفرنسي والألماني، كان يروم تقديم نقد للعقل الغربي وكشف فراغاته ومحدوديته أم توسيع دائرة العقل العربي الإسلامي وفتح مدركاته؟

محمد الشيخ: الأمران معا متوازيان. لا عقل إلا العقل الناقد لنفسه. والعقل الغربي ناقد لنفسه تاركا للغير إمكان نقده. وما أحاول أن أفعله هو أن أبين إلى أي مدى بلغ العقل في ثقافتنا، وتمكن من نقد نفسه ومن نقد غيره. وقد قادني بحثي إلى أن العقل العربي الكلاسيكي أبدع أموراً عظيمة، ووقف عند تخوم عنيدة، ولذلك تراني ثمنت المنجز العقلي، ونقدت التوقف الذي اعترى هذا المنجز.

حسن الحريري: شهدت الفلسفة في المغرب بناء مشاريع فكرية كبرى مع كل من الجابري، العروي، وطه عبد الرحمان... تناولت قضايا التراث والحداثة، الهوية والغيرية، العقلانية والحرية... فهل يمكن أن نتحدث في نظرك عن إرهاصات بناء تقليد فلسفي مغربي أصيل في أفق ترسيخ مدارس فلسفية على غرار التجربة اليونانية القديمة، أْم إن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهادات شخصية محدودة التاْثير وبدون اْفق؟

محمد الشيخ: لا شك أن ثمة اجتهادات في الفكر الفلسفي المغربي تحظى بالاحترام في العالم العربي برمته. أينما حللت في العالم العربي وجدت مفكريه وطلبته يسألونني عن مفكري المغرب، ويستطلعون أمرهم ويستقصون عن اجتهاداتهم. غير أن هذه الاجتهادات تصطدم بعائقين اثنين: أولهما؛ عجزها عن تأسيس تقاليد فلسفية راسخة، إذ تبقى، على العموم، ثمرة مجهودات شخصية مشتتة. وثانيهما؛ استقالة الدولة الداعمة ورفعها اليد عن كل جهد فلسفي جاد. ومن مكر الواقع أن تفخر الدولة المغربية بمتفلسفتها، وهي التي تركت بعضهم نهبا لعوادي الزمان، ومن العجيب حقا أن وسائل إعلامها الرسمية تحتفي بمن حصل منهم على عرفان أو جوائز من الخارج، وهي التي لطالمها همشتهم.

حسن الحريري: ما يلاحظه قارئ كتاباتك أنك حريص على الكتابة بلغة تنهل من كنوز اللغة العربية التقليدية ومن النصوص التراثية الأصيلة؛ فهي مساْلة مثيرة جدا، خصوصا واْنك تشتغل على التراث الغربي المعاصر، وعلى مساْلة الحداثة بشكل خاص، فهل هذا الضرب من العلاقة التي تقيمها مع اللغة يحكمه البعد المعرفي اْم يتجاوزه إلى بعد جمالي مولع بالعراقة والقدم؟ وهل هو من باب القيمة التبادلية اْم من باب القيمة الاستعمالية، إن استعرنا عبارات "الراْسمال"؟ 

محمد الشيخ: حتى أوضح المسألة أعطي مثالا. لا أكاد أجد كاتبا ومفكرا حداثيا أعمق من موريس بلانشو، ولكن قراءة هذا المفكر تظهر أن أسلوبه يتميز ببيانية ملفتة للنظر. وقس على ذلك ما كتبه إدموند جابيس... اقرأ "كتاب الأسئلة" تجده في غاية الأناقة من حيث اللغة، وفي غاية العمق من حيث الفكرة. ولست تراني بمقارن نفسي بهذين العملاقين... ولكن ما أريد أن أؤكد عليه أن بيانية اللغة ونصاعتها وإبداعيتها لا تتعارض مع تقديم أشد المضامين حداثة. خذ، مثلا، الصوفية، تجد أنهم، وهم يحيون في صحراء بغداد القاحلة، أبدعوا لغة وجدانية مرهفة. والشاهد على ذلك كتابات النفري، فإنك واجد فيها عتاقة ملذة وحداثة مرهفة. لا عتاقة إلا عتاقة الفكر. وقد يتلبس التقليد بأشد الأساليب والتقنيات حداثة.

حسن الحريري: لقد عاد الدين بقوة ولكن لاشيء يعود كما كان عليه الأمر في الماضي، في كتابه "النار المقدسة" اعتبر ريجيس دوبريه أن الدين ليس "أفيون الشعوب" كما اعتقد ماركس، بل هو "فيتامين الضعفاء"؛ اْي إنه بمثابة منبه وحافز ومحرك للجماعات البشرية. وعلى هذا الأساس، كيف يجب أن يستعاد الدين ويوظف من طرف جماعته؟ وهل يمكن أن نقول باْن "القرن الواحد والعشرين" قرن "الدين" بامتياز؟

محمد الشيخ: أتى على مفكري الغرب وفلاسفته المعاصرين حين من الدهر، عدوا فيه الدين في عداد النسي المنسي، واليوم ها هم يعودون الواحد بعد الآخر، من هابرماس إلى فاتيمو، مرورا بدريدا ورورتي وغيرهم كثير، إلى الاهتمام بالدين، وذلك لا من موقع المعتقد ولا من موقع المنتقد، وإنما من موقع المتأمل المتفكر. فلا غرابة أن يخلص أحد أهم مفكري زماننا ـ رونيه جيرار ـ إلى أن ما تعلمه من خلال ثلاثين سنة أو أكثر من التفكير الموصول، هو أن ما من مجتمع إلا وله دين، كائنا ما كان هذا الدين، وأنه حتى المجتمعات الكليانية الشديدة الدنيوية أبدعت ديانات دنيوية، على نحو ما حدث في بعض الأنظمة النازية والفاشستية والشيوعية. على أن ثمة فارقا بين أن يحيى الدين في نفوس الشعوب، فذاك أمر عاد، وبين أن تحيى الشعوب في الدين، وذلك هو الأمر الذي ينبغي أن يساءل، ولسنا بدعا من الأمم، بل صارت مشاكلنا مع فهمنا للدين مجلى للباحثين في فلسفة الدين.

حسن الحريري: من المفارقات الفاضحة اْن الإرهاب الذي يستفحل يوما بعد يوم، والذي يشجبه بعض الدعاة والعاملين في الحقل الديني الإسلامي، بعد فوات الأوان، إنما هو ترجمة للمبادئ المقدسة والعقلية الاصطفائية والمشاريع الدينية الشمولية، حيث تتجسد في شعارات مثل : الحاكمية الإلهية، أو الحكومة الإسلامية، أْو دولة الخلافة، اْو الدعوة إلى أسلمة الحياة والثقافة...  على ضوء ما نشهده اليوم من معضلة العنف الديني الذي هو صنيعة تعليمنا وتعاليمنا وثمرة عقولنا وأفكارنا، كيف يمكننا إعادة قراءة النص الديني بعيدا عن منطق الثنائيات : حلال / حرام، كفر / إيمان، جبر / اختيار...؟ 

محمد الشيخ: ليس ثمة من قاعدة أهم من القاعدة التأويلية التي وضعها البابا ألبير الكبير: تربو الكتابة المقدسة بقدر ما تُقرأ؛ فكذلك من شأن فهمنا للدين أن يربو بالدين إلى فهم أعمق وأمثل وأسلم بقراءته القراءة وتدبره التدبر، وليس بتنزيل فتاوى عصر ولى على زماننا هذا الذي ما عهدنا له من نظير في ما مضى. ولذلك لربما صح ما ذهب إليه هيجل من أن نظرتنا إلى الدين تعكس ذواتنا أكثر مما تعكس حقيقة الدين نفسه: هل نحن حكماء في نظرتنا أم حمقى؟ وكذلك لربما حق ما ذهب إليه من أن التاريخ لا يعيد نفسه.