حوار مع الدكتورة نائلة أبي ناذر : التعدد الطائفي غنى كبير وخطر كبير


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتورة نائلة أبي ناذر : التعدد الطائفي غنى كبير وخطر كبير

د. الحاج ذواق: مسرورون -ونحن في هذه الأمسية ألرائعة أن نستضيف في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الباحثة والمشتغلة بالفلسفة وقضايا الفكر العربي ومشكلاته وأزماته؛ الدكتورة نائلة أبي ناذر، أستاذة الفلسفة بجامعة بيروت في لبنان الشقيق (الجامعة اللبنانية)، نرحب بك أستاذة نائلة، أهلا وسهلا بك.

د.نائلة أبي ناذر: شكرا شكرا

د.الحاج ذواق: نشكرك على هذه الزيارة، في البداية كيف تقدمين نفسك للمشاهد، والقارئ العربي؟

د.نائلة أبي ناذر: كما تفضلت، أهوتني أو أغرتني الفلسفة وجذبتني، واخترتها كتخصص ومجال عمل، وخاصة للتدريس في وطني، الذي تعذب وعانى مما عاناه طيلة ثلاثين أو أكثر يعي لغاية الآن، لم نستطع أن نضع لما يسمى بالحرب اللبنانية، نحن في حال لا سلم ولا حرب، إذن لم ندخل في السلم، شهدنا حرب أهلية شهدنا حرب الآخرين على أرضنا، شهدنا صراع الطوائف، شهدنا القتل على الهوية، كل ذلك خلق في ذهننا أسئلة كبيرة حول الآخر، ومن هو الآخر ؛ هذا الذي يقتلني هذا الذي أتصوره، من عالم آخر، يأتي إلي ليبيد عائلتي وبيتي وتاريخي وتراثي؛ فأنا أخاف منه. وكانت الفلسفة، في نظري نوعا من زحزحة هذا الخوف، والتعرف إلى هذا الآخر، كوني ولدت في عائلة مسيحية، وولدت في منطقة لا يوجد فيها مسلمون؛ فكانوا بالنسبة إلي ذلك الشبح الذي يريد أن يبتلعني وأن يبتلع حضارتي، ونما في داخلي الخوف الكبير منهم.

د.الحاج ذواق:الأستاذة نائلة، ألا تتصورين أن هذا التنوع في الفضاء اللبناني بين المسيحية بأطيافها كلها، وبين المسلمين بتوزيعاتهم وتنوعاتهم، ودروز وعلويين، وكذا هذا التنوع الهائل، يوحي لنا -نحن العرب- من بعيد على أن هذا التنوع محنة، ولكنه في الأخير يفضي إلى خلق الانتباه إلى الآخر، لا يحرمني من الآخر، بالعكس قد يدفعني إلى العناية بالآخر ، والدخول في علاقة متوزعة علاقة مركبة، علاقة قد يكون أساسها ديني، قد يكون أساسها ثقافي، قد يكون أساسها اجتماعي، قد تكون الحاجة؛ لأن الحرب اللبنانية في بعض الأحيان تحولت إلى حاجة للجميع، وضرورة أن تضع الحرب أوزارها، وأن يتحول اللبناني إلى لبناني أولا؟

د.نائلة أبي ناذر: للأسف، التعدد الطائفي هو في الوقت عينه غنى كبير وخطر كبير، وذلك مبني على كيفية التربية والتنشئة، وهنا أعود إلى مصطلح عزيز علي، أصر عليه أركون، وهو الجهل المؤسس، نحن عندما ندرس الدين، إن كنا مسيحيين أو مسلمين، ننفي أو نحصر الحقيقة بيننا ونلغيها عند الآخر، كنا في سياق تنشئتي الجامعية، نقيم بعض الحوارات كمسيحيين مع الأزهر في البقاع، وفي مناطق أخرى، وكنا نفرح بملاقاة طلاب الأزهر ومشايخه، وكنا نفاجئ أن كهنتنا وطلابنا، يذهبون عند المسلم بأسئلة كبيرة، لأنهم قرأوا القرآن أو عندهم أسئلة، نفاجئ بكبار القوم هناك يقولون لم نقرأ الإنجيل. ليس لدينا فكرة ما يوجد في هذا الكتاب؛ فهذا التباعد، هذا الجهل المؤسس مؤذ، وكم فرحت بالأمس، عندما سمعت السيد هاني فحص، يستشهد بآيات من الإنجيل يوحنا، أقله أوحى إلي أنه فتح هذا الكتاب، وبالنسبة إلينا نحن المسيحيين عندما نقول: القرآن، نقول؛ أجمل ما كتب بالعربية، نتعلم العربية بالقرآن، فلماذا هذا التجاهل وهذا التباعد؟ فعندما ترى عائلات مسيحية مثلا، تلمس الانفتاح لديهم، وكم من العائلات المسلمة جعلت أو وضعت أبناءها في المدارس المسيحية، وذلك كي تنشء أبناءها هناك؛ فتجد شيئا جميلا، باختيار أن يطلب الطالب المسلم أن يحضر ساعة التعليم الديني أو أن يخرج، لا أحد قد يقول له أي شيء، هذا جميل، لكن هو سيف ذو حدين، لأن عدوك أصبح قريب منك، فتقتله بسرعة، في حال أتاك أمر، اقتله، فهو جارك، على طبق من فضة يقدم إليك.

د.الحاج ذواق:لكنفي ظني أن الثقافة اللبنانية الآن، يعني انتهت إلى حال من التواصل الإيجابي؛ حيث إننا نجد على الأقل في المضمار السياسي، في بعض الاستراتيجيات السياسية، أن هذا المضمار يتضمن أطيافا عدة، لعلمك أستاذة نائلة "على السريع"، كل الكليات التي تدرس الفكر الاسلامي وتدرس العقيدة الاسلامية، هناك تخصصات تختص بمقارنة الأديان، تدرس الديانة اليهودية، المسيحية، لكن نتمنى أن يتحول هذا الوعي المنفتح إلى وعي مؤسس وليس إلى جهل مؤسس، وأن نتحول إلى نوع من الفضاء المفتوح على كل حال. ربما هذا الذي جعل الأستاذة نائلة تهتم باهتمامات مفتوحة، وأن تتجه رأسا إلى المفكر الجزائري محمد أركون الذي توفي سنة 2010، يعني أول سؤال يتبادر إلى الذهن، لماذا محمد أركون؟

د.نائلة أبي ناذر: سؤال عميق وبسيط في نفس الوقت "لماذا محمد أركون؟". أولا أريد أن أتحدى نفسي، أن أتحدى محيطي، تعرف في لبنان عندما يجدون فتاة ملتزمة إلى حد ما مسيحيا، وبالفكر لا يعني لها الكثير،الحياة الاجتماعية يراهنون عليها، لماذا لا تبحث في تاريخ الموارنة، وتاريخ المسيحية، وتعمقي هنا؛ فنحن شعب مضطهد، وتاريخنا تاريخ استشهاد، فلماذا تذهبين إلى هناك، أعطيت نفسي فرصة شهر واحد، قلت قبل أن أسجل الموضوع رسميا، علي أن أقرأ، وأرشدني أستاذي في ذلك الحين الأستاذ وليد خوري إلى كتاب "تاريخية العقل العربي الاسلامي"، قرأت هذا الكتاب وكان الانقلاب، وشعرت أن أركون هو صوتي، صوت الأقليات هو يمثلني فيما يكتب، يضع لي مكانا، لست نكرة، لست صفرا على الشمال، أنا جزء من هذه التركيبة، فكشف لي مكامن الجمال في الفكر الاسلامي، فأدركت أن هذا الفكر ليس كما يقدمه السياسيون، ولا المقاتلون ولا الذين ذبحوا على الهوية، هناك تراث هناك صوفية، هناك فن إسلامي، هناك أخلاقيات هناك معتزلة، هناك تجربة عقلانية، هناك إنسية؛ فقلت لنفسي لماذا أخاف، وتحمست إلى أن أجعل بني قومي يقرؤون ويرون أنه في الإسلام شيء جميل، وشيء يستحق الدرس.

د.الحاج ذواق: بعد قراءة هذا الكتاب، واكتشافك أن أركون هو صوت الأقلية، ألم يكن ذلك حائلا، بين أن يتحول أركون استراتيجية فكرية لحل التأزم التاريخي للذات العربية ككل؛ يعني كيف يمكن لأركون الذي أعطاني فرصة أن أخرج بانتمائي الضيق إلى انتمائي المفتوح. ألم يخلق لديك هذا نوع من المفارقة؟ حيث صوت الأقلية كيف يمكن أن يتحول إلى استراتيجية فكرية كلية؟

د.نائلة أبي ناذر: نعم، صوت الأقلية والاستراتيجية الفكرية، بالنسبة لي في البداية، كان نوعا من الاطمئنان، الاستراتيجية، هي أنه يجب ألا أخاف، أن أواجه بالمعرفة، أن أقبل على الآخر، وأن أصوب ليس على نقاط ضعفه، والعنف الذي لديه، وإنما على الثروة الفكرية التي لديه. عندما قرأت أركون، وتعمقت معرفتي به، كإنسان، انقلبت أيضا مقاييس أخرى؛ فأركون الإنسان جميل أكثر وعميق أكثر أيضا من أركون الكاتب والمفكر، هناك رأيت ردم الهوة التي نعرفها عادة بين العقل والممارسة، وجدت أن ما يتكلم عليه من الإنسية يعيشه، وأفكاره مطبقة. فهذه الاستراتيجية إن شئت أن أقول هي ردم الهوة بين الفكر والواقع بين العقل والممارسة، بين التنظير والتطبيق. هذا من جهة، من جهة أخرى كنت دائما أحرص على أن أترك قدماي على الأرض، ألا أحلم، أنا لست كثيرا أوافق على فكرة الإصلاح الديني والتغيير، وشطب التاريخ وتراكم التاريخ بمشروع واحد، مهما تكن عظمة فكر أركون، وشخص أركون، وكثيرون مثله، ليس وحيدا، ليس بإمكان أي واحد منا أن يقوم باستراتيجية، ويغير بشطبة قلم تاريخ.

د.الحاج ذواق: هل يدل هذا أستاذة نائلة على أن أركون لم يبدأ أركونيا؟ يعني عندما نقرأ أركون مثلا في الكتاب الذي ترجمه الأستاذ عدل العوالي، وكتاب الفكر العربي، يعتبر من محاولاته الفكرية الأولى، وإن كان تلا أطروحته للدكتوراه، وهي نزعة الأنسنة: التوحيدي ومسكويه كنموذجين. ألا تلاحظين أن أركون بدأ متوجسا، بدأ متحفظا، صحيح تلقى بعض الإشارات هنا وهناك حول مسألة الحدث القرآني والحدث التاريخي، الحدث الاسلامي ما قبل الحدث، ما بعد الحدث، تحرير العقل الاسلامي... لكن أركون في الأخير كان... لا أقول خائفا، ولكن كان متوجسا إزاء ما سيلاقيه في مشروعه، ثم أركون تجاوز ذاته؛ بمعنى أركون الأول، أركون الثمانينيات وأواخر السبعينيات، لو قرأ أركون ما قبل وفاته قد يعجز في فهمها، وقد يعجز عن قبول ذاته.

د.نائلة أبي ناذر: هذا أمر طبيعي أراه، من العجيب الغريب أن يبدأ المفكر وينتهي من حيث هو، يجب أن يكون هناك تحول وتبدل وتطور، (تحول، تغير ليس بالضرورة تطور)، نحن لسنا بحجارة كمفكرين، كبشر، الحياة، الأحداث، حرب العراق في الكويت... ليس بإمكاننا أن نبقى لا مبالين، تجاه ذلك ولا نغير قوالبنا واستراتيجيتنا الفكرية، من الطبيعي. تكلمت – حضرتك- عن التوجس، في النهاية هذا كائن بشري يخاف العنف، العنف لا أحد يطلبه إلا الذين... لست أدري كيف أصفهم، أحترم الذين يطلبون العنف، لكن يمكنني أن أتصور نفسي، أجذبه إلي أدعوه، من الطبيعي كل فرد أن يحافظ على غريزة البقاء، تحدث عنها كل علماء النفس. هذه جزء من إنسانيته.

د.الحاج ذواق: الأستاذة نائلة، في ظني أنه رسالتك للماجستير كانت حول أركون، هل النتائج التي خلصت إليها في رسالة الماجستير، هي عينها التي خلصت إليها في أطروحة الدكتوراه؟ وأكيد في أطروحة الدكتوراه انتقال من .. لا أقول من أركون إلى الجابري، ربما هذا السؤال سيرد، لكن ما هي أهم الإضافات التي شعرت أن أركون قد أضافها؟

د.نائلة أبي ناذر:أنا بدأت في قراءة أركون في عام 1991، وأنهيت الدكتوراه في 2005، إذن هناك شريحة من الزمن، من الطبيعي فيما توصلت إليه في عام 1995 عندما ناقشت الماجستير، ليس كما في عام 2005. هذا أولا؛ ثانيا نمو عقل الطالب يختلف، يعني مقاربتي للنص الأركوني اختلفت، في الماجستير كان العنوان مدخلا إلى قراءة أركون، وكان هدفي أن أتعرف وأعرف الطلاب الجامعيين من خلال رسالتي على مصطلحات جديدة دخلت في التداول في اللغة العربية لم نكن نسمع بها من قبل.

د.الحاج ذواق: بالمناسبة هل قرأت أركون من متنه الفرنسي، أم قرأته من الترجمة التي قدمها هاشم صالح؟

د.نائلة أبي ناذر:سؤال جيد، نعم قرأته باللغتين لكي أقارن، كوني أتقن اللغتين.

د.الحاج ذواق: هل وجدت لأنه هناك للأسف توجه أنا لا أحبذه كأستاذ مشتغل بالفلسفة في الجامعات العربية، والجامعة الجزائرية بالخصوص، هو أن الترجمة تشوه وتسيء. أنا أظن أن هاشم صالح كان صديقا لمحمد أركون، وكان يلازمه باستمرار، وكم من مرة يجلسان إلى بعضهما، يتداولان حول مصطلح، حول جملة أو حول فقرة، فلا يكتب هاشم صالح شيئا إن لم يكن أركون موافقا عليه، أنا استمعت هنا وهناك على أساس أن هاشم صالح، لم يقدم ترجمة - إذا جاز التعبير- موفقة لأركون، هل هذا صحيح؟

د.نائلة أبي ناذر:يعني، أود أن أقسم الإجابة إلى قسمين؛ القسم الأول هو ما لاحظته؛ والقسم الثاني هو ما تسنى لي أن أبحثه مع أركون شخصيا، كوني التقيت به هنا في المغرب، لمرتين؛ المرة الأولى لمدة أسبوعين، كنت أزوره في البيت، ونتحادث ويجيب عن أسئلتي وكلها مسجلة؛ والمرة الثانية وكانت في مؤتمر في مراكش.

د.الحاج ذواق: (مقاطعا)، بالمناسبة هي مسجلة صوتيا، أم مسجلة فقط...

د.نائلة أبي ناذر:نعم، على أشرطة قديمة ... وفي المرة الثانية، في مراكش ضمن مؤتمر من تنظيم الأوروميد، وكان هو ضيف شرف وألقى خطابا في الحداثة. أولا كيف أستنتج؛ لقائي بأركون من خلال نص مترجم، ومن خلال نصه، هناك فرق، نعم هناك فرق، وأفهم جيدا هذا الفرق، عندما قرأت نصا بالفرنسية، نصا مفعما بالحداثة، وبمصطلحات ليس بالسهل ترجمتها في الحقيقة؛ يعني أنا حاولت القيام بالترجمة، وجدت أن الأمر إلى حد ما سيأخذ جهدا كبيرا.

د.الحاج ذواق: المشكلة في العربية أستاذة، أم في ...

د.نائلة أبي ناذر:لا في تركيبة النص، أن أركون شخص مشبع بالمنهج الغربي، ومشبع بالمصطلحات، وتأتي هذه المصطلحات والكلمات بشكل عفوي لديه، وقد لا يدرك مدى صعوبة نقلها كما هي، إلى العربية، لأنه غارق في بحر كبير، هو بحر الحداثة وما بعد الحداثة.

د.الحاج ذواق: ألا تعتقدين أن هذا قد يشكل حائلا بين القارئ العربي، وبين أركون (يعني أركون الذي أعيته اللغة)، أن يوصل مراده والقارئ العربي الذي (قد تكون عربيته قد فشلت في إيصاله إلى أركون) ألا يحرمنا هذا في الأخير من أركون؟

د.نائلة أبي ناذر:من أركون الحقيقي نعم، أكيد، لكن إذا كنا نأخذ أركون بالبعدين اللذين حاول الاشتغال عليهما، وهما البعدان الغربي والبعد الاسلامي العربي، أراد أيضا في رسالته في مشروعه، أن يظهر صورة للإسلام في الغرب حيث يقيم، وكان مضطرا أن يكتب بهذه اللغة لأن يغزو، وأريد أن أستخدم كلمة غزو لأمريكا، ولأكبر مقاعد التدريس في أمريكا في سويسرا وفي لندن، وفي باريس، صعد على هذه المقاعد والمنابر، وقال بصوت عال: ما هي الكنوز الإسلامية، وهو في صلب الهيجان الغربي ضد الإسلام، وإظهار الصورة الإرهابية، وهو يظهر صورة أخرى، بلغتهم، وهذا يجب أن نقر له به، وعلى أعلى المستويات.

د.الحاج ذواق: الأستاذة، ألا تتفقين معي وأنا أقرأ أركون في حدود ما أزعم أنني قرأت أغلب كتبه، إلى آخر كتاب أصدرته المؤسسة، إن شاء الله سنقرأه في المستقبل، أن أركون جبهات ثلاث، الجبهة إزاء الآخر، عندما أقول الآخر، الآخر الغربي الحداثوي بالذات، باستراتيجيتيه العلمانوية، أو العلمانية المناضلة، والاستشراق المعادي؛ ثانيا أركون عندما يتجه إلى تراثنا العربي الإسلامي ويغضب غضبه المألوف، لماذا تسلطون الضوء مثلا على أحمد بن حنبل، وتغفلون مثلا ابن رشد، أو تسلطون الضوء على الأشاعرة، وتغفلون المعتزلة، والجبهة الأخرى هي جبهة الواقع وهموم الإنسان الجزائري من منطقة القبايل، المعاناة التي عاناها الأمازيغ في الجزائر ، وبالمناسبة أنا أمازيغي جزائري، المعاناة التي عانيناها، أن نعبر عن ذواتنا في إطار انتمائنا إلى وطننا. هل تتفقين معي على هذا التقسيم، هل هو تقسيم موفق؟

د.نائلة أبي ناذر:هل تسمح لي أن أجيب على هذا السؤال، تطرح علي أسئلة مهمة جدا، وعميقة، وكما يبدو أنت متمرس جدا بالفكر الأركوني، لكن كونك طرحت علي مسألة الترجمة، لم أفها حقها، ولم أف حق نقل أركون إلى العربية، اسمح لي. فيما يتعلق بهاشم صالح، أو عادل العوى أو الذين حاولوا أن يقوموا بالترجمات، لأن هناك مثلا كتاب "نافذة على الإسلام" ترجم بمغفلة عن أركون لم يكن يدري بذلك، وأنا استغربت لأنه عندما قرأت مثلا، أركون مثلا، عندما يستخدم مصطلح النبي، لا يقل صلى الله عليه وسلم، وعندما يستخدم القرآن لا يقل الكريم، في سياق إعدادي للدكتوراه، فتح كتاب "نافذة على الإسلام"، صلاح جهيم سيترجم القرآن الكريم وصلى الله عليه وسلم، كتبت لأركون، لم يكن هناك اتصال إلكتروني في ذلك الحين، استغربت قال لي: أنا لا أعلم أن هذا الكتاب ترجم إلى العربية؛ فقلت أية صورة نحن نظهر لأركون؟ هل ما قام به هاشم صالح أفضل من غيره؟ نعم، لأننا قرأنا وقارنا، لكن دائما هناك ثغرات، ودائما الذي يبدأ، يبدأ من صفر، وهو تراجع عن عدة مصطلحات، نحن نلاحظ بين أول الكتب التي ترجمها وآخرها مثلا: المخيال الديني أو المتخيل الديني، هو عدل عن بعض الاستخدامات، القصص القرآني أو البنية الأسطورية، أو القصصية؛ يعني صار هناك بعض التعديل.

في حواراتي مع محمد أركون، قال لي أن انشغالاته الكثيرة، لم تمكنه من أن يطلع حرفيا على ما كتب بالعربية، نعم لم يطلع، كونه منشغلا وكان يتفاجأ، لأنني ذهبت إليه مع جملة أسئلة ومدونة من صفحة كذا من سطر كذا ماذا تقصد. فكنت أقرأ النص، فيقول: أنا قلت هذا؟ كان يفاجأ، وقال لي بالحرف الواحد؛ أتعرف على نفسي بالعربية من خلالك، هذا دليل موثق عندي فقط بالتسجيل، لكن لا يمكن أن ننكر فضل هذا الإنسان، ولقائه بهذا المفكر، ويجب كلنا أن نبدأ من مكانه، وكنت أنا أن أضع هذه الترجمة جانبا وأن أترجم، وجدت نفسي لن أتمكن من كتابة شيء، كل الوقت سيذهب فقط في الترجمة.

د.الحاج ذواق: الأستاذة نائلة في الأخير ...

د.نائلة أبي ناذر:فقط عودة في سؤالك الثاني، الحرب على جبهتين، نعم سأوافق بجملة بسيطة عنوانها من عند أركون نفسه "التواصل المستحيل"، يقول ذهبت إلى الغرب ولم أتمكن من التواصل، ذهبت إلى الشرق ولم أتمكن من التواصل؛ فهو يعيش الاغتراب، إن كان في باريس أو إن كان هنا؛ فهو في غربة.

د.الحاج ذواق: شأن المفكر عادة ألا يقبل، أن تكون محنته جزءا من منحته التاريخية في الإبداع وفي الكتابة وكذا.. في أطروحتك للدكتوراه، كتبت حول الجابري وحول محمد أركون "التراث والمنهج بين محمد أركون ومحمد عابد الجابري رحمهم الله، هل معنى ذلك أن الأستاذة نائلة انتقلت من أركون إلى الجابري، أو حاولت أن تراوح بين أركون والجابري؟

د.نائلة أبي ناذر:بكل بساطة أردت أن أجمع في دراسة واحدة مشروعين نقديين كبيرين، طبعا الفكر العربي المعاصر خلال عشرين عاما من الزمن، وشغل الكثير من الطلاب والمفكرين، وأردت بشغف، أن أميز ماذا يميز هذين المشروعين؛ فوجدت أن نعم، هناك الكثير من نقاط التمايز، على الرغم من أن كلمة نقد تجمع بينهما، نقد العقل الإسلامي ونقد العقل العربي، لكن مفهوم النقد وتطبيقه كأداة اختلف بين المشروعين.

د.الحاج ذواق: لكن هناك علاقة فكرية بين الرجلين، يعني وأنا أقرأ الجابري ينكر أن تكون له علاقة فكرية ما مع محمد أركون، وعندما أقرأ محمد أركون لا أجد أن هناك علاقة، بالعكس نجد أنه يتحرج، أو يحاول أن يتفادى الارتباط بمشروع الجابري. هل هذا صحيح؟

د.نائلة أبي ناذر:على صعيد القول العلني ليس هناك من علاقة، لكن إذا تدخل إلى خفايا النص، نجد أن الواحد منهما يرد على الآخر، يعني أنت لا تتقدم ناحية النص الديني أنا تقدمت، وهناك يقول أنت لم تتقدم إلى النص التراثي البحت وأنا تقدمت، وكشفت الكثير. يردان على بعضهما لكن خلسة، وهذا من جمالية هذين المشروعين، أنهما يتكاملان إلى حد بعيد.

د.الحاج ذواق: أتمنى في الأخير أن تستعيد الثقافة العربية تلك السجالية التي كانت موجودة في التراث، ربما مشروعي الجابري ومحمد أركون، كلاهما يصب في فضاء النقد، وهل تمكنا في الأخير، لأن القارئ العربي هو الذي سيحكم، وامتداد هذين الفكرين في الثقافة العربية، هو ما سيحدده في الأخير وزن كليهما، لا من الوجهة الشخصية، ولكن من الوجهة الفكرية. ألا توافقينني أستاذة نائلة، أن امتداد الجابري كان أكثر من امتداد أركون؟

د.نائلة أبي ناذر:سؤال مهم، ولا أوافق الرأي عليه البتة، أركون في أكثر من مكان، وفي أكثر من كتاب، وفي أكثر من حديث، يتوقف عند مصطلح سوسيولوجيا التلقي، أو البناء المعرفي للمجتمع الذي يتلقى الفكر، نعم بأمكنة محددة وصل الجابري، إلى الشعوب العربية؛ لأن الخطاب الذي يبثه يتلقاه الذهن العربي بما قد نشأ عليه، نعم يتلقاه، لكن هذه الأدوات الغريبة إلى حد ما والجديدة والمليئة بالجدة والثورة من الصعب أن يتلقفها العقل كجماهير، لكن النخب نعم، وأظن أنه في الأوساط اللبنانية أقله نادرا ما ترى رجل دين مسلم لم يقرأ أركون، حتى ولم يصرح بذلك.

د.الحاج ذواق: هل ينطبق ذلك على الثقافة السنية، كما ينطبق على الثقافة الشيعية في لبنان؟

د.نائلة أبي ناذر:نعم، من خلال حوارات كنت أتابعه، كنت أستشف أركون في هذه الحوارات، أركون حفر عميقا في بنية العقل الإسلامي، تجرأ أن يدخل المقدس، تجرأ أن يفتح القرآن، ويقرأ قراءة نقدية علمية، وهذا الأمر ليس بالهين، ولن يترك مهمشا، لا من قبل أساتذة الفلسفة العربية الإسلامية، ولا من قبل رجال الدين، حتى ولم يصرحوا بذلك.

د.الحاج ذواق: شكرا الأستاذة نائلة أبي ناذر من لبنان، أكيد محمد أركون شخصية، يعني لها ما لها وعليها ما عليها، نتمنى أن تنال حظها من القراءة، وأن تنال حظها من النقد. في الأخير نتوجه إلى كل المتلقين لهذا الحوار، بأن ينظروا إليه بعين متلقية بإيجابية، وليس بسلبية رافضة. شكرا على هذا الحوار الممتع وإلى لقاء آخر إن شاء الله.

د.نائلة أبي ناذر: أنا أشكرك وأشكر أسئلتك، وأشكر مؤمنون بلا حدود، على هذه البادرة الطيبة المثمنة جدا.