مآسي الانغلاقيات الأصوليّة الهويّات العابرة


فئة :  حوارات

مآسي الانغلاقيات الأصوليّة الهويّات العابرة

مآسي الانغلاقيات الأصوليّة الهويّات العابرة([1])


د. الحاج دواق: نرحب بك دكتور اليامين بن تومي في حوارنا هذا الذي نخصّصه لملف بحثي مهم، نستشف من خلاله الترابطات الكائنة بين التدينات المغلقة، والهويّات القاتلة. نود في هذا الحوار أن نتداول معك مقارباتك لصور الهويّات المتنوعة وانعكاساتها على نماذج الممارسات الماحقة. ونسأل:

كيف تقرأ الإصرار غير العادي من الأصوليّات المختلفة على استدعاء الأساس الهووي في كلّ خطاباتها؟ وما مردّ ذلك؟

د. اليامين بن تومي: أشكركم بداية على هذا الأسئلة التي ستفتح المجال واسعاً أمامنا لنفكر في الأصول التي صنعت هويتنا؟ هل نعتبرها نقاطاً ثابتة نرجع إليها؟ أم أنها انغلقت بفعل حركة الزمن التأسيسي؟

حينما نقول أصوليَّات نقصد بها أو تحيلنا على لفظة "الأصل"، والأصل في اللغة ما يمكن أن نعود إليه أي ما نرجع إليه، أي ما يشكل المبتدأ، أو لنقل البداية، وما بعدهُ يكون خبراً دائماً، لا يتم معناه إلا إذا كان المبتدأ معلوماً، لأنّ الأصل معلوم، فالشافعي يقول: "ما لا أصل له فهو معدوم"، أي أنّ الأصل ضد العدم، لأنّ الأصل بارز وواضح أي ناصٌّ بنفسه، أي أنه ثابت، أي هو مصدر من جهة تعيين وثبات القيم، أي ما يُشكِّلُ مصدراً للرجوع إليه، أي ما نعود به على المنبت الأول، أو المزروع الأول الذي استقامت به الحال سواء لأمّة أو لفرد أو لجماعة أو لطائفة، ورجل مأصول/أصوليٌّ أي مكين في عبارة السَّلف الأول.

وقريباً من اشتغال الكلمة "أصل" التي تعني الرجوع والعودة، أو لنقل تعني أسفل الشيء في باطن الأرض، أي ما ارتبط بالزَّرع والغرس، لذلك يقال شجرة مأصولة أي أنها متشبثة بالأرض، ولذلك فالأصولي هو ما تشبث بالزرع الأول أو القيم الأولى.

فالمتأصل هو من حافظ على تلك الأصول والقيم وتشبث بها، ولم يخرج عليها، بل دافع عنها، لأنها مصدر الثبات والصلابة، وأي عصف لها يؤدي إلى الانسلاخ والموات، ومنه جاءت كلمة "الأصولية"، وهي مجموعة القواعد والأفعال التي قررها الرئيس الأول للملة أو الفرقة أو الأمّة، والأصولية هي حركة في الزمن تعيش من جهة الذاكرة على مقولات الملَّة الأولى، أي تعيش على تقاليد الملة وعاداتها، وكلما ابتعدت في التاريخ صارت بحاجة إلى وضع القوانين أو الأطر للمحافظة على تلك المأصولات التي تُذكِّرُها بأحوال الملة الأولى، هذا القانون الذي نسمّيه في العادة "الشريعة"، وهي ما يشكل نقطة الثبات والمرجعية التي تحكتم إليها الملل اللاحقة في صرف أحوالها.

بمعنى أنّ المأصول كلما ابتعد في الزمن من جهة الملة الأولى احتاج إلى ما يذكره عاطفياً ولغوياً بأحوال تلك الملة، لذلك تحتاج الذاكرة إلى غلق المجال على تلك الأحوال الأولى، بأن تصنع لها قانوناً عاماً يحافظ على حركية الملة الأولى وقدسيتها فيها، لذلك من جهة "الزمنية" لا تملك الأصوليات سوى زمنية واحدة، ومن أجل ترسيخ تلك الأحوال تحتاج الأصولية إلى بناء سرديتها التي تُشبع الذاكرة، وتُضخِّم من حاكمية الملة الأولى، لأنّ الأصولية تشتغل على توسيع دائرة الإعجاب والانبهار، بأن تربط الأصل بحكايا وقصص مشبعة بالخوارق والمقدّسات، لذلك لا يملك المتأصل أبداً الخروج على تلك الطاقة الأولى، لأنها فوق التصور، وفوق الواقع، تصبح متعالية لأنها مرتبطة بزمن مقدّس ومشبعة بالخيال، لذلك فالأصولي هو رجل يقتات على الحكاية الأولى، حكاية الملة الأولى والجماعة الأولى، فالأصولي لا يتصور الخير إلا في كنف الجماعة الأولى، وفي زمنيتها، وكل ما جاء بعدها بدعة وشر، وكل الخير في الاتباع، وكل الشر في الابتداع.

هذه الخيرية التي تحكم الأصولي هي التي شكلت بالنسبة إليه نقطة ما في الزمن، يعود إليها ليستل منها قيمه وثوابته، يحتمي بتلك النقطة من أيّة عواصف طارئة، لذلك فالأصولي معلق من ذيله باتجاه الماضي، باتجاه تلك الزمنية المخصوصة، ها هنا نكون بإزاء إنسان معتقل في لحظة زمنية قديمة، هذا الاعتقال أهدر الإنسان من جهة إنتاج معناه للحياة، بمعنى أننا نملك تصوراً معلقاً زمنياً على الإنسان القديم، وأي تفاعل حقيقي لا يتم إلا باستهلاك جذري للزمن من قبل إنسان حقيقي، وبالتالي البنيات البشرية عندنا مغشوشة، لأنها تعيش وتحيا إنسية قديمة، لذلك ترادف الأصولية لفظة القدامة والماضوية . أي أنّ الأصولي بهذا المفهوم يعطل الزمن من جهة اتباعه زمنية قديمة، وإذا تعطل الزمن لم يحصل الاندفاع والحركة المطلوبة، وهنا نكون بإزاء هويّة ذات بعد واحد، هويّة موجودة هناك في الماضي، لا هويّة ننتجها هنا، وهذا يطرح علينا تساؤلاً: هل الهويّة ثابتة أو متحركة؟

د. الحاج دواق: هل الهويّات ينبثق خطابها عن النظريات الميتافزيقية المؤمنة بثبات التاريخ، والمتعاطية مع الحياة على أنها قارّة وذات شكل أبدي؟

د. اليامين بن تومي: أتصور أنّ المسألة تحتاج إلى كثير من التروي، مخافة الوقوع في الزلل وإساءة القراءة، كما يقول فلاسفة التأويل، فليس هناك ما يقتل ويُعوِّرُ البحث أكثر من التَّعجل وسوء التدقيق، إنّ هناك فرقاً بين المرجعية الدينية والهويّة الدينية، ذلك أنّ المرجع هو ما يمكن أن نعود إليه لصياغة الحياة صياغة ميتافيزيقية، أي ما يشكل مسالك الأخذ المباشر من النص الديني، وهو ما نعني به مصادر التشريع، هذه المصادر حين تتنزل من كونها نصوصاً إلى التمثل، أو حين تلج الوعاء البشري تتمظهر في أشكال مختلفة من الفهم والوعي على مستوى اللباس والعادات، وهو ما يمكن أن نسميه هويّة، أي أنّ المرجع يكون على مستوى النص، بينما الهويّة تكون على مستوى الخطاب، المرجع يشكّل مصادر الثقافة ذاتها، بينما الهويّة تشكّل بُعداً تمثيلياً للثقافة في الواقع، المرجع هو سلطة النص في التاريخ، الهويّة هي قوة الخطاب التمثيلية.

لأنه بفعل البعد الزمني عن الزمن التأسيسي/المرجع المعصوم تصبح النصوص خاضعة للفهم، والفُهوم تعطي تأويلات لما يمكن وصفه بالأقرب إلى المرجع، لذلك يحصل نوع من الإسقاط المادي لمفهوم التجربة الروحية في مختلف الأشكال، وهذا انتقال طبيعي من النص إلى الخطاب، هذا الإسقاط الذي ينعكس على مستوى الزي/اللباس، أو العادات، أو حتى في مستوى تطبيق الشريعة، بمعنى أنّ ما نصفه في الشريعة هو المستوى التمثيلي في فهم النص التأسيسي أو النص المرجعي، والتشريع هو القانون أو المواد التي تشكل طابع الحلال والحرام، ليس في شكل واحد بل على مستوى شكليات متعددة، وعليه كلما ابتعدنا في الزمن يحصل انسلاخ داخلي بين النص وما يمثله من أحكام، فتصبح الأحكام ممثلة فقط لصورة النص، أصبح فيها المعنى للشخص الديني الذي يتكلم داخل دائرة مغلقة عن شكل معّين للحلال والحرام، ما يطبع فكرة التعليم بمزدوجة شكلية "افعل ولا تفعل"، هذا ما يجعل التجربة الروحية مفرغة أو مجوفة لصالح بنيات صورية أو شكلية، أي أنّ البعد الهووي يصبح متضخماً في جانبه الشكلي، لا في موضوع التجربة الروحية للمرجع، بل في صورة التمثل، لأنّ سلطة التمثيل للشكل عن المرجع هي التي كونت أبعاداً هوويّة مزيفة عن ذلك المرجع.

بمعنى أننا انتقلنا من الرؤية التي يصنعها النص إلى الرؤية التي يصنعها الشخص، والهويّة ليست موضوعاً للنص بقدر ما هي موضوع للشخص.

وهاهنا نجد الفِرق الإسلامية تتصارع على الأشكال التي تصنع حدود الهويّة، لا تتصارع على بناء التجربة الروحية في أقصاها الوجداني واللغوي، لذلك نحن الآن نعاني شكليات الخطاب الإسلامي، ومن يمثل المرجع أكثر؟ وما هي أكثر النماذج تمثيلية لسلطة النص؟ وكلما ابتعدنا عن الزمن غاب النص وبرز الخطاب؛ بمعنى غاب المرجع وبرزت الهويّات، والتناحر الحاصل ليس في المرجع كنص، وإنما في تلك الشكليات التي تمثل فهوماً مختلفة للمرجع، وكل فهم هووي يريد أن يزيح فهماً هوويّاً آخر، وهذا ما هو حاصل الآن، للأسف هو صراع شكليات أو قوى تمثيلية وهوويّة لشكل الإسلام الحقيقي. ونكون بهذا التمشي قد قرّرنا أنّ الهويّة متحولة لا ثابتة، وهي صناعة لا ثبات فيها.

د. الحاج دواق: ما معنى الهويّة؟ وهل هناك فعلاً أحوال مكرّسة يمكن نعتها في الأخير أنها حقيقة شيء ما؟

د. اليامين بن تومي: لقد واجه المفهوم تصورات كثيرة عبر مسار تاريخي طويل، وإنّ أول من نظر للمفهوم هو بارمنديس حينما تحدث عمّا يتماهى مع ذاته، ويستحيل معه النقيض، أمّا هيراقلطس فيعطينا مفهوماً آخر عن "الهو" أنه لا وجود لهو إلا وهو في تغير دائم، فالأصل ليس في الثبات وإنما في التحول، ولكن بحسب ابن رشد الفيلسوف المسلم أنّ مبدأ الهو للهويّة كمبدأ الإنسانية للإنسان، حيث لا يمكن أن نشتق الهويّة إلا من ذاتها، أي أنّ ذات الشيء هويته، ولذلك كلّ ما يشكل الإنسان هو ما يتضافر في تشكيل تلك الهويّة، لكن منذ تأسس وعي الإنسان بذاته مع ديكارت تحولت الذات إلى موضوع، أي أنها أصبحت هي هويّة النقاش، أي ما يشرعن هذه الهويّة ذاتها، ثم سرعان ما أدركت الذات فرقاً جوهريّاً بين عينية الذات وهويتها، وفق ما يقول بول ريكور، فهناك ما يشكل الذات داخلياً، وهناك ما يشكلها خارجياً، بمعنى أنّ هناك ما هو أصيل داخلي وبنيوي، وهناك ما هو عارض وطارئ خارجي، فالهويّة هنا أطياف تتعايش داخلها ويستحيل تجاوزها، وهناك عوارض يتم تغيرها بفعل الزمن والجغرافيا، وهذا يجعلنا نقرر أنّ الهويّة تنفتح بشكل دائم على المراجعة وضد الاختزال والأيقنة، أي أنّ هناك سمات داخلية تشكل ما يسميه كارل يونج بالأنماط العليا، وهناك سمات متحولة تخضع لعامل الزمن والبيئة، وهنا يمكننا مناقشة وتحليل تلك السمات الداخلية والعميقة، وهي سمات معقدة ومركّبة تحتاج لنوع من المداخل التأسيسية في حلحلتها، وهي في الغالب التي تُشكِّلُ الطابع الدوغمائي للذات، أو تشكل انغلاق الذات، وهذا يحتاج إلى مساحة واسعة من البحث للوقوف على تلك السمات التي تُعدّ جواهر داخلية وعميقة، في حين أنّ القشور ما هي إلا ألاعيب استعارية ومجازية تتخذها تلك البنيات العميقة على السطح. تلك الحيل تحتاج في كثير من الأحيان إلى صناعة يومية لتصريف تلك البنيات لتكون عامل قوة للآني، لا أن تبقى خبيئة زمنيتها القديمة فقط، وبالتالي نحتاج كل مرّة إلى إعادة إنتاج وتصريف لتلك الهويّة لتتناسب وكيفيات الرهان الآني.

د. الحاج دواق: كيف تستحيل الهويّة/الهويّات إلى نمط اختزالي إلغائي؟

د. اليامين بن تومي: نحن نعيش عالماً اختزل فيه كل شيء إلى مجرد صور ورموز، وصارت الاستعارة هي الرؤية التي تشتمل على البنيات العميقة للتصورات عن العالم، كما يقول جورج لا يكوف، بل أصبحنا نحيا في عالم مغشوش ومليء بالتوهمات والأطياف والأشباح، لا حقيقة سوى تلك النماذج التركيبية للعالم المزيف، التشويه طال كلّ شيء، هذه النظرة أو الرؤية قد تبدو متشائمة، لكنّ التشريح التراتبي يكشف عن حقائق عميقة لهذا العالم، لو ننظر إلى ما يصنع العالم الحديث من قيم فسنجدها تقع في عمق الأصوليات العميقة للعالم المسيحي مثلاً فهناك قصور حقيقي عن ملاحقة نماذج العالم الغربي الذي تمّ اختزاله في شكله المادي، لكنّ عودة المكبوت الديني في أشكال ورموز هذا العالم تكشف عن الهشاشة الداخلية لهذا العالم الذي يظهر أنه علماني ومادي، لكن مجرد تصفية لمنابت الرموز الداخلية تكشف عن الحلولية الدينية لهذا العالم، وبالتالي الرؤية السطحية اختزالية لصور نمطية تمّ تصديرها غصباً بالقوة، ومجرد تأمل عميق في البعد الداخلي لهذه الرؤية يكشف عن الواجهة الخلفية، كما يقول علماء السرد، ماذا مثلاً لو أجرينا تحليلاً عميقاً لبعض الأفلام الأمريكية التي تعكس هذه الاختزالية الرهيبة للمجتمع المادي الدارويني الذي يرى أنّ الأمور تتناسل في بُعد واحد، وأنّ الشر يعكس بعداً تاريخياً قديماً منمطاً وموجّهاً واختزاليّاً جداً، ذلك الشر الذي يكون مصدره الشرق دائماً، مثلاً فيلم "سيد الخواتم" الذي يمثل قمّة المكبوت الديني والأصولية المسيحية، والذي يمثل إحالة استعارية لتلك العين التي تنوب عن إله الشر الشرقي الذي يهدد عالم الغرب/ يهدد قيم العدالة والحرية، وتكشف تلك الأفلام ازدواجية الصور الاختزالية للشرق الشرير والغرب المُخلِّص، حينما يأتي ذلك القزم من الدولة الإسكندينافية ليلخص العالم الحر، عالم الشمال، من عين الشر، ويخوض ملحمية عميقة لاستعادة العدالة الغربية وصورة العودة بالشر إلى منبعه القديم الذي نبت منه، العودة إلى الشرق ورمي خاتم الشر في الجبال السوداء التي تحرسها عين الله/عين الميتافيزيقا التي تصنع دائماً الأرض، تلك الصياغة اللاهوتية لما هو أرضي، التي تحاول صياغتها وفق نمط ثيوقراطي، هذا الشرق الموبوء ميتافيزيقياً عليه أن يتحرر من كتلته التاريخية، وأن يعيد التاريخ إلى الإنسان بعيداً عن الاستيهامات الميتافيزيقية القديمة، هذا الغرب المخلص هو نفسه الذي يختزل النظرة إلى العالم في شكل مُسِّفٍ وهابط وحقير، حينما يعطي دائماً هذا الثقل التاريخي للشرق الميتافيزيقي، الشرق الموبوء بالأحقاد وعيون الشر، تلك العيون التي ستفقسها التقنية والعالم المادي حينما يعود التاريخي إلى شكله البشري، وحين تسقط كل المتعاليات من عليائها ليترجل الإنسان مرّة أخرى على الأرض.

أليست هذه الرؤية تحمل داخلها نموذجاً دينياً عن المخلص المسيحي، عن البشارة التي تأتي دائماً محملة بالأسطورة الغربية /الطارئة كما يقول روجيه غارودي؟ ولماذا دائماً المخلص أبيض البشرة، ويحمل الصليب؟ أليست تلك الإشارات العائمة تسبح في فلك نووي عن الرؤية القيامية للغرب المسيحي، كما يقول "ياكبسون تاوب"؟ عن نهاية التاريخ فيما يتصور فرانسيس فوكوياما؟ هذا الصراع الذي تتنازعه دوماً عودة قوية للمكبوت الديني. فإذاً هناك صناعة قوية لهويّات النهاية، كما أنّ هناك هويّات استهلاكية أو لنقل براديغمات ونماذج تركيبية تحاول تصدر هويّة كونية في عالم ما يزال يستعيد أشياءه القديمة، هذا الانغلاق الداخلي دائماً ما يُمَأزِقُ العلاقة بين الحضارات والشعوب، ولذلك فالهويّة تحتاج إلى ما يساندها ويفعل وجودها، أو ما يصنع المختلف فيها، لأنّ الهويّة هي أصلاً صناعة الاختلاف.

د. الحاج دواق: وهل هناك متتالية صلة بين الدين/التدين، والهويّات المغلقة، أو ما نعته أمين معلوف بالهويّات القاتلة؟

د. اليامين بن تومي: تحمل كلمة "دين" في طياتها حمولة الإرث أو الميراث، وهو جملة التعليم الموروثة كابراً عن كابر، أي أنها حالة الإدانة تتم من السابق إلى اللاحق، لكنّ المعضلة أنّ عوارض الزمان والمكان تحول دون استمرار الحلقة، حيث سيتمّ التصرف في الدين بحكم الزمان والمكان، هذه العوارض حين تنتقل بين الممارسين للدين الواحد سيطرأ عليها تغير وتبدل، وبالتالي فالدين هو التعاليم في حالة الثبات، بينما التدين هو التعاليم في حالة السيولة، حين تخرج من النص إلى العالم، وتتوزع على مستوى الجغرافيا سوف تتأثر ببنية المجتمعات ومنطوقها، ممّا يجعل الدين الواحد على مستوى الممارسة أشكالاً متنوعة تشكل ما نسميه التدين.

الدين الذي يرادف في منظورنا الشريعة التي تمّ اخترالها في النص المقدّس أو ما يُسمّى نصوص السيادة العليا؛ القرآن والسنّة، لكنّ هذين النصين سوف ينتقلان بحكم الانتشار في بيئات المسلمين وينخرطان على طول الجغرافيا بثقافات مختلفة، ممّا يجعل الفهوم تكيف الشريعة مع ما تقتضيه بنية المجتمعات، ما يجعل مستوى التطبيق مختلفاً بحسب الظروف والرهانات المختلفة، أي أنّ الدين الواحد على مستوى التدين يصبح متعدداً ومتنوعاً، لكنّ هذا التنوع في ذاته سيصبح داخل البيئة الواحدة متعالياً، ويشكل قوانينه ومريديه الذين يدافعون عنه ضد أي تحريف، وهو ليس تحريفاً في كل الدين، وإنما في شكل القانون الذي اتخذه التدين، أي أنّ الخلاف ليس مع النص، وإنما مع القالب أو الإطار العام الذي ارتضته الجماعة الأولى في تطبيقاتها، هذه الجماعة التي ستصنع قانوناً يحمي تدينها من أن يذوب في الأشكال المختلفة، وتصبح أشكالاً مختلفة من التدين، بل بإزاء بنى مغلقة/دوغمائية تعمل على حراسة الشكل الخارجي للتدين.

هذا الأمر يجعل أي اجتهاد داخل الفرقة أو الطائفة، أو لنقل بمفهوم السوسيولوجيين أي اجتهاد فردي داخل الجماعة سيعرّض الفرد للمصادرة والعقاب، لأنّ دائرة التقديس مسَّت الشكل العام للتدين ورموز التدين في ذاته كالشخص الديني الذي أصبحت له الحاكمية على هذا الشكل، وأي اجتهاد سوف يكلف صاحبه غالياً. هذه الدوائر المغلقة أو ما سمّاه أركون بالسياج الدوغمائي سيبني معه جماعات هووية مغلقة تدافع عن وجودها الدائري بشكل عنيف، وترفض أي تغيير في بنيتها القاعدية التي ارتبطت بالفعل المقدّس نتيجة الدور الذي لعبه التكرار للأشكال في الزمن، الذي كوَّن داخلياً قناعة من أنّ ذلك الفعل هو الدينامو المحرك لسلطة الزمن التأسيسي، كما يقول الأنثربولوجي الجزائري نور الدين طوالبي في كتابه: الدين والطقوس والمتغيرات.

د. الحاج دواق: ألا يمكن في تقديرك تحقيق شكل منفتح من الهويّة، يستدعي الأساس التاريخي ولا يتخطاه؟ وكيف ينعكس ذلك على النصوص المؤسسة، كما هو الشأن بالنسبة للقرآن عند المسلمين؟

د. اليامين بن تومي: علينا أن نفهم أنّ الإسلام كدين رسم رؤية للعالم القديم بشكل متفرد وعبقري، هذا الإسلام أخرج الأعرابي من دائرة مغلقة إلى دائرة أكثر انفتاحاً، وبالتالي شكلت النصوص الكبرى في جانبها اللغوي لحمة مهمة جمعت العرب بعد الشتات والتناحر الذي عاشوه، هذه اللحمة عززها السلطان الفقهي في كون القرشية التي كانت تجمع العرب هي الأساس السياسي الذي نقل العرب من كونهم قبائل إلى كونهم أمّة، بمعنى أنّ الدين الجديد نقل العرب من التشرذم إلى التجمع السياسي، وهنا بالذات بدأت نوازع الأمّة تتكون على أساسات دينية وعرقية ولغوية شكلت ما نسميه "هويّة قاعدية"، لكن داخل هذا الكيان هناك "هويّات ثانوية" نتيجة الطبقية الموجودة تاريخياً بين العرب أنفسهم، حول أسبقية قبيلة على أخرى، جعلت العصبية تشتغل في البداية لصالح الأمّة، لكنها سرعان ما اشتغلت لصالح القبيلة.

وليس أدلّ على ذلك من الصراع الذي حصل بعد مقتل عثمان بن عفان بين قبيلتي بني عبد مناف وبني عبد شمس، وتمّ حسم الصراع لبني عبد شمس، فكانت الإمارة الأمويّة، وبقيت الهاشمية تعيش على الحواشي، وهكذا كانت دائماً الغلبة للقبيلة على حساب الأمّة، وهو ما أشار إليه الغذامي في بحثه المهم عودة الأصوليات، في إشارة منه إلى القبيلة والقبائلية كنزعة تهدد كل مرّة قيام الأمّة / الدولة، لتبقى الدولة العربية تحمل مشروع إجهاضها من الداخل.

لكن بمجرد أن آل الحكم إلى عنصر جديد، أمكن للفقه أو الشريعة أن تراجع مخزونها التشريعي لتفتح السؤال السياسي على غير العربي، ممّا جعل مفهوم الأمّة يعود للانتعاش مرّة أخرى، هذا المفهوم الذي جعل جميع العناصر الهوويّة تنصهر في مشروع واحد هو الدولة الإسلامية، مع أنّ مفهوم الدولة ظل مأزوماً من الداخل في ظلّ غياب عقد اجتماعي يعمل على ردم الفجوة بين العربي وغير العربي.

هذا العنصر الهووي هو ذاته كان عامل قوة في البداية، وهو نفسه الذي أطاح بالخلافة فيما بعد، للصراع التقليدي بين الهويّة القاعدية التي ترى الخلافة في العنصر العربي والهوويّات الثانوية التي نجحت في فتح المجال واسعاً لنقاش مسألة الهويّة في ذاته، لينفتح على عناصر غير عربية، هذا المفهوم الذي دافع عنه الكندي في كتابه المهم الموسوم برسائل الكندي الفلسفية الذي حققه محمد الهادي أبو ريده، حين أشار إلى أنّ الهويّة جاءت من المصدر "تهوّي"، وهو يقصد إلى ما معناه "تهوّي كل كثير هو بالوحدة"، أي إذا أردنا أن نفتح ممكنات القول كيف يمكن أن يكون المتكثر واحداً، المتكثر هناك، وإن اختلف في الصفات لكن في الوحدة واحد، أي أنّ الأمّة وإن تعددت مشاربها إلا أنها واحدة في الوجود الإسلامي، لكنّ هذا الوجود يحمل داخله طابع التَكثُّر، وهي سمة وإن كانت في الأصل عامل قوة ستجعل الهويّة تتسع على غيرها، لأنّ هناك داخلها عنصراً سيدمّر كلّ ادعاءات التوسعة.

لأنّ قيام الهوويّات في الفضاء الإسلامي لم يكن بداعي التآلف بقدر ما كان بداعي الغلبة أو المزاحمة. وهذا ما يكشف عنه تاريخ طويل من السجال والصراع، بل إنّ كل هويّة مغلوبة عملت على بناء نموذجيتها الداخلية للإسلام، حيث رسمت لها فقهاً سياسياً جعلته مناطاً بوجودها داخل الجغرافيا الإسلامية. بمعنى أنها هويّة متّسمة بطبع الوقف، لذلك ليس سهلاً أبداً أن يتمّ الآن مراجعة هذا الفقه وزحزحته، لأنه سيؤدي إلى نتائج وخيمة، لأنّ هذا الفقه السياسي الذي ارتبط بالعصب والفرق أصبح له مريدون وأتباع، وهم يمارسون هذا النوع من الفهم بشيء من التقديس العميق.

لذلك تشترك جميع هذه الفرق في الأساس والسند المرجعي الذي هو نصوص السيادة العليا القرآن والسنّة، لكنّ التوظيف اختلف بحسب الحوادث التاريخية الكبرى لتلك الفرق والنحل والملل، وهنا لا تحصل الاستعادة لكتاب الله ولا لسنّة الرسول إلا من قبيل استدعاء الشحنات العاطفية التي تعضد هذا المذهب أو ذاك. وأمثلتنا في الواقع كثيرة، فالهويّة بهذا المفهوم هي الشكل الدوغمائي للمسار النضالي أو الكفاحي لتلك الفرق، وهو صورة الفرقة عن نفسها في التاريخ، وصورة الدين لا تكون إلا من خلال تلك المواقف البطولة والملحمية. هاهنا البعد النضالي يبني في الغالب كتلاً بشرية تستعصم لنفسها بتلك الهويّة التي يرون أنها غالباً مهددة، لذلك يحتاج المعتصم بهويته إلى بعد نضالي وكفاحي ضد أيّ هويّة جديدة يمكنها أن تعصف بوجوده الهووي، ممّا يجعلنا نقرر وجود صراعات هوويّة عميقة.


[1]- تم نشره في ملف بحثي بعنوان "الدين والهوية بين ضيق الانتماء وسعة الابداع"، تنسيق الحاج دواق، بتاريخ 13 ماي 2016