في مفهوم الرؤية الكونية وضرورة مفهمة المعرفة المؤهلة نظريًّا


فئة :  مقالات

في مفهوم الرؤية الكونية وضرورة مفهمة المعرفة المؤهلة نظريًّا

مصطلح "رؤية كونية أو رؤية العالم مصطلح بدأ في الفلسفة الألمانية weltanschauung ليدل على مفهوم أساسي مستخدم في هذه الفلسفة والإبستمولوجيا، ويشير إلى طريقة الإحساس وفهم العالم بأكمله، بالتالي يمثل الإطار الذي يقوم من خلاله كل فرد برؤية، تفسر العالم المحيط والتفاعل معه ومع مكوناته..." الأساس الأول الذي تنطلق منه الصلات الوجودية المعطاة أمام الإنسان، إحساسه بالظواهر المحيطة به، وانخراطه في التعاطي الطبيعي معها، لكن كما هو معروف الوعي البشري، يستخدم الحواس أكثر مما تفرض هي نمطها عليه، وإلا فبعض الفلسفات التجريبية منطلقها وأصلها المعرفي المولد، هو الواقع الذي يترجم بالحواس، والمعرفة مهما تعمقت مصدرها طبيعي مادي، في حين أنّ المدرسة التوحيدية تميز بين الإحساس بالكون ومعرفته.

ذلك أنّه "ينبغي ألا يختلط علينا الأمر في تعبير الرؤية الكونية، فنحملها على معنى الإحساس بالكون، وذلك بسبب استعمال كلمة الرؤية المأخوذة من النظر الذي هو جزء من الإحساس. وإنّما معنى الرؤية الكونية هو معرفة الكون، وبهذا المعنى فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة المعرفة. والمعرفة من مختصات الإنسان، والإحساس ليس كذلك، لأنّه من المشتركات بين الإنسان وسائر الأحياء، لهذا كانت معرفة الكون من مختصات الإنسان، ومن المواضيع التي تتعلق بقوة العقل والتفكير".([1])

التمييز المسوق مهم للغاية، وله حضوره في التنظير اللاحق لطبيعة المعرفة المقصودة، وهل هي مجرد معرفة طبيعية تتمحور حول الظواهر المعطاة مباشرة، أم أنّها تتعدى ذلك إلى دوائر ومرتبات وجودية لا تحيط بها الحواس، ولذا ليست حكمًا عليها، ولا تنصب معيارًا ضبطيًّا لها؟ وهنا نؤكد على جوهر الرؤية باعتبارها معرفة للكون، بل للوجود المفتوح، ولأنّها معرفة، يدل الحال على اعتمادها لطرائق متعددة تستدمج طاقات التعرف عند البشر، وتستدعي كل المدونات والأساليب لتوظفها، وإن قالت الحسية ونزعتها خلافه. وهنا نقر أنّها ليست انطباعًا عابرًا، بمقدار ما هي تعمق يستغور أعماق الظواهر، ويتجاوز سطحيتها، بغير رفض لها. "ولكن المتيقن أنّ الإحساس بشيء غير معرفة ذلك الشيء، فالمعرض الواحد يراه الجميع بشكل واحد، ولكن أفرادًا معدودين فقط هم الذين يستطيعون تفسيره، وفي بعض الأحيان يقدمون تفسيرات مختلفة له"([2])

ويمتد التحليل في بسط المعنى بالإلماح إلى افتراق آخر يميز الإحساس عن التعقل والإدراك، أنّ الجميع يرى المشهوادت مرصوفة على صفحة الكون كما هي، فهذه شجرة وذاك حجر وذاك جبل، لكن ما معناها؟ لا يطيق إلا قلة أن يستفسروا ويتساءلوا، لطبيعة الحساسية الشخصية التي يتمتعون بها، فيندهشون، ويستشكلون ويجيبون فتكون المعرفة، ثم تتركب فتتولد الرؤية.

ويزداد المعنى جلاء، بالحفر عن المعنى الماثل مباشرة في ثنايا الاصطلاح الألماني، حيث إنّ welt هو العالم. أما anschauung، فهو الفكرة أو النظرة أو الرأي، ويكون المعنى حال تركبه، الفكرة عن العالم، أو الرأي حوله، أو النظرة وهكذا... وقد درج تاريخ الأفكار على أن الفكرة تتشكل بعد عمليات معقدة، وبعد تركبها تستحيل إلى رأي حول جميع مكونات العالم.

يقول ألبرت شفيتسر حول الرؤية الكونية، وهو من الفلاسفة الأخلاقيين الحضاريين الكبار في الثقافة الألمانية، إنّه من "الواجبات الملقاة على عاتق الروح هو إيجاد نظرة إلى العالم. ففيها جذور كل الأفكار والمعتقدات وألوان النشاط المتصلة بالعصر، ولا نستطيع الوصول إلى الأفكار والمعتقدات التي هي أسس الحضارة عامة، إلا بالحصول على نظرة للعالم تتفق مع الحضارة... حيث إنّها مضمون أفكار المجتمع والأفراد الذين يؤلفونه، أفكارهم عن الطبيعة وعن موضوع العالم الذي يعيشون فيه، وعن مكانة الإنسانية والأفراد ومصيرها..."([3]) في التعريف تدقيق مهم، أولا عندما أكد على مجتمع يؤلفه أفراد، وهؤلاء تدفعهم بواعث باطنية لفعل ذلك، والأخيرة ليست سوى معتقدات وأفكار، تتراوح بين الوجدان والعقل، وتأخذ بأزمة الذات نحو الفعل والأداء، وإذا خلا الفعل من باعثه سرعان ما يتخلى عنه صاحبه، لافتقاده لجدواه، وكذا المجتمعات المتراجعة حضاريًّا لا تحرك ساكنًا، إزاء الطبيعة والكون والتاريخ، وعلة الوضع المقرر العطالة التامة عن الفاعلية، وسببها افتقاد الباعث، المفتقد إلى الفكرة، وفي تقديري غير المتأسس على مرجعية علوية متجاوزة...

وهنا نجد أنّ "أفعال الناس وأفكارهم تميل إلى أن يحكمها – أو يؤثر فيها على الأقل- مجموعة من الأفكار العامة عن طبيعة العالم ومكان الإنسان فيه. ويمكن أن نطلق على الأفكار العامة من هذا القبيل اسم صورة العالم، أو وجهة نظر الإنسان عن العالم، وتكون صورة العالم هذه عند العلماء والباحثين والفلاسفة متناسقة إلى حد ما، وإن كانت تعمل عند الغالبية العظمى من الناس بطريقة خفية بوصفها الخلفية المعتمة لأذهانهم.."([4]) على الرغم من أنّ الوارد في التعريف يطرح فكرة الرؤية بنوع من الاختيار التام، لكن يتحقق ذلك بدء تشكلها، إذ مع التطور وتعقد الظواهر وتشابكها، يصعب التمييز بين العمق الفكري التصوري والمفهومي حول الحياة، ومنشئها وصيرورتها ونهايتها، وما بعدها إذا سلم بوجوده أصل الاعتقاد وبادئه.. وبين البنى العامة الظاهرة في شكل أنظمة قانونية وفقهية وتدبيرية، تولى تنظيمها وتسييرها، حتى يذهل في كثير من الأحيان عن النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعن الخلفية الرؤيوية القابعة في ثنايا مبانيها ومشكلاتها...

"إنّ أي أسلوب وأية فلسفة في الحياة لا بد أن يكونا مبنيين –شئنا ذلك أم أبينا- على لون خاص من الاعتقاد والنظر والتقييم للوجود، وعلى لون معين من التفسير والتحليل. ويوجد لكل مبدأ انطباع محدد وطراز للتفكير معين في الكون والوجود، ويعتبر هذا أساسًا وخلفية فكرية لذلك المبدأ، ويصطلح عادة على هذا الأساس وتلك الخلفية باسم الرؤية الكونية"([5]) المتتبع للدراسات التي بحثت في الرؤية الكونية يلفيها متضاربة مترددة، فهي تتحدث عنها باعتبارها خلفية، وأخرى أفقًا، وتالية إطارًا محيطًا بالوعي عمومًا، وبالتجربة التاريخية والحضارية العامة لمجتمع ما، وسبب التخبط عدم استبانة طبيعة الوظيفة الإبستمولوجية والثقافية للرؤية، حيث إنّها تشكل مرة خلفية، ثم إطارًا وأخيرًا أفقًا.

والوعي البشري مهما تسطح؛ تقبع خلفه جملة تصورات تبني له العالم وتؤثثه، وتعمد إلى تنضيده بطرائق خاصة نابعة من تلك الاعتقادات، فتمنحه مسالك تعقل ومناهج تفكير، ثم تكسبه طاقة تقييم وحكم على الظواهر، بعد استيفاء مراحل الفهم بالتفسير والتحليل والمقايسة والاستنتاج. إذن، كل ثقافة تنشئها خلفية فلسفية وعلمية، بدورها تكونها خلفية أغور وأعمق، وأكثر تعاليًا، وهي الرؤية الوجودية، وما يهمني في سالف التوصيف مصطلح الوجودي، باعتبار تجاوزه للكوني واحتوائه لنطاقات كينونة أفسح وأوسع... وإذن لا تفكير من غير خلفية، ولا معرفة تنتج ولا علم يتولد من غير تفكير منطبع بطرز خاصة وطرائق تعقل للعالم، منبثقة عن مرجعيات متباينة، كامنة أو معلنة. لذا ليس هناك علم محايد وآخر متبنٍّ لوجهات نظر وجودية خاصة، فالكل متحيز.

"إنّ الأهمية الكبرى للموضوع تنبع من أنّ كل شخص يعمل على ضوء رؤيته للكون، أي الصورة المنعكسة في أذهاننا على الوجود، لها تأثير مباشر في عملنا، في عقيدتنا، سلوكنا الاجتماعي، حياتنا الفردية والاجتماعية، أي أنّ كل شخص يعيش وفق رؤيته للكون. إذا فدراسة الرؤى الكونية... هي دراسة لكيفية بناء وجبلة تلك الجماعة وذلك الشعب وصفات كل منها.."([6]) الصلة بين المعنى السالف ودلالة الرؤية مفهوميًّا، كون مادة الرؤية مفتوحة لدرجة تستوعب كل معطى وجودي، ثم تفعل في الأفراد توجيهًا وتسديدًا، من أعمق ضمائرهم، ففكرهم، ثم سلوكياتهم وصلاتهم بالعالم الاجتماعي، فالطبيعي، فيمتلكون حيوية الفعل، إفصاحًا عن تشكل بينوي تستحيل إلى جبلة أنطولوجية يسلك الجميع وفقها في كافة نشاطاتهم. وأهمية الرؤية بوصفها معرفة كامنة في ثنايا الخلقة أنّها تسمح بمعرفة الذات، حيث "أنّ من عرف نفسه أن يسوسها ومن أحسن أن يسوس نفسه أحسن أن يسوس العالم..."([7]).

التمثل المعرفي لمعنى الرؤية، يفيد في تقوية ملكات الإنسان ومقدراته على التوظيف الأمثل لملكاته وطاقاته، في التعاطي مع الكون والتجاوب مع مكوناته، وإلا إذا خلت الحضارة من الرؤية فقدت أفقها، وتراخى أفرادها، لذا جاء من معانيها أنّها أفق أيديولوجي لجماعة تاريخية معينة، تستحثها وتدفعها إلى الفعل، وليست تعمية ولا تغطية للحقيقة عن الحضور والفاعلية، "ليست الأدلوجة بالنسبة للفرد قناعًا بقدر ما هي أفقه الذهني. يجد الفرد فيها كل العناصر التي يركب منها أفكاره في صور متنوعة. يوظف منها لأغراضه القليل أو الكثير، لكنه لا يستطيع القفز فوق حدودها. هي مرتعه الذهني والمنظار الذي يرى به ذاته ومجتمعه والكون. الأدلوجة قناع لمصالح فئوية إذا نظرنا إليها في إطار مجتمع آني، وهي نظرة إلى العالم والكون إذا نظرنا إليها في إطار التسلسل التاريخي"([8]) لا يملك الوعي إزاء الرؤية إلاّ أن يتمثلها ويحولها إلى نواظم منهجية ومقولات فكرية، ثم يعمد إلى تعميمها تربويًّا وتثقيفيًّا، ليتسنى لكل فرد في الجماعة التاريخية الرجوع إليها باستمرار لاستحضار الموقف والتصرف الصحيح إزاء النوازل والظروف المستجدة، لذا فهي تشبه بالنسبة إلى النظر العام المرتع الذي يجوبه، ليأخذ منه زاده، وبدوره يحوله إلى أفق استعمالي آخر، يلهم الجماعة ويراكم في وعيها الوجودي، وهنا تتعمق الرؤية وتتجلى في معارف متجددة بحسب الحاجة حضاريًّا. وأستغرب من صاحب التعريف أن يجعل الفئة الواحدة في فترة ما تقتات على معانٍ مصلحية تدفعها إلى استجلاب أغراضها، بنوع من التحايل على الرؤية وتخطّي حضورها، أما بالنسبة إلى التسلسل التاريخي فهي كونية وعامة، ويحق للبحث أن يلمح إلى مفارقة، مفادها: أليس التسلسل عمليات متكررة تؤديها فئات عدة في ظروف متتابعة؟ فكيف يختلف المعنى الأول عن الثاني. طبعًا الروح الماركسية تقبع خلف الصياغة النظرية السالفة، وكذا تقييمها النظري لمقولة الرؤية والايديولوجيا.

والذي يهمنا معرفيًّا من المساقات الواردة أعلاه والتي نأتي بها فيما بعد، أنّها توظف تسميات مختلفة لمفهوم واحد، بغير تكلس في المعنى ولا تثبت في الاستعمال، فهي "..صورة أولى، أسلوب عام، نموذج فكري، قيمة محورية، محيط المفاهيم، منطق الخطاب، أفق الذهن، أرضية إبستمولوجية، أدلوجة عامة...تعني هذه العبارات المختلفة فرضية واحدة: وجود بؤرة ذهنية ننيط بها الإنجازات الذهنية الفردية لنكسبها داخلية ولنتفهمها بدون تعليل ولا حكم"([9]) يتضح المعنى إذا أخذنا في الاعتبار أنّه ليس توحدًا مطلقًا في التعبير عن النظري عن الرؤية الكونية، وإنّما هي تنوعات وظيفية تتقلب فيها الرؤية بين استعمال وآخر، إذ نجدها صورة أولى إذا تم البدء منها في أي ممارسة نظرية أو تاريخية، تبغي الفهم لظواهر جديدة، فهي بمثابة مرجعية، ونمط متكرر عند الأفراد جميعًا حالما يفسرون المعطيات المختلفة بوحي منها، فيكتشف المتأمل الدارج بينهم كطريقة واحدة، ما يعمقها بنية تصورية تستمد من وقائع وأحوال كثيرة، يستبعد أو يستبقى بعضها، باعتبار دلالتها هنا، وعدم جدواها هناك، وتتقوى بإضافات دائمة، رغم انشداد المضاف إلى البؤرة المركزية الجاذبة، وتتقوم سلمًا معياريًّا تحاكم إليه الممارسات جميعًا، وتتعالى إلى درجة لا يقع فوقها، إلاّ المتعالي بالطبع، وأعني به الوحي في المنظومات الإلهية، أما في الدوائر الثقافية العلمانية، فكل شيء في التاريخ، وإذن لا يتجاوزها شيء...ولا يملك الوعي إلاّ أن يخوضها في شكل متراوح بين طبقاتها يستلهم مكوناتها ليبني وينضد ويؤسس، لجميع المعارف، سواء المتداولة فعلاً، أو المأمولة تنظيرًا وتوقعًا، وهكذا فهي أرض إبستمولوجية تقف عليها الأنظار والفهوم، لتنبت في أجوائها، وتتلقى إمداداتها، وتعكس المخبوء من عناصرها، تفطنًا في أحيان وغفلة في أخرى.. وتاليًا نلاحظ تنوع أداءاتها، فهي مرة أرض، وأخرى سقف، ولا تناقض، بحسب الوظيفة يرتفع الاستشكال...

ومن اللازم في تقديري أن ننبه على مأساوية الاتكال على المعنى البنيوي في التشكل الإنشائي للرؤية، وتحركها المساربي، لأنّ مجتمعًا في حال تشتت وتمزق حضاري، تعوزه عمليات توجيه ثقافي وتربوي مكينة، تعلم وتكرر في التعليم، وتعلن عن متبنياتها تباعًا، لتستطيع في الأخير رأب صدع النظر، ورتق فتق الوعي المتشظي، وإلا فالمقارنة بالمجتمعات ذات الباع التاريخي الطويل والمتراكم، خطأ سافر، على الرغم من أنّ التخطئة منهجيًّا ليست ذات وزن إبستمولوجي، ومع ذلك يندفع البحث إلى إقرارها لخطورة الأمر مآليًّا، وهذا ما يكشف عنه المنهج المعرفي التوحيدي، حال توظيفه للقاعدة الثانية، المقيمة للتجارب من خلال ما تتحرك إليه مآليًّا.

إذن أن تكون الرؤية معرفة، فهي صورة منطبعة في وعي الإنسان، بمستوياته الحسية، والعقلية، والوجدانية، والعرفانية، صورة عن الوجود، وعن الذات، ومنشئهما وتطورهما، وبوصفهما الحقيقة الماثلة والمعطاة، إضافة إلى السعي خلف الأصل الأنطولوجي الموجد لهما، وتتشابك الانطباعات وتتعقد، وتتحول إلى معرفة مفسرة، وإلى علم بحقول متعددة، لكن بمسبقات تشكل متماثلة ومتقاربة، ما يمنح للتكامل والكلية والنسقية، اعتبارها النظري ثم المنهجي، ويقضي على الفصام المتوارث من بعض الدوائر الثقافية، اللاهوتية والعلمانية على حد سواء.

"...إنّ رؤية العالم أو الرؤية الكونية... ليست مجرد قضية نظرية ترتبط بعلم الكلام "الثيولوجيا" وإنّما تعبر عن ثلاثة مستويات مترابطة ومتكاملة. رؤية العالم أولاً، تصور ذهني للعوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية، فكأنّها مجموعة من الصور الثابتة والمتحركة، يراها الإنسان، فتلفت انتباهه وتدعوه إلى التفكر والتأمل، بقصد الفهم والإدراك. ورؤية العالم ثانيًا، موقف من العالم أو حالة نفسية عند الإنسان تستدعي إقامة علاقة بهذه العوالم، علاقة تمكين وتسخير، وسلام وانسجام، وإجلال وتهيب، ورغبة ورهبة. ورؤية العالم ثالثًا، خطة لتغيير العالم؛ أي مجموعة من الأهداف التي يسعى الإنسان من خلال تحقيقها إلى جعل العالم أكثر انسجامًا وتوازنًا، وليصبح.. أكثر تمكنًا من توظيف أشياء العالم وأحداثة وعلاقاته وتسخيرها لبناء حياة أفضل"([10]) يتسم التعريف السابق، بميزات معرفية تأسيسية، وأخرى منهجية توالدية تبرز الطابع المتلازم نسقيًّا لروح الرؤية وعمقها الوظيفي، حيث غالبًا ما نجد توصيفها مشدودًا إلى عملية تحليل تجزيئي، وإلاّ فهي عملية مركبة في ذاتها كبنية تصورية تتعالى على التلبسات المباشرة الآنية، حيث تفقد مقدرتها على التشكل النسقي، باعتبار ضرورات التجسد. أما حال تعاليها، فهي في درجة، وعندما تتنزل في صور تاريخية، هي تستحيل إلى مرتبة وظيفية غير الأولى، وكذلك بالنسبة إلى الثالثة.

يميل البحث إلى أنّ موضوع الرؤية لو بحثنا لها –كما سيرد في أطروحات التصنيف والتقسيم للمعرفة- عن موطئ وضع لوجدناها في ثنايا المعرفة العقائدية والتأسيس المللي للحياة، من جهة الإنشاء والتدبير والضبط، وهنا نتذكر التراتبية العلمية الواردة في تراثنا، أين نجد علم الكلام رئيسًا للمعارف التوحيدية جميعًا، أين تتم العقلنة وإعادة الصياغة وفق المنظور الرؤيوي التوحيدي، ثم يأتي علم أصول الفقه بوصفه آلية منهجية للاستمداد المعرفي، بعد وضعها السابق وليس قبله، ثم يأتي الفقه باعتباره عملية متابعة لتفاصيل الحياة من ناحية التسديد والضبط التوافقي في غالب الأوضاع، وبتدخل القوى السلطانية القاهرة في أخرى. والتدرج في مستويات المعنى، تصاعد في تعقد تركيبة الرؤية وتشكيلها بنيةً إبستمولوجية متجاوزة، وتنزل في الأداء والوظيفة، بالنسبة إلى الوعي والتاريخ، أو قل الوجود كما تم نسجه عبر عمليات تاريخية طويلة، تداخلت فيها المعطيات العلوية المتجاوزة، والتاريخية المحايثة، فظهرت في تصور ذهني، لكن أي ذهن؟ إنّه العقل الكلي أو المخيال المشترك لجماعة تاريخية معينة، عندما تتآلف عناصره كلها، بوصفها نظم تعقل عامة، تتمحور حول ما أنعته بالنظام الوجودي، المتراتب وفق قضاياه الأساسية، وأعني بها ما أسميه بالمقاصد الوجودية، فتترجم في شكل معرفة، لكن المعرفة بالطرح الشامل كما يأتي بيانه في قابل الصفحات، وتنصب معايير مقايسة وضبط وتقييم وحكم، أي النظام المعياري المفصح عن النظام الوجودي، والممتد به إلى أطر الانتظام الاجتماعي بكافة مستوياته وحقوله ودوائره... "وهكذا يمكن القول: إنّ "المعرفة" في طريقة التفكير الإسلامي قد حددتها وقررت معالمها ثوابت الوجود، والوجود القائم على فكرة الألوهية كمركز لها. وتلك النظرية المعرفية تعد قاعدة للوحدة التي تضم جماع الدراسات عن النظرية الإسلامية، بل إنّ المدارس الفقهية والفلسفية المتباينة تقف في مبدأ التسامي الوجودي وفي تقييم المعرفة الإسلامية انطلاقًا من هذا المبدأ الأصولي"([11]).

وهنا تقوم إمكانية ملحة نظريًّا، على إدراج الرؤية المعرفية، ضمن الإطار الوجودي للتصور التوحيدي، حينما يتأسس اهتمامه المعرفي والمنهجي على قيم وجودية يقع في أعلاها الله سبحانه، ضمانةً مركزيةً في تلاحم الظواهر وإمكانية بناء الحقيقة المنسجمة المتوازنة، دون أن يلغي التسامي المشار إليه حضور الأشياء وبروزها انطولوجيًّا، حيث بمعية الفكرة العلة، تشكلان دفات الوجود، المستحيل إلى معرفة ناقلة للحقيقة كشفًا بداية، ثم إنشاء تاليًا، وكل شاردة وواردة يحتويها المنهج، إلى تركيبته، ويوظفها في تفسير الظواهر والتعمق فيها معرفيًّا، وللأسف غالب الوعي البشري يفتقر هذه الخصيصة، ويرتمي في أحضان التبعيض والإلغاء والإسقاط؛ في أحيان ذهولاً وفي أخرى اختيارًا.

وشدني في التعريف السابق أيضًا، تركيزه على التجاوب النفسي للإنسان مع مسبقات التفكير عنده، أي المقولات المركزية في وعيه، والتعاطي وجدانيًا معها، فينتج بالتبع الموقف، ويا ليت دراساتنا التوحيدية تتجه نحو مقولة الموقف وشقه الملازم الانتباه، لاستصدار الطابع الحضوري الملتزم مبدئيًّا أمام الله سبحانه، بتفعيل مذخورات الخلق، لينتفع بها الناس إفصاحًا عن الحق الحاكم له، وإلا فالذهول والكَلِّيَّةُ من أبشع معوقات الرؤية ومحطماتها. فالموقف وعي أمام وضع، والانتباه عدم اغتراب فيه واستلاب منه، فينفلت الفعل من كفي الكماشة النفسية، المفضية إلى التقاعس، خلاف ما قصده المفكر حسن فتحي ملكاوي، إذ ألمح إلى التجاوب النفسي، وليت شعري محور القرآن الخفي؛ النفس في رضاها وتعالجاتها، وما التاريخ والحياة سوى ترجمة لبنيتها العميقة، وكذا نجاح الرؤية يحتاج إلى تفعيل القناعة داخل النفس، وإلا فالفشل التام.

وقد يقال إنّ في التعريف تفصيلاً انطباعيًّا، فجاء التخريج الثالث ليندفع بالعطاء إلى مرحلة الخطة، وكأنّي بالمنظر يقصد، أنّ الوجود ككل خطة عامة كلية مطلقة، والبشرية تمتح منها، لكن إن ركنت للتأييد توافقت، وإن جانبت تناجزت، ولا يكون في النهاية إلا التسديد المتجاوز. فعمليات نظم النظر باتجاه المستقبل من منطلق الحاضر بوصفه ترسبًا للماضي، يعين الوعي والتاريخ معًا، على تمثل القيم المعرفية العليا، وتحويلها عبر ترجمات تربوية وتثقيفية، إلى حراك تاريخي، ينتج صيرورة الخلق في الكشف عن الحق، فتتولد نظم حياتية متوازنة، مآلها أن تقول جوابًا عن سؤال ألستُ؟: بلى.

وأضيف تعريفًا آخر للرؤية فلسفيًّا، بأسلوب المدرسة الحضارية تقريبًا، عندما نقر أنّ "..النشاط البشري لا يمكنه أن يحدد بمعزل عن الطرائق التي تشرط إنجازه العملي، ولا بمعزل عن بواعثه المعللة... لذا فهو يتضمن بالضرورة محتوى فكريًّا يتلخص فيه كل التقدم الفني والاجتماعي، والأخلاقي لمجتمع ما...إلاّ أنّ نشاط المجتمع المشترك لا يتكون في بساطة من مجرد مجموع النشاطات الفردية، حتى ولو كانت هذه الأخيرة من نفس الجنس، وحتى ولو كانت متحدة بها في نفس الاتجاه؛ إذ يجب أيضا أن يتم تنظيمها في كنف النشاط الإجمالي حسب مخطط تنظيمي.. يتولى تحديد فعالية هذا النشاط..."([12]) يتأكد فحوى التقريرات أعلاه، بالمضي إلى بيان الرؤية في مقام تفعيل الأداء، بعيدًا عن العناية بالجانب الفكري على الرغم من أهميته، وباختصار فالعمل المنظم الذي يصب في اتجاه الحضارة وينتج التاريخ، هو ترجمة لعمليات تنظيم وترتيب، ناتجة عن التفكير والتأمل في أوضاع الواقع، على ضوء المأمول، افتراضًا، لذا كانت الرؤية محتوى نظريًّا مفهوميًّا يختصر كل آفاق الفهم، وتجسيداته العملية، في صورة ذهنية مركبة تتخيل الواقع ماديًّا وتقنيًّا، وأيضا تصور جوانبه الأخلاقية وأبعاده المعنوية. فكفاءة الرؤية ليست فحسب في تنظيراتها المجردة وإنّما في حفزها لتشابك الفعل ليتقدم إلى ممكنات التاريخ. الذي هو "..في أي مستوى من الحضارة يتم إنجازه، إنّما يمثل النشاط المشترك للأشياء، والأشخاص، والأفكار المتاحة في ذلك الحين بالذات، أي في نفس الأوان الذي يواكب عملية إنجازه"([13]) وتفاديًا للوقوع في التناقض نظريًّا، يعنينا من المعنى المساق كون التاريخ اشتراك أفكار يحملها أشخاص فعلوا في أشياء، وحتى لو كان الوعي بالفعل في ممارسته آنًا، فالأفضل أن تفعل بوعي آنًا، خير من أن تتحرك في الواقع معميًا عن بواعث التحرك ومقاصده ومؤطراته.


[1] مرتضى مطهري: الرؤية الكونية التوحيدية، مركز الإعلام الإسلامي، قم، إيران، دت، ص 09

[2] المرجع نفسه، ص 10

[3] ألبرت شفيتسر: فلسفة الحضارة، ت عبد الرحمن بدوي، دار الأندلس، بيروت، 1997، ص 67

[4] ولتر ستيس: الدين والعقل الحديث، ت إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط01، 1998، ص 23

[5] مرتضى مطهري: الرؤية الكونية التوحيدية، ص 08

[6] علي شريعتي: الإنسان والإسلام، ت عباس الترجمان، دار الأمير، بيروت، ط02، 2007، ص 38

[7] الراغب الأصفهاني: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، مكتبة الحياة، بيروت، 1983، ص 18

[8] عبد الله العروي: مفهوم الايديولوجيا، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 07، 2003، ص 53

[9] المرجع السابق، ص 74

[10] فتحي حسن ملكاوي: رؤية العالم عند الإسلاميين، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 45، السنة 11، 2006، ص ص 05-06

[11] أحمد داوود أغلو: الفلسفة السياسية، ت إبراهيم البيومي غانم، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط 01، 2006، ص 19

[12] مالك بن نبي: القضايا الكبرى، مشكلة المفهومية، دار الفكر، الجزائر، ط01، 1991، ص ص 99-100

[13] المصدر السابق، ص 98