حوار مع عيد صلاح: التفاعل بين التراثين العربيّين المسيحيّ والإسلاميّ


فئة :  حوارات

حوار مع عيد صلاح: التفاعل بين التراثين العربيّين المسيحيّ والإسلاميّ

يوسف هريمة: قبل البدء في حوارنا لا بأس من أنْ تتقدّموا بورقة تعريفيّة بشخصكم الكريم لكلّ روّاد مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، والمتابعين لهذا الفضاء المعرفيّ. وبصفتكم راعي الكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، هل هذه الكنيسة امتداد طبيعيّ للكنيسة البروتستانتيّة كما عرفتها أوروبا مع مارثن لوثر وجون كالفن؟ أم هناك تمايزات بفعل الخصوصية العربيّة؟

ـ القسّ عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، حاصل على بكالوريوس العلوم اللاهوتيّة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة بالقاهرة 1994م، ليسانس الحقوق جامعة القاهرة، فرع بني سويف 2001م، دبلوم الدراسات المسكونيّة معهد بوسي - جامعة جنيف، سويسرا 2002م، حصل على دراسات المدرسة الصيفيّة الدولية في الدين والحياة العامة، يوليو 2012م جامعة بوسطن، بجامعة جاديجا مادي جيوكارتا- إندونيسيا. يدرس الآن ماجستير القانون، كليّة الحقوق، جامعة بني سويف، مصر.

ـ أشغل الآن رئيس مجلس الشؤون القضائيّة والدستوريّة والقانونيّة - سنودس النيل الإنجيليّ الكنيسة الإنجيليّة المشيخية بمصر، وعضو المجلس الإنجيلي العام بمصر، الرئاسة العليا للطائفة الإنجيليّة بمصر، وعضو لجنة التحرير والنشر بدار الفكر الإنجيليّ، مجلس الإعلام والنشر، سنودس النيل الإنجيليّ. ومدير تحرير مجلة "النسور" التي تصدر عن الهيئة القبطيّة الإنجيليّة بمصر.

متزوج، ولي ابنتان: الكبرى (سلمى) الصف الأول الابتدائي، والصغرى (لميس) حضانة كبرى.

أخدم الآن كراعي (قسيس) للكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، وهي كنيسة تابعة لمجمع المنيا الإنجيلي التابع لسنودس (كلمة يونانيّة معناها "معاً على الطريق") النيل الإنجيليّ، وهو الرئاسة العليا للكنيسة الإنجيليّة بمصر، ويضمّ أكثر من 500 كنيسة إنجيليّة تتبنى قضايا الإصلاح الدينيّ والتنوير الفكريّ، وهي وليدة حركة الإصلاح الدينيّ الذي ظهر في تاريخ الكنيسة منذ القرن السادس عشر الميلاديّ ليعود بالكنيسة إلى فكر الإنجيل والاعتماد على الكتاب المقدّس، ويحرّرها من التقاليد التي دخلت عليها في العصور السابقة. تتبنى الكنيسة الإنجيليّة بمصر الحرية في التفكير والارتباط بالكتاب المقدّس، والممارسة الديمقراطيّة في اختيار القيادات ومجلس الإدارة في الكنائس المحلية مع كافة الاختيارات في المجامع والسنودس. وهي مع الكنائس الأخرى تمثل تنوعاً متميزاً في الفكر والحضور المسيحيّ المشرقيّ في قلب العالم العربيّ. وقد ساهمت الكنيسة الإنجيليّة في نهضة الشرق عن طريق التعليم بإنشاء المدارس التي ساهمت في تقدّم العمليّة التعليميّة في الشرق. كما ساهمت في تعريب العبادة وتطور التفكير اللاهوتيّ في الشرق. تبنّت الكنيسة قضايا الشرق وخصوصيته والانفتاح على فكر الغرب، وأصبحت جسراً للتواصل بين الغرب والشرق.

الكتابات والدراسات

1-  من العبوديّة للقصر: أستير بين التاريخيّة والمعاصرة، القاهرة: دار الثقافة، 2009م.

2-  أعدّ كتاب رسامة المرأة قساً بين النص والواقع، القاهرة: دار الثقافة، 2014م.

3-  في سبيل نظرية عربيّة مسيحيّة بطرس السدمنتي نموذجاً، القاهرة: دار الفكر الإنجيليّ، 2014م.

4-  كهنوت جميع المؤمنين قراءة مصريّة سوسيولاهوتيّة، سلسلة الأغصان (11)، القاهرة: دار الفكر الإنجيليّ 2006م.

5-   العقل المفكّر والقلب المشتعل، مقال في كتاب "الدنيا والدين" لأحمد عبد المعطي حجازي، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة، الهيئة العامة للكتاب، 2002م، (صفحات 107-113).

6-   حقَّق وقدَّم لمخطوط: "مسائل وأجوبة عقليَّة وإلهيَّة"، سيناء عربيّ 434 ((f.171r- 181v (القرن التاسع الميلاديّ) لمؤلف ملكيّ غير معروف، معدّ للنشر.

7-   حقَّقَ وقدَّمَ لمخطوط: "رسالة أسطاث الراهب اللاهوتيَّة" Allepo Sbath 1130 "قضايا الكريستولوجيّا العربيّة في القرن العاشر الميلاديّ" (العراق)، معد للنشر.

8-      Eid Salah “Masa’il wa-ajwiba ‘aqliyya wa-ilahiyya” (661-663) and “Ustath al-Rahib,” (907-910) in Christian-Muslim Relations: A Bibliographical History, Volume 1 (600-900) (Leiden and Boston: Brill, 2009).

يوسف هريمة: أنتم تشتغلون على موضوع التراث العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ. بالنسبة إليكم ما حدود التأثير والتأثر بين هذين التراثين؟

القسّ عيد صلاح: لقد تأثَّرَ التراث العربيّ المسيحيّ بالفكر الإسلاميّ والحضارة العربيّة، ولقد أثَّرَ أيضاً في الفكر الإسلاميّ، وهذا واضح في الفكر الإسلاميّ الوسيط في الردّ على النصّارى. ويمكننا القول إنَّ اللاهوت العربيّ المسيحيّ وُلِدَ بين حضارتيْن: حضارة الفلسفة اليونانيَّة والفكر المسيحيّ المصاغ باللغة اليونانيَّة، وحضارة الفقه الإسلاميّ في القرينة الجديدة المكتوب باللغة العربيّة. وفي الحالة المصريّة نجد أنَّ الفكر المسيحيّ صيغ وحُفِظَ في ثلاث حقب، مَثَّلَت ثلاث لغات: اليونانيّة والقبطيّة والعربيّة، في ظروف وقرائن مختلفة. والتراث العربيّ المسيحيّ بصورة عامة لم يكن ترجمة عن اللغات السابقة له، وإنْ كانت هناك بعض الترجمات العربيّة للتراث السابق، ولكننا نستطيع القول إنَّه استطاع هضم الفكر والتراث السابق له، وتفاعل مع القضايا المعاصرة، فجاء إبداعاً خالصاً متميزاً في ضوء المعطيات الفكريّة المثارة منذ الفتح العربيّ حتّى الآن.

وقد تأثَّر الكُتَّاب العَرَب المسيحيّون بالحضارة العربيّة والفكر الإسلاميّ تأثراً كبيراً، ظهر هذا في كتاباتهم وصياغاتهم للفكر المسيحيّ، ولا نستطيع أن ننكر هذا التأثير. يقول الأب سمير خليل في هذا الصدد في دراسة له عن: "تأثير الإسلام على الأدب الدينيّ المسيحي، (تمَّ الاطلاع عليه في 20 أبريل 2010م، متاح على http://www.coptcatholic.net/section.php?hash) "لقد أثّر أسلوب القرآن في كثير من المفكّرين المسيحيّين، وحاول بعضُ الأُدباء أنْ يقدّموا الكُتبَ المقدّسة بصيغة أدبيّة تناسبها، وأكثر من اعتنى بهذا اللون من الأدب نصارى العَرَب من المشارقة، الذين ترجموا الأناجيل سجعاً منذ القرن التاسع. واشتدت هذه النزعة بعد انتشار البديع في الأدب العربيّ"، ويمكن القول حسب وصف الأب سمير خليل اليسوعيّ في دراسة له حول الدفاع المسيحي المبكّر: "لقد تشبّع المؤلف العربيّ المسيحيّ بالحضارة القرآنيَّة. فهو لا يعيش في مجتمع مسيحيّ، ولا يستخدم ما يطلق عليه البعض مفردات وأساليب اللغة العربيّة المسيحيّة. هو يشترك مع المسلمين، في الحضارة العربيّة نفسها، التي تحمل في طياتها العديد من التعبيرات والكلمات القرآنيَّة، ونموذجاً محدداً، وبعضاً من الفكر الإسلاميّ".

عودٌ على بدءٍ، لم يكن التحول إلى اللغة العربيّة في مصر سهلاً، استغرق هذا التحول ثلاثة قرون، من القرن السابع إلى العاشر، خلال هذه الفترة التاريخيّة كان الفكر العربيّ المسيحيّ في مصر يتبلور ويُصاغ، ولكن بعدما تحوّلت وتبدّلت الأمور، هذا التحول نلمسه في الآتي: من أغلبيّة مسيحيّة وأقليّة مسلمة في القرن السابع، إلى أغلبيّة مسلمة وأقليّة مسيحيّة في القرن العاشر، ومن سيادة اللغة القبطيّة في القرن السابع إلى سيادة اللغة العربيّة في القرن العاشر، لغة التفكير والتعامل اليوميّ. ومن هنا لزم التحوّل إلى اللغة العربيّة، فلم يعد ينفع الاكتفاء باللغة المحليّة فقط، بل تبنّى الكَّتاب العَرَب المسيحيّون اللغة الأوسع انتشاراً في ذلك الوقت، وظهرت في مصر كتابات الأنبا ساويرس بن المقفَّع أسقف الأشمونين، لتَشرح الفكر المسيحيّ في لغة عربيّة حتى يستطيع المسيحيّ المصريّ، بجانب المسلم، فَهَم اللاهوت المسيحيّ باللغة العربيّة.

يوسف هريمة: سبق أن أشرتم إلى أنّ اللاهوت العربيّ المسيحيّ وُلد بين حضارتين: الفلسفة اليونانية والفكر المسيحيّ المصاغ بلغتها، ثم حضارة الفقه الإسلاميّ. ما المقصود بكلمة اللاهوت في الفكر المسيحيّ؟ وهل تعتبرون مثلاً علم الكلام والفلسفة الإسلاميّة امتداداً لهذا النمط في التفكير؟

القسّ عيد صلاح: كلمة لاهوت هي ترجمة للكلمة الإنجليزية Theology التي تأتي في مقطعين Theos من أصل يوناني، وتعني الله، وكلمةlogy وتعني علم، أي أنّ كلمة لاهوت أو عِلْمُ اللاَّهُوت علم يبحث في وجود الله وذاته وصفاته، ويقوم عند المسيحيين مقام علم الكلام عند المسلمين، ويُسمَّى أيضاً عِلمَ الربوبيّة والإِلهيات، ويقدّم منظومة فكرية متكاملة للعلاقة التي تجمع الله بالإنسان.

يوسف هريمة: يعتبر العديد من الباحثين أنّ المكوّن القبطي والأمازيغي في بلدان شمال إفريقيا مكوّن أصيل، وأنّ العربيّة دخيلة على المنطقة. بنظركم ما أهم العوامل التي ساهمت في تحوّل التفكير المسيحيّ من أبعاده اليونانية وغيرها، إلى التفكير من داخل بنية العقل العربيّ؟ هل التحوّل تمّ فقط من خلال اقتناع أطراف بضرورة التفكير من خلال الثقافة المهيمنة؟ أم قوة السياسة والسلطة هي التي تحكّمت في هذا الأمر، كما يشير العديد من المستشرقين؟

القسّ عيد صلاح: القرينة العربية الإسلامية الجديدة فرضت سطوتها الفكريّة والثقافيّة على المجتمعات الجديدة، وبالتالي تغيرت طريقة التفكير لدى المسيحيّين مع هذا الواقع الجديد، مثلاً في مصر أوّل من كتب باللغة العربيّة هو الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين- ملوي، المنيا، مصر، في القرن العاشر الميلاديّ، أي أنّ التحوّل أخذ ثلاثة قرون، سبقتها عوامل سياسية مثل قرار تعريب الدواوين، وتبعها احتياج ضروريّ للتواصل والتأقلم مع القرينة الجديدة.

يوسف هريمة: أشرتم إلى تيارات فكرية أثّرت في نشأة التراث العربيّ المسيحيّ في مصر، أهمها تيار الانعزال ويمثله صموئيل رئيس دير القلمون، وتيار ساويرس بن المقفع. ما أهم ملامح كلّ تيّار من هذه التيارات؟

القسّ عيد صلاح: بين الاندماج والانعزال كان الصراع الفكري في مصر في القرون الثلاثة الأولى من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلاديّ. وقد ظَهَرَ داخل الكنيسة المصريّة تياران: أحدهما يدعو إلى الانعزال، والثاني يدعو إلى الانفتاح على لغة وثقافة الآخر، وضرورة الكتابة باللغة العربيّة. ونحن هنا نرصد لهذين التياريْن الهامّيْن اللذيْن شكَّلا فكر الكنيسة المصريّة من القرن السابع حتى الآن سلباً وإيجاباً.

التيار الأول: مقالة صموئيل رئيس دير القلمون وفكر الانعزال

هذا الاتجاه يتبنى رفض اللغة العربيّة ومقاومتها، ظهر هذا في "مقالة صموئيل رئيس دير القلمون"، والقديس صموئيل عاش في الفترة من (597- 695م)، وفي مقالته "وهي نصّ رؤيوي مترجم من اللغة القبطيَّة إلى اللغة العربيّة. أمّا تاريخ كتابة هذا النصّ فلا نعلمه، ولكن يقترح الدارسون أنَّه وُضِعَ في القرن الثامن أو التاسع الميلاديّ. وفي هذا النصّ، يتكلّم "القديس صموئيل" عن أحداث المستقبل، منها ما ذكره مارك سوانسون، الاندماج الثقافيّ والتميز الدينيّ في نصوص لاهوتيّة من التراث العَرَبيّ المسيحيّ القديم (القاهرة: كليّة اللاهوت الإنجيليّة، 1995م، محاضرة غير منشورة، ص 1):

"[والنصّارى] يعملون أيضاً عملاً آخر، إنْ أخبرتُكم به فإنَّ قلوبكم تتّوجع كثيراً: وهو أنَّهم يتركون اللغة الحسنة، القبطيّة، التي نَطَقَ بها روح القدس مراراً كثيرة من أفواه آبائنا الروحانيّين، ويعلّمون أولادهم مِن صِغَرهم أنْ يتكلموا بلغة الأعراب ويفتخروا بها. وحتّى الكهنة والرهبان يجسرون، هم أيضاً، أنْ يتكلموا بالعربيّ ويفتخروا به، وذلك داخل الهيكل! الويل ثم الويل!" يا أولادي الأحبّاء، ماذا أقول في تلك الأزمنة، يكون القرّاء في البيعة لا يفهمون ما يقرؤونه ولا ما يقولونه، لأنّهم نسوا لغتهم؟ وهؤلاء بحق المساكين المستوجب البكاء عليهم، لأنَّهم نسوا لغتهم وتكلموا بلغة الهجرة". ولكن الويل ثم الويل لكلّ نصرانيّ يعلم ولَدَهُ لغة الهجرة من صغره وينسيه لغة أبهاته [آبائه].

"وتبطل كتب كثيرة من الكنيسة، لأنَّه لا يبقى فيهم مَن يهتّم بكتبٍ، لأنَّ قلوبهم تميل إلى الكتب العربيّة ..."[وقال شيخ لأنبا صموئيل: ] "افهم الذي أقوله لك: إنَّ في الزمان الذي يستجرئ النصّارى أنْ يتكلموا داخل المذبح بلغة الهجرة، الويل للنصارى في ذلك الزمان! ويل متضاعف سبعة أضعاف!".

ويعلّق سوانسون في المصدر المشار له سابقاً على هذا النص بالقول: "والواقع أنَّه ليس هناك أيّة صعوبة في إدراك سبب هذا الاعتراض العنيف على قبول اللغة العربيّة في الكنيسة. كان كاتب النصّ يرى في اللغة القبطيّة لغة مسيحيّة مقدّسة: لغة الكتاب المقدّس والقدّاس الإلٰهيّ والآباء القديسين الأطهار، أمّا اللغة العربيّة فإنّها ـ في رأي الكاتب- لغة دخيلة غير مسيحيّة. غير أنّه على المدى البعيد أصبح مثل هذا الاعتراض بلا جدوى، حيث إنَّ الشعب القبطيّ قَبِلَ اللغة العربيّة، والملاحظة أنَّه بينما فُقِدَ النصّ الأصليّ لمقالة صموئيل رئيس دير القلمون، حُفِظَ النصّ في ترجمة عربيَّة".

وربما كان تعليق طه حسين في ملفه الشهير: مستقبل الثقافة في مصر ﺟ 2 (القاهرة: دار المعارف، 1938)، 485- 486 خير دليل على هذا الاتجاه حين يقول: "فلست أدري كيف أصف هذا الألمَ الذي يثيره في نفسي الاستماعُ إلى صلواتهم، يتلونها في لغةٍ عربيّةٍ محطّمة، أقلُّ ما توصَفُ به أنّها لا تلائمُ كرامة الدّين مهما يكن، ولا تلائمُ ما ينبغي للمصريِّين جميعاً من الثقافة الُّلغَويّة". وبالإجماع هذا التيار وهو تيار الأنبا صموئيل لم يصمد طويلاً أمام التغيرات التي تمّت على أرض الواقع.

التيّار الثاني: ساويرس بن المقفَّع القرن العاشر وفكر الاندماج

مَن هو ساويرس بن المقفع؟

هو أبو البشر بن المقفَّع الكاتب المصريّ، وسُمِّيَ بعد ترهّبه وسيامته أسقفاً بالأنبا ساويرس بن المقفَّع، يعتبر ساويرس واحداً من أهم مفكريّ الكنيسة عبر تاريخها في مصر، فهو من علماء وفقهاء اللاهوت المسيحيّ العربيّ في مصر، عاش في القرن العاشر الميلاديّ، له كتابات متعددة ومتنوعة. وهو يُعتبر أول كاتب مصريّ عربيّ مسيحيّ يكتب ويصيغ فكراً لاهوتيّاً عربيّاً، كما يُعتبر أيضاً نقطة تحوّل كبيرة في التفكير المسيحيّ بالنسبة للكنيسة المصريَّة في القرن العاشر الميلاديّ حتى الآن. وقد رَصَدَ ساويرس بن المقفَّع في القرن العاشر الميلاديّ على حسب رأي سوانسون في المصدر المشار إليه سابقاً أزمة تربويّة في الكنيسة القبطيّة كانت نتيجة فقدان معرفة اللغة القبطيّة من فئات كثيرة من الشعب القبطيّ. أو كما يقول العلامة جورج جراف: "ولكن من الجهة الأخرى نرى الأسقف ساويرس بن المقفَّع في القرن العاشر يشكو شكوى مريرة لا يمكن تجاهلها، أنَّه ليس هناك مَنْ يفهم اللغة القبطيّة، ولذلك فقد غَدَت الصلاة والقراءات غير مفهومة، ونتج عن ذلك جهل الأمور الدينيّة." ولنسمع الآن ساويرس وهو يعبّر عن هذه الأزمة، حيث يذكر في كتابه "الإيضاح" المُسمَّى "الدر الثمين في إيضاح الدين" (القاهرة: أبناء البابا كيرلس السادس، د. ت، ص 10، 11) ما يلي:

"أولاً، فأقول إنَّ السبب في كتمان بيان هذا السرّ [أي سر الثالوث ووحدانيّة الله]

في هذا الزمان عن المؤمنين اختلاطهم مع الأجانب،

ولضياع لغتهم القبطيّة الأصلية التي منها كانوا يعرفون مذهبهم.

وصاروا لا يسمعون ذكر الثالوث بينهم إلا قليلاً،

ولا لابن الله ذكر بينهم إلا على سبيل المجاز،

بل أكثر ما يسمعون [هو] أنَّ الله فرد صمد،

 وبقية هذا الكلام الذي يقوله الغير،

فتعوَّد به المؤمنون، وترّبوا عليه،

حتى صار يصعب عليهم ذكر ابن الله،

ولا يعرفون له تأويلاً، ولا معنى،

وأكثرهم إذا سمع ابن الله، وابن مريم العذراء،

يظن أنَّ بدأه من مريم العذراء كان،

كما يظن بنا الغير أنَّنا نقول ذلك،

ولا يعلمون أنَّه كان أزلياً مع الله.

مولود منه قبل مريم،

وقبل الدهور،

لأنَّ الله لم يكن قط بغيره،

لأنَّه ابنه وكلمته الأزلي معه،

لم يزل ولا يزال."

وفي مقدمة الباب العاشر من الكتاب نفسه يقول:

"ذَكَرتَ، يا حبيب، أنَّ القبطَ في هذا الزمان قد كثرت فيهم الأقاويل المختلفة في الإيمان الأرثوذكسيّ، وأنّ الواحد منهم يَرى ما لا يُرى بغير رأي الآخر ويكفّره، وإنَّك متعجب من ذلك ومحتار. ولا تتعجب من ذلك، فإنَّ السبب فيه جهلهم بلغتهم، فإنَّ اللغة العربيّة غلبت عليهم، فلم يبقَ أحد منهم يعرف ما يُقرأ عليه في الكنيسة باللغة القبطيّة، فصاروا يسمعون ولا يفهمون. فبهذا السبب ضاع منهم علم المذهب المسيحيّ الذي ساد أولاً على جميع قبائل النصّرانيّة."

من خلال الأقوال السابقة للأنبا ساويرس بن المقفَّع يتبيّن لنا الاختلاف البيِّن بين التياريْن: الذي تبنته مقالة صموئيل رئيس دير القلمون، والتيار الذي تبنّاه الأنبا ساويرس بن المقفَّع، أسقف الأشمونين، في كتاباته، "بعد وصفه للأزمة في الكنيسة القبطيّة، لم يصرخ ساويرس قائلاً: الويل! ثم الويل!، بل واجهها بطريقة إيجابيّة، شارحاً للعقائد والممارسات المسيحيّة باللغة العربيّة." وهذا ما يؤكّده، ي. هل، في كتابه "الحضارة العربيّة" ترجمة إبراهيم أحمد العدوي (القاهرة: دار الهلال، كتاب الهلال، العدد 342، يونية 1979م، ص 91) عن اتصال الشعوب المحليّة بالعَرَب الذي "هزَّ كيانهم، وأيقظ فيهم ثقافة جديدة".

ولعل هذا الاتجاه، وهو تيار الاندماج الذي تبنّاه ساويورس ومن سار على نهجه فيما بعد، سار مع التعريب دون أنْ يضحّي بالهويّة والخصوصية الدينيَّة، ومن خلاله ظهرت كتابات عربيَّة لاهوتيَّة أصيلة نرصد هنا لأسباب ظهورها. وقد ظهرت الكتابات العربيّة المسيحيّة لسببين رئيسين هما: سبب رعوي داخلي ويهتم بالحفاظ على الرعية الذين يتعاملون مع القرينة الجديدة، أمام التعريب الجارف والأسلمة السريعة، كان لا بدّ من ظهور بعض الكتابات التي تشرح الإيمان المسيحيّ أولاً للرعيّة، وتفاعلاً مع القرينة الجديدة والتساؤلات اللاهوتيّة حول القضايا المسيحيّة الكبرى، ظهرت الكتابات العَرَبيّة المسيحيّة اللاهوتيّة والعقائديّة. ومن خلال مقدِّمات المؤلفات العَرَبيّة يتبيَّن لنا البعد الرعويّ في الكتابات المسيحيّة، ففي مقدّمة "كتاب مصباح العقل" (القاهرة: د. ن. سلسلة التراث العَرَبيّ المسيحيّ (1)، 1978م، ص 5.) للأنبا ساويرس بن المقفَّع يقول في سبب تأليفه:

"ذَكَرت ما عليه المخالفون لملتنا،

من الاستشناع لمذهبنا،

والنفار مِن أقاويلنا،

وإنَّك لم تجد لأحد المتقدّمين كتاباً،

فيه وصف مذاهب النصّارى،

على الشرح والتلخيص،

يزيل شكوكهم،

ويفسّر ما استشكل عليهم.

وكثير ما لقيته من أصحابنا كثير الإطناب،

فيما يقول ويعتقد.

وسألتني أنْ أصف لك جمل أقاويلنا،

وأبيّن عندك معاني ديننا،

إذ كان ذلك أولى الأمور بنا،

وأجلّ ما يجب أنْ نبيّنه ونفسّره،

ليتذكَّر به الجاهل،

ويستبّصر به العالم."

وعلى الجانب الآخر سبب دفاعي خارجي نتيجة للأسئلة التي ترد حول الإيمان المسيحيّ في مواجهة الفكر الإسلاميّ، وقد ظهر اللاهوت الجدليّ وهو الذي تميز بالرد على الأسئلة الواردة إلى المسيحيّيْن من المسلمين واليهود، وبالأكثر من المسلمين، وهي أسئلة حول القضايا المسيحيّة الكبرى مثل: التجسّد، والثالوث، والوحدانيّة، والقضايا الخاصة بالكتاب المقدَّس مثل النسخ والتحريف. صِيغَت هذه الأفكار والأسئلة بما يُسَمَّى في تاريخ الأدب العَرَبيّ الإسلاميّ "بالردّ على النصّارى"، هذه الأسئلة خَلَقَت حراكاً وإبداعاً لاهوتيّاً حول القضايا المسيحيَّة الكبرى، جاء في صياغات عبَّرت عن المفاهيم اللاهوتيّة بأسلوب عربيّ، وفي الوقت نفسه خلقت تواصلاً بين أصحاب الرسالتيْن، فأصبح كلّ طرفٍ يقرأ الطرفَ الآخر، ويمكن أن ينتقده بأسلوب مهذّب، ويطرح عليه أسئلة متعددة، وفي الوقت نفسه تأتي الإجابات من الطرفين، ولقد لعبت الظروف السياسيّة عاملاً كبيراً في زيادة أو قلة هذه المجادلات.

يوسف هريمة: حينما نتحدّث عن فكرة التثاقف أو حركة التأثير والتأثر في الفكر العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ، فلا بدّ من إضاءة هذا الموضوع بأمثلة معينة. هل فكرة خلق القرآن التي عرفها التاريخ الإسلاميّ امتداد لهذا الخط في التأثير؟ كيف توضّحون ذلك؟

القسّ عيد صلاح: في السياق العام نجد أنّ الفكر الدينيّ تأثَّر بالثقافات المعاصرة له والسابقة عليه، فكل من الفكر والتراث الدينيّ هو ابن عصره وثقافته، وهو ما يُسَمَّى بلاهوت السياق، وفي الإطار الدينيّ نجد التأثير الفكريّ المتبادل، والقضايا المثارة من الاحتكاك بثقافة وفكر الآخر. يقول ي. هل في كتابه "الحضارة العربيّة"، (ص 113): "ثم ظهرت الآراء الدينيّة التي نشطت احتكاك المسلمين بالنصّارى ولاسيما في دمشق في القرن الأول الهجري. وترجع إلى هذه الآراء نشأة فرقة المرجئة، التي قالت إنَّ الكلام في مسائل الدين لا يخرج صاحبه إلى الكفر ما دام مقيماً على الاعتقاد بالله ورسوله. وظهرت في البصرة فرقة المعتزلة التي تناولت مسائل تتعلق بذات الله وصفاته، وحاولت في مذهب الجبر، وذهبت إلى أنَّ للإنسان إرادة حرة. وكانت مسألة خلق القرآن موضع جدل زمن العبّاسيّين وزاد الاهتمام بهذه المشكلة زمن الخليفة المأمون، الذي أيّد سنة 827م مبدأ القول إنّ القرآن مخلوق لا قديم. وعندما انتقل الأشعري المتوفى سنة 324 هـ من الاعتزال إلى مذهب أهل السنّة، وجد الجدل سبيله إلى العلوم الإسلاميّة، وأصبحت الدراسات الدينيّة، منذئذ، تقوم على أساس من الفلسفة المدرسيّة (الإسكولائية)."

وفي المقابل تأثر الفكر المسيحيّ في الشرق بالفكر الإسلاميّ في بعض القضايا، على سبيل المثال، إكرام الأيقونات، ويبدو أنَّ اعتراضات اليهود والمسلمين حملت الكثير من مسيحيي الشرق العربيّ على التشكيك في شرعية إكرام الأيقونات، وبالتالي الحوار حولها وحول الرفض والتأييد.

محنة خلق القرآن، والصدى المسيحيّ نموذجاً.

ومن خلال هذا الكلام نجد أنَّ عملية الاحتكاك بالفكر المسيحيّ أنشأت قضايا إسلاميَّة كبيرة، على رأسها ما سُمِّي في تاريخ الفكر بمحنة خلق القرآن. وهذه الفكرة جاءت من خلال الحوار اللاهوتيّ المسيحيّ الإسلاميّ في العصر الوسيط بناء على استخدام الأسلوب العقليّ في التفكير من خلال المعتزلة.

وكانت المقارنة بين المسيح كلمة الله والقرآن كلمة الله، وبما أنَّ القرآن أزليٌّ، فيصبح المسيحُ أزلياً، ومن هنا جاء الفكر الإسلاميّ الذي نادى بخلق القرآن، لكي يؤكِّده في الجانب الآخر أنَّ المسيح مخلوق، وليس أزليّاً، وهذا ما يؤكده قنواتي في كتابه (المسيحية والحضارة العَرَبيّة. القاهرة: دار الثقافة، 1992م، ص 127)، بالقول: "ثم نشأت مسألة ثانية كان على الظروف بعد ذلك أن تزيد خطراً، وهي مسألة القرآن غير المخلوق التي تعود بأصلها، فيما يبدو، وكما أثبته بكر Becker إلى مسألة الكلمة، ونحن نعلم أنَّ القرآن يقول في عيسى: إنَّه "كلمة الله وروحه". وما كان ليشق على مسيحي تأويل هذه التسميات. ومن هنا نشأ الاعتراض الذي وجّهه أهل الجدل من المسيحيّين إلى المسلمين: مَن هو المسيح؟ - إنَّه كلمة الله- فهل هذه الكلمة مخلوقة أم غير مخلوقة؟ إن كانت غير مخلوقة كان المسيح هو الله، وإن كانت مخلوقة لم يكن الله، قبل تولدها، ذا كلمة وروح. وبكلام آخر: كان المسيحيّون يستخدمون البرهان بالكلمة المخلوقة أو غير المخلوقة ليرغموا المسلمين على الاعتراف بلاهوت المسيح. فاضطر المسلمون إلى الإجابة. وربما كان هذا الأصل في مناقشة القضية: هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق.

يوسف هريمة: في سياق التأثير الإسلاميّ على الفكر المسيحيّ، كتب مجموعة من الباحثين عن هذا الموضوع كالأب سمير خليل اليسوعي. ما أهم ملامح التأثير الإسلاميّ على المسيحيّة؟

القسّ عيد صلاح: حقيقة القول هي أنَّ الإسلام أثَّر في الحياة الفكريّة للمسيحيين العَرَب، فقد "أثَّرَ ظهور الإسلام في طبيعة التراث المسيحيّ العربيّ مثلما أدخل تغييرات في حياة المسيحيّين العَرَب"، وفي القرون الثلاثة الأولى من القرن السابع حتى العاشر الميلادي انتشر الإسلام بسرعة، وأصبح المسيحيّون في بيئة وقرينة جديدة، فكان التأكيد على القضايا المسيحيّة الإيمانيّة الكبرى في خلفية فكر الإسلام، ومن هنا أثَّر الإسلام في الفكر المسيحيّ في الطريقة والأسلوب. وكان على المسيحيّيْن العَرَب في مصر التأقلم مع الوضع الجديد والتفاعل معه، هذا التفاعل سمَّاه الأب سمير خليل اليسوعيّ "الفتح الإسلاميّ والظاهرة الانثقافيّة"، ومن هنا ظهرت مصطلحات لاهوتيّة عربيّة، وهذا معناه "أن الحضارة العربيّة اغتنت واتسعت بضمّها سائر الحضارات.

وعلى سبيل المثال هناك الكلمات الآتية:

"إبليس، بيعة، جهنّم، حواريون، طوبى، فردوس، إنجيل، قدس، مسيح، نصارى، يحيى، شيطان، صلوات، صوم، قسّيسون، ملّة، طور...إلخ، والألفاظ الحضاريّة مثل: خمر، كأس، كوب، درهم، دينار، تابوت، سراج...إلخ، والألفاظ المرتبطة بالكتابة مثل: رف، سجل، سطر، سفر، قرآن، قرطاس".

كما أخذ المسلمون عن اللغة القبطيّة كثيراً من المفردات اللغويّة، وهو ما عبَّر عنه السيوطيّ (المتوفّى 1505) بوجه خاص في "المُزهِر"، الذي دَرَسَ فيه الغريب في القرآن الكريم. ثم نشير أيضاً إلى الكلمات والمصطلحات اللاهوتيّة (الفقهيّة) مثل: التجسّد، التوحيد، الثالوث، الاتحاد، الطبيعتان، الروح القدس، الصليب، القيامة، الصعود، الدينونة، الخلاص....إلخ. هذه الألفاظ وغيرها في التراث العربيّ المسيحيّ والإسلاميّ معاً جاءت نتيجة للتداخل والتشابك الحضاريّ والظاهرة الانثقافيّة.

وقد استعمل الكتَّاب المسيحيّون في كتاباتهم اللغة الأدبيَّة العربيّة، لغة الكتَّاب المسلمين، ولغة الشعر من قبل، ولغة القرآن. فقد أصبحت هذه اللغة لغة حضارة عظيمة بعد الفتوحات الإسلاميّة. كما أجاد الكتّاب المسيحيّون الكتابة بها مقارنة مع المسلمين. وبالرغم من شك البعض في ذلك، بسبب ظهور بعض المفردات المحلية والخاصة عند بعض الكتّاب المسيحيّين في بعض الفترات، والتي كانت قد وجدت عند بعض الكتاب المسلمين في الفترة نفسها. الاختلاف الوحيد القائم بين الكتَّاب المسيحيّيْن والكتَّاب المسلمين، هو أنَّ أولئك لم يترددوا في استعمال بعض المفردات والمصطلحات المسيحيّة البحتة الموجودة في اللغات اليونانيّة والسريانيّة والقبطيّة في الأدب العربيّ.

كما صار المسيحيّون أكثر ارتباطاً بالنصّ الدينيّ "النصّوصيّة"، لأنّ الثقافة العربيّة مبنية على حضارة النصّ الدينيّ، من المجادلات الدينيّة المسيحيّة- المسيحيّة المتأثرة بالثقافة والفلسفة اليونانيّة في القرنين الرابع والخامس، إلى التركِّيز على النصّ الدينيّ سواء كان مسيحيّاً أو إسلاميّاً. فنجد مثلاً أنَّ ساويرس بن المقفَّع "في كتابه المعروف بكتاب "الدُّر الثمين في إيضاح الاعتقاد في الدين" الذي ينقسم إلى 15 باباً، يذكر ساويرس 1161 (ألفاً ومائة وواحداً وستين) نصّاً كتابيّاً، هذا بصرف النظر عن التلميحات إلى نصوص كتابيّة، منها 307 مرجع إلى العهد القديم، 854 إلى العهد الجديد.

يوسف هريمة: كيف تقوّمون مرحلة الردّ على النصارى، خاصّة مع مدرسة ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ومن تبنّى خطهم في التعامل مع أهل الكتاب، كالوهّابية المعاصرة؟ هل ما نشهده الآن من تهجير لمسيحيي العراق وسوريا، وربما لبنان، يدخل في هذا الخط الفكريّ؟

القسّ عيد صلاح: الردّ على النصارى كان مجمل القضايا التي تناولها الكتَّاب المسلمون في ردهم على المسيحيّين (النصارى)، كما كانوا يطلقون عليهم، ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن سار على نهجهما ضمن مدرسة فكرية هجومية إقصائية لا تعترف بالآخر ولا تحترم تفكيرهم أو خصوصيتهم الإيمانية. ولعل ما نحن فيه الآن هو تأثير سلبي لهذه المدرسة على العالم العربيّ.

يوسف هريمة: اهتممتم كثيراً بفكرة التراث العربيّ المسيحيّ من منظور بحثي محض. هل يمكن أن نقول إنّ دراسة التراث من خلال هذا الجانب يمكن أن تكون نقطة تلاقٍ لحوار ثقافي وديني بين مكونات أصيلة في المنطقة؟ أم هي نقطة بداية لصراع وصدام بشّر به هنتنجتون وأكّدته الوقائع المعاصرة؟

القسّ عيد صلاح: لا شكّ أنّ السياقات الثقافيّة والحضاريّة والتاريخيّة تلعب دوراً كبيراً في تطوّر أيّ فكر دينيّ أو إيديولوجيّ. لذلك، فوجود الإسلام قد أثّر كثيراً في الفكر العربيّ المسيحيّ قديماً وحديثاً. وكلّ فكر منقطع عن سياقه الزمنيّ ولا يأخذ في الاعتبار المحيط الذي ينشأ فيه هو فكر عقيم.

ومن هنا نلحظ، كما لاحظ الأب سمير خليل اليسوعيّ، دَور المسيحيّين الثَّقافيّ في العالم العَرَبيّ (2) (بيروت: دار المشرق (5)، 2004، ص 50) "أنَّ المسيحيّين قاموا بدور الجسر بين الديانتيْن والعقليّتَيْن والثقافَتيْن، إنَّهم مسيحيّون بلا شكّ، ولكنّهم أيضاً على صعيد الثقافة مسلمون." وكما يقول مُشير باسيل عون في مؤلفه: مقالات لاهوتيّة في سبيل الحوار (بيروت: المكتبة البولسية، 1999م، 38.): "أمَّا اليوم، فالفكر اللاهوتيّ في الشرق العربيّ يعوزه الاحتكاك بفكر عربي أصيل مكتمل مفسِّر للوجود العربيّ برمّته...حتى يتهيأ له أنْ يسكب نواته الإيمانيّة في قالب هذا الفكر فيبلّغها خطاباً هو تيًّار شرقيّ عربيّ، مجاوب عن تساؤلات هذا الفكر وقضاياه ومحَنِه ومعاناته واختباراته، أي عما يعني كل مواطن شرقيّ عربيّ في العصر الحاضر".

وبالتالي، حسب رؤية سمير خليل اليسوعي تكون فاعليّة و"قوة المسيحيّين في العالم العربيّ، هي أنَّهم كانوا، بوجه عامّ، أناساً منفتحين على ثقافات غير ثقافاتهم الخاصّة. إذ أنَّ التأصّل والانفتاح هما الميزتان اللتان قام عليهما تاريخهم. وإذا نقص أحد العنصّريْن غاب التفاعل مع البيئة المحيطة، وبالتالي غاب التجدد لصالحهم ولصالح تلك البيئة".

يوسف هريمة: ما هي دعوتكم للباحثين العرب مسيحيين ومسلمين؟

القسّ عيد صلاح: صلاح دعوتي للباحثين العرب المسيحيّين والمسلمين في الشرق هي الآتي: آن الأوان أنْ ننفتح على بعضنا بعضاً، وكفى ما فات في تجاهل، أو تعالٍ، أو عنصرية، أو لامبالاة، وليقرأ كلٌّ منا تراث الآخر بفهم ووعي، ليستمرّ التواصل الفعَّال، والعطاء الحضاريّ المتميز، فالعزلة والتباعد ليست لصالح منطقتنا العربيّة الآن ومستقبلاً، وتجارب الأمم وخبرات الشعوب تشهدان على ذلك. ولكنَّ الاندماج الثقافيّ مع التميّز الدينيّ يضمنان وحدة الأمّة في تنوع ثري وخلاق، ولنقبل مبدأ التعدديّة والتنوع، القضية الأزليّة والسنّة الكونيّة، التي تدعو إلى احترام وقبول الآخر؛ فالإنسان عدو لما يجهل، فلنتعارف.

وهناك خطورة في عدم المعرفة يقول الله (سبحانه وتعالى) في العهد القديم: ﴿لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ﴾ (إشعياء 5: 13)، وفي موضع آخر يقول تأكيداً لذلك: ﴿قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ﴾ (هوشع 4: 6)، ومن كلمات المسيح الخالدة في العهد الجديد: ﴿تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ﴾ (متى 22: 29)، وأيضاً دعوته ﴿فَتِّشُوا الْكُتُبَ﴾ (يوحنا 5: 39). ويقول الله (عزَّ وجلّ) في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات 49: 13). فلنلبِّ الدعوة، ولنستجب للنداء، ولنتعارف حمايةً لنا ولأمتنا من الضياع والضلال.

يوسف هريمة: شكراً القس عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيلية بالمنيا على هذا الحوار.

القسّ عيد صلاح: شكراً للباحث الكريم الأستاذ يوسف هريمة على هذا الحوار، وقد بنيت إجاباتي على ورقة بحثية تحت عنوان: التفاعل الإسلاميّ/ المسيحيّ في مصر حتى القرن العاشر الميلاديّ، كنت قد قدّمتها للمؤتمر الدوليّ السابع لمركز المخطوطات 25- 27 مايو 2010م في مكتبة الإسكندريّة، حول التواصل التراثيّ: أصول ومقدّمات التراث العَرَبيّ الإسلاميّ.