حوار مع د. محمود سعيد عبد الظاهر: مصر محتضنة للفكر الديني


فئة :  حوارات

حوار مع د. محمود سعيد عبد الظاهر: مصر محتضنة للفكر الديني

إلى أي مدى كان دور مصر مهمًا في تشكيل الفكر الديني ؟

§لعبت مصر الدور الأكبر في ذلك، وكان لها أثر كبير في الفكر الديني القديم، مصر احتضنت يوسف وبني إسرائيل، ونزلت التوراة على موسى في طور سيناء، مصر احتضنت المسيحية، أسرار الكنيسة السبعة تشكّلت داخل الكنيسة المصرية، الخلاف بين أريوس وأثانوسيوس انطلق من مصر، لاحظ أن المصريين لا يسمون أبناءهم باسم أريوس، ويمكن القول إنه في مصر تشكّل الجزء الأكبر من الفكر المسيحي، ونبعت كل الأسرار الكنسية والطقوس الرئيسة، مثل التعميد، كما انطلقت منها الحركة الديرية، ولاقى مسيحيو مصر كل أشكال الاضطهاد، وتشهد أعمال الشهداء المسيحيين على ذلك.

هل أخذت المسيحية في مصر تبعا لذلك سمة ميزّتها عن غيرها ؟

§بالطبع، كانت الكنيسة المصرية تمتلك كل الأسرار اللاهوتية، بل إنه يمكن القول إن الكنيسة المصرية كانت تتعامل بشيء من التّعالي مع الكنائس الأخرى لما تمتلكه من علم ومعرفة لاهوتية آنذاك.

وأصل كلمة أقباط أو قبط ... هل ترجع إلى تلك الحقبة المبكرة من تاريخ المسيحية، أم أنها كانت تطلق على المصري بشكل عام مسيحيًا كان أو غيره؟

§في القرن الرابع الميلادي عُقد مجمع خلقدونية، وذهب وفد الكنيسة المصرية يحمل العلم والأسرار المقدسة التي لا يحملها غيره، كان الخلاف حادًا بين ممثلي الكنائس، وكان هناك توجس وحقد شديد على الوفد المصري الذي خالفهم في الكثير من المسائل خاصة المتعلقة بالعقيدة، وقوبل ذلك بازدراء من الآخرين، فأطلقوا على المصريين لفظة أقباط؛ تمييزًا لهم عن المسيحيين، ولما عرف الأب فيليبس قال: نعم، نسمي أنفسنا أقباطًا تمييزا لنا عنهم، ومن هنا أُطقلت كلمة أقباط على مسيحيي مصر.

ربما نحن أمام قضية خلافية أخرى كقضية الحواري الواشي بالمسيح.

§لم يش أحد بالمسيح .

كيف ذلك ؟

§المسيح هو الذي خيّرهم قائلا من يتشبّه بي؛ فكان أصغرهم الذي قال: أنا ثلاث مرات...حواريّو المسيح كانوا أفضل وأطهر الناس، ولم يكن بينهم خائن، ولو كانوا مخترقين لكان الله حدث المسيح بذلك، لا يمكن قبول فكرة أن المسيح كان مُدلّسا عليه طوال تلك الفترة ... أنا أتحدث من واقع قراءات متعمقة ودراسات في كتب التراث واللاهوت، حيث درست لمدة عامين في الكلية الإكليريكية، وكنت المسلم الوحيد الذي يدرس هناك، بتصريح من الأنبا شنودة قبل أن يتولى البابوية، وهو إنسان أقدره، وله دراسة رائعة عن الوعد الإلهي لبني إسرائيل، وكيف أنه وعد غير مادي، وعد لا يتعلق بأرض أو ملك.

ينقلنا ذلك للوعد كمفهوم أحدث نوعًا من التغيير في الأسلوب المادي للتقسيم الذي حدث بعد ذلك (هاجريون – ساريون أو سراكنه).

§التقسيم تبلور لما جاءت الأسباط، حيث تم إبعاد إسماعيل، وخرج من القسمة بشكل كامل، قسمة النبوة والقسمة الرسولية، واقتصرت القسمة على الأسباط، حتى من ليس له قسمة جعلوه مسؤولاً عن الكهانة، وهو لافي (لاوي)...فإسماعيل في نظرهم ابن أمَة، وابن الأمة لا يرث، أخو إسحاق خرج أيضا من اللعبة، وكذلك عيسو أخو يعقوب.

هل يمكن الاعتماد هنا على دلالة النص التوراتي تأسيسا لفكرة الوعد المعنوي؟

§لا أستطيع الاعتماد على دلالة نص كُتب بعد موسى بألف عام وفي فترة السبي البابلي، فترة القهر الذهني والنفسي لبني إسرائيل، داود جاءته الملائكة تحمل بقايا الألواح، ثم أوحى الله إلى عُزير بمضمون التوراة، فجعله اليهود "ابن الله ".

التحريف هو نتيجة طبيعية بعد ألف سنة من الكتابات الشفهية، النصّ الدقيق أصبح غائبا، وأسقط الحاخامات على النصّ تجربة السبي المريرة، بل أصبح التلمود - وهو تفسير التوراة- هو الأساس في الذهنية اليهودية، هناك مغالطات تاريخية صارخة في النص والحسابات.

ولكنَ هناك علماء مسلمين رأوا أن التوراة وكذلك الإنجيل سلما من التحريف، وكان ذلك في عصر الإمبراطورية الإسلامية ذاتها، (هارون الرشيد) رأى كاتبه الليث بن أبي الربيع ذلك، وحتى القرن التاسع الهجري نحصل على نصوص إسلامية، ترى أن التوراة لم تحرّف، نلاحظ ذلك بوضوح في كتابات البقاعي تلميذ ابن حجر العسقلاني.

§في عصر هارون الرشيد حدث الخلاف الشهير بين اليهود حول التلمود البابلي والتلمود الأورشليمي، ولما احتدم الخلاف، لجأوا إلى هارون الرشيد ليحكم بينهم، وبالتالي لم يكن مستساغا أن يحكم الخليفة في نص محرف، فانبرى البعض لتأكيد صحته تدليسًا؛ هي منطقة تاريخية مشبوهة عمومًا، خاصة بعد قيام عدد من المؤرخين المسلمين بالاعتماد على التوراة كأحد مصادرهم.

ولماذا قبل المسيحيون بالعهد القديم على الرغم من تلك الشبهات التي ذكرتها؟

§قيل إن المسيح جاء ليتمم ولم يأت لينسخ، هي محاولة يهودية في الأساس لاحتواء المسيح، باعتباره أحد أبناء بني إسرائيل. وفي الحقيقة، فإن المسيح لم يأت بشريعة، فكان الحل هو الاحتكام للشريعة اليهودية، حتى إنه قيل في بعض الأحيان، إن المسيح لم يأت بدين جديد، وإنما جاء تأكيدا لليهودية، ولينهي المسائل الخلافية والأمور المادية التي تفشت في بني إسرائيل، كانت دعوته أخلاقية بحتة.

ألا ينسحب ذلك على كتب الحديث التي دوّنت بعد وفاة النبي محمد بفترة طويلة؟ ألم تكن هي الأخرى تعتمد على الرواية الشفهية، وتأثرت بالصراعات السياسية الكبرى، بالإضافة إلى البعد الزمني؟

§الوضع يختلف بعض الشيء، فترة التدوين شهدت تطورًا في الفكر الديني، وحسمًا للمسائل العقائدية الخلافية، ومسائل الوحدانية، صورة الله نفسها تغيرت من الإله القومي عند اليهود إلى الله الكامل المطلق، بل أكاد أجزم بأن التطور الذي حدث في الفكر الديني وقت التدوين لم يكن موجودا في عهد الرسول.

وهل تتفق مع القول السائد بأن الرسول كان أميا؟

§الرسول ارتبط ببيئته، الأمية ليست نقيصة، وهي لا تقلل من شأنه، لأن معرفته كانت كلية، هو تحدث مثلا عن البحر ولم يثبت أنه رآه.

لكنه سافر إلى الشام، ورأى البحر الميت.

§أشك أنه رأى البحر الميت، أو دخل الأردن، هو قابل بحيرا الراهب في شمال تبوك، أنا فقط أسوق البحر كمثال، وعلى كل الأمية لا تقلل من قدره.

الإصرار على الأمية بدافع الابتعاد عن شبهة النقل من التوراة وغيرها... ألا ترى ذلك؟

§ليس للأمر علاقة، اقرأ مثلا موريس بوكاي، فقد تحدث عن ذلك بشيء من الإنصاف، كذلك كتاب "العظماء مائة" الذى ترجمه أنيس منصور، وقد اطلعت في منزل أنيس منصور على المخطوطة الإنجليزية للنص، وكان بصحبتنا الناشر أحمد يحيى، لأني لا أثق كثيرًا بالترجمات.

هناك كثيرون، اعتبروا أميته دلالة على الإعجاز وليس درءا للشبهات.

يقول الصوفية في أثناء الذكر "يهوه"، وجعلوا "هو" اسما من أسماء الله؛ فالضمير عندهم أعلى رتبة في المعارف، هل هناك أثر يهودي في الصوفية، إذا ما وضعنا في الاعتبار التشابه الموجود في كلمة "يهوه"؟

§نعم، تأثر المتصوفة باليهودية، والأثر واضح في كثير من الممارسات والأفعال، التصوف نفسه تعرض للكثير من الطقوس المختلفة عبر عصوره.