حوار مع زهيّة جويرو في تحوّلات الفتيا


فئة :  حوارات

حوار مع زهيّة جويرو  في تحوّلات الفتيا

حوار مع زهيّة جويرو[1]

في تحوّلات الفتيا[2]

زهيّة جويرو:

- أستاذة الحضارة بالجامعة التّونسيّة، متخصّصة في مسائل تاريخيّة الفقه الإسلاميّ والتّشريع والإفتاء.

- حاصلة على الدّكتوراه بأطروحة حول «الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التّاريخ» (منشورة 2014).

- صدر لها: «القصاص في النّصوص المقدّسة قراءة تاريخيّة» (2007)، «الإسلام الشّعبيّ» (2007)، «الوأد الجديد مقالات في الفتوى وفقه النّساء» (2014).

الفتيا بين تحوّلات الواقع وثبات بنية العقل

د. نادر الحمّامي: الأستاذة زهيّة جويرو، من منطلق تخصّصك في مسائل تاريخيّة الفقه الإسلاميّ والتّشريع والإفتاء، كان بحثك الأساسيّ حول فتاوى ابن رشد الجدّ في إطار المذهب المالكيّ؛ فماهي المراحل الّتي مرّ بها الإفتاء في التّاريخ الإسلاميّ القديم ليكون مؤسّسة؟

دة. زهيّة جويرو: لقد مرّ الإفتاء بمجموعة من المراحل، وأوّلها المرحلة الّتي سمّيتها «مرحلة الإفتاء المرسل»، وقد كان فيها الإفتاء يقوم على مجموعة من الأسئلة تتعلّق بمحاولة فهم الإسلام، باعتباره رسالة جديدة، وكان الرّسول هو المؤهّل أن يجيب المسلمين الجدد عن الأسئلة الّتي يطرحونها، والتي كانت على علاقة بالجانب العقائديّ والسّلوكيّ اليوميّ، وأخذ عنه الصّحابة بعد ذلك المسار نفسه. ولم يتحوّل الإفتاء إلى مؤسّسة إلّا عندما تهيّأت مجموعة من الشّروط، بدءاً من تشكيل السّنّة النّبويّة في مدوّنات، لتكون أهمّ مصادر التّشريع في الفقه الإسلاميّ؛ أي إنّها أهمّ من القرآن، ثمّ ازدهار التّفسير الفقهيّ للقرآن، وتشكّل علم أصول الفقه الّذي وضع القواعد المنهجيّة والنّظريّة ليتمّ على أساسها استنباط الأحكام من النّصوص، ثمّ ظهور الفقيه الّذي يقوم بمهمّة الاستنباط؛ لقد اجتمعت هذه العوامل كلّها حتّى تحوّل الإفتاء إلى مؤسّسة بداية من منتصف القرن الهجريّ الثّاني. وقد التقى ذلك مع فترة تشكّل العلوم في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة لتلعب تلك المؤسّسة دوراً مهمّاً في تطوير التّشريع الإسلاميّ؛ لأنّ الأسئلة الّتي كان يطرحها العوامّ على العلماء مستمدّة أساساً من الحياة اليوميّة، ومن طوارئ المعيش، ولم يكن لها، في الغالب، أجوبة جاهزة في مصادر التّشريع المعروفة، فكان على المفتي أن يجتهد من أجل أن يوجد أجوبة لهؤلاء العوامّ تناسب انتظاراتهم من جهة، وتتناسب مع أصول المنظومة التّشريعيّة وقواعدها من جهة أخرى.

د. نادر الحمّامي: لكن هذا الاجتهاد كان أكثر حرّيّة قبل المَأْسسة، لينحصر بعد ذلك في القياس، ويصبح النّصّ هو الأصل والمرجع.

دة. زهيّة جويرو: صحيح أنّ مدى الاجتهاد في مرحلة الإفتاء المرسل كان أوسع؛ لأنّ المفتي لم يكن ملزماً أن يتقيّد بمصدر بعينه أو بمنهج مخصوص، بل كان يُفتي بما يرى، وهذا في جانب يعود إلى ما يمكن أن نسمّيه غياب الحدود المذهبيّة والمعرفيّة؛ لأنّ العلم ما زال لم يتشكّل بعد، وقد منح ذلك الفقيه المفتي شيئاً من الحرّيّة في تقديم أجوبته، وسمح له بهامش اجتهاد أوسع. ولم يؤدّ ذلك في المرحلة الأولى من المأسسة إلى تقييد الاجتهاد، بل أدّى إلى تنظيمه وتطوير التّشريع الإسلاميّ، وكانت المؤسّسة خاضعة لقواعد وقوانين، وكان المفتي يلتزم بأخلاقيّة معيّنة، لم تكن تسمح له بأن يفتي بغير ما يتناسب مع الذّوق العامّ ومع النّظام ومع قيم الإسلام، فكان ملزماً بأن يُفتي في إطار ما تسمح به قواعد أصول الفقه من جهة، وقواعد تفسير القرآن والحديث من جهة أخرى، ثمّ في إطار ما تسمح به قواعد اللّغة، وما يحتكم إليه اللّسان العربيّ في إنشاء الخطاب، لذلك فقد كان يتمتّع بهامش من الحرّيّة يسمح له بالاجتهاد. ولم تقيّد المؤسّسة الاجتهاد إلّا بعد أن استقرّت المذاهب، وأصبح المفتي ملزماً بأن يُفتي في إطار مذهبه، عندما تحوّل علم أصول الفقه إلى سياج حقيقيّ، وتمّ تحديد مفهوم الاجتهاد وحصره في ما ليس فيه نصّ. وكان ذلك في مرحلة لاحقة، أصبحت فيها المؤسّسة حارساً للشّرع، ولم تعد وظيفتها إيجاد أجوبة لنوازل طارئة.

د. نادر الحمّامي: كيف أدّى ذلك إلى ارتباط المفتي بسلطة السّياسيّ وبمؤسّسة القضاء وأصبح يقوم بدور المشاورة؟

دة. زهيّة جويرو: أدّت المأسسة في المرحلة الأولى إلى أن يعرف المفتي حدود حركته في مجال اختصاصه، كأن يتولّى الإخبار بحكم الشّرع في نازلة من النّوازل إخباراً غير مُلزم، وبالتّالي فقد تميّز دوره عن دور القضاء من حيث إنّ القضاء نوع من أنواع الإفتاء المُلزم، ولكنّ الأمر تغيّر بعد ذلك، فأصبحت هناك علاقة منظّمة بين القاضي والمفتي، في إطار العلاقة بين مؤسّستي الإفتاء والقضاء، خاصّة في مجال التّجربة الأندلسيّة الّتي لها خصوصيّات، حيث كان المفتي يقوم بدور المشورة، ويشاوره القاضي في الأحكام المتعلّقة بالنّوازل.

د. نادر الحمّامي: هل أصبحت مؤسّسة الإفتاء سلبيّة حين أصبحت أحكامها ملزمة؟

دة. زهيّة جويرو: في مستوى المفهمة والتّعريفات، لم يكن الإفتاء في أيّ مرحلة ملزماً لا للفرد ولا للقاضي ولا لرجل السّياسة الّذي كان هو أيضاً يستفتي المفتين في المسائل الّتي تعرض له، وإنّما كان الأمر مجرّد تقديم استشارة. ولكن في مستوى الواقع التّاريخيّ سيكتسب المفتي سلطة بفضل نوع من التّضامن بينه وبين السّلطان، الّذي أصبح يتّخذ الفتوى حجّة ودليلاً ليجعل حكماً ما ملزماً للعامّة. وقد اتّسمت تلك العلاقة بين السلطان والمفتي بالتّوظيف، ونجد في التّاريخ الإسلاميّ مفتي السّلطان ومفتي العوامّ، وهذا الأخير له مجال اجتهاد أوسع، لأنّه لم يكن مراقباً مثلما كان الأمر بالنّسبة إلى الإفتاء الرّسميّ ومفتي السلطان الّذي كان يصدر فتاوى تحت الطّلب. وهكذا، فإنّ طبيعة العلاقة بين مؤسسة الإفتاء والسّياسيّ كان لها دور في تحديد ملامح هذه المؤسّسة. وفي العموم، نستطيع أن نقول إنّه إلى حدود بداية القرن السّادس الهجريّ، كان لمؤسّسة الفتوى أثر إيجابيّ في تنظيم التّشريع وتطويره، وكانت أكثر استعداداً من مؤسّسة القضاء لتطوير التّشريع الفقهيّ.

د. نادر الحمّامي: ما الّذي حصل بعد القرن السّادس الهجريّ؟

دة. زهيّة جويرو: لقد استقرّت المعرفة، أي لم تعد تنتج بل أصبحت تكرّر نفسها، ومع تحديد مفهوم الاجتهاد وحصره في مفهوم معيّن وضمن حدود معيّنة، ومع الأوضاع السّياسيّة الّتي بدأت تهتزّ وتضطرب، انعكس ذلك كلّه على العلاقة بين المفتي والسّلطان، وأدّى إلى أن أصبحت مؤسّسة الإفتاء عاجزة عن أن تنتج تشريعاً قادراً على مواكبة تطوّرات الحياة. وأصبح الأمر يستدعي إعادة النّظر في المنظومة التّشريعيّة الإسلاميّة عموماً، وقد حاول الفقه المقاصديّ مع الشّاطبيّ (ت 790هـــ) القيام بذلك، من أجل فتح أفق جديد أمام التّشريع، ولكن تلك اللّحظة كانت معزولة وبلا أفق في المجال الثّقافيّ العربيّ الإسلاميّ. وأصبحت مؤسّسة الإفتاء في العصر الوسيط منغلقة شأنها في ذلك شأن عموم العناصر المكوّنة للمنظومة التّشريعيّة الإسلاميّة. ورغم أنّ سلطة المفتي قد اتّسعت أكثر فأكثر، فإنّ سلطة المؤسّسة أو صلاحيتها لتطوير التّشريع أصبحت هامشيّة تماماً، إن لم نقل منعدمة. وتواصل ذلك حتّى الفترة الحديثة، حيث ظهرت محاولة ثانية لبناء الفقه على المقاصد، مع علال الفاسي (1910-1974) ومحمّد الطّاهر ابن عاشور (1879-1973) وغيرهما، وقد حاولت حركة الإصلاح الدّينيّ أن تفتح أفقاً جديداً للتّشريع الإسلاميّ، ولكنّها لم تصل إلى نتيجة، والدّليل على ذلك أنّنا مازلنا إلى اليوم نراوح في النّقطة نفسها، إن لم نقل إنّنا رجعنا إلى الوراء أكثر.

د. نادر الحمّامي: ألا يمكن اعتبار أنّ غياب الوازع الأخلاقيّ الّذي ارتبط بالفتيا عندما كانت مرسلة، قد عمّق من جمود مؤسّسة التّشريع بعد ذلك، وأدّى إلى تحوّلها في العصر الحاليّ إلى ما يشبه سوقاً للفتوى يعتمد على العرض والطّلب؟

دة. زهيّة جويرو: صحيح، ولكنّ الجانب الأخلاقيّ هو عامل من بين مجموعة من العوامل المركّبة والمعقّدة، ولو نظرنا إلى الأمر بداية مع الفقهاء المؤسّسين، فسنجد أنّ الإمام مالك عندما طُلب منه أن يُفتي في طلاق المُكره رفض رفضاً قاطعاً أن يدلي برأيه في هذه المسألة، وتمسّك بحكم الشّرع فيها؛ لأنّ الّذين طرحوا عليه هذا السّؤال كانوا منطلقين من مسألة سياسيّة هي بيعة الإكراه بالنّسبة إلى العبّاسيّين، وعلى الرّغم من أنّه ضُرب وعُذّب وسُجن، إلّا أنّه تمسّك بموقفه وبرأيه الّذي يمليه عليه علمه، من جهة، وتمليه عليه المصادر الّتي كان يفكّر في إطارها، من جهة أخرى. وهذا مثال يدلّ على أنّ الأخلاق بصفتها الذّاتيّة والفرديّة لها دور. وفي العصر الحاضر نجد أنّ هناك مجموعة من العناصر ساهمت في الوصول إلى ما يمكن أن نسمّيه فوضى الإفتاء؛ من بينها غياب الشّرط الأخلاقيّ أو أنّه لم يعد متوفّراً إلّا في قلّة قليلة جدّاً، أصواتهم غطّت عليها أصوات غالبيّة من لا رادع لهم لا من أخلاق ولا من قيم ولا من دين. وإذا كان المسلم عبر التّاريخ يستفتي بحثاً عن الانسجام بين سلوكه وعمله اليومي وما يؤمن به ويعتقد فيه، فإنّ هؤلاء الّذين يصدرون فتاوى ذات طبيعة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ذات علاقة بالسّلوك اليوميّ للنّاس، قد ساهموا في غياب الانسجام، وأدّى دورهم إلى نوع من الفوضى الإفتائيّة، الّتي خلّفت في ضمير المسلم الكثير من الجروح، فلم يعد منسجماً مع ذاته ولا مع دولته ولا مع ما يفرضه عليه العصر من مظاهر سلوك يوميّة؛ وأذكر هنا مثالاً عن بعض مواقع الفتيا على شبكة الإنترنت، وأنا من بين متابعيها، بغرض معرفة طبيعة أسئلة النّاس وطبيعة الأجوبة المقدّمة لهم، ومن بين ما يستفسر حوله النّاس ما يتعلّق بالاستماع إلى الموسيقى أو بمشاهدة السّينما أو بمتابعة المباريات الرّياضيّة أو غير ذلك؛ فيقدّم المفتي أجوبة فيها إلغاء تام للتّاريخ وللواقع ولإكراهاته، ويتمسّك بما قاله فلان أو علان من شيوخ مذهبه فقط، دون وعي بحاجة النّاس اليوم إلى الانسجام مع دينهم ومع عصرهم.

د. نادر الحمّامي: المستفتي أيضاً له دور في هذا، فقد استمعت مرّة فتوى على قناة فضائيّة، كان الرّجل طبيباً ويسأل المفتي، إن كان يجوز لزوجته الحامل أن تقوم بالإجهاض لأنّ الحمل فيه خطر على حياتها، ألا يثير هذا تساؤلاً عميقاً حول مسؤوليّة النّاس إزاء ما يقدّم لهم من فتاوى؟

دة. زهيّة جويرو: طبعاً هذا إشكال حقيقيّ، فالمفتي ما كان بإمكانه أن يستمرّ في ممارسة هذه الوظيفة إلى اليوم على الرّغم من تغيّر العوامل الّتي تفسّر وجود الإفتاء في الماضي، لو لم يكن هناك مستفتٍ. وهذا الأمر يعود إلى ما يُعرف في الفقه الإسلاميّ بمفهوم التّكليف، وهو مفهوم يضع فاصلاً بين العامّيّ ومن يملك المعرفة بالتّشريع، وهذا الأخير مكلّف بتعريف النّاس بما لا يعرفون. فالمسألة تعود إلى مفاهيم قديمة تم تثبيتها وتركيزها ودخلنتها حتّى أصبحت تشكّل العقل الإسلاميّ، إلى درجة أنّنا اليوم أصبحنا نجد من النّاس من هو أكثر علماً بكثير من المفتي، ومع ذلك يجد نفسه، بلا وعي ودون أن يطرح على نفسه السّؤال، يتوجّه إلى المفتي ويطلب منه المعرفة. هذا يبيّن سلطة المفاهيم التّأسيسيّة الّتي مازالت تتحكّم في العقل الإسلاميّ، رغم التّحوّلات الّتي شهدها السّياق التّاريخيّ. ولعلّ جزءاً من شقاء العالم الإسلاميّ راجع إلى هذا التّعارض بين تحوّلات الواقع الموضوعيّ بكلّ عناصره الاجتماعيّة والمعرفيّة، وثبات بنية العقل، وهي ليست ثابتة فحسب، وإنّما هي مصرّة على ثباتها وغير واعية بذلك. وإذا أردنا أن ندرس الفتوى من جهة المستفتي اليوم، فهناك الكثير ممّا يجب أن يُدرس في هذا الجانب، حتّى نتبيّن صورة عن البنى الذّهنيّة وعن أنماط التّفكير وعن التّصوّرات وعن المتخيّل وعن كثير من الجوانب الأخرى المتعلّقة بتمثّل النّاس لدينهم ولواقعهم.

الفتوى والمرأة والسّياسة

د. نادر الحمّامي: في سياق هذه البنى الذّهنيّة الّتي يمكن استخراجها من أسئلة المستفتي وأجوبة المفتي والأطر الثّقافيّة المتعلّقة بذلك، نجد أنفسنا أمام مسألة الفتاوى الجديدة وما لها من علاقة بمسألة المرأة والسّياسة، وأنت مهتمّة بهذا الجانب، وقد كتبت فيه كتابك «الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النّساء». فكيف تتحوّل الفتيا إلى وأدٍ جديدٍ؟

دة. زهيّة جويرو: لعلّ من الظّواهر اللّافتة للانتباه في المنظومة التّشريعيّة الإسلاميّة، في الفترة الحديثة والمعاصرة، أنّ هذه المنظومة تخلّت عن كثير من مجالات تخصّصها؛ من ذلك ما يُعرف بالأحكام السّلطانيّة، وأحكام الأموال، ولكن الدّائرة الّتي ظلّت ممتنعة عن التّبديل والتّغيير والتي ظلّت مؤسّسة الفتيا متشبّثة بها وغير مستعدّة للتّخلّي عنها، هي ما يمكن أن نسمّيه بعبارة قانونيّة حديثة دائرة الأحوال الشّخصيّة أو بعبارة قديمة فقه الأسرة. وعندما ننظر في أسئلة المستفتين، سواءً كانوا من الرّجال أو من النّساء، انطلاقاً من إحصائيّات المواقع الإلكترونيّة الّتي فيها جمع للفتاوى حسب المواضيع، فإنّنا نجد أنّ العدد الأكبر، دائماً، والّذي لا يُقارن من حيث الكمّ مع الأسئلة المتعلّقة بمجالات أخرى، هو مجال الأحوال الشّخصيّة، وكأنّ هناك نوعاً من استبطان فكرة أنّ المتحكّم في نظام الأسرة أو في أنظمة القرابة وغير ذلك، يتحكم في نظام المجتمع بصفة عامّة. ولهذا السّبب تعلّقت بالنّساء إلى اليوم أكثر مواضيع الاستفتاء، والمرأة في هذه الحالة هي موضوع الفتوى، وهي أيضاً مستفتية، وكلّ صورة تعطي معطيات مختلفة عن الأخرى.

د. نادر الحمّامي: ألا تكون المرأة مفتية أبداً؟

دة. زهيّة جويرو: هذا موضوع يتعلّق بالولاية العامّة، وهو إشكاليّ ويُطرح على المفتين بكثرة. وأغلب الولايات العامّة في الأحكام الإسلاميّة يُشترط فيها الذّكورة، وهذا ما أدى إلى إقصاء المرأة من تولّيها، ومن ثمّ حرمانها من المشاركة في الشّأن العامّ، وتولّي الوظائف العليا والمناصب الإداريّة والسّياسيّة وحتّى القضائيّة والفتوى. ومع أنّه أصبح هناك نساء مفتيات في بلدان آسيويّة وغربيّة كثيرة، فإنّ الوضع في العالم العربيّ مازال على حاله، وهذا له سبب آخر موضوعيّ يتمثّل في أنّ الشّريحة الأكبر ممّن يطرحون أسئلة على المفتين هي من النّساء، وعندما ننظر في نوعيّة الأسئلة ندرك أنّ أغلبهنّ نساء يمثّلن الشّريحة الدّنيا معرفيّاً وليس اجتماعيّاً؛ لأنّ الأسئلة تعطي صورة عن طبيعة الوعي وطبيعة المعرفة ولا تعطي صورة عن الموقع الاجتماعيّ، وأكثر تلك الأسئلة تتعلّق بنتف الحاجبين وبالخضاب وبأشياء أخرى في منتهى التّفاهة، وقليلات هنّ اللّاتي يطرحن أسئلة حول إشكاليّات حقيقيّة مثل تعدّد الزّوجات والمساواة في الميراث وتولّي النّساء للمناصب العامّة القضائيّة والإداريّة والسّياسيّة. وأعتقد أنّ أغلبهنّ لا يطرحن تلك الأسئلة طلباً لجواب المفتي، بل من أجل إثارة النّقاش. أمّا عندما ننظر من جهة أن تكون المرأة موضوع استفتاء، فإنّنا نجد في تلك الأسئلة ما يدلّ على الصّورة الّتي تتمثّل فيها المجتمعات الإسلاميّة المرأة؛ وأبرز مقوّماتها أنّ وظيفة المرأة تبدو في التّصوّر الغالب وظيفة تقليديّة، وليس هناك ما يدلّ على تطوّر نوعيّ في الذّهنيّات والسّلوكيّات حول صورة المرأة ووظيفتها وموقعها في المجتمع. والأمر هنا نسبيّ طبعاً، لأنّ الفتاوى الّتي توجد في مواقع ذات صلة بالخليج العربيّ تقدّم صورة، مختلفة عن الفتاوى الّتي توجد في مواقع أخرى مثل المغرب العربيّ، لذلك نجد نوعاً من التّفاوت في الوعي والتّصوّرات، ولكن الغالب أنّ صورة المرأة والتّمثّلات حول وظيفتها وموقعها في المجتمع وفي النّظام العامّ، تظلّ صورة محافظة، بل يمكن القول إنّها خارج التّاريخ، لذلك نلاحظ في كثير من الحالات تعارضاً واضحاً بين الواقع الّذي تعيشه النّساء، وبين الأحكام الّتي يعبّر عنها المفتي. وهنا أعطي مثالاً يتعلّق بمسألة الميراث، وهي مسألة تُثار بكثرة من طرف نساء كثيرات، ولعلّ طريقة طرح السّؤال لدى أغلبهنّ تشي بموقفهنّ الرّافض لمبدأ التفّاوت بين ما للذّكر وما للأنثى من نصيب في الميراث، ونفهم ذلك من طرائق التّعليل الّتي عادة ما تُرفق بالسّؤال، كأن تقول إحداهنّ إنّها تتكفّل بالإنفاق على العائلة، أو إنّ زوجها لا يقوم بواجب الإنفاق عليها، أو إنّها تشتغل وأنّ راتبها يفوق راتب زوجها... وهذا يعني أنّ هناك نوعاً من الشّعور بالضّيم من نساء يتحمّلن أعباء الإنفاق على الأسرة، في حين أنّهنّ يُحرمن من حقّهن مساوياً للذّكر عندما يتعلّق الأمر بتوزيع ميراث تلك الأسرة.

د. نادر الحمّامي: نفهم من ذلك وجود تباين كبير بين الواقع الاجتماعيّ وطرائق التّفكير عند المرأة بصفة عامّة، وبين ما تقدّمه الفتاوى الّتي تجمّدت واستندت إلى الموروث القديم دون محاولة إعادة التّفكير فيه. هل هذا ما يفسّر أنّ النّسبة الغالبة من الفتاوى اليوم تتعلّق بالنّساء أساساً؟

دة. زهيّة جويرو: هذا في المنظومة الإسلاميّة عموماً، ليس التّشريعيّة فقط، وكأنّ المسلمين ليست لهم قضايا أخرى أكثر أهمّيّة أو أخطر على مصيرهم من مسألة المرأة؛ فتراهم يهملون الكثير من القضايا الملحّة، ليخصّصوا جهدهم حول مسائل النّساء. ولنا أن نتساءل عن سبب إهمال قضايا الحرّية السّياسيّة والاستبداد مثلاً، ولعلّنا نلاحظ كيف كانت تلك القضايا في مقدّم اهتمام روّاد الإصلاح في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، جنباً إلى جنب مع القضايا الحقيقيّة للمرأة، الّتي مثّلت بالتّوازي مع قضيّة الاستبداد المحور الّذي كان يدور عليه فكر الإصلاح، وكان هناك نوع من الوعي بأنّ تحرير المرأة هو تحرير للمجتمع، بل هو تحرير للعقل، ويمكن أن نشير في هذا الباب إلى كتابات الطّاهر الحدّاد والشّيخ عبد العزيز الثّعالبي، وهي تطرح العلاقة بين تحرير المرأة وتحرير العقل العربيّ من هيمنة العقل الفقهيّ المنغلق. لينحسر الاهتمام بتلك القضايا لاحقاً رغم أنّها تُعتبر مصيريّة، ويمكن أن يقدّم التّفكير فيها وإثارة النّقاش العامّ حولها حلولاً جذريّة لمشاكل غياب العدل الاجتماعيّ والظّلم والتّناحر الطّائفي والحروب والتّمييز... لقد ترك العرب والمسلمون اليوم تلك المسائل الحقيقيّة وانشغلوا بمسألة المرأة، دون أن يلجوا إلى عمق الإشكال، فظلّ اهتمامهم بها سطحيّاً لا يعالج القضايا المحرجة المتعلّقة بمكانتها في المجتمع ومشاركتها الرّجل في تدبير الشّأن العامّ، والنّظر في حقّها في المساواة، باعتبارها فاعلة اجتماعيّاً لها حقوق وعليها واجبات، لذلك هُمّشت القضايا الحقيقيّة للمرأة. ولعلّ هذا التّهميش كان ولا يزال بدوافع دينيّة ولكن أيضاً بدوافع سياسيّة؛ ذلك أنّ مؤسّسة الإفتاء لا تتمتّع اليوم بهامش الاستقلاليّة عن السّلطة السّياسيّة، والمفتي لا يمكنه أن يصدع برأي مخالف لما يتماشى مع مصلحة السّياسيّ، ومن مصلحة السّلطة السّياسية ألّا تُطرح قضايا في عمق الإشكال، سواءً تعلّق الأمر بالمرأة أو بالقضايا الأخرى الحارقة، وأن يظلّ النّقاش سطحيّاً وتافهاً حتّى لا يفضي إلى المطالبة بالحقوق والإصلاحات.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبرين أنّ العقبة الحقيقيّة أمام تجاوز الموروث الفقهيّ والتّشريعيّ في كلّ ما يتعلّق بالمرأة، دينيّة أم سياسيّة؟

دة. زهيّة جويرو: لعلّ الفوضى الّتي يعرفها المشهد الدّينيّ اليوم، لا تجعلنا قادرين على الحديث عن مؤسّسة إفتاء، رغم أنّ لهذه المؤسّسة وجود رسميّ كما هو الأمر بالنّسبة إلى مؤسّسة الإفتاء في الجمهوريّة التّونسيّة، وحتّى المفتي الّذي على رأس هذه المؤسّسة أصبح يتصرّف بشكل فوضويّ على عكس ما كان عليه في مراحل سابقة، فقد كانت له وظيفة محدّدة ولا يتدخّل إلّا عندما يُطلب منه ذلك، اليوم أصبح مفتي تونس يسمح لنفسه أن يتدخّل في قضايا لا يُطلب منه التّدخّل فيها. ولعلّ أبرز مظاهر الخطورة الّتي يمثّلها الإفتاء في الوقت الرّاهن هي أن يكون ضديداً للدّولة، وأعنى تحديداً مثال الدّولة التّونسيّة، لأنّ هذه الدّولة الحديثة هي ما أوصَلنا إليها نسق التّطوّر التّاريخيّ، ومن أبرز مقوّماتها أنّها تستأثر بسلطة التّشريع، عبر مؤسّسات نيابيّة منتخبة تعبّر عن سلطة الشّعب؛ ومن البديهيّ أن يتعارض ذلك مع وجود المفتي، في حدّ ذاته ومؤسّسة الإفتاء عموماً. فلم يعد هنالك مبرر لوجودها، أو في أقصى تقدير، يمكن أن ينحصر دورها في علاقة فرديّة مع النّاس حول قضايا ذات صلة بالعقيدة والفرائض وبأحكام ممارسة التّديّن والإيمان. ولكنّنا اليوم نلاحظ أنّ المفتي يسمح لنفسه أن يتدخّل في مجال تخصّص الدّولة والمؤسّسة التّشريعيّة المدنيّة، والحال أنّ المرجعيّة الّتي يستند إليها تختلف جوهريّاً مع المرجعيّة الّتي تستند إليها المؤسّسة التّشريعيّة المدنيّة الّتي تحاول أن توجد تشريعاً يستجيب لتطلّعات الشّعب ولإكراهات اللّحظة التّاريخيّة الرّاهنة، ولا يستند بالضّرورة إلى التّشريع الإسلاميّ.

د. نادر الحمّامي: هل يمكن القول إنّ الإفتاء أصبح اليوم يمثل تهديداً صريحاً للدّولة الحديثة؟

دة. زهيّة جويرو: أخطر ما في ظاهرة الإفتاء أنّها تنافس الدّولة في اختصاصها، وتؤدي إلى زعزعة أركانها؛ وأذكر هنا مثالاً، فقد أجاب يوسف القرضاوي، على سؤال طُرح عليه يتعلّق بحكم وليّ الأمر الّذي يُبطل العمل بأحكام الشّرع، فاستحضر في الإجابة مثال إبطال حكم تعدّد الزّوجات في تونس، وأفتَى بتكفير وليّ الأمر الّذي قام بذلك. هذا القول يثير أسئلة كثيرة؛ فماهي أحكام الشّرع الّتي يتحدّث عنها؟ وهل من المعقول أن تحافظ تلك الأحكام الّتي استنبطها بشر مثلنا على وجودها رغم انتفاء الحاجة الرّاهنة لها؟ أليست هناك إمكانيّة لأحكام شرع جديدة عبر تأويل جديد يأخذ بعين الاعتبار إكراهات اللّحظة الرّاهنة ومقتضياتها؟ ثمّ من أعطاه السّلطة لكي يكفّر؟ خاصّة وأنّ الإفتاء القديم لم يكن فيه تكفير. وهل إنّ هذا المفتي الّذي يكفّر وليّ أمر أبطل العمل بأحكام الشّرع ليس على دراية بخطورة ذلك أو أثره على النّاس؟ ألا يؤدّي هذا مع ما نعرف من تدنّي نسبة الوعي وهيمنة الخطابات الدّينيّة المسيّسة، إلى هزّ استقرار الدّول؟ أعتقد أنّنا لا يجب أن نغفل عن هذه المزالق الّتي يقع فيها الإفتاء اليوم، كما لا ننسى الدّور الواضح الّذي لعبه يوسف القرضاوي في إسقاط العديد من الأنظمة العربيّة، حتّى لُقّب بـ «مفتي النّاتو». وإذا ما نظرنا في فتاويه من جانب دينيّ ومعرفيّ، نجد أنّه مازال يعيش خارج التّاريخ، ويريد أن يفرض على البلدان الإسلاميّة نظام حكم معيّن، لا يستجيب مطلقاً لتطلّعات النّاس إلى عالم أفضل.

د. نادر الحمّامي: من الواضح أنّ هذه الفتاوى ذات جوهر سياسيّ وأنّها تتخندق وراء محاور معيّنة، ولكن كيف تفسّرين وقوع فئات واسعة من الشّباب فريسة سهلة لهذه الفتاوى الجهاديّة الّتي تزجّ بهم في شبكات القتال؟

دة. زهيّة جويرو: هذا أمر مؤسف، ولا يمكن أن نلوم فقط المفتي الّذي يتكلّم بما يخدم مصلحته ومحاور الشّرّ الّتي توظّفه، ولكن وجب أن نلوم أنفسنا أوّلاً لأنّنا مقصّرون كلّ من جهته، وأن نلوم شبابنا الّذي لا يفتح عينيه على الحقيقة، حتّى يرى كيف أنّ هؤلاء المفتين الّذين يُلقون به في أتون حروب ظالمة لا معنى لها وفتن طائفيّة لا تعنيه ولا تعني الإنسانيّة، يعيشون البذخ وينعمون بالأموال الطّائلة، وأنّهم يرسلون أبناء النّاس إلى الجحيم، ويرسلون أبناءهم إلى أرقى الجامعات البريطانيّة والأمريكيّة. إنّه لأمر مؤسف أن يصدّق شبابنا أناساً ليس لهم حدّ أدنى من النّزاهة والمصداقيّة، وأن يستجيب لمن يقف خلف الشّيطان. وإذا نظرنا في أسباب تفشّي تلك الفتاوى، فإنّنا نلاحظ أوّلاً أنّها مسنودة من أطراف سياسيّة وماليّة متنفّذة في العالم، ونلاحظ أيضاً أنّها ذات تخطيط استراتيجيّ عميق ودقيق، وأنّها تستند على منجزات تكنولوجيّة ومعلوماتيّة هائلة ومتطوّرة جدّاً، تسمح لأصحابها أن يكتسحوا الكثير من الفضاءات وتسهّل عليهم الوصول إلى الفئات الّتي يعملون على استقطابها، وهم يستخدمون وسائل التّواصل الاجتماعيّ دون أن يشعروا بأيّ تعارض بينها وبين وما يُفتون به؛ إنّهم يملكون سلطة الإعلام، والمال والدّين والتّاريخ، وفي المقابل يبدو المثقّف معزولاً ومعرّضاً بشكل يوميّ للتّكفير والقمع والتّضييق على الحرّيّات.

الموروث التّشريعيّ الفقهيّ: إعادة النّظر وعوائقها

د. نادر الحمّامي: هذا ما يجعل مسألة إعادة النّظر في منظومة التّشريع الإسلاميّ قصد تأويلها تأويلاً جديداً، ضرورة ملحّة اليوم، دون أن يتحوّل التّأويل إلى محاولة تأصيل قيم معاصرة في موروث قديم. كيف تقاربين هذه المسألة؟

دة. زهيّة جويرو: هذا سؤال ملحّ، وقد سبق أن انتبه إليه الفكر الإصلاحيّ العربيّ، وهو يحتمل وجهة نظر أولى ترى أنّ هذا الموروث كلّه بما فيه الجانب التّشريعيّ الفّقهيّ، قد تجاوزه التّاريخ ولم يعد قادراً على أن يمدّنا بأجوبة على أسئلتنا المعاصرة، ولا بحلول لإشكاليّاتنا التّنظيميّة والهيكليّة، وبناءً عليه فإنّ الأمر يقتضي أن نضع الدّين وما تبعه في الموضع الّذي يجب أن يكون فيه، وهو دائرة الفرديّ والذّاتيّ، وأن نترك دائرة تدبير الشّأن العامّ لمؤسّسات أخرى تستند إلى مرجعيّة القانون الوضعيّ، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار الفقه الإسلاميّ، على الرّغم من أنّه يُعتبر وضعيّاً لأنّه بشريّ وتاريخيّ ودائرة المقدّس فيه هامشيّة. هذه وجهة نظر توصَّف بأنّها عَلمانيّة أو لائكيّة، وأنا أوصّفها بأنّها وجهة النّظر الّتي تفكّر من خارج المنظومة الدّينيّة. أمّا وجهة النّظر الثّانية فهي ترى مع اختلافات نسبيّة أنّه بالإمكان أن نوجد حلولاً من داخل هذه المنظومة وأن نوجد أسئلة لأجوبة عصرنا ولكن بمراجعة جذريّة وجوهريّة لهذه الدّائرة بكلّ عناصرها، وهذا يطرح التّساؤل حول آليّات هذه المراجعة وأدواتها فكريّاً ومنهجيّاً وإيديولوجيّاً. وبعد استقراء للتّجارب الّتي انطلقت منذ القرن التّاسع عشر وصولاً إلى اليوم نتبيّن أنّ وجهة النّظر الأولى تبقى معقولة في ذاتها ومنسجمة شكليّاً ومقنعة داخليّاً، ولكن لا بدّ أن تتهيّأ لها الأرضيّة المناسبة لإنباتها، فالتّربة الّتي يجب أن تنبت فيها غير متوفّرة، أي أنّ الذّهنيّات العامّة، مازالت تؤمن إيماناً ثابتاً بأنّ لا انفصال بين الاعتقاد الدّينيّ والحياة اليوميّة.

د. نادر الحمّامي: إذا أخذنا مثال تونس بعد ستّين سنة من صدور مجلّة الأحوال الشّخصيّة، فإنّ بعض المسائل ما تزال قطعيّة الدّلالة والثّبوت، ولا يمكن النّظر فيها إلى اليوم؛ مثل القوامة ورئاسة العائلة والميراث والنّسب، ولم نتجرّأ على إعادة التّأويل حتّى نصل إلى حلول جذريّة تنسجم مع القيم الّتي ينبغي أن نؤمن بها. فهل الإشكال برأيك منهجيّ؟

دة. زهيّة جويرو: يتوقّف الأمر على الآليّات الّتي نفكّر بها وعلى المناهج الّتي نعتمدها، وحتّى لا تبدو لنا المسألة مستعصية وصعبة، يجب أن نفكّكها إلى إشكاليّات جزئيّة، ومن بين تلك الإشكاليّات ما يتعلّق بمسألة التّشريع الّتي تقتضي إعادة النّظر في منهجيّة تفسير القرآن، وأن ندرك أنّ لا شيء غير القرآن منزّه، وكلّ ما سواه بشريّ؛ فلم يحدّد الله الطّريقة الّتي نفهم بها القرآن، لم يقل عليكم أن تفسّروا القرآن بدءاً من الفاتحة وصولاً إلى آخر آية فيه، ولم يقل إنّ كلّ آية تفسّر لوحدها، فهذه كلّها مواضعات بشريّة. وعندما ندرك الفارق بين ما هو إلهيّ وما هو بشريّ سنبدأ في زحزحة الاعتقادات الخاطئة الّتي أحدثت التباساً في فهم النّصّ وعلاقته بالواقع.

د. نادر الحمّامي: هذه المنهجيّة الّتي ابتدأها الكثير من المفكّرين، فمنهم من يميّز بين الدّين والتّديّن، ومن يميّز بين إسلام الرّسالة وإسلام التّاريخ، ومن يميّز بين الإسلام المعياريّ والإسلام التّاريخيّ... ألم تثبت قصورها ومحدوديّة نتائجها؟

دة. زهيّة جويرو: هذه التّصوّرات فيها نسبة كبيرة من الانسجام الدّاخليّ ومن المعقوليّة، ولا أعتقد أنّها تشكو قصوراً نظريّاً أو فكريّاً، بل إنّها تواجه قصوراً تنظيميّاً، يجعلها غير قادرة على مواجهة الأفكار التّراثيّة الّتي تسندها دول ومنظّمات عالميّة مثل «الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين»، وأعتبر أنّ جميع الأصوات الّتي تحاول بناء مشاريع للتّفكير في حلول ترمي إلى إعادة تأويل التّراث تمثّل بالنّسبة إلينا شموعاً على الطّريق، وأنّ الإشكال ليس في داخل هذه الأفكار وليس إشكالاً معرفيّاً ولا منهجيّاً، وإنّما هو إشكال في السّياق؛ ذلك أنّ الفكرة لا معنى لها دون من يتقبّلها، وأنّ أيّ خطاب يستوجب توفّر الباثّ والمتلقّي. والمشكل أنّ المتلقّي اليوم يتوجّه إلى نوع من الخطاب دون الأنواع الأخرى، وهذا جزء من معركتنا، على الرّغم من قلّة الإمكانيّات ما يجعل المثقّف اليوم مقصوص الجناح. وفي رأيي، إنّ وجهة النّظر هذه الّتي ترى أنّه يمكن من داخل هذه المنظومة التّراثيّة أن نعيد النّظر فيها وأن نقدّم أجوبة لأسئلتنا هو طرح معقول وذو جدوى، ومع أنّه ليس الأكثر معقوليّة، إلّا أنّه ممكن معرفيّاً أن يتطوّر من خلال الدّراسات التّطبيقيّة الّتي من شأنها أن تساعد على إيجاد أجوبة مهمّة حول التّراث والجدوى المنتظرة من مباحثه في الواقع الرّاهن، أي إنّها دائماً تطرح زوايا نظر مختلفة عمّا سار عليه القدامى في فهم النّصوص وقراءتها، وقد تمثّلوها انطلاقاً من حاجة واقعهم، وعلينا نحن أن نعيد تمثّلها انطلاقاً من حاجة واقعنا أيضاً، بأن نعيد النّظر على سبيل المثال في الأحكام، على غير الأسس القديمة، لأنّ التّاريخ قد تغيّر ولم تعد الكثير من الأحكام القديمة المستنبطة من النّصّ صالحة لعصرنا، من ذلك الأحكام المتعلّقة بالرّبا، وتعدّد الزّوجات، والميراث... لنأخذها ونفكّكها ونتبيّن كيف فكّر فيها القدامى وبأيّ أدوات وكيف يمكننا أن نعيد بناءها لنرى أنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج أكثر انسجاماً مع عصرنا وحاجاتنا. هذا عمل المفكّر والباحث والمثقّف، ولكن وجب ألّا يكون عمله وحده، بل عمل المجتمع المدنيّ والجمعيّات ومراكز الأبحاث أيضاً، حتّى تتحوّل تلك الأفكار إلى فعاليّة وإلى واقع قادر على التّغيير.

د. نادر الحمّامي: ولكن المفكّرين والباحثين يتحمّلون جزءاً من المسؤوليّة أيضاً، فكأنّهم يعملون في جزر متفرّقة في مقابل تيّارات أخرى موحّدة، ولذا ينبغي أن نتحمّل مسؤولياتنا.

دة. زهيّة جويرو: صحيح، لنأخذ مثلاً تونس، فهي تتوفّر على أصوات عديدة قادرة أن تقدّم البديل في مجال التّفكير والاجتهاد بأيّ مفهوم شئت. ففيها نسبة كبيرة من الحرّيّة على خلاف ما هو موجود في كثير من البلدان الأخرى، ولها أدوات معرفيّة، عملت على توفيرها الجامعة التّونسيّة لأجيال من أجل أن تحقّق هذا المشروع، ولكن الإشكال أنّنا إضافة إلى مؤسّسة الجامعة لا نجد أيّ مؤسّسة تستطيع أن تؤطّر كلّ هذه الجهود وأن تدرجها ضمن إطار خطّة استراتيجيّة، فليس لنا تنسيق وليس لنا خطّة عمل. كل واحد يعمل بجهده الفرديّ، وهذا مهمّ ولكن ليس له الفاعليّة ذاتها الّتي لجهد المؤسّسات. يجب أن تكون لنا مؤسّسات قادرة على أن تجمع هذه الجهود الفرديّة، وعلى أن تنسّق بينها، وعلى أن تدرجها في إطار خطّة استراتيجيّة تكون لها من الجدوى والفاعليّة ما يجعلها قادرة على مواجهة هذا الخطّ الآخر الّذي أعتبره دخيلاً علينا وهو خطّ التّطرّف والانغلاق والتّشدّد، والّذي تشترك فيه أطراف عدّة، وهو خطّ على خلاف الخطّ الأوّل يخطّط وينسّق ويعمل، بينما في الطّرف الآخر هناك نقص كبير في تنسيق الجهود وفي وجود المؤسّسات الّتي تضع خطّة استراتيجيّة من أجل أن توفر لهذه الأفكار الموجودة والكتابات الموجودة على غرار كتابات الجامعيّين التّونسييّن مِساحات، فيكفي أن ننظر إليها لنجد أنّ هناك وراءها برامج عمل.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبرين أنّ المجتمع التّونسيّ له خصوصيّة تسمح له بقابليّة أفضل لاستيعاب هذه الأفكار؟

دة. زهيّة جويرو: المجتمع التّونسي كانت له خصوصيّة واضحة، تجعل لديه قابليّة أو ميلاً نحو الأفكار التّنويريّة والتّحديثيّة وفهماً متقدّماً للتّراث، ولا أدلّ على ذلك ممّا عبّرت عنه النّخب الإصلاحيّة التّونسيّة في بداية القرن العشرين، لكن الإشكال بدأ يتعمّق حديثاً لتخفت تلك الخصوصيّة شيئاً فشيئاً، بفعل تأثير العولمة ووسائل الإعلام، فقد هجمت على مجتمعنا القنوات الفضائيّة الدّينيّة، وعملت على غسل أدمغة النّاشئة، وحشو عقولهم بالأفكار المغلوطة عن دينهم وعن واقعهم وعن هويّتهم، ولعلّنا يمكن أن نتبيّن الاختلاف العميق بين ما كان عليه فهم الأجيال السّابقة للتّراث وبين ما أصبح عليه فهم الأجيال الحاليّة، وأن نتبيّن الفارق بين تديّن آبائنا وأجدادنا التّديّن السّمح المنفتح وبين تديّن اليوم الّذي أصبح تديّناً مسيّساً وعنيفاً. ولعلّي أعتقد أنّ الفكر المنفتح والمتنوّر لا بدّ له من وسائل تدعمه، ومن بينها الإعلام، حتّى لا تُترك تلك السّاحة المؤثّرة والخطيرة حكراً على نوع واحد من الخطّاب. ويمكن أن نعي اليوم حجم الخطورة الّتي مارسها الإعلام على الأجيال الجديدة حين ننظر كيف كان مسار التّشريع الإسلاميّ في تونس أكثر انفتاحاً ومعقوليّة حتّى في قرون الانغلاق وفي مراحل الاستعمار، وكيف تعطّل اليوم وأصبح يواجه الكثير من الصّعوبات. ومع أنّ الجامعات تلعب دوراً تنويريّاً مهمّاً إلّا أنّها تبقى نخبويّة وبعيدة كثيراً عن الفئات الاجتماعيّة المتنوّعة، والأفكار الّتي تنتجها حبيسة أسوار الجامعة، وغير قادرة على اكتساح فضاءات عامّة، وبالتّالي فهي غير قابلة لأن تُكوِّن أفكاراً جماعيّة لأنّها تبقى مغيّبة عن الإعلام.

د. نادر الحمّامي: لعلّ بعض النّخب الجامعيّة الّتي تحتلّ وسائل الإعلام، هي أيضاً، تساهم بشكل ما في دعم الأفكار المحافظة، ولا تعبّر عن الفكر المتنوّر الّذي يبدو أنّها لا تؤمن به.

دة. زهيّة جويرو: لذلك قلت إنّ الخصوصيّة التّونسية بدأت تخفت وتضمحلّ شيئاً فشيئاً، ومن أبرز مراحل ذلك أنّ الإسلام التّونسيّ الّذي كان إسلاماً منفتحاً ومتسامحاً، أصبح لا يختلف كثيراً عن الإسلام في مواضع أخرى، وهذا في الحقيقة يضيف إشكاليّة أخرى لهذا التّوجّه وهي إشكاليّة القدرة على المنافسة؛ فنحن في معركة فكريّة، وبقدر ما تكون أدواتنا منسجمة ومتماسكة ومقنعة يكون خطابنا قادراً على فرض نفسه وإقناع المتلقّي، إلّا أنّه لا مجال للمقارنة بين وضعيّة الخطاب المحافظ ووضعيّة الخطاب الحداثيّ، لا من حيث الإمكانيّات ولا من حيث استراتيجيّات العمل المنظّم، ولا من حيث تجميع الأصوات النّاطقة باسمه، سواء من شخصيّات عامّة أو نخبويّة. لذلك أعتبر أنّ ما ينقص أيّ توجّه فكريّ تنويريّ هو أن يكون النّاطقون باسمه مؤمنين به إيماناً حقيقيّاً يتجاوز كلّ المغريات والمصالح الضّيّقة. ومع هذا كلّه أعتبر أنّ هناك الكثير من نقاط الضّوء في الكثير من المحاولات الّتي يقوم بها المفكّرون والنّخب الجامعيّة والباحثون، ومن شأنها أن تنير مساحات مهمّة للنّقاش وأن تتقدّم بنا خطوة إلى الأمام، وإن كانت بسيطة.

د. نادر الحمّامي: هل يمكن أن ينطلق الإصلاح الاجتماعيّ والفكريّ والذّهنيّ ذو العلاقة بالمسألة التّشريعيّة من المؤسّسات التّقليديّة؟

دة. زهيّة جويرو: المؤسّسات الدّينيّة التّقليديّة هي مؤسّسات قابلة لأن تكون منطلقاً للإصلاح، شرط أن تتوفّر فيها الاستقلاليّة عن السّياسة وعن المحاور الخارجيّة والتّنظيمات المشبوهة دوليّاً ذات الأهداف الهدّامة؛ أي ألّا تكون تابعة لأقطاب سياسيّة، فالتّبعيّة يستحيل أن تؤدّي إلى النّتائج الّتي ننتظرها، لأنّها تجعلها أكثر محافظة وتقليديّة وكليانيّة ولا يمكن أن تسمح بأي تغيير في المجال الّذي نرجوه؛ فهذه المؤسّسات لو توفّر لها حدَّاً أدنى من الاستقلاليّة الفكريّة والماليّة والسّياسيّة، فإنّها يمكن أن تكون منطلقاً لإثارة النّقاش حول الكثير من المسائل المهمّة، وبالتّالي أن تقدّم رؤية حداثيّة للدّين والتّراث. وأعتقد أنّ على المجتمع أن يساعد هذه المؤسّسات على القيام بذلك الدّور. وحتّى أبيِّن أنّ هذا ممكن، يكفي أن أشير إلى أنّ هناك أفكاراً بصدد التّشكّل انطلاقاً من مؤسّسات دينيّة تقليديّة في العالم الإسلاميّ وليس العربيّ، تؤمن بأنّ الإصلاح ممكن من الدّاخل، وأن تلك المؤسّسات قابلة للتّطوّر والتّنوّع ومواكبة الرّاهن، وأنّ المرأة يمكن أن تأخذ دوراً مهمّاً في ذلك كلّه، وأن تغيّر الصّورة النّمطيّة الّتي ارتبطت بها في التّراث الإسلاميّ، وأنّ بإمكانها اليوم أن تقوم بإمامة الصّلاة، ونجد الكثير من الدّراسات حول النّسويّات الإسلاميّات (islamic feminism) بصدد إنتاج مادّة معرفيّة على غاية من الأهمّيّة، قادرة أن تحقّق فارقاً نوعيّاً، وهي تنطلق من القول بأنّ من حقّ النّساء أن يكنّ مسلمات مؤمنات، وأن يتمتّعن بالعدالة الاجتماعيّة وبحقّ المواطنة. ونتبيّن من هذا أنّ الانفتاح على قيم الإسلام وقيم الحداثة في آن واحد ممكن، وأنّ المؤسّسة التّقليديّة تستطيع أن تتطوّر تشريعيّاً وعمليّاً، وأنّ المسلمين جميعاً يمكن أن يستفيدوا من ذلك.

د. نادر الحمّامي: على هذه الدّعوة، الّتي تصلح أن تكون خاتمة ومنطلقاً معاً، نختم هذا الحوار معك أستاذة زهيّة جويرو، ونشكرك شكراً جزيلاً على ما تفضّلت به.

[1] - أجري هذا الحوار في 20 آب/أغسطس 2016

[2] - الحوار مقتطف من كتاب أسئلة الدين والموروث، نادر الحمامي، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.