حوار مع محمّد الشريف فرجاني في شروط قراءة محيّنة للإسلام السياسيّ


فئة :  حوارات

حوار مع محمّد الشريف فرجاني في شروط قراءة محيّنة للإسلام السياسيّ

حوار مع محمّد الشريف فرجاني

في شروط قراءة محيّنة للإسلام السياسيّ

حاوره: أنس الطريقي

كنّا حاورنا محمّد الشريف فرجاني، ونحاوره اليوم، بين كتابيه (الإسلام السياسيّ واللّائيكيّة وحقوق الإنسان الصادر عام 1991 بالفرنسيّة، وكتابه الأخير الصادر بالفرنسيّة، والذي نترجمه بـ (من أجل الحسم في مقولة الاستثناء الإسلاميّ)، ما الذي تغيّر في تقييمه لهذه الظاهرة؟

في حواره هذا معنا، قدّم لنا محمّد الشريف فرجاني نموذجاً يمكن أن يكون دليلاً لكلّ تفكير حيّ، متفاعل مع التاريخ، لا يهدأ عن معاينة المتغيّرات المحيطة به، وعن التكيّف معها تعديلاً لأحكامه، وتجريباً لطرائق تفكير يمكن أن تكون أكثر نجاعة.

أنس الطريقي: بين أفكار البدايات والأفكار الرّاهنة التي عرضتموها في كتابكم الأخير حول ضرورة الحسم مع مقولة الاستثناء الإسلاميّ، ما الذي تغيّر في المنهج الذي طبقتموه في تقييم ظاهرة الإسلام السياسيّ، وفي المادّة المعتمدة في هذا التقييم؟ هل وسّعتكم نظركم إلى ظواهر أخرى تساعد على التفهّم والتفسير والتقييم؟

محمّد الشريف فرجاني: مقاربتي في البداية، كانت محكومة بما تعيشه المجتمعات الإسلاميّة أو بأثر تطوّر حركات الإسلام السياسيّ، وتناميها على هذه المجتمعات. كانت مقاربة محكومة بهذا الهاجس.

فيما بعد ساعدتني المقاربة المقارنة للأديان على تنسيب هذه الظاهرة وعلى إدراجها ضمن ما يعتمل في العالم؛ أي على مستوى عالميّ: أي ربطها بظاهرة العولمة، وبردود الفعل على العولمة الليبراليّة الجديدة. هذه الردود يشار إليها اليوم بالانزواء على الهويّات القاتلة، حسب تعريف أمين معلوف، أو على القبليّات الجديدة؛ أي على تلك التضامنات التقليديّة، وجماعات الانتماء التي يولد فيها الإنسان. هذه الردود، الظواهر، تشترك جميعاً مع العولمة الليبراليّة الجديدة في كونها تتعارض مع كونيّة الإنسان، وحقوق الإنسان، وكونيّة القيم التي يمكن أن تجمع البشر ضمن تضامنات أفصح من تلك التضامنات الطائفيّة القبليّة. التوق إلى تضامنات جديدة أرحب من تلك التي صاحبت الدول الوطنيّة وطوّرتها هذه الدولة الوطنيّة، والتي ساعدت الدولة الوطنيّة على أن تقوم وتنتعش.

هذه المقاربة الجديدة أفضت بي إلى التركيز على ضرورة القطع مع مقولة الاستثناء الإسلاميّ. وما عيب عليّ في هذا السياق، هو التطاول على قمّة من قمم الدراسات الإسلاميّة هي برنار لويس. كنت أشعر في الثمانينيات أنّ برنار لويس يتعسّف على الإسلام بصورة خاصّة بإقصائه من العائلات الأخرى، باعتباره استثناء، واختزال الإسلام في قراءة من قراءاته. لم أكن واعياً بوجود حركات شبيهة إلى حدّ ما بالإسلام السياسيّ. فيما بعد اكتشفت المسيحيّة السياسيّة، والهندوسيّة، وأنّه في عشرينيات القرن العشرين، تكوّنت في الهند جماعة هندوسيّة مثل الإخوان تدعو إلى قيام دولة هندوسيّة، وتقوم على تصوّر شموليّ للهندوسيّة. في الحالتين كان هناك توجيه هويّاتي جوهرانيّ للهندوسيّة والإسلام. ولاحظت التطوّر الذي مرّت به جماعة الإخوان مفرزة أحزاباً سياسيّة انخرطت في مسارات انتخابيّة وأوصلتها إلى الحكم. هذا نجده في هذه التجربة الإخوانيّة كما في تركيا مثلاً. هذا الأمر يقع أيضاً في الهند، فالحزب المنبثق عن هذه الجماعة الهندوسيّة وأحد أعضائها هو من قتل الزعيم الهندي غاندي، باعتباره يمثّل خطراً على نقاوة الهويّة الهندوسيّة، ولكن بهذا الانفتاح على الديانات والثقافات الأخرى، وبعد أن قتلوا غاندي، انخرطوا في العمل السياسيّ بحزب تكوّن على أرضيّة تلك الجماعة، وهو الآن مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا، يمسك بزمام السلطة، ونلاحظ تبعات ذلك على ما يجري في الهند.

ما يشدّ انتباهي، إضافة إلى هذا التشابه، هو الاختلاف في التعامل مع هذه الظاهرة في أمريكا الشماليّة وأوروبّا وبين المختصّين. لماذا يواصلون الكلام على الهند بوصفها أكبر ديمقراطيّة، رغم وجود هذا الحزب ورغم السياسات المناهضة لحقوق الإنسان ولأبسط قواعد الحياة الديمقراطيّة، وما إن تبدو بعض التذبذبات أو التلعثمات في خطابات الإسلام السياسيّ، يقال هذا دليل على أنّ أتباعه لم يتغيّروا؟

علينا أن نكون متّسقين في مواقفنا، فإمّا أن نعتبر هذه الحركات معادية للديمقراطيّة مهما كانت مرجعيّاتها، وإمّا أن نقول إنّ دخولها في العمليّة الديمقراطيّة سيؤثّر عليها شاءت ذلك أم أبت، وفي صيرورة التفاعل مع الديمقراطيّة سوف تظهر كما ظهرت في المسيحيّة السياسيّة، وفي تجارب أخرى، تعثّرات وتناقضات. لكن بصورة عامّة وبحكم الصيرورة التاريخيّة، فإنّ من يدخل اللّعبة الديمقراطيّة لا يخرج منها سالماً. من يمشِ على أرضيّة ويفتح مظلّة حقوق الإنسان، وإن كان بدافع الاحتماء بها، فلن يخرج من اللّعبة سالماً. وأنا أعجبتني فكرة (في إشارة إلى ندوة الإسلام السياسيّ، مطارحات ومقاربات، تنظيم قسم الدراسات الدينيّة، مؤمنون بلا حدود...، وقد كان فرجاني أحد المشاركين فيها) أنّ المشاركة في الانتقال الديمقراطيّ وفي كتابة الدستور بالنسبة إلى حركة النّهضة في تونس، وفي إدارة الشأن العام عبر المسارات الانتخابيّة، وإن كانت من المنطلق تختزل الديمقراطيّة في الآليّات، فإنّها سوف تؤدّي إلى نتائج لم تكن في حسبان المخطّطين لاستعمال الديمقراطيّة للوصول إلى الحكم، ثمّ بعد ذلك الانقلاب عليها مثلما قال علي بلحاج: لن نصوّت مرّة أخرى عندما ننتصر.

أنس الطريقي: هذا يعني أنّكم تعوّلون على الممارسة، على البراكسيس، لا على المراجعات النظريّة؛ أي على هذا الوجود العمليّ والتاريخيّ لهذه الحركة، وتعتبرونها ما يمكن أن يطوّرها، ويجعلها تغادر انغلاقها المذهبيّ.

محمّد الشريف فرجاني: أنا أعوّل على الاثنين معاً، هناك نوع من الجدليّة بين الخطاب والممارسة، والتنظير. قد تسبق الممارسة التفاعلات النظريّة، بسبب هذه التنازلات التي تقوم في إطار الحوارات. أنا مع النقاش والحوار العلنيّ لا في غرفة مغلقة؛ لأنّي أعتبر ما هو علنيّ يشهد عليه الجميع. وهذا قد يسبق الممارسة والتنظير؛ فمثلاً، ائتلاف الثامن عشر من أكتوبر كان على مستوى الخطابات ولم يكن ممارسات، والممارسة الوحيدة كانت إضراب جوع، لكنّ ما دار أساساً هو نقاشات بين مكوّنات هذا الائتلاف. وفي إطار هذه النقاشات، قامت حركة النهضة بتنازلات في قضيّة المساواة بين المرأة والرجل، وفي ما يتعلّق بمجلّة الأحوال الشخصيّة، وبتنازلات في خصوص استعمال العنف في السلطة، وفي العلاقة بين الدين والسياسة، ولكنّها تراجعت عن هذه التنازلات بعد الثورة. لكنّ الممارسة في المجلس التأسيسيّ، وفي علاقة بالسلطة من ناحية وبالمجتمع من أخرى، جعلت هذه الحركات بعد التراجع تجد في تلك التنازلات التي قامت بها في خطابها ما يبرّر قبولها بطلبات المجتمع المدنيّ. الحركة نفسها يقع تذكيرها بخطاباتها، ولذلك فهي تردّ بأنّها في الممارسة قبلت بالتنازل، وتنسى تفاصيل تعثّراتها. هي تقول نحن في نقاشنا مع حزب العمّال الشيوعيّ، ومع حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، كنّا نقول بهذه الأفكار التي يطلبها منّا المجتمع المدني الآن. كلّ ذلك الخطاب لم يضع، هو تراكمات، تزيدها الممارسة قوّة نحو التغيير، والاصطدام بالواقع عبر الممارسة يدفع أيضا نحو التغيير. هذا الوعي لم يكن حاضراً في كتاباتي التي كانت مرتبطة بواقع خطاب الحركة في الثمانينيات وبداية التسعينيات. ورغم ما طرأ على أبحاثي من تطوّر في علاقة بهذه الظاهرة نتيجة الدراسة المقارنة للأديان، ونتيجة احتكاكي بواقع الثورة. هذا كلّه جعلني مثلاً أفكّر أنّ اليسار لن يكون قادراً على فرض نفسه ما لم يقم هو نفسه بنقده الذاتيّ.

أنس الطريقي: أنتم تؤكّدون هنا ضرورة أن يراجع الباحث في هذه الظاهرة الإسلامويّة منهجه بصفة مستمرّة، وتعوّلون هنا على الممارسة، باعتبارها عامل تغيير.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، في إطار ضرورة خلق موازين القوى، ونشر الثقافة الديمقراطيّة والثقافة العلميّة، أنا أعتبر أنّنا لم نهتمّ كثيراً بنشر الثقافة العلميّة، ولم نولها الأهميّة، والحال أنّه عندما لا تصبح الثقافة العلميّة مكوّناً أساسيّاً للحسّ المشترك، وإذا لم نصل إلى نشرها، فإنّ التراجعات ممكنة، وسنبني باستمرار على أرضيّة هشّة. والفكر المحافظ السائد والخرافيّ هو الأرضيّة التي تنتعش عليها مثل هذه الحركات.

أنس الطريقي: هل يمكن أن يكون الإصلاح الدينيّ مدخلاً لتعميم الثقافة العلميّة والتفكير العلميّ، متى فكّرنا في العلاقة الطرديّة التي كانت بين الإصلاح الديني البروتستانتي والثورة العلميّة في أوربّا في القرن السابع عشر؟

محمّد الشريف فرجاني: أنا أعتبر أنّ نشر الثقافة العلميّة هو الذي سيحوّل المفاهيم السائدة في المنظور الدينيّ؛ فعندما تنتشر فكرة أنّ شكل الأرض كروي، وهي تدور على محورها، فهذا يطوّر تفسير القرآن. هم قالوا إنّ الأرض دحاها أي بسطها؛ لأنّ الثقافة العلميّة في زمانهم القديم قالت لهم ذلك. الثقافة العلميّة الجديدة ستعلمن كلّ شيء بما في ذلك الدين. إنّ أدلجة الدين بالطريقة التي نجدها مع الإسلام السياسيّ وبالطريقة التي وقعت مع المسيحيّة هي المرحلة الأولى في علمنة الدين.

أنس الطريقي: هل يعني هذا أنّ هذه الحركة داخلة في صيرورة علمنة غير ملحوظة وغير واعية، بفعل انخراطها في عمليّة تسييس للدين تعدّ عمدة بنائها النظريّ الإيديولوجيّ؟

محمّد الشريف فرجاني: نعم، هي تناهض العلمنة، ولكنّها في الوقت نفسه تتحرّك على أرضيّة العلمنة. إنّ مجرّد تحويل الدين إلى إيديولوجيا هو عمليّة علمنة. هناك عالم اجتماع إيراني اسمه فرهاد خسرو خفر يتحدّث عن التجربة الإيرانيّة، ويقول في حديثه عن صيرورة علمنة الدين: إنّ أدلجته وتحويله إلى طوبى سياسيّة هو المرحلة الأولى في العلمنة، وتبدأ المرحلة الثانية بعد الفشل السياسيّ لمشروع الإسلام السياسيّ في الحكم.

أنس الطريقي: بمعنى أنّ الإسلام السياسيّ يخدم بطريقة غير مباشرة نقيض مشروعه. أراد افتكاك المجال العامّ من العلمانيّة، فمارس سلوكها دون وعي منه.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، هو مكر التاريخ، فمن يعارض مسار التاريخ ويعانده، ينكسر على قوانينه.

أنس الطريقي: هذا ينطبق على الدولة الوطنيّة، فعندما انخرطت في مواجهة الإسلام السياسيّ ومعارضته خدمت وجوده بطريقة غير مباشرة، عندما راهنت على أن تفتكّ منه المجال الدينيّ، ولكنّها كرّرت خطاباً دينيّاً لا يختلف عن الخطاب الذي كان يتبنّاه في مستوى قربه من الذائقة العامّة، ذائقة الحشود، وهي ذائقة لا تتعالى بطرق إيمانها، أو تعيش على نمط إيمانيّ جماعيّ يكون محلّ توافق أكبر عدد من المؤمنين.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، الأمر صالح في الاتّجاهين. لهذا أقول إنّه ما لم تنتشر الثقافة العلميّة بالقدر الكافي في المجتمع، فإنّ إمكانيّة الانتكاس ممكنة، ومثال ذلك المحافظون الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وعودة الخلقويّة، والمقولات المحافظة جدّاً، حتّى أنّ بيار بورديو اعتبرها ثورة محافظة.

أنس الطريقي: هذه العودة الدينيّة المحافظة في المجال الأنجلوسكسونيّ، يمكن أن تفسّر عودة الإسلام السياسيّ الرّاهنة، باعتبارها داخلة في إطار موجة عالميّة.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، وهذا يجعلنا ننسّب الأمور، لكن هي محاولة أو ردّ فعل على هذه العولمة اللّيبراليّة التي تحكمها قوانين اللّيبراليّة الجديدة، والتي تفرض نمط مجتمع يعتبر الفرد فيه مجرّد مستهلك، وتزول فيه القيم، ويصبح البشر مجرّد رقم في معادلة. ومن المشروع جدّاً أن يُرفض كلُّ هذا، لكنْ، المشكلة أنّه يقع على أرضيّة الحنين إلى المنظومات والقيم السابقة. والسبب أنّنا لم ننتج تضامنات أرقى من التضامنات التي أنتجتها الدولة الوطنيّة.

أنس الطريقي: والدولة متعدّدة الثقافات التي تحدّث عنها ويل كيمليكا، ألا تمثّل خياراً أو بديلاً من هذه الناحية؟

محمّد الشريف فرجاني: هذه دولة مجتمع متعدّد الثقافات، وهذا فيه نظر؛ لأنّ النماذج التي قامت في القرنين التاسع عشر والعشرين من أجل تحقيق الاندماج المجتمعيّ، وصلت إلى نهايتها، وهي جميعاً في وضع الأزمة: النظام الجمهوريّ، ونظام الجماعات في كندا وأمريكا. والمشكلة أنّنا لا نعي ذلك. نعيش كلّنا مرحلة انتقال لا نتحكّم فيها. والخوف ممّا سيفضي إليه من انزواء على تضامنات تقليديّة. هذا يوفّر أرضيّة، لكنّه حلّ عرضيّ ووَهم لا يمكن أن يدوم. وبورديو مثلاً عندما درس الثورة المحافظة، قارنها بما وقع في ألمانيا في الثلاثينات، ويحدّد الفرق بين ما وقع في الزمنين في أنّ الثورة القديمة كانت تريد أن تحدّ من دور الدولة، في مستوى دورها الاقتصاديّ، بينما فهمت النيوليبراليّة أنّ الدولة لها دور يجب أن تعوّل عليه، وهي في وضع خضوع للنيوليبراليّة مقابل معارضتها لها في السابق. قوّة النيوليبراليّة أنّها حوّلت الدولة إلى آليّة من آليّات تحقّقها. وهذا ما يفضي إلى خلق فراغات مثيرة للحيرة والخوف منها ومن نتائجها، وهو ما يؤدّي إلى انتعاش الحنين إلى الماضي. هذا يجعلنا أيضاً ننسّب الظاهرة الإسلاميّة، فهي ظاهرة غير معزولة عمّا يحدث في العالم. وهي أيضاً إفراز من إفرازات الواقع، وهي إذن محكومة بأن تتطوّر مع تطوّر الواقع الذي أفرزها؛ لأنّه واقع متطوّر لن يكفَّ عن التطوّر. هذا يفرض علينا القطع مع المقاربة الماهويّة لجميع الظواهر الإنسانيّة.

أنس الطريقي: متى عدنا إلى تاريخ هذه الحركة الإسلامويّة، لاحظنا أنّ صيرورتها التاريخيّة كانت تداولاً بين البروز والخمود، وفي هذه الفترات خرج منها ما كان قابلاً للانخراط في اللّعبة الديمقراطيّة، وما ذهب إلى الانخراط في تنظيمات إرهابيّة. والخوف هو أن تعود هذه التوجّهات في المستقبل بوجه أكثر حدّة، خاصّة وأنّها تستند إلى مفاهيم أساسيّة موجودة في الدين الإسلاميّ، ترتبط بفكرة الخلق، وبتصوّر صورة اللّه المختلفة عن صورته المتصوّرة في المسيحيّة المعاصرة، صورة هذا الإله الذي لا يتدخّل في العالم بعد خلقه، خلافاً للتصوّر الإسلاميّ. هذا الفرق وصفه محمّد عمارة مثلاً، وقد خصّصنا له ملفّين بحثيّين نشرتهما المؤسّسة؛ الأوّل كان ضمن سلسلة من أربعة كتب اهتمّت بدراسة المفاهيم الأساسيّة للجماعات الإرهابيّة، وكان الملفّ متعلّقاً بموضوع التوحيد، بينما كان الملفّ الثاني بعنوان مفهوم الحاكميّة. هذه الفكرة عن ضرورة تنفيذ العهد مع اللّه المدبّر للعالم، بتنفيذ تدبيره للعالم، كيف يمكن إلغاء أثرها الممكن هذا، أو تنسيبها في ذهن المؤمنين بها؟

محمّد الشريف فرجاني: أنا لا أعتبر أنّ التصوّرات هي وحدها التي تتحكّم في صيرورة الواقع، فالواقع بدوره يتحكّم في التصوّرات. أنا لا أعتبر أنّ تصوّرات الإله وعلاقته بالكون في الإسلام أو في المسيحيّة هي السبب، فهذه التصوّرات موجودة عند الخلقويين المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالصورة نفسها. فكرة شموليّة الدين موجودة أيضاً عند المحافظين في اليهوديّة وفي الهندوسيّة. ما الفرق بين ما يقع في الهند وغيرها؟ أنا أعتقد أنّه لا بدّ من تنسيب هذه الفكرة، كما لا أعتقد أنّ المعتزلة والمتصوّفة يحملون التصوّر نفسه مع الحنابلة. لماذا انتصر هذا الفهم السنيّ الحنبليّ؟ يجب أن نبحث عن تفسير. فكرة الخلق هذه ليست معطى حاكم. التفسير الأدقّ هو تفسير تاريخيّ، ويجب أن نتساءل ما الظروف التاريخيّة التي سمحت باستمرار هذا التفكير؟ من كان ينتظر في السعوديّة خطاباً مثل خطاب محمّد بن سلمان؟ ومن كان ينتظر أنّ الأئمّة أنفسهم سيقولون خطاباً يدعم توجّهه المعارض للتوجّه القديم دون أدنى حرج، فالأشخاص أنفسهم انقلبوا على آرائهم السابقة؟

المشكلة الأساسيّة بالنسبة إليّ أنّه إن لم تنتشر الثقافة العلميّة، فإنّ التصوّرات نفسها سوف تعود شئنا ذلك أم أبينا.

أنس الطريقي: لا سبيل إذن إلى تطويع هذه الحركات التي يمكن أن تهدّد صناعة مشروع مجتمعيّ يحظى باتفاق معقول، ويؤسّس التعايش الجماعيّ على قواعد صلبة إلّا بتواصل تأسيس الثقافة العلميّة.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، هي ضروريّة، يجب أيضاً أن ننشر ثقافة ديمقراطيّة. من ناحية أخرى يجب أن نعي أنّنا في عالم جديد صار قرية صغيرة، والأديان فيه والخيارات الدينيّة تتواجه باستمرار، حتّى صرنا جميعاً عبارة عن أقليّات. ولهذا، فإنّ التناقضات تظهر بسرعة. ولكن ما دمنا تحوّلنا إلى أقليّات فعلى كلّ طرف منّا أن ينسّب نفسه. فالتنسيب سمة من سمات الحداثة. ومن يرفضون النسبيّة، ويقولون بإطلاقيّة حقائقهم، مجبرون على التراجع. اليوم سيفرض عليه الحوار مع الآخر وحضارات الآخر أن يتحدّث بمنطق لا إكراه في الدين، ولكم دينكم ولي دين. وحتّى لو كان ذلك من باب المناورة، سيفرض عليهم التطوّر رغما عنهم... يجب علينا أن نعي بقوّة الحياة، الحياة التي تفرض نفسها على النصّ. فالنصّ يمكن له في مرحلة ما أن يؤثّر في الواقع، ولكن في نهاية المطاف، فإنّ النصّ الذي يمرّ بحدود الزمان والمكان والثقافة، لا بدّ أن يتغيّر، فما الذي جعل الأديان تتنوّع؟ السبب هو دخولها حيّز الثقافة، فهذه تؤثّر فيها، وقبل أن يعتنق أيّ شعب ديناً ما، فعلى ذلك الدين أن يعتنق ثقافته، وإلّا فإنّه يعمّر فيه.

أنس الطريقي: ينطبق هذا على الإسلام السياسيّ، إذ يمكن القول إنّه تتونس، بمعنى أنّه انطبع بطابع ثقافة البلاد.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، بالتأكيد، هناك إسلام تركيّ، وإسلام أندونيسي. عندما ذهبت إلى أندونيسيا تحدّثت مع رئيس نهضة العلماء الذي كان رئيساً لأندونيسيا، قال لي: أنتم تتحدّثون عن حوار الأديان. وما يهمّني أنا هو الهندوسيّة والبوذيّة لا المسيحيّة واليهوديّة التي تهمّكم أنتم، ولا أثر لها في المجتمع الأندونيسيّ. الواقع هو الذي جعل الأندونيسي لا يهتمّ في حواره مع الأديان الأخرى بثقافات البحر الأبيض المتوسّط. هذا يعني أنّ كلّ من يتحدّث عن شموليّة الإسلام وأزليّته لا ينظر إلى تنوّع الإسلام بمفعول الثقافات المميّزة للشعوب. مصحف صنعاء والاكتشافات الأركيولوجيّة سوف يكون لها أثر في معنى الإسلام. ومقولة النصّ المحفوظ كما يفهمها سائر المسلمين ستتأثر كثيراً. الإسلاميّون لن يقبلوا بهذه النتائج تماماً، كما لم يقبل المسيحيّون واليهود نتائج مشابهة في خصوص نصوصهم الدينيّة. لم يقبلوا النقد التاريخيّ للنصوص، إذ لا علاقة لها بالتاريخ عندهم، ولا بالنصوص السابقة عليها. فهو من فترة الجاهليّة المتجاوزة. الثقافة العلميّة مهمّة جدّاً، وهي في تراجع اليوم في كلّ العالم، في أمريكا تمكّن المحافظون الجدد من فرض مقولات غيبيّة تتحكّم في السياسة الأمريكيّة، سياسة أعظم دولة في العالم خاضعة الآن لهذا الأثر المحافظ.

أنس الطريقي: الحركات المتطرّفة ترتكز بدورها على هذه التصوّرات عينها حول اللّه، والشريعة، وغيرها من المقولات التي أفردنا لها في المؤسّسة مجموعة من الكتب، خصّصناها في قسم الدراسات الدينيّة لأهمّ المفاهيم النظريّة التي تتأسّس عليها إيديولوجيا التطرّف الإسلاموي، كمفهوم التوحيد، والجهاد، وغيرها.

محمّد الشريف فرجاني: نعم، هذا صحيح، لكنّ الأصحّ أنّ هذه الحركات تتغذّى من الثقافة السائدة في المجتمع. أتذكّر أنّني تحدّثت مع أزهريّ في أوروبّا، كان يحاول البرهنة على أنّ داعش ليست من الإسلام، قلت له أنا عندما أذهب إلى القاهرة أو إلى تونس أو إلى غيرها من البلاد العربيّة المسلمة، وأسمع خطب الجمعة، لا أجد فرقاً بين ما يقال فيها وخطاب داعش في مستوى المضامين العميقة، وآليّات التفكير. في الجوامع، وفي الإذاعات، وفي الجرائد، وفي الكتب المنشورة بالآلاف، هذا الخطاب يجد انتشاراً واسعاً. لهذا لن يكون التصدّي لهذا الفكر إلّا بنشر الثقافة العلميّة، بوسائط السلطة والتعليم والثقافة.

أنس الطريقي: لكنْ، هناك ضغط من قبل الإسلامويّة باستخدام هذه الوسائط، وأهمّها الدولة.

محمّد الشريف فرجاني: الخطورة تكمن هنا. لكن ماذا فعلنا نحن المثقفين لتغيير موازين القوى، وإيقاف زحف الثقافة الخرافيّة، ونشر الثقافة الديمقراطيّة بدل الثقافة الاستبداديّة، وثقافة حقوق الإنسان بدل ثقافة حقّ اللّه. رهان الإسلامويّة هو القبض على الدولة، ولهذا الأمر كان دخولهم في الانتخابات، منذ أواخر القرن العشرين، ثمّ بعد هذا الحراك العربيّ في القرن الحادي والعشرين. وهذا الدخول هو نتيجة فشل استراتيجيّة العنف.

والوعي من قبل المثقّفين بهذه الخطورة مفقود. المشكلة تزداد حدّة بسبب أنّنا نعيش اليوم أزمة لنماذج الاندماج الاجتماعيّ والسياسيّ التي تبلورت في القرن العشرين. نحن خاضعون لهذا التحوّل الذي سبّبته العولمة، ولا قدرة لنا على الفعل من منظور ديمقراطيّ، ولهذا نستمرّ في الدفاع عن نماذج مفلسة، وهو ما تستغلّه هذه الحركات المتنامية.

أنس الطريقي: ما توقّعاتكم إذن؟

محمّد الشريف فرجاني: على المدى القريب أنا متشائم، لكن على المدى الطويل أنا أومن بأنّ المشروع الإسلاميّ عاجز عن الاستجابة لتطلّعات الشباب الجديد والمجتمعات المتحوّلة. وآمل أن تتجدّد النخبة السياسيّة، وفي تونس أنا أعوّل على الانتخابات المحليّة البلديّة في ظهور نخب جديدة. المشكلة بعد الثورة أنّ الشباب الذي قام بها لم يتمكّن من أن يكون مكوّناً للنخبة السياسيّة. أعوّل على هذه الانتخابات؛ لأنّ النخب التقليديّة لا تهتمّ بالمحلّي، ما يعنيهم هو المناصب العليا في الدولة.