خالد محمد عبده: التصوف والمعارف الصوفية في مصر


فئة :  حوارات

خالد محمد عبده: التصوف والمعارف الصوفية في مصر

تقديم

التصوّف .. محاولة البحث عن المُطلق، التسامح والتواضع الإنساني، التصوف العزلة أو الموضة التي نراها اليوم منتشرة بين بعض من الجيل الجديد، أو حالات الدَروَشة في الشوارع وبجوار المساجد الكبرى وفي الميادين الشهيرة. بعض من طقوس التديّن الشعبي ومظاهر التدين الأرستقراطي، العداء والتربص من المذاهب الأخرى، خاصة مذهب الأغلبية، شيوخهم في تواطؤ دائم مع السلطة السياسية طلباً للأمان، بينما العامة من مريديهم في غيّهم يعمهون كما نرى. هذا التشوّش المزمن، ومحاولة تنقيته والنظر إلى المفهوم في شكل علمي مُحكَم هو ما يحاول بعض الباحثين الجادين القيام به، كل حسب طاقته وقدرته.

ومن هؤلاء الباحث "خالد محمد عبده"، الذي أوضح هذه المعضلات وكيفية تصحيح الصورة عما اشتهرت به، فكان هذا الحوار حول أفكاره في السبيل إلى ذلك.

خالد محمد عبده هو باحث في الإسلاميات والتصوف، ومسؤول مركز "طواسين"، صدر له حديثًا في الدرس الصوفي كتاب (معنى أن تكون صوفيًّا)، و(الرومي بين الشرق والغرب)، كما صدر له بالاشتراك مع سبيستيان غونتر كتاب بعنوان "أميّة النبي في التراث الإسلامي"، إضافة إلى إعداده وتحقيقه عدة كتب في أدب الجدل والدفاع بين الإسلام والمسيحية تبعًا لتخصصه في الماجستير في هذا الموضوع نُشرت في القاهرة ما بين عامي 2003-2006، منها: تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل لتقيّ الدين الجعفري، نظرة نقدية في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية، وبشائر عيسى ومحمد، ونظريتي في صلب المسيح لمحمد توفيق صدقي (معاصر للإمام محمد عبده). كما حقق من التراث الكلامي رسالة الإيمان للإمام الأشعري، ونُشرت في مجلة تراثيات الصادرة عن دار الكتب المصرية، ومن الجدل والحوار الإسلامي المسيحي ركز الباحث المصري اهتمامه منذ سنوات بالتصوف الإسلامي ونشر العديد من البحوث بالدوريات العربية والمراكز البحثية. وشارك في العديد من المؤتمرات وألقى مجموعة من المحاضرات عن التصوف الإسلامي في كل من مصر، والمغرب، والسنغال، وسلطنة عُمان، وتركيا.

نص الحوار:

محمد عبد الرحيم: برأيك ما سرُّ الاهتمام بالتصوف من حيث هي حركة أو تيار هذه الأيام؟

خالد محمد عبده: التصوف قلبُ الإسلام، وهو رؤية شاملة للتدين الإسلامي تتجسد في سلوك الصوفي الحقيقي، الذي اختار هذا الطريق نافذة له كي يرى الله من خلاله ويرى به كيف يعيش رحلة الحياة مع البشر. ربما يعود الاهتمام بالتصوف حاليّاً إلى الميراث الروحي الثري الذي غُيّب عنّا أو غِبنا عنه بسبب انتشار ألوان أخرى من التدين، وربما ضجراً من خطابات عدّة كانت تُطرح علينا باعتبارها الصواب والحق، ومع انكشاف الهوة الكبيرة بين القول والفعل من أصحاب هذه الخطابات حاول بعضهم أن يلتمس طريقاً آخر في التصوف، واعتبره المساحة الباقية للصلة بينه وبين الدين.

محمد عبد الرحيم: ما الفارق بين فكرة التصوف ومفهومه لدى العامة والموصوفين بالثقافة؟

خالد محمد عبده: التصوف لدى العامة ممارسة أكثر منه تنظيراً ووصفاً وحديثاً، ربما لا تُذكر كثيراً كلمة تصوف في الحياة اليومية عندهم، لكن ينعكس التصوف في سلوكهم، وهنا يلتقي التصوف مع ما يوصف بالتدين الشعبي، في بساطة فاعله ورضاه وحصوله على مُبتغاه، ففي زيارة المقامات عند البسطاء راحة وسكن، إذ يعتقد الزائرون بأنّ همومهم تتبدد بمجرد بثّ شكواهم إلى صاحبة المقام أو صاحبه، والله يرضى عنهم بإطعامهم الطعام، وسقاية الناس، وبث روح الفرح في قلوب الآخرين، بممارسة الذّكر في صوره كافة، قعوداً وقياماً، إنشاداً ونطقاً هادئاً، هنا التصوف لا مكان فيه للادعاء، ولا للرد أو المخاصمة، لأنّ مُمَارِسه غير مشغول بمشاكل كلامية زائفة قدر انشغاله بالمشاكل الإنسانية التي هو طرف فيها. التصوف عند "المثقفين" أمرٌ آخر إن كنا نتحدث عن من نال قدراً من التعليم مكّنه من متابعة التصوف من خلال القراءة عنه، أو التماس معانيه في بعض جوانب الإبداع نظماً أو نثراً، أو عبر فن من الفنون كالموسيقى والرسم والغناء أو المسرح. التصوف عند المثقف يتسع ليشمل الكثير.

محمد عبد الرحيم: التصوف الشعبي والتصوف النخبوي، أيهما أشد عمقاً وتأثيراً في المجتمع؟

خالد محمد عبده: يتأثر المجتمع بممارسات أهله، مثقفين كانوا أو عامة، ولكلّ منهم دور يؤديه، فالمثقف بنشره لما في التصوف من قيم وأخلاقيات ومعانٍ نبيلة يؤثر في المجتمع، لأنّه يشكّل ثقافة الآخرين من خلال إذاعته للرؤية التي كوّنها، في حوار أجراه على لسان أبطاله في مسلسل أو فيلم، أو شكوى بثّها في لوحة بريشته، أو لحنٍ كتبه وشنف به أسماعاً عطشى، المثقف الحقيقي يؤثر في المجتمع تأثيراً بالغاً، إذا أدى الدور المنوط به، وصان أمانة الفهم والتعقل، لذا لا يمكنني التقليل من شأن أثره، وإن كنا نشهد اليوم أثراً سلبياً من آثار الثقافة المنقوصة في التصوف وغيره من ألوان العلوم الإنسانية. وإن رأينا عند العوام ما هو أكثر غذاءً للروح ونفعًا. ويبقى الأمر مرهوناً بمن يؤدي دوره بإخلاص، ويفعل ما يتقنه.

محمد عبد الرحيم: ماذا عن التصوف والسلطة؟ نرى شيوخ التصوف في تواطؤ دائم مع السلطة السياسية طلباً للأمان وبخاصة في أحداث الانتفاضات العربية، بينما العامة من مريديهم في غيّهم يعمهون كما نرى؟

خالد محمد عبده: لم يكن موقف المشايخ من السلطة موقفًا واحدًا، ربما يصدق هذا الحكم على بعض المشاهير، إذ استعانت السلطة ببعضهم عبر إعلامها الرسمي فاستضافتهم في البرامج وكتبوا في الصحف وخطبوا على المنابر رافضين لكل حدث جديد، يستوي في ذلك مشايخ التصوف أو مشايخ السلفية، بعض هؤلاء اعتذر عن تبنّيه لسياسة الدولة، وبعضهم الآخر التزم بموقف واحد رافضًا لما رآه مؤديًّا لمزيد من الفوضى والاضطراب في البلاد، شقّ آخر تردد في مواقفه ما بين التورية والإعلان، ليظل في مأمن من الجماهير لا السلطة، وآخرون صمتوا ولم يتحدثوا. أما عن (التصوف الرسمي) فقد كان موقف أعلامه هو موقف الجماهير الذين وصمتهم في سؤالك بأنّهم (في غيهم يعمهون)، كانوا مغيّبين تمامًا عما يحدث في مصر ولم يشغلهم إلا الشأن الخاص، ومن سيتولى منصب شيخ مشايخ الصوفية.

في حين أنّك تعثر على كثيرين من محبّي التصوف والسالكين على أيدي مشايخ خالفوا مشايخهم الرأي وانضموا إلى جمهور الثوّار، وصمدوا على موقفهم ببسالة، وتحملوا تبعات هذا الإعلان، منهم من استشهد، ومنهم من سُجن، ومنهم من هُمّش بعد أن كان صاحب مكانة وحضور، ومنهم من غادر البلاد هربًا بما تبقى له من حياة.

ومما يلفت النظر أنّ بعض من انتفض رافضًا موقف الشيوخ عاد واستغفر عما بدر منه طيلة أعوام، ورأى ما كان منه خطأً بالغاً، ولا تستقيم أحوال هذه البلاد إلا بمتابعة أهل السلطة والخضوع لهم، فهم يعلمون ما لا تعلمه الجماهير.

أما عن المريدين فشأنهم شأن كثير من الجماهير الخاضعة، أغلبهم يتعصّب لرأي شيخه، وكما أسلم له نفسه وانصاع لأوامره في السلوك والتربية، يتابعه في شؤون الحياة كافة، ومن اعترض طُرد كعادة كل الفرق التي أسست على مقولات كلامية واعتقادية.

محمد عبد الرحيم: التصوف كتيار فكري طال الأديان بصفة عامة، والإبراهيمية منها خاصة. برأيك ما الدور السياسي والاجتماعي للتصوف الآن، وهل هو بالفعل أحد الحلول لمعالجة صورة المسلمين خاصة في الغرب؟

خالد محمد عبده: صورة المسلمين والإسلام في الغرب مشغلة لكثيرين شرقاً وغرباً، وأنا أخجل بالفعل من الحديث عن الإسلام خارج أرضه، وأنا لا أعيشه ولا أعرف عنه إلا من خلال ما يُنشر ويُراد به أن يشكّل وعينا عنهم، رَصَدَ بعض الصادقين صورة الإسلام وممارسات المسلمين في الغرب بشكل يخجل المتدين بالإسلام، إذ يتحول بعضهم للإسلام عبر ثقافة لا تستقيم مع الحياة في أوروبا، وفهم يغلب عليه الانغلاق، لذا يلجأ كثيرون إلى تسليط الضوء على التصوف من حيث هو إبراز لجماليات الإسلام وروحانيته، وكما تنتشر صورة الإسلام السلفي باعتناق بعضهم للإسلام على يد دعاته، يعتبر التصوف باباً من أبواب الدخول إلى الإسلام، وطبيعي أن نجد في حضارة الغرب اهتماماً بالتصوف، إذا علمنا أنّ ابن عربي والعيش مع كلماته النورانية كان سبباً لالتحاق كثيرين بهذا الدين، وكذلك الأمر مع مولانا جلال الدين الرومي، وابن سبعين، والحلاج، والحارث المحاسبي وغيرهم من أعلام التصوف. وهنا نقطة أحبّ أن أشير إليها، وهي من سلبيات تفكيرنا، فإذا رأينا بعض الدارسين يهتمون بالحلاج قسّمنا التصوف إلى تصوف سنيّ وآخر فلسفي بدعي! لأنّ الغربيين لا يهتمون إلا بالتصوف الفلسفي، وكل غريب هم مولعون به، وقائل هذا الكلام غير متابع لما يُكتب في اللغات الأوروبية بشكل دقيق، وقد ورث هذه القسمة الجائرة عن آخرين، فجميع أعلام التصوف المشاهير والمجاهيل عندنا نحن العرب يهتم بهم أهل الغرب، ويؤلفون عنهم وتُترجم وتُحقق نصوصهم، أما نحن اليوم فلا نعرف عن التصوف إلا القليل، مما يجعل حكمنا على اهتمام غيرنا محل نظر كبير.

محمد عبد الرحيم: الحالة الصوفية المصرية دائماً في موقف دفاعي، سواء أمام المذاهب الإسلامية المختلفة، أو أمام الحركات السياسية، لما لها من تاريخ طويل من التواطؤ مع النظم الحاكمة. كيف يمكن تعديل هذه النظرة؟

خالد محمد عبده: الحقيقة أنّ وصم تاريخ الصوفية بالعمالة والخضوع للسلطة فيه إجحاف كبير بحق هذه الطائفة التي أنعشت تاريخ الإسلام، ونهضت به في مجالات عدّة، صحيح أنّ بعض العلماء اليوم ممن اشتهر عنهم التصوف أضحوا لُعبة في يد السلطة، وتبرعوا ببذل الفتاوى من أجل الحصول على منصب أو حضور، إلا أنّهم لا يجسدون حال جميع الصوفية، وربما جسّد غير مشاهير أدواراً نفعوا بها غيرهم، وأثروا في مجتمعاتهم إلا أنّ الأضواء لا تُسلّط سوى على فئة بعينها. وحقاً كما تقول إنّ كثيرين من أهل التصوف اليوم يعيشون (الدفاع) عن (المُعتقد) كغيرهم من أهل المذاهب الأخرى، لذا لا يُرتجى من هؤلاء إنتاج وهم مشغولون عن الحقيقي بالزائف، وعن الواقع بهواجس المعتقدات السابقة، هؤلاء في غفلة لن يستفيقوا منها، ولا يعوّل اليوم على النائم، مرّت أحداث جسام وهم لا يزالون يدافعون عن معتقداتهم، وهي هي المسائل القديمة نفسها، يستنسخون منها هوامش لتضاف إلى الهوامش السابقة، فلا متنًا أبدعوا، ولا دورًا انتظره الآخر منهم أدّوه. لذا فإنّ هذه النظرة تظل مصاحبة للمجموع، ولن تتغير إلا بتجدد الصوفية، وعيشهم واقعهم اليوم، والتماسهم قدوة صالحة من أجدادهم السابقين، يفرقون فيها بين متابعة الحق وإعلانه مهما كلفهم ذلك، والخنوع للآخرين والاستسلام لهم باسم الرضا بما كان ومحاولة إخماد الفوضى وقمع المتحركين.

محمد عبد الرحيم: كيف يمكن تعديل أو تصحيح وجهة النظر عن الصوفية على المستوى الاجتماعي، خاصة بين الناس العاديين الذين يخلطون ما بين الحالة الصوفية والدروشة؟

خالد محمد عبده: الجهل هو سبب الخلط، والانشغال بالحكم على الآخرين أيضاً، هو ما جعلنا نطلق أحكاماً عارية من الصحّة، فإذا فعل أحد المجاذيب في الشوارع فعلاً شائناً نزّلنا فعله على الصوفية، وحملنا الجميع تبعة ممارسة فردية قد لا يدري فاعلها أنّه يقظ، ولا يُفرّق الليل عن النهار. الصوفية اليوم أشكال وصور عدّة لا تقتصر على الشيخ الذي يلبس جلبابًا معيناً، أو يتحدث بطريقة مميزة، الصوفية في مجالات الحياة كافة يعملون، فتجد الطبيب المنتسب إلى الطريقة والمهندس والمدرّس والعامل والشرطي وغيرهم من أصحاب المهن، أما الدروشة التي تبرز في الإعلام فلا تركز إلا على طيف من أطياف متعددة.

ينبغي على المهتمين بهذا الجانب أن يتعرّفوا على الصوفية من الداخل، لا مما يقال عنهم، لماذا لا يتحدث أحدهم عن أصحاب المناصب العليا في القضاء والشرطة والسياسة من المنتسبين إلى الطرق الصوفية؟ لماذا لا نتحدث عن التصوف الذي انتشر في البيوتات الأرستقراطية عوضاً عن (الإسلام اللايت) كما يوصف؟!

محمد عبد الرحيم: أصبح التصوف موضة، وتحوّل إلى "سبّوبة" كيف تفسر ذلك؟

خالد محمد عبده: يأسُ الناس يجعلهم يتوجهون إلى أي باب من أبواب الرحمة، أو قُلْ الغياب عن اليومي القاهر والمخيّب لآمالهم، وربما العطش أيضاً إلى الروحانيات عند فئة منهم، وربما الهرب من الفاني إلى الباقي، لا يمكننا حمل تصرفات الكلّ على (الموضة) وإن كنّا لا ننكر أنّ جزءًا من ذلك ظاهر بشكل لا يمكن التغاضي عنه، لكن على الأقل لا يؤذي المهتمون بهذا اللون من التدين أحداً، ومن يتحول معهم التصوف إلى (موضة) يهتمون بأغراض (التسامح) و(المحبة) و(قبول الآخر)، وهذه مطالب نحن في حاجة ماسة إليها، ربما بعد الاهتمام الظاهري تترسخ هذه القيم في قلوب الناطقين بها، أو المرددين لكلماتها، لتصبح فيما بعد جسد ثقافة تمتد وتنتشر.

أما عن الارتزاق بالتصوف، فشأنه شأن الارتزاق بأي لون من ألوان التدين، هناك صنفٌ من البشرِ تُجّارٌ لا يفلحون إلا في استغلال البشر وانتهاك المقدسات الإنسانية، هذا الصنف لا يفعل إلا أن يزيدنا فقراً على فقرنا، فالتصوف في الخارج عطاء يتجدد ويتطور في صور النشاط الإنساني، أما عندنا فلا نزال نقهر الفقراء بفقر قلوبنا.

محمد عبد الرحيم: ما بين متصوفة مقاهي وسط المدينة وبين متصوفة الأضرحة مساحة شاسعة، الأمر هنا مقارنة ما بين الموضة والخرافة، كيف يمكن من خلال موقعكم وأفكاركم محاولة معالجة ذلك، أو كشف تهافته على الأقل؟

خالد محمد عبده: ما نراه اليوم من سوء فهم للتصوّف جرّاء الخلط والتلبيس واستسهال الحديث عنه وباسمه. فالدراسات التي صدرت في الآونة الأخيرة، يغلب على أكثرها طابعُ التعجّل والتسطيح، ولا سيما بعد أن تسلّط على الكتابة في مضمار التصوّف طائفة من غير المتخصّصين، فلم تثمر أعمالهم إلا آراء زائفة عن الظاهرة الصوفية وتصوّرات مغلوطة عن قضاياها المختلفة، ولم تؤدِّ في النهاية إلا إلى مزيد من التشويش على القارئ العربي.

ما تراه في المقاهي وأماكن التجمعات يختلف عما نلمسه عند الدراويش والمتصوفة في الأضرحة، فالدراويش أصدق حالاً وسلوكًا، فعلى الرغم من أنّه يبدو لك أنّك ترى مخالفات تنكرها أو لا تقبلها عقلاً وترجو أن يكون هذا الدرويش فعّالاً في المجتمع أكثر مبتعدًا عن الخرافة كما تظن نافعًا لذاته وللآخرين، فإنّ جزءاً كبيراً مما ترجوه منه يفعله دون أن ندري، فالذي يوزّع الطعام على الفقراء يساعد غيره، ويرى في بذل ما يملكه وإن كان قليلاً عملاً مسعدًا له وللآخرين، والذي ينصرف عن دنيا الصخب والضجيج ينجو بنفسه من مؤامرات واقتتال على أمور زائفة وسلوك رديء يقع فيه من وصلوا إلى درجات علمية رفيعة وتصدّروا لرفع مستوى الوعي عند الجماهير، فيشوهون أكثر مما يبنون.

الدراويشُ مجانين الله يديرون وجوههم عن دنيا الخلائق، تظهر في وجوههم الفرحة وربما انطوت قلوبهم على كثير من الأحزان. مشردون عن خراب الهياكل التي ترى في ترنُّحها ونفاقها وجريها وراء الزائف حياة. يمارسون الحياة عبر مذاقات لا تُدرك وفلسفة لا يبلغها أهل الأوراق والدفاتر. لغةُ الدَّراويشِ وأفعالهم لا يقتربُ من فهمها أصحاب المنطق وعابدو الحروف والصور والتقسيمات. لغةٌ لا يمكن ترجمتها عبر اصطلاحات الحدود والقوالب. وحده صاحب الروح والقلب النابض والمخالط لهم من يمكنه إتقان هذه اللغة ويدرك أهمية دورهم.

من هنا، حاولنا من خلال موقع طواسين تقديم معرفة عن التصوّف الإسلامي تلائم رقي الروحانية في الإسلام، وتقترب من هذا العالم غير متغافلة عن السلوك ولا متماهية مع أي طُرُقيَّة مهما كان حجمها، ورأينا أنّ نشر المعرفة هو أفضل ما يجابه التشويش الذي نراه، سواء من خصوم التصوف أو من المحبين لصورة من صوره. إذ حمل الموقع على عاتقه نشر دراسات عن التصوّف الإسلامي تشمل أفكاره وأعلامه وسلوك أهله، وتُعنى ببحث نظرياته وتطوّره التاريخي، وتعرّف بجوانب نراها غير مشهورة اليوم، ولم نقتصر في ذلك على الكتابات العربية التي يزوّدنا بها متخصصون من المغرب ومصر وتونس والجزائر والهند وألمانيا وفرنسا والعراق والكويت، عبر مقالات تطوّعوا بإرسالها مؤمنين بدور الموقع ورسالتهم، بل حاولنا أن نقدم كذلك إلى جانب المقالات والبحوث عبر الترجمات عن اللغة الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والأوردية والفارسية والإيطالية ما يساهم في تطوير معارفنا عن التصوف الإسلامي، وغير خافٍ أنّ التصوف اليوم يشهد اهتمامًا بالغًا من الجامعات الغربية كافة.

ولم تقتصر محاولتنا على درس التصوف بمعزل عن العلوم الإسلامية بل نسعى من خلال نشر دراسات ومقالات في الإسلاميات بعمومها، جانبًا إلى جنب مع التصوف، إلى أن نبيّن ملامح العلاقة بين التصوّف والعلوم الإسلامية الأخرى؛ وذلك بدرس علاقة التصوّف بالفلسفة وعلم الكلام وعلوم القرآن والحديث، وعلم الفقه والشرائع.

ولعل بحث الصلة بين الصوفية والمذاهب الإسلامية المختلفة؛ كأهل السنة (أو الأشاعرة)، والشيعة بتياراتهم المختلفة، والمذهب السلفي سواء في صورته الحنبلية أو التيمية أو الوهابية، من أبرز طموحات الموقع، وذلك لحساسية العلاقات بين مختلف هذه المذاهب التي تتعايش بعضها مع بعض ضمن فضاء إسلامي واحد، ولا بد أن تتعارف بدل أن تقوم العلاقات في ما بينها على أسس من التوجّس والصّد والعنف الذي يتصاعد كل يوم عبر ما نشهده من اقتتال بينها.

محمد عبد الرحيم: نرى أنّ موقع طواسين الذي تشرفون عليه، يهم حلقة ضيقة من المتابعين، فكيف ترى تأثير ذلك وفق ما يطرحه من أفكار، وبالتالي تبعاتها الاجتماعية؟

خالد محمد عبده: من مُتابعتي سير الموقع، ومن خلال التعاليق والمشاركات وردود أفعال الكثيرين تجاه ما يُنشر من مواد عليه، أجد تمكّناً من الوصول إلى جمهور كبير من شرائح مختلفة، تأتي تبعاً لما يُنشر عليه من مواد لا تقتصر على الدراسات الأكاديمية وحدها، بل يتيح الموقع بعض المواد المبسّطة وإن اعتمدت المرجعية العلمية في الحديث عن شخصيات التصوف وأعلامه في الشرق والغرب.

محمد عبد الرحيم: هل يقتصر طواسين على النشر الإلكتروني أم أنّ هناك مطبوعات ورقية؟

خالد محمد عبده: بدأتُ إطلاق موقع طواسين قبل عشرة أشهر بجهد شخصي، والحمد لله تمكنت من متابعة العمل فيه حسب الخطوات التي رتبتها، أن أبدأ بالنشر الإلكتروني، وأنتقل إلى إصدار مطبوعات ورقية، وبالفعل يتم ذلك هذه الأيام، فيصدر حاليًا عن طواسين الكتاب الأول تحت عنوان (التصوّف الطُّرقي والتصوّف المعرفي) ويليه كتابان آخران، تحتوي هذه الكتب الثلاثة على مقالات وبحوث وترجمات، تمهيدًا لإصدار مجلة طواسين، فضلاً عن أنّني بصدد إصدار مجموعة من المواد المرئية التي أعتمد فيها على تعاون المتخصصين في تعريف الجمهور المتابع ببعض الأفكار والقضايا الصوفية.

محمد عبد الرحيم: نشكركم على هذا الحوار المفيد.