"داعش" والعلوم الاجتماعية


فئة :  مقالات

"داعش" والعلوم الاجتماعية

في السؤال عمّا بعد تنظيم "داعش" يظهر مستويان: تساؤل عن الترتيبات السياسية وتساؤل عن إجراءات ثقافية وفي صلبها التعليم.

على المستوى الأول، فإن التراجع الذي يعيشه تنظيم "داعش" في العراق وبدرجة أقل في سورية، يفتح باباً لسيناريو يفترض مستقبلاً بلا "داعش". لكنّ هذا السيناريو المرهون باشتداد وإصرار الحرب الإقليمية والدولية على التنظيم والتخطيط لقصم ظهره في الرقة والموصل وسرت، بعد النجاح في الرمادي، إنما يخفي عناصر إخفاقٍ قد تُحيل "النصرَ" إلى هزيمة. مَرَدُّ هذا التشاؤم إلى أننا ننشغل "بقتل البعوض بدلاً من تجفيف المستنقع". فالأنبار وعاصمتها الرمادي في حالة خراب واحتقان لغياب جهود إعادة الإعمار والبناء والتأهيل، وعدم توازي الجهود العسكرية بجهود أخرى لا تقلّ أهمية، على رأسها التأسيس لمصالحة وطنية مستدامة. وقد قالت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" إنها أنفقت 6.5 بليون دولار منذ العام 2014 على الجهود العسكرية ضد "داعش" في العراق، بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، في حين لم تنفق الوزارة إلا 15 مليون دولار على جهود دعم "الاستقرار"، ما يطرح مخاطرَ بكسبِ الحرب، لكن مع تجاهُلِ تبعاتها.[1]

أمّا على المستوى الثاني لطي صفحة "داعش" و"تجفيف المستنقع"، فتفيد بعض التقارير العلمية بأنّ ما يزيد على الخمسين في المئة من الجامعات في المنطقة العربية لا تمتلك برامج دراسية في العلوم الاجتماعية.[2] هنا لا مبالغة إذ نقول إنّ ذلك مؤشرٌ إلى ضعف قدرة المجتمعات العربية على امتصاص الصدمات الاستراتيجية، ومنها ظاهرة التطرف والإرهاب، وهو، أيضاً، يكشف جزءاً من جاذبية "داعش" وخطاب المواجهة مع العالم وإغراء الخلاص من تعقيده، لفئات معتبرة من الشبان المسلمين. ومع الموافقة على أنّ "داعش" والظاهرة الإرهابية الإسلامية "أقلوية"، فإن لها خطورتها المؤكدة المتزايدة، في ظل غياب مشاريع حكومية ومجتمعية لتجفيف مورديها الأساسيين: الاستبداد السياسي وفساد الحكومات وضعف الحوكمة من جهة والاستبداد الديني وانكماش مساحة التفسير الفردي الحر للنصوص الدينية من جهة أخرى.

ولطالما كان يُنظر للعلوم الإجتماعية على أنها ذات قيمة فقط، عندما تساهم في التحديث والتنمية - وبالتالي هيمنت أقسام الاقتصاد - وتعرضت أقسام التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا لمزيد من التهميش. وعلاوة على ذلك، فإنه يتم النظر للأنثروبولوجيا بعين الريبة بسبب ارتباطه بالاستعمار. وفي الوقت الذي تمر فيه المنطقة العربية بتحولات موجعة وعنيفة - حيث تتعرض فيه كل نظمها السياسية، وعقائدها الدينية، وافتراضاتها الثقافية للاهتزاز - فإن الأمر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى للاعتراف بمساهمة الرؤى العلمية الأصيلة والموضوعية في التغييرات التي تجري. وبإمكان العلوم الاجتماعية أن تعمل كمرآة[3] ولكن من المهم أن تدرك المجتمعات أهمية الحاجة لأن تمعن النظر إليها.

في هذا الوقت، يكشف استطلاع للرأي حول تنظيم "داعش"، أجرته في الآونة الأخيرة مؤسسة بين شوين بيرلاند، ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية، عن أن نحو ربع المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أن البطالة ونقص الفرص يمثلان المحركين الرئيسين وراء تجنيد الشباب في "داعش"، لكنّ ثلثي المشاركين يطالبون القيادات السياسية والحكومية بفعل المزيد "لتحسين حرياتهم الشخصية وحقوق الإنسان". قد يتيح ذلك تأكيد أن المَوْرِدَين يجمعهما عدم اكتراث بحرية الإنسان وكرامته والسعي لـ"الهيمنة" عليه.

جانبٌ من مشكلتنا يكمن في الامتناع عن البحث في الذات وتحولاتها، وهذا ميدان أساسيّ في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا. والمفارقة أنه منذ بداية الألفية الثالثة، على الأقل، يتزامن صعود الظاهرة الإرهابية وأشكال التطرف والمحافظة الخشنة في مجتمعاتنا مع نكوص في الحالة الثقافية العربية فناً وسينما وموسيقى وأدباً وفلسفة، وهذه منابعُ لإرساءِ التنوعِ وشحذِ التساؤل والشكِّ والتحديق في الهوية والآخر، والتجرؤ على تعديلاتٍ مستمرة على الهوية الفردية والجماعية؛ للاستجابة لتنوعِ الحياة وزخمها وصعوبة القبض على جريانها المستمر. ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، كان جديراً بنا الانكباب على السوسيولوجيا والفلسفة وعلم الأديان المقارن، لكننا لم نفعل.

وما تسمّيه فاليري هوفمان «الانسلاخ النفسيّ والاجتماعيّ» هو ما يراه روثفن أصحّ من التحليل الاقتصاديّ بانسداد فرص العمل أمّام الشبّان. فأيمن الظواهري جرّاح أطفال، ومحمّد عطا مهندس معماريّ وخبير في تخطيط المدن، وكان يسعهما بسهولة الانضمام إلى نخبة بلدهما، أو الهجرة والعمل في الخارج. ولربّما صحّ هنا ما صحّ في النخب الماركسيّة التي لم يحل انتماؤها الطبقيّ إلى الطبقات الوسطى دون «تمثيلها» للطبقة العاملة، أو جهرها بلسان مجتمع يعاني الانشقاق الطبقيّ الحادّ ومراراته. لكنّ الحاسم، في آخر المطاف، ذاك التمزّق بين ماضٍ تقليديّ وتعليم عالٍ وعلمانيّ مضمونه غربيّ ومدينيّ. وهنا تلعب الهويّة دوراً محوريّاً فيما تتركّز صدمة الغرب و«علمه» في المدن والجامعات، لا سيّما في الكليّات التطبيقيّة. فإذا بدا في وسع طلاّب الإنسانيّات أن يتعرّضوا لنقد الثقافة الغربيّة، وأن يقعوا على مواطن ضعفها، فطلاّب العلوم والتكنولوجيا يرونها واحدة متماسكة تنحو إلى الهيمنة. لذا، وصفوها بالخلو من القيم قياساً بثقافة إسلاميّة لم تعد توفّر، في زحمة المدن والتباسها، إلاّ القيم الأخلاقيّة.[4]

خطابُنا بأنّ "داعش ليس الإسلام" غيرُ كافٍ، فنحن نعيش أزمة في الهوية والقيم العامة والعجز عن تقديم النماذج الجاذبة، ولم نؤسس حتى الآن لرؤية حضارية تُقنع العالم (من دون أنْ يجاملنا) بأنّ "داعش" لا يُمثلنا، وبأنّ قيمنا تحثّ على التسامح وحبّ الحياة والتصالح مع منطق العصر والعالم، وبأن وجودنا غِنىً للكون ويُحدِثُ فارقاً إيجابياً. هذه معركتنا، وطائرات "إف - 16" فوق مدن الرقة والموصل وسرت لا تكفي للفوز فيها.


[1] أزمة في العراق، بي بي سي، لندن، (13/4/2016)، رابط:

http://www.bbc.com/arabic/inthepress/2016/04/160412_press_review_wednesday

[2] أورسولا لينسي، العلوم الاجتماعية في العالم العربي شحيحة رغم الحاجة إليها، الفنار للإعلام (9/4/2016)، رابط:

http://goo.gl/MPvPCQ

[3] المصدر السابق.

[4] حازم صاغية، 11 أيلول وصنّاعه الكثيرون، مجلة كلمن، بيروت عدد 4، خريف 2011