دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل وأوروبا والولايات المتَّحدة اتِّجاهات وآفاق مستقبليَّة


فئة :  ترجمات

دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل وأوروبا والولايات المتَّحدة اتِّجاهات وآفاق مستقبليَّة

دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل وأوروبا والولايات المتَّحدة

اتِّجاهات وآفاق مستقبليَّة

ديل أيكلمان[1]

ترجمة: محمَّد العربيِّ

مراجعة: مصطفى الوجاني

غالباً ما يتمُّ التَّغافل عن المساهمات المؤسَّساتيَّة الَّتي يقوم بها الأكاديميُّون في تشكيل الجامعة والأقسام الأكاديميَّة لدى تقديم الأكاديميِّ نفسه رسميَّاً. ويعود أحد أسباب هــــذا التَّجاهل إلى كون معظم الأكاديميِّين اعتادوه؛ أي: إنَّنا نتعامل مع ظروف أماكن عملنا كبديهيَّات. وكما لاحظ عالِم الاجتماع مارسيل موس في بدايات القرن الماضــــي؛ فينبغي للمرء أن يطوِّر إدراكاً سوسيولوجيَّاً مترابطاً كي يمارس مهنة علم الاجتماع. لقد كان المثال الَّذي قدَّمه موس، وهو ركوب قطار الترام الباريسيِّ، ملائماً لوقته، بيد أنَّ فكرته تتمثَّل في أنَّ على المرء أن يُدرِّب نفسه على اعتبار كيفيَّة وقوف وجلوس النَّاس في علاقة بعضهم البعض لغزاً ينبغي فكُّه، وليس جزءاً غير ملحوظ من معرفة بديهيَّة. إننَّا أيضاً بحاجة إلى إدراك سوسيولوجيٍّ مترابط كي نشارك بفاعليَّة في مراجعات المؤسَّسات والأقسام، والَّتي يمثِّل أحد أشكالها أساس هذا الفصل.

ويتمثَّل أحد الأسباب الأُخرى لهذا التَّغافل في كون الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة في التَّعليم العالي تقع في منطقة كئيبة بين الاتِّجاهات الرَّئيسة للفكر الاجتماعيِّ والممارسة السِّياسيَّة. لقد كان إميل دوركهايم (1858-1917)، وهو أحد أعمدة علم الاجتماع الحديث، مُنخرطاً عن قرب في دراسة وتشكيل التَّعليم الوطنيِّ الفرنسيِّ طوالَ حياته المهنيَّة. (lukes 1973, 354-60). وبتقدير أحدهم، (fauconnet 1956, 27) قضى دوركايم ثلثَ وربَّما ثلثي حياته في إلقاء المحاضرات العامَّة حول التَّعليم؛ على الرَّغم من أنَّ عمله الرَّئيس حول هذا الموضوع قد ظهر بالإنجليزيَّة فقط بعد ستَّة عقود من رحيله (انظر durkheim 1997, 1956). ومن حين لآخَر؛ يتناول الإثنوغرافيُّون مؤسَّساتهم (على سبيل المثال، tuchman 2009)، إلَّا أنَّ العقبات أمام القيام بهذا الأمر ما زالت صعبة الارتقاء.

بالنِّسبة إلى الأكاديميِّين؛ فإنَّ أقرب الطُّرق الَّتــــي يمارس بها أحدهم الإثنوغرافيا المؤسَّساتيَّة والبرامجيَّة؛ هي من خلال المشاركة في المراجعات الدَّوريَّة الخارجيَّة للجامعات والبرامج. والطَّابع المشترك لكلِّ هذه المراجعات تقريباً هو وجود «مخبرين محلِّيِّين» في لجانها، وهم ينتمون إلى المؤسَّسات الَّتــــي تتمُّ مراجعتها، أو كما في حالة الأعراف الإسرائيليَّة، ينتمون إلى جامعة إسرائيليَّة أخرى. في الولايات المتَّحدة؛ غالبًا ما تكون بعض التَّقارير المؤسَّساتيَّة المتعلِّقة بالبرامج متاحة للعموم، أمَّا بعضها الآخَر؛ فيبقى في المحفوظات الخاصَّة بإداريِّي الجامعات أو بالأقسام والبرامج الَّتــــي تتعرَّض للمراجعة. ومثالي الأمريكيُّ الشَّخصــــيُّ المفضَّل على الشَّفافية؛ هي الدِّراسة الذَّاتيَّة الموسَّعة الَّتــي أعدَّتْهَا هيئة تدريس الآداب والعلوم بجامعة نيويورك حين كنت جزءاً من هيئة تدريسها (cantor 1978). وفي هذه الدِّراسة؛ ساهم كلُّ قسم بدراسة ذاتيَّة؛ مُصنِّفاً نفسَه وطنيَّاً، ومُشيراً إلى الموارد المطلوبة كي يكون وطنيَّاً ضمن الأقسام العشرة الأوائل أو العشرين الأوائل أو المائة الأوائل على الأقلِّ. وقام عميد هيئة التَّدريس بجمع هذه التَّقارير، وأضاف مراجعات خارجيَّة إلى الدِّراسات الذَّاتيَّة، ونشر النَّتائج والَّتــــي غالباً ما قلَّصَت التَّصنيف الذَّاتيَّ لكلِّ قِسم بشكل كبير. لقد كان هذا التَّمرين مُذهلاً بفضل انفتاحه، حيث اطَّلَعَت كلُّ هيئة التَّدريس على نتائج الدِّراسة. وقد مكَّنَت هذه الدِّراسة أيضاً الأقسام الأكثر هشاشة من العثور على سبب مشترك لعزل العميد؛ الَّذي وجد نفسه في عام 1981 مُجبراً على الاستقالة، وهو الحدث الَّذي تمَّ الاحتفاء به بعشاءٍ راقص في نادي جامعة يال. أمَّا مؤسَّستــــي الحاليَّة؛ كلِّيَّة دارتموث dartmouth college، فلديها العديد من نقاط القوَّة، إلَّا أنَّه على الرَّغم من الوعود المقطوعة في بداية التِّسعينيات؛ لم يتمَّ تداول المراجعات الخارجيَّة للبرامج خارج حفنة من الإداريِّين والأقسام المراجَعة.

يقع تقييم البرامج الأكاديميَّة الإسرائيليَّة في أعلى قمَّة الشَّفافية. منذ حزيران/يونيو 2003؛ قام مجلس التَّعليم العالي الإسرائيليِّ بعمل تقييمات دوريَّة لعدد من البرامج والمجالات الَّتــــي بلغ عددها الإجماليُّ 29 منذ عام 2003. وقد ترأسْتُ لجنة تقييم دراسات الشَّرق الأوسط في مجلس التَّعليم العالي؛ الَّتــــي ضمَّت خمسة مراجعين، ثلاثة منهم كانوا غير إسرائيليِّين؛ وهم: أنثروبولوجيٌّ ومؤرِّخ وفيلسوف[2]. وتمثَّلت مهمَّتنا في إعداد تقرير عامٍّ عن حالة الدِّراسات الشَّرق أوسطيَّة في إسرائيل، بالإضافة إلى تقارير منفصلة عن كلِّ قسم من الأقسام موضوع المراجعة. وتُركِّز المقتطفات التَّالية من التَّقرير الأصليِّ على الوضع الحاليِّ للدِّراسات الإسرائيليَّة ودراسات الشَّرق الأوسط داخل الجامعات الإسرائيليَّة.

(التَّقرير)

لأنَّ مجال دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل قد تطوَّر في علاقة قريبة من السِّياسة الخارجيَّة والاهتمامات الأمنيَّة للعديد من الدُّول، وكذلك لتضمينها العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّات؛ فليس للمجال تعريفٌ واضح، وقد ساهمت التَّقاليد الأوروبيَّة البالية للدِّراسات الشَّرقيَّة في ضبابيَّة التَّعريف، حيث كانت تُشدِّد على قراءة وتلخيص النُّصوص الكلاسيكيَّة العربيَّة مع التَّركيز على الجوانب المرتبطة بفقه اللُّغة أكثرَ من الفهم النَّظريِّ للنَّصِّ وسياقه. كذلك كان الاستشراق الأوروبيُّ ذا أثرٍ قويٍّ على وجه التَّحديد في إنشاء ما يُطلق عليه حاليَّاً: دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل. وغالباً ما يُستخدم مصطلح «التَّداخل» بين المجالات المعرفيَّة للإيحاء بأنَّ غياب التَّعريف هو إلى حدٍّ ما ميزة في حدِّ ذاته. ويستقي الاقتصاديُّون وعلماء السِّياسة والأنثروبولوجيُّون ودارسو الأدب توجيهَهم النَّظريَّ من مجالاتهم المنفصلة أكثر من نظريَّة شاملة خاصَّة بدراسات الشَّرق الأوسط. وعلاوةً على هذا؛ فغالباً ما نتج التَّغيُّر في بنية حقل دراسات الشَّرق الأوسط عن الأحداث في العالم الواقعيِّ مثل الحروب والثَّورات والهجومات الإرهابيَّة أكثر من الإبداعات المفاهيميَّة في الفكر البحثــــيِّ.

وربَّما يكون من غير المعقول تقييم البرامج الإسرائيليَّة عن دراسات الشَّرق الأوسط فقط طبقاً لمدى تشابهها مع البرامج الموازية في أمريكا الشَّمالية أو أوربا؛ حيث غالباً ما تكون الاهتمامات الوطنيَّة بالشَّرق الأوسط جِدَّ مُختلفة. بيد أنَّ المقارنة مع مثل هذه البرامج تشير إلى أوجه قصور، وأيضاً إلى فرص برامجيَّة.

1) التَّغطية الجغرافيَّة: عندما ظهرت دراسات الشَّرق الأوسط تحت هذا المُسمَّى في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية؛ تحدَّدَ نطاقها الجغرافيُّ بحقيقة أنَّ السُّكَّان المسلمين في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشمال إفريقيا وآسيا الوسطــــى وغرب إفريقيا وشرق إفريقيا؛ لا زالوا يقبعون تحت السَّيطرة الاستعماريَّة لكلٍّ من فرنسا وبريطانيا العظمى وهولندا وإسبانيا والاتِّحاد السُّوفييتيِّ. فقد تمَّ تعريف الشَّرق الأوسط عمليَّاً على أنَّه يشمل الدُّول العربيَّة والتُّركيَّة الَّتــــي خَلفَت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة؛ إلى جانب إيران. وقد تمَّ إدراج شبه الجزيرة العربيَّة نظريَّاً في هذه المنطقة، بيد أنَّ هذا الإدراج نادراً ما بدا واضحاً في مناهج وأبحاث دراسات الشَّرق الأوسط. أمَّا في إسرائيل، والَّتــــي كان طبيعيَّاً أن تفرض فيها المصلحة الوطنيَّة دراسة مُفصَّلة عن كثب للدُّول الأعداء؛ فقد سعت الأقسام المؤسَّسَة حديثاً في المقام الأوَّل إلى التَّدريس والقيام بالأبحاث على أساس كلِّ دولة على حدة؛ مثل مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق. وبالمقارنة؛ لم يسع أيُّ برنامج في أمريكا الشَّماليَّة إلى القيام بتغطية شاملة لدولة واحدة. وقد فرضت الاهتمامات الأمريكيَّة بالحرب الباردة مقاربةً تشمل المنطقة برمَّتها؛ مع إيلاء عناية خاصَّة بالبلدان المجاورة للاتِّحاد السُّوفييتيِّ، أو المُهدَّدة بالشُّيوعيَّة. أمَّا البرامج في فرنسا وبريطانيا؛ فقد ركَّزت على القضايا المتعلِّقة بتفكُّك إمبراطوريَّات كلٍّ منهما.

واليوم؛ تطوَّرت دراسات الشَّرق الأوسط في أوروبا وأمريكا الشَّماليَّة بعيداً عن جغرافيا الدُّول، واتَّجهت نحو جغرافيا الشُّعوب الإسلاميَّة الَّتــــي تتجاوز حدود الدُّول. ولا زالت معظم البرامج تنظر إلى الشَّرق الأوسط في الخمسينيات (في بعض البرامج يُضاف شمال أفريقيا و/ أو الجزيرة العربيَّة) باعتبارها المحور الرَّئيس لاهتمامها وموادَّها المُدرَّسة، ولكن ازداد الاهتمام بالشُّعوب الإسلاميَّة في المناطق الأقصى لآسيا وإفريقيا، بالإضافة إلى الجاليات الإسلاميَّة الَّتــــي تقطن في أوربا والأمريكتين.

إنَّ توسُّع هذه النَّظرة له جذور عميقة في (1) التَّيَّارات المعاصرة للخطاب السِّياســــيِّ الإسلاميِّ، والَّتــــي تتَّسم بتداخلها المناطقيِّ، وتؤثِّر في العديد من البلدان؛ (2) الحراك الجغرافيِّ المتنامي الَّذي أنتج جاليات مسلمة (وجاليات شرق أوسطيَّة غير مسلمة) تقطن جغرافيَّاً خارج الشَّرق الأوسط، إلَّا أنَّها تبقى مرتبطة ببلدانها، أو هذا ما تعتقده المجتمعات غير الإسلاميَّة الَّتــــي تستضيفها؛ و(3) وسائل الإعلام الحديثة الَّتــــي تشمل الإذاعة والتِّلفزيون والسِّينما وشبكة الإنترنت والهواتف النَّقَّالة؛ الَّتــــي دعمت وبسَّطَت التَّواصل والتَّأثير بين المناطق. ويُمثِّل إيجاد طرق جديدة لإدراج هذه الجغرافيا المُمتدَّة في برامج عاجزة في واقع الأمر عن التَّنبُّؤ بزيادات لا يُستهان بها فيما يخصُّ التَّمويل وملء الوظائف؛ تحدِّياً بالنِّسبة لبرامج الشَّرق الأوسط في إسرائيل وغيرها.

وعلى الأقلِّ؛ يحتاج التَّقليد الإسرائيليُّ المتمثِّل في القيام بتغطية مُحدَّدة لدولة بعينها إلى إعادة النَّظر؛ فَمِن منظور أوسع، واعتماداً على نموذج المبادرة الإسرائيليَّة الأخيرة في الدِّراسات الأفريقيَّة الَّتــــي تضمُّ العديد من الجامعات؛ ينبغي إيلاء الاهتمام لإنشاء اتِّحادات جامعيَّة تُركِّز على المناطق الأقلِّ حظَّاً من الدِّراسة في الوقت الحاليِّ، مثل آسيا الوسطــــى وجنوب وجنوب شرق آسيا، وعلى الجاليات المسلمة في أوربا وأمريكا الشَّماليَّة.

2) التَّاريخ والعلوم الاجتماعيَّة: مع بدايتها؛ كانت برامج دراسات الشَّرق الأوسط في جامعات الولايات المتَّحدة أكثر ميلاً نحو العلوم الاجتماعيَّة؛ على الرَّغم من أنَّ العديد من علماء الاجتماع الَّذين ساهموا في المجال كانت لديهم قدرة محدودة أو معدومة على استخدام لغات المنطقة في أبحاثهم. كان السَّبب في هذا أنَّ نظريَّة التَّحديث، والقائمة تقريباً وبشكل كلي على دراسات مناطق أُخرى، قد ناسبت التَّوجُّهات السَّائدة لسياسات الحكومة الأمريكيَّة. لقد كان يُنظَر إلى المنطقة باعتبارها على مشارف التَّحديث، وكان يتمُّ تشجيع الطُّلَّاب المختصِّين في المنطقة على دراسة هذه العمليَّة قبل أيِّ شــــيء. وكان هدف البرامج تخريج كفاءاتٍ حاصلين على درجة الماجستير وقادرين على العمل كمتخصِّصين إقليميِّين في وكالات الحكومة والجيش والمشروعات الخاصَّة.

وعلى مدار الوقت؛ تقلَّص الطَّلب على الأفراد الحاصلين فقط على درجة الماجستير. ومنحت التَّوجُّهات اللَّاحقة في الاقتصاد والعلوم السِّياسيَّة أفضليَّة للقياسات الكمِّيَّة والتَّنظيرات المحايدة ثقافيَّاً على حساب الخصوصيَّات الثَّقافيَّة أو المحلِّيَّة. ومن ثمَّ؛ أصبح الاقتصاد وعلم الاجتماع، وبدرجة أقلَّ العلوم السِّياسيَّة الشَّرق أوسطيَّة؛ أقلَّ تمثيلاً في البرامج من حيث التَّوظيف والمقرَّرات. واستمرَّ علماء الأنثروبولوجيا في دراسة المنطقة، بيد أنَّ منظوراتهم النَّظريَّة ظلَّت كما كانت دائماً: أكثرَ عموميَّة وأقلَّ تخصُّصاً ومحلِّيَّة. أمَّا اليوم؛ فقد صار دور العلوم الاجتماعيَّة في دراسات الشَّرق الأوسط داعماً، إلَّا أنَّه ليس جزءاً أساسيَّاً. وتميل أقسام العلوم الاجتماعيَّة إلى التَّوظيف بناءً على الحقول الفرعيَّة المفاهيميَّة أوَّلاً، ثمَّ بناءً على التَّخصُّصات الإقليميَّة ثانياً. وعلى الرَّغم من أنَّ بعض علماء الاجتماع مُتخصِّصون في المنطقة؛ إلَّا أنَّ أفضلَهم يتقاطع مع زملاء آخرين في أقسامهم الأكاديميَّة بصورة أحسن من علاقتهم بطلَّاب التَّاريخ والثَّقافة الَّذين يهيمنون على حقل دراسات الشَّرق الأوسط. وتتنوَّع برامج دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل بشكل لافت للنَّظر من حيث تضمينها العلوم الاجتماعيَّة. تندرج العديد من أقسام التَّاريخ في أوربا وشمال أمريكا في نطاق العلوم الاجتماعيَّة بدلاً من الإنسانيَّات، وهي إشارة أخرى على الكيفيَّة الَّتــــي ينبغي بها تشجيع أقسام دراسات الشَّرق الأوسط القائمة على التَّاريخ على أن تشمل الإنسانيَّات والعلوم الاجتماعيَّة. فعلى سبيل المثال؛ قد تبدو المنهجيَّات من قبيل تحليل النُّصوص والتَّحليلات الإحصائيَّة مبدئيَّاً بعيدةً كلَّ البعد عمَّا أطلق عليه المؤرِّخ الفرنســــيُّ مارك بلوخ marc bloch «حرفة» (métier) التَّاريخ، بيد أنَّ الكثير من المقاربات الجديدة المهمَّة للقضايا التَّاريخيَّة قد ارتكزت بالضَّبط على مثل هذه المنهجيَّات، وهو ما ينطبق أيضاً على دراسات الشَّرق الأوسط.

من وجهة نظر منهج التَّداخل بين الحقول المعرفيَّة، وهو ما يوحي به مصطلح دراسات الشَّرق الأوسط، فَمِن المُجدي أن يتمَّ تعزيز التَّعاون والتَّفاعل بين الأقسام بدلاً من البحث عن أعضاء هيئة تدريس يهبون كلَّ جهودهم لتقديم وجهة نظر أحد العلوم الاجتماعيَّة عن المنطقة. أمَّا الإشكاليَّة؛ فتتمثَّل في كيفيَّة إقامة توازن بين المساهمة الوازنة للتَّاريخ، بما في ذلك التَّاريخ المعاصر، باعتباره نسخةً من الخطاب السِّياسيِّ الشَّرق أوسطيِّ خاليةً من النَّظريَّة، بمساهمات داعمة من علماء الاجتماع القابعين في أقسام الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والعلوم السِّياسيَّة وعلم النَّفس وعلوم الدِّماغ، وغير ذلك من حقول العلوم الاجتماعيَّة.

وكان من القضايا الَّتــــي ميَّزت دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل في مرحلة مبكرة؛ هو المستوى العالي لتدريس اللُّغة العربيَّة في المرحلة الثَّانويَّة. وقد لاحظ أعضاء هيئة التَّدريس في كلِّ المؤسَّسات الَّتــــي تمَّت مراجعتها؛ ذلك المستوى المتدنِّي لقدرات اللُّغة العربيَّة في أوساط خرِّيجي المدارس الثَّانويَّة ضمن مسار اللُّغة العبريَّة. وفي تقييمٍ أجراهُ عالم لغويَّاتٍ إسرائيليٌّ مؤخَّراً (uhlmann 2010) تمَّت مقارنة أساليب تدريس اللُّغة العربيَّة والإنجليزيَّة في المدارس الثَّانويَّة والجامعات، وخلصَ التَّقييم إلى أنَّ الإنجليزيَّة يتمُّ تدريسها باعتبارها لغة حيَّة، فيما يتمُّ تدريس العربيَّة باعتبارها «لغة ميِّتة مرتبطة بالنُّصوص» وغالباً ما تُدرَّس بالعبريَّة.

يؤثِّر المستوى المتدهور لتدريس اللُّغة العربيَّة على جودة التَّدريس لطلبة البكالوريوس والشَّهادات العُليا في أقسام دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل. فمبدئيَّاً؛ لدى الإسرائيليِّين الحاصلين على الشَّهادة الثَّانويَّة خلال العقدين الأخيرين مهارات أساسيَّة في اللُّغة العربيَّة. وعمليَّاً؛ لا يمتلكون مثل هذه المهارات. فكانت نتيجةُ هذا الوضع على دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل؛ انخفاضَ المستوى العالي لمهارات اللُّغة الَّذي اتَّسم به الجيل السَّابق من الباحثين الإسرائيليِّين وطُلَّابهم.

3) الدِّراسات الإسلاميَّة: فيما تمتلك الدِّراسات الإسلاميَّة ودراسات الشَّرق الأوسط جذوراً مُشتركة في الاستشراق الأوروبيِّ؛ فإنَّ الأخير قد تمَّ تقاسمه بين حقول ثلاثة: التَّاريخ الإسلاميُّ والتَّاريخ العثمانيُّ والتَّاريخ الحديث للشَّرق الأوسط. وخلال السَّنوات الأولى لدراسات الشَّرق الأوسط في أمريكا الشَّماليَّة؛ كان لهذا التَّقسيم مُكوِّنٌ لغويٌّ قويٌّ.

كانت اللُّغة العربيَّة تُستخدم لدراسة التَّاريخ الإسلاميِّ، فيما كانت تُستخدم التُّركيَّة العثمانيَّة لدراسة التَّاريخ العثمانيِّ، وكانت اللُّغات الأوربيَّة الدِّبلوماسيَّة والأرشيفيَّة تُستخدم لدراسة تاريخ الشَّرق الأوسط الحديث. أمَّا اللُّغة الفارسيَّة؛ فكانت ضمن درسٍ خاصٍّ بها، وارتبطت بالأساس بالدِّراسات الأدبيَّة. لقد اختفى هذا التَّقسيم، وأصبحت العربيَّة على الصَّعيد العالميِّ مرغوباً فيها لدراسة كلِّ الفترات التَّاريخيَّة، وتزايد اعتبار التُّركيَّة العثمانيَّة مُتطلَّباً أساسيَّاً لدراسة التَّاريخ العربيِّ الحديث قبل العشرينيات، أمَّا الفارسيَّة؛ فقد أصبحت تكتسب اعترافاً تدريجيِّاً؛ باعتبارها أكثر من لغة شِعريَّة. غير أنَّ إسرائيل لا زالت مُتخلِّفة عن الرَّكب من حيث توفير تدريس مناسب لِلُّغات الأكاديميَّة في هذه المجالات. كما أنَّ العجز عن تعويض أعضاء هيئة التَّدريس المتقاعدين في العديد من المؤسَّسات يؤدِّي إلى تآكل مستوى التَّدريس وضعف قدرة بعض المؤسَّسات على إنتاج بحوث دكتوراه قادرة على المنافسة دوليَّاً، وضحالة الجيل القادم من هيئة التَّدريس المقيمة في إسرائيل.

ومن حيث تنظيم الأقسام؛ فيجب تشجيع تفكيك الحدود الثَّابتة بين التَّخصُّصات الفرعيَّة الَّتــــي توحي بها التَّصوُّرات الفضفاضة لمفهوم الارتباط باللُّغة. إنَّ فصل التَّاريخ الإسلاميِّ ما قبل الحديث عن المراحل التَّالية؛ يُشجِّع طلَّاب المراحل الحديثة على تقليص عمق التَّسلسل الزَّمنيِّ لدراساتهم.

دائما ماً يستفيد المؤرِّخون من منظورات أكثر شموليَّة. غير أنَّ التَّحدِّيات تتمثَّل في تحقيق توازن أمثل بين التَّاريخ ما قبل الحديث والتَّاريخ الحديث؛ دونَ التَّعامل مع الأوَّل باعتباره مُجرَّد مقدِّمة للأخير. كما أنَّه من الواضح أنَّ الدِّراسات الدِّينيَّة الإسلاميَّة كمجال للبحث تحمل بين طيَّاتها أسئلة ومنهجيَّات تتجاوز التَّاريخ. لقد عرَّفت نظريَّةُ التَّحديث، خلال منتصف القرن العشرين، الدِّينَ على نحو خاطئ باعتباره قوَّة زائلة في الحياة العامَّة، وبالتَّالي؛ شجَّعت التَّركيز على العلمانيَّة والقوميَّة، وكان من نتائج هذا التَّعريف: صعوبة دمج تدريس الإسلام الحديث، وبالضَّرورة جذوره ما قبل الحديثة، في مقرَّرات الأقسام الجامعيَّة. ومثل هذا الخلل يجب معالجته على مستوى المقرَّرات وهيئات التَّدريس على حدٍّ سواء.

الخلاصة:

تفتقد إسرائيل إلى مقاربة عميقة وشاملة للحقول الأكاديميَّة المتعلِّقة بالشَّرق الأوسط؛ والَّتــــي كانت العلامة المُميِّزة لجامعاتها قبل القرن الحادي والعشرين؛ وذلك نتيجة تقاعد الأساتذةِ دون إيجاد بدائل لهم، وإلغاء بعض المناصب، بل حتَّى بعض البرامج، والنَّقص في المكتبات وأشكال الدَّعم الأُخرى والتَّحوُّل في اهتمامات الطَّلَبة على البرامج الدِّراسيَّة برُمَّتها، وعلى نوعيَّة برامج الدُّكتوراه. وما ضياعُ الدِّراسات الإفريقيَّة كحقل رئيس للتَّدريس والبحث إلا مثالاً على هذا الاتِّجاه؛ حيث كانت العديد من الجامعات الإسرائيليَّة تحتضن برامج قويَّة نسبيَّاً فيه، بل حتَّى الإبقاء على اسم «الدِّراسات الإفريقيَّة» في عنوان القسم بجامعة تل أبيب؛ إنَّما يعكس واقعاً سابقا أكثر من إمكانيَّة حاضرة.

لا يشمل حقل دراسات الشَّرق الأوسط في إسرائيل، كما جرى تعريفه رسميَّاً من قِبَل مجلس التَّعليم العالي، النِّطاق الشَّامل للدَّارسين الَّذين تدور أبحاثهم عن الشَّرق الأوسط. فقد قدَّم العديد من الباحثين في الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة والتَّاريخ وعلم النَّفس واللُّغويَّات وعلم الاجتماع وغيرها من الحقول؛ إسهاماتٍ مهمَّة، فالبنية الخطابيَّة لأيَّة مراجعة خارجيَّة تستهدف تأييد بعض الإجراءات أو التَّوصية باتِّخاذها قصدَ تطوير أقسام مُعيَّنة وتحسين حقلٍ أكاديميٍّ؛ لا يمكن اعتبارها عموماً الكلمة الفصل في حدِّ ذاتها من حيث الإثنوغرافيا أو من حيث التَّلقِّي الرَّسميُّ؛ إذ إنَّ الأقسام الَّتــــي تخضع للمراجعة؛ تمتلك قنوات رسميَّة وغير رسميَّة للرَّدِّ. يُقدِّم شوكيد (hokeid 1997s) رواية «صريحة» عن مفاوضات جرت في الكواليس بينه وبين مُنقِّح وناشر أحد كُتُبه على نحوٍ يُحاكي إرفينغ غوفمان (1922 : 82) ؛ عالمِ الاجتماع الَّذي كان أوَّل مَن قدَّم الكواليس إلى طليعةِ وعينا الجمعيِّ. وباعتباري رئيس لجنة مراجعة خارجيَّة رسميَّة لأحد حقول الدِّراسات الأكاديميَّة في إسرائيل؛ يمكننــــي أن أؤكِّد على أنَّ لجنتنا لم تتعرَّض للضُّغوط الَّتــــي عانى منها شوكيد من أجل إعطاء شكل لكتابه. ومع ذلك؛ فإنَّ إعداد النَّصِّ النِّهائيِّ لمراجعة مجلس التَّعليم العالي لدراسات الشَّرق الأوسط ذَكَّرَتْنَا كلَّنَا بالعقبات الرَّسميَّة الَّتي تواجه المراجعة الأكاديميَّة المؤسَّساتيَّة كنوعٍ خطابيٍّ؛ وما أحدها إلَّا إخفاء مساهمات الأفراد في بناء الحقول والأقسام الأكاديميَّة.

 

المراجع

- cantor, norman f. 1978. operating budget request for fiscal year 1979-1980 five-year development and capital plans for arts and science. new york: new york university office of the dean, faculty of arts and science.

- durkheim, emile. 1956. education and sociology. translated by sherwood d. fox. new york: free press.

- ____, 1977. the evolution of educational thought. translated by peter collins. london: routledge and kegan paul.

- fauconnet, paul. 1956. ``introduction to the original edition: durkheim's pedagogical work'' in education and sociology, by emile durkheim, translated by sherwood d. fox, 27-57. new york: free press.

- gager, john. 2006. reports of the committee for the future of humanities. jerusalem: hebrew university in jerusalem. http://www.huji.ac.il/eng/humgager.pdf

- lukes, steven. 1973. emile durkheim: his life and work. london: allen lane.

- shokeid, moshe. 1997. ``negotiating multiple viewpoints: the cook, the native, the publisher, and the ethnographic text.'' current anthropology 38 (4): 631-45.

- tuchman, gaye. 2009. wannabe u: inside the corporate university. chicago: university of chicago press.

- uhlmann, allon j. 2010. ``arabic instruction in jewish schools and in universities in israel: contractions, subversion, and the politics of pedagogy.'' international journal of middle east studies 42 (2): 291-309

[1] - مقال مقتطف من كتاب أنثربولوجيا المجتمعات الإسلامية – ديل إيكلمان – صدر الكتاب عن مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.

[2] - للاطِّلاع على النَّصِّ الكامل لتكليف المراجعين والنَّصِّ الأصليِّ للتَّقرير وردود المؤسَّسات الَّتــــي خضعت للمراجعة؛ انظر http://echo.org.il/en/?page_id=9717 (تاريخ الولوج 23 كانون الأول/ديسمبر 2012). وكان من ضمن زملائي في لجنة المراجعة، والَّذين شاركوا معي في صياغة التَّقرير إيلاي آلون ilai alon (من جامعة تل أبيب) وريتشارد دبليو بولييت richard w. bulliet (من جامعة كولومبيا) وجيري باشاراش jere bacharach (من جامعة واشنطن- سيياتل).