دعوة للفلسفة على مائدة أرسطو المفقودة


فئة :  مقالات

دعوة للفلسفة على مائدة أرسطو المفقودة

للتدليل - بصرف النظر عما أحاط هذا الكتاب من غموض واختفاء لقرون طويلة([1]) - على أهمية الفلسفة بما هي تموقع في الأنماط البدئية، وتأكيد قدرة الإنسان على أن (يفهم)، بما تحمله هذه الكلمة من دلالات أنطولوجية، تُمكّن الإنسان من معرفة أسباب كل شيء؛ فإنّ أرسطو يفتتح كتابه (دعوة للفسلفة)([2])، بإشارات تؤكد القيمة المعنوية للإنسان وانزياحاته ناحية الداخل، أكثر من تأكيده على قيمته المادية وتموقعاته الخارجية؛ إذ يقول:

"إن السعادة في الحياة لا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد على الحالة النفسية الطيبة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجسم، فلن يصف إنسان أحداً من الناس بأنه مبارك الحظ من الآلهة لمجرّد أنه يرتدي ثياباً فخمة، بل سيخلع هذه الصفة على من وهب الصحة وتمتّع بالمزاج الصحيح، حتى ولو لم يكن له أدنى نصيب من الزخرف الخارجي. وبالمثل لا يصف المرء نَفْساً بأنها سعيدة إلا إاذا كانت نَفْساً مثقفة، ولا إنساناً بالسعادة إلا إذا كان مهذباً".([3])

وفي تأكيده على هذا التوجّه المبدئي، يطرح أرسطو سؤالا [وهو جوهر كتابه وماهيته الأساسية]: "هل من واجب الإنسان أن يتفلسف"؟.([4])، لناحية أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصُّر المعصوم من الخطأ الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع"([5])

يُحاجج أرسطو، ليس بضرورة التفلسف فحسب، بل في أهميتها للتحقّق في السعادة. "فنحن عندما نستعين في سلوكنا بالتفكير، فإنما نهتدي بهديه"([6]) وكلّما كان التفكير خالصاً أكثر، كان أكثر شرفاً ورفعةً. "فالتفكير الخالص يستمد شرفه من ذاته، وحكمة العقل هي الشيء الذي يستحق من الإنسان أن يسعى لطلبه منه، كما أن الفِطنة العملية في الحياة جديرة بالسعي إليها من أجل الفعل أو السلوك. وإذاً فالخير والشرف ملازمان للتفكير الفلسفي قبل كل شيء آخر... والإنسان إذا حرم من الإدراك الحسي والعقل صار شبيهاً بالنبات، وإذا حُرم العقل وحده تحول إلى حيوان، أما إذا تحرر من غير المعقول وتمسّك بالعقل فقد صار شبيهاً بالإله".([7])

"فالتبصّر بالمبادئ هو أعظم الخيرات"([8]) التي يمكن أن تطال الإنسان العاقل. "فالبصير العاقل يختار حياة التبصر والعقل، [وعليه] فالإنسان الذي وهب مَلَكَة العقل سيختار الفلسفة، لأن التفلسف هو مهمة هذه المَلَكَة... فالتأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته".([9])

ولربما وجد المرء هَهُنا أثراً لأفلاطون على آراء أرسطو، لا سيما عالَم المُثُل الذي يُشكّل المسعى الأرقى للإنسان بحسب افلاطون، إلا أن أرسطو يربط هذه المُثُل بالواقع المعيش: "فالتأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته. ولكنهما كذلك نافعان للحياة العملية، فما من شيء يبدو لنا خيراً إن لم تتحقق الاغية منه عن طريق التدبر والنشاط العاقل الحكيم".([10])

وعن الفائدة الكبيرة التي يتيحها النشاط الفكري في الحياة الواقعية لبني البشر، يقول:

"إن جميع الأطباء الحاذقين ومعظم معلمي الألعاب الرياضية مجمعون على أن الذي يريد أن يكون طبيباً أو معلماً بارعاً يتحتّم عليه أن يعرف الطبيعة معرفة وثيقة. والأمر كذلك مع المشرّعين المبرّزين الذين يجب عليهم أن يعرفوا الطبيعة معرفة دقيقة، بل أن تفوق خبرتهم بها خبرة أولئك، لأن أولئك يظهرون حِذقهم في المهنة بتنمية كفاءة الجسد. أما هؤلاء، فينصرفون إلى فضيلة النفس ويسعون لتوجيه الناس إلى السبل المؤدية لسعادة المجتمع أو شقائه، ولهذا تزيد حاجتهم إلى الفلسفة([11]) وفي المهن اليدوية الأخرى تكتشف أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة؛ ففي النجارة مثلاً يكتشف الفادن والمسطار والأداة التي ترسم بها الدائرة، وفي بعض الأدوات تكون ملاحظة الماء هي النموذج الذي نحاكيه، وفي بعضها الآخر نحتذي بأشعة الشمس التي تلتقطها. وبمساعدة هذه الأدوات نثبت مما هو مستقيم ومستوي، حيث يلائم الإدراك الحسي بدرجة كافية".([12])

ويستطرد أرسطو في ذكر الأمثلة المعزّزة لأطروحته التي يتناولها في كتابه (دعوة للفسلفة) إلى أن يقول، حاسماً بذلك مسألة الأهمية القصوى لفعل التفلسف والفائدة العظيمة، التي يمكن أن تنال الإنسان في حال تفلسف ووصل إلى الأنماط البدئية، التي تُمكّنه من بسط سيطرته بطريقة ماتنة، على واقعه المعيش:

"إن الفيلسوف وحده هو الذي يحاكي الأشياء ذاتها لا الصورة المقلدة لها"([13])

هنا أمكن ملاحظة أنّ الدعوة الأرسطية للتفلسف، هي دعوة برسم العامة أكثر منها دعوة برسم الخاصة، نظراً لانطواء أطروحته على أمثلة كثيرة تلامس المجتمع في واقعه المعيش؛ فالحداد والنجّار والمهندس والبنَّاء...إلخ، أناس معنيون بالتفلسف، لأنه يفتح لهم أفقاً جديداً، يجعل من أعمالهم أكثر أصالةً وإبداعية، وذلك بإطلّاعهم - بادئ ذي بدء - على الأنماط البدئية ووصولهم إلى أشفّ معارف تخصصاتهم، بما يجعل من نماذجهم نماذج أصيلة، وليست محض تقليد.

لكن السؤال المطروح: هل تتأتّى ميزة التفلسف لكلّ الناس، بالسوية ذاتها؟.

تاريخياً، لم يحدث ذلك بتاتاً، بل بقيت الفلسفة حِكراً على أناس بعينهم، لكن بالتقادم استطاع الخطاب الفلسفي أن يتفتّت في أذهان شتّى. ولربما هذا ما حدث مع دعوة أرسطو للفلسفة، فهو وإن كان يتحدّث عن فعل فلسفي جمعي، إلا أنَّه فعل متخصص بشكلٍ من الأشكال، فالقدرة على الولوج إلى لبّ المعارف والمجاهدة في تحصيلها لزمنٍ طويل، حيث ينتقل المرء من العياني إلى المُجرّد، يحتاج إلى مكابدات معرفية كبيرة وطويلة الأجل، لا تتأتّى للغالبية العظمى لبني البشر، ليس لنقص حادث في أذهانهم، بل لانشغالهم بمعيشهم اليومي عمّا هو ذهني ومجرّد. لكن ربما وجد خطاب أرسطو الذي يحثّ فيه على التفلسف، انشطاراً في الذهن الجمعي الغربي، من خلال الانتباه إلى قيمة التعليم وأهمية الإطلاع على الجانب النظري، حتى بالنسبة للمهن اليدوية، بما يجعل الإنسان فاهماً أو مُلمّاً بالأسس النظرية لما يريد تطبيقه على أرض الواقع، حيث يتحوّل تطبيقه إلى تطبيق أكثر إحكاماً وحكمة وإبداعاً. أي أن يتحوّل الإنسان العادي - بمعنى من المعاني - إلى (Mini فيلسوف = فيسلوف صغير)، أو فيلسوف بالإنابة، أو فيسلوف من غير أطروحة فلسفية، فهو مندمج بالحياة الواقعية، لكن ثمة أنماط بدئية تُشكّل معالم حياته الواقعية التي يعيشها، أو بالأحرى يمارس نشاطه الإبداعي فيها، سواء أكان حداداً أو نجاراً أو ممثلاً أو راقصة أو موسيقياً، فهو يُؤسّس لنشاطه الواقعي بمعمار ذهني أولاً، لكي يكون نشاطه الواقعي أكثر إحكاماً، بما يُبرز وجوده ككائن عاقل من ناحية، وتأكيد هذه الميزة، مقارنةً ببقية الكائنات.

إذن، نحنُ أمام دعوة أرسطية للتفلسف، كنت قد أشرت سابقاً إلى أنها دعوة عامة أكثر منها دعوة خاصة؛ إلا أن الأقرب إلى الدقة - رغم صحة ما ذهبتُ إليه سابقاً - هي دعوة (عامة/ خاصة) لانطوائها على بُعد مزدوج، أمكنه المزاوجة بين ما هو عام وخاص.

فالدعوة الخاصة تتحدث أو يمكن أن تطال ثلة من الفلاسفة ليس إلا، لأن الاعتناء بما هو فكري مُجرّد، والانسحاب ناحية المُثُل أو الأنماط البدئية، وفهم الطريقة - بعد تحصيل أكبر قدر ممكن من المعارف وتأملها وتفكيك محتواها - التي يشتغل وفقها هذا العالَم، هو شيء خاص بفئة مُحدّدة من الناس، تكون قد نذرت حياتها لهذا الشيء ودفعت به ناحية حدوده القصوى. ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن ينطبق على الناس أجمعين، نظراً لعدم اهتمامهم بالأمر - من ناحية - من أساسه من جهة، بما يؤكّد فكرة التعدّدية والتنوّعية الإنسانية، التي تنفتح على مجالات كثيرة وعديدة وعدم انحصارها في تخصصات بعينها من دون غيرها. ومن ناحية ثانية لصعوبة الأمر، فالمكابدات المعرفية - لغاية الوصول إلى الينبوع الأول الذي يدفق منه ماء الأسباب والأنماط البدئية - تتطلّب جهداً عقلياً هائلاً، قد لا يتأتى - ليس لقصور مبدئي حادث في عقولهم، كما أشرت قبل قليل - للأغلبية الناس، نظراً لانشغالهم بحياتهم الخارجية ومعيشهم اليومي، أكثر من اهتمامهم بما هو داخلي عقلي ومُجرّد.

والدعوة العامة، لناحية الإمكان الذي تحمله هذه الدعوة الأرسطية للتفلسف، إذ يمكن التأسيس لإنسان مُطلّع على الأسباب، قبل أن يُباشر عمله أو حرفته أو مهنته، حيث تكون أكثر إحكاماً وإتقاناً، ومنسجمة مع مقولة (الإنسان كائن عاقل) ولديه القدرة على التحكّم بمجريات الأمور بعقله أولاً، قبل أن ينتقل إلى الواقع العلمي كمرحلةٍ تالية. فهو مربوط - اقتضاء لواقع هذه الدعوة العامة - بين شرطي عقلانيته وواقعيته، والدمج بينهما في عمل مائز وماكن ومُبدع.

وهكذا، نحنُ أمام دعوة أرسطية للتفلسف وممارسة الفلسفة، فالإنسان – بطريقة أو أخرى – هو كائن مُتفلسف، وأمكنه بكثير من الجهد أن يتحوّل إلى فيلسوف صِرف، وبقليله إلى فيلسوف مشوب بما هو أدنى من الفلسفة، أو بتعبير آخر هو فيلسوف كبير إن أراد التخصّصية، وفيسلوف صغير إن أراد العمومية، لكنه بكلّ الأحوال إنسان مُتفلسف وقارد على التثبّت في مقولة (الإنسان كائن عاقل).


[1] ثمة دراسة وافية لعبد الغفار مكاوي - ناقل الكتاب إلى العربية - عن هذا الكتاب، والظروف التي أحاطت به، اختفاءً وظهوراً. (ص ص 9- 30)

[2] أرسطو، دعوة للفلسفة، ترجمة وتعليق وشروح عبد الغفار مكاوي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، د ت.

[3] المصدر السابق، ص 32

[4] السابق، ص 34

[5] السابق، ص ص 34- 35

[6] السابق، ص 41

[7] السابق، ص 41- 42

[8] السابق، ص 46

[9] السابق، ص ص 46- 47

[10] السابق، ص 47

[11] ثمة هاجس قوي لدى الإنسان، لمعرفة كل شيء، وتفهّم الوجود في صيغته المبدئية، لكي يتمكن من إحكام سيطرته على كل شيء. ولربما كان هذا الشيء هو أحد أبرز الأسباب التي تدفع الإنسان لأن يتطلّع إلى الألوهة، واعتبارها مطمحاً إنسانياً بالدرجة الأولى، نظراً للإمكان التوليدي الذي تحتوي عليه، فيما يتعلق بالأنماط البدئية، والقدرة على إحداث إزاحات جوهرية في بنية العالَم.

[12] أرسطو، دعة للفلسفة، مرجع سابق، ص 51

[13] السابق، ص 52