ذوقان عبيدات: في نقد المناهج التربوية في الأردن


فئة :  حوارات

ذوقان عبيدات: في نقد المناهج التربوية في الأردن

أثيرت في السنة الماضية قضية المناهج التربوية الأردنية، ومعها ثارت عاصفة من الجدالات والنقاشات بين جهات كثيرة. وقد كان للدكتور "ذوقان عبيدات" حظَّاً واسعاً من هذه النقاشات؛ فقد تناول المناهج التربوية الأردنية نقداً وتحليلاً، بشكلٍ مُكّثف وعميق، وقد كان لدراسته التي وسمها بـ (الداعشية في الكتب والمناهج المدرسية) أن تكشف من جهة عن عمق المأساة التربوية الأردنية، والفكر المتطرّف الذي تغذّيه هكذا مناهج، وتدفع بالكثيرين إلى تبنّي خيارات العنف والإلغاء في تعاملاتهم مع العالَم؛ ومن جهة ثانية أثارت حفيظة الكثيرين، سواء من جهات رسمية أو دينية، لأنها حركت الماء الراكد الذي يمشي عليه الطالب الأردني، ويمكن أن ينفجر في وجهه في أي وقت، إلى درجة اتهّامه بأنه يُحارب التراث الديني الإسلامي في المناهج التربوية، ويسعى إلى إفقاد الطالب الأردني ميزته الدينية، ومعناه في هذا العالَم، لا سيما إذا ما عرفنا الدور الكبير الذي اضطلعت به النُظم الدينية على مدار تاريخ طويل، في تشكيل معالم الإنسان العربي، لا سيما موقفه من العالَم الذي يعيش فيه.

الدكتور "ذوقان عبيدات" الذي نلتقيه اليوم ليُحدّثنا ويحدّث قرّاء "مؤمنون بلا حدود"، عن الجدل الذي خاضه، لغاية الانتصار لتشذيب المناهج الأردنية وتهذيبها، ودمج الطالب أكثر في أنساق تربوية جديدة وحديثة، تنتصر للمشترك الإنساني بين بني البشر؛ تنقّل بين وظائف عدّة كان أبرزها شغله لمنصب مندوب الأردن لدى منظمة اليونسكو في باريس، في ثمانينيات القرن الماضي، وآخرها مستشاراً لتطوير التعليم في إحدى المؤسسات التربوية في الرياض.

له عدّة مؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية منها: (الدماغ والتعلّم والتفكير)/ (البحث العلمي النوعي والكمي)/ (التعددية الثقافية في التربية).

معاذ بني عامر: لأبدأ معك من العاصفة التي ثارت أخيراً حول المناهج التربوية، وأثارت معها جملة من الأسئلة والتساؤلات. كما لو أن جُبّة الدين قد التصقت بجِلْد إحداثيات حياتنا اليومية، إلى درجة عدم التعامل مع أية إحداثية دنيوية كانت أم دينية، دونما تدخّل مباشر أو غير مباشر من الدين. إلى أي حدّ ينطبق هذا الوصف على الجدل الدائر الآن في الأردن حول طبيعة المناهج التربوية، ودورها في تشكيل ذائقة الأجيال، على المستوى المعرفي والجمالي والأخلاقي؟.

ذوقان عبيدات: حين أثيرت موضوعات المناهج في شهر تموز 2015، وفي مؤتمر نظمه مركز نيسان للدراسات، تم طرح داعشية المناهج الأردنية، وقيل وقتها بوضوح إن مناهجنا وكتبنا مليئة بأفكار يمكن أن تستغل داعشياً خاصة من قبل معلمين يعتنقون الفكر الداعشي، وتم تقديم أمثلة متعددة من كتب التربية الإسلامية واللغة العربية والتربية الوطنية.

وقد تحدثت بوضوح عن أنني لا أناقش النصوص الدينية، بل استخدامها البشري في مواقع معينة ولأعمار معينة وبيئات معينة، أي أنني أناقش السياق الذي قدمت فيه. والسياق هو ظروف إنسانية غير مقدسة! ويحق لأي أحد أن يناقش أسئلة تتعلق بـِ متى؟ وأين؟ وكيف؟ وماذا؟ وحتى لماذا؟.

وقد كتبت عدة مقالات في جريدة الغد بعد الجدل – والاهتمام غير المسبوق- بداعشية المناهج، وأوضحت أن الأمور لا تتعلق بالدين، بل بإقحامه في سياق خاطئ. ولكن من لم يقرؤوا ولا يريدون أن يقرؤوا، هاجموا ما نكتب. فهم إما مسؤولون فاشلون في وزارة التربية أو عملاء مرتزقه لها، أو جاهلون باسم الدين.

ردت الوزارة عليّ باتهامات عديدة، وبعد شهرين قررت حذف الكتاب الداعشي الشهير "الثقافة العامة"؛ فما كتبناه عن المناهج كان دقيقاً، وكنّا نشير لاسم الكتاب والصف، ورقم الصفحة. ولأن ما كتب كان صحيحاً، فلم تستطع الوزارة الرد فحركت صحفيين وإعلاميين أثاروا الفئات المتدينة، بأن الدين في خطر، وأن الهجمة على الإسلام وليست على الكتب. والدين كما هو معروف يثير الفئات البسيطة من المجتمع، فعقدوا مؤتمرات تكفيرية، ولذلك أسميتهم جماعة ألهاكم التكافر!!.

معاذ بني عامر: بناءً على إجابتكم السابقة، هل أصبح الدين، أو إن شئنا دقّة منهجية أكبر، هل أًصبحت منظومات التديِّن المُنبثقة عن دينٍ بعينه، تُشكّل عائقاً كبيراً أمام أي تحرّك إبداعي حُرّ، نظراً للحَجْر المُسبق على آليات التفكير لدى الناشئة، من خلال طبعها بطابع التديّن الجمعي، الذي أنجزَ إجاباته حول الذات والعالَم والإله منذ زمن بعيد، وها هو يُعيد اجترارها، المرة تلو الأخرى؟.

ذوقان عبيدات: من الناحية العلمية، الإبداع هو الخروج عن الأطر المعروفة والمألوفة، فلا يمكن تأطيره أو قولبته. ولذلك، فإن أي قيود حتى لو كانت أخلاقية أو دينية يمكن أن تحد من الإبداع.

ومن الواضح، أن الدين إذا كان إطاراً فكرياً أو مجتمعياً، فإنه يختلف عن الدين إذا كان سلوكاً فردياً خاصاً. وهناك فرق بين أن تكون حراً بخيار أو أن تكون تحت مظلة من يقول لك: الموسيقى حرام، والشعر هلاك. والإبداع بدعة. فالدين الاختياري أو الدين الذي اعتنقه الفرد كخيار يختلف عن دين يلزم بسلوكيات وأخلاقيات معينة ويشهد التاريخ أن سقراط أعدم دينياً، وأن أعداء جاليليو وكوبرنيكس كانوا رجال دين، وكذلك كان أعداء المعتزلة وابن رشد وأبو العلاء المعري. إذن، علينا أن نميز بين الدين وبين مفهوم معين للدين.

لا يوجد دين إلّا وسعى لمصلحة البشر، سواء كان الدين أرضياً أو سماوياً، فجميع الأديان تطفح بالأخلاق والقيم والتوجيه. فإذا كان الدين موجوداً لمساعدتي، فإن ذلك يختلف عما إذا كنت موجوداً لخدمة الدين!! وإذا كان الدين يرشدني للحياة والحب والأمل، فإن ذلك يختلف عن دين يغريني بالموت.

إذن، الدين يجب أن يشجع الحياة والتغيير والحب، وهذا يعني الإبداع. أما الفهم القاصر للدين هو ما يدعو لقتل الحياة! نعم! جرموا القهوة وآلة التصوير والهاتف والسيارة والنظارة! فأي إبداع؟ إن هؤلاء هم قتلة الإبداع! أي إبداع ونحن نسمع في كل خطبة: كل جديد بدعة!! إذن القديم هو الأصل! ولا يوجد دين مهمته إعاقة الإبداع . لكن يوجد متدينون أو مفتون يعيقون ويقتلون الإبداع.

معاذ بني عامر: في سياق جدالكم حول تهالك المناهج التربوية الأردنية وتهافت منظوماتها المعرفية، بما يُؤثر سلباً على الإمكانات الإبداعية للأجيال الناشئة، اتهمتم بأنكم تنتقدون المنظومة الدينية بالأساس، طالما أنكم تُركزون في نقدكم على تبيان ما في التُراث المبثوث بين ثنايا المناهج التربوية، من سلبيات؟. هل تمّ استحضار التُراث في عملية النقد الموجّهة لكم، بصفته حمولة مُقدّسة، أريد منها إرباك مشروعكم النقدي للمنهاج التربوي، لا سيما مع ما يحظى به التراث من صفة قُدسية في الذهن الجمعي؟.

ذوقان عبيدات: لم أسمع الدين يتحدث عن المناهج؛ فالمناهج منتج بشري يناقش أو يعرض موضوعات علمية وفنية ودينية وأخلاقية، وإن تديين المناهج أو أسلمة المناهج تعني إدخال الدين المقدس في منتج بشري غير مقدس، فإذا قالوا:

"لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا"

هل يعرفون أن مهمة تقويم الحاكم ليست بيد طلبة مراهقين أو معلمين أو مؤلفين جهلة؟

"وحين قالوا: الجنة تحت ظلال السيوف"

هل يعرفون أن العمل الصالح هو الذي يقود إلى الجنة، وليس القتل والذبح الذي يؤصل له أتباعه دينياً؟

وحين قالوا: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده"

هل عرفوا أن تعبئة المراهقين بهذا المعنى، قد يساء استخدامه، فيسير المراهق محاولاً إصلاح كل ما اعتقد أنه منكر؟، لقد قلنا دائماً: لا نقد للنصوص، فهي مقدسة، ولذلك لا تقحموها لطلبة مراهقين مع معلمين يثيرون الفتن!!

إن من حق أي قارئ أن ينقد أي كتاب، لأن الكتاب منتج بشري، وإن نقده هو نقد للإطار والسياق والظروف وليس رفضاً لما جاء فيه من نصوص مقدسة.

والتراث مرة ثانية! نحن مع التراث ولكن أي تراث؟؟ تراث قتل وذبح وفتن أم تراث حب وخير وحضارة؟ لا مستقبل دون تراث. ولكنه الجانب المشرق من التراث، تراث الشعر والأغاني والخير والأخلاق والفلسفة والفن، ففي تراثنا ما يكفي لإلهامنا! ولكن في تراثنا ما يجب أن نناقشه ونقبله أو نرفضه.

ليتنا نعود لتراثنا في العلوم والفكر والفلسفة، وليتنا نتخلص من تراث يشدنا إلى الماضي الذي يرونه مستقبلاً.

لقد قالوا - وهذا صحيح - إن تراثنا سبّب نهضة أوروبا، ولكن لم يقولوا أي تراث! إنها الفلسفة والفكر والفنون وليس تراث الوهابية، والنزاع على السلطة، ونشوء المذهبية والطائفية.

فالتراث ليس سلاحاً بأيدي الرجعية، بل هم من ينفرون من التراث، ألم يحرقوا كتب ابن رشد؟ ألم يكفروا المعتزلة؟ ألم يقولوا من تمنطق تزندق؟ ونحن نقول في تراثنا ما نفخر به. لا نكفّره، ولا نزندقه!!

إنهم يأخذون من التراث ما يكفيهم مؤونة الحياة دون بذل جهد، فالحلال عندهم بيّن واضح، والحرام كذلك، فلماذا أو بماذا يفكرون؟

معاذ بني عامر: في دراستكم (الداعشية في المناهج والكتب المدرسية)، وتحت عنوان (الثقافة الدينية في المناهج واحتمالات الداعشية)؛ أشرتم إلى مدى الانتشار الواسع للثقافة الدينية في الكتب المدرسية الأردنية إلى درجة "حشد أكثر من 85 آية قرآنية، وعشرات الأحاديث النبوية، في وحدة دراسية واحدة، لا علاقة لها بالموضوع، حيث كانت الوحدة في الفلسفة والمعرفة".

إلى أيّ مدى تؤثر عمليات (أسلمة المعرفة) على مُدخلات الناشئة في الأردن، لناحية تموقعهم في إجابات جاهزة حول كل شيء، واصطدام هذه الإجابات بالواقع المعيش، لا سيما ساعة انبثاق المُخرجات، وارتطامها بين يقينيات هذا النشء الداخلية، وحالة عدم الثبات الخارجية؟.

ذوقان عبيدات: إن من حق كل مجتمع أن يقدم ثقافته الخاصة به؛ فالمعرفة الإسلامية جزء من المعارف الإنسانية، ولكن هل هذا يكفي للطلاب؟ ثم كيف نقدم المعرفة الإسلامية؟

- هناك معرفة إسلامية تقول نحن أساتذة العالم، وأن من حقنا أن نعلم الآخرين!! وأن علومنا هي علوم الدين. كل العلوم عدا القرآن باطلة إلّا الحديث وعلم الفقه في الدين!! وأن علومنا يقينية، مصدرها وحي لا يخطئ، وليت الأمر هكذا، بل امتد إلى الفقه والتفسير، وصار نقد تفسير موقف ما كأنه مساس بالمقدس.

- وهناك معرفة تقسم الحياة والعالم إلى عالم الخير وهو عالمنا، وعالم الشر وهو عالم الآخرين!!

- وهناك معرفة تقول علينا إنقاذ العالم وتحريره من الظلام!

- وهناك معرفة تقدم لنا حلولاً جاهزة! فلا مجال لاستخدام الفكر! وأخطر ما في ذلك، أننا نملك حلولاً لكل مشكلة، وما علينا سوى تطبيق هذه الحلول!! فإذا قلت أن العالم متغير، قالوا لك: إن المعرفة الإسلامية صالحه لكل زمان ومكان!! احذر العقل عاجز!!

- وهناك معرفة تعود بك الى الماضي - باعتباره مشرقاً - وهو ليس كله كذلك، فلا حاجة بك إلى المستقبل! فما نهض به أجدادنا هو سبيلنا إلى النهضة! وحين تقول نهض الغرب بعد أن درسوا فلسفتنا وبعد أن اتخذوا العلم سبيلاً، يقولون لك الفلسفة شر!! وحين تقول تكيف الغرب مع العلمانية، وتكيف الدين معها، باعتباره نشاطاً إنسانياً شخصياً واجتماعياً، يقولون لك الدين هو الدولة، ولا كلمة تعلو على كلمة الحق.

إن خطر المعرفة الجاهزة أنها تغنيك عن النقد والتفكير، وتجعلك مستسلماً ومطمئنا على أنك بخير ما دمت مسلماً؛ فالتفكير الديني قد يقود الإنسان إلى الهدوء الكامل والأمن الكامل، ويبعد عنه القلق المعرفي أو الإبداعي.

معاذ بني عامر: استكمالاً للسؤال السابق: إلى أيّ حدّ ساهم غياب الدرس الفلسفي عن المنهاج التربوي الأردني، في إخراج أجيال مُحطمّة وجودياً، لناحية تموضعها في سياقات منفعلة بالوجود غير فاعلة فيه، وتبنّيها لخيار العنف، كنوعٍ من الانتصار لنرجسيتها اليقينية المجروحة؟

ذوقان عبيدات: إن حضور الفلسفة في تاريخنا شكل أول تحرير للعقل، هكذا كان عند اليونان وشعوب العالم، ما الفلسفة؟ إنها البحث عن الحقيقة، وهذا يعني أن الحقائق تتطلب جهداً وبحثاً وتفكيراً وتأملاً، وليست معطى جاهزاً أو وصفه، أو بطاقة مسبوقة الدفع.

وما المقصود بالعقل الفلسفي؟ إنه العقل الشكاك، الناقد، والمتأمل الدائم البحث عن عوامل وأسباب متشابكة وبعيدة. لقد قدمت لنا فلسفة أفلاطون المثالية حقائق وأفكاراً عن عالم المثل، وقدمت فلسفة سقراط حقائق وأفكاراً عن عالم الواقع، وقدّم كانت أفكاراً عن قيمة العقل، وديكارت قدّم منهج الشك والبحث، وسارتر قدم منهج الوجود.

هل يحتاج الطلاب هذه الأفكار؟

لقد قدم لنا المعتزلة أفكاراً عن قيمة العقل في حواره مع العقل، وقدم ابن عربي فلسفة الحب، وابن رشد قدم منطق الفكر الباحث المتأمل، وحتى أبو العلاء المعري، والمتصوفة قدموا أفكارا عن وحدة الوجود، وتجليات مظاهره، وأهمية الاتحاد بالخالق.

فهل يحتاج طلابنا إلى هذه الأفكار؟ أم يحتاجون إلى الإجابات الجاهزة، وتصنيف الناس إلى كافر ومؤمن؟

درس العرب الفلسفة، فارتقوا ذهنياً، وكانت فترة الخلافة التي ساد فيها الفكر المعتزلي أيام المأمون، الفترة الذهبية الوحيدة في حياة العرب، وكان حرق كتب ابن رشد بدءاً لمرحلة انحطاط داعشية، أو تلك هي الداعشية الأولى، والحقيقة أن حياتنا العربية لم تخل من فكر داعشي على مدى تاريخنا.

فالخيار بين دراسة الفلسفة وما يتبعها من الفن وعلم الجمال وعلم الخير وعلم الحق والمنطق، وبين ختان العقل والقلب والعين والأذن والضمير.

فختان العقل كي نبعده عن الفلسفة والتفكير.

وختان القلب كي نبعده عن الحب.

وختان العين كي نبعدها عن الجمال والفتنة.

وختان الأذن كي نبعدها عن الموسيقى.

وختان الضمير كي نبعده عن الحق والقلق والشك.

وهناك مسألة أخرى، هي كيف ندرس الفلسفة؟ هل ندرسها كمادة أم كمنهج بحت؟ هل ندرسها كمادة مستقلة أم في كل لحظات التعلم؟ إننا بحاجة إلى منهج فلسفي بمقدار حاجتنا إلى فكر فلسفي، فالمنهج الفلسفي، يسأل أكثر مما يجيب، ويقدم خيارات أكثر من إلزام الطلبة بمسارات محددة، فبإمكاننا أن نحول جميع طرائق التدريس إلى منهج فلسفي يقوم على:

- الشك بالمعلومات والحقائق الآنية.

- إثارة أسئلة حول كل موضوع.

- البحث عن بدائل وخيارات لكل موقف.

وهذا منهج يمكن تطبيقه على أية مادة دراسية.

وأخيراً، إن حضور الفلسفة يقود إلى طالب باحث، متسائل شكاك، غير يقيني. أما غيابها، فيخلق طالباً يمتاز بـ:

- قبول وتصديق كل ما يسمع دون تمحيص أو نقد.

- الجمود الفكري، وعدم استخدام العقل وحتى الملاحظة والتجربة.

- الاكتفاء بالحقائق المنقوله له، وعدم الرغبة في تجديدها.

- محاربة أي جديد يصل إليه، ومعاداة التغيير.

- الاتكالية والسلبية والاعتماد على الآخر.

إذن ليس المهم أن تدرس أفلاطون وأرسطو وابن رشد بمقدام ما يهمنا تبني المنهج الفلسفي في البحث والاكتشاف والتحليل والتأمل، والذهاب وراء الأسباب المباشرة.

معاذ بني عامر: إذن، هل ساهمت التربية الدينية المنتشرة بكثافة في المناهج التربوية الأردنية، في تنشيط الحسّ الديني العنيف، لدى الإنسان الأردني، إلى درجة تبنّيه لخيار العنف، أم إن المسألة ليست كذلك بالمرة؟. هل يمكن للإمكان اليقيني الذي تُغذّيه الأنساق الدينية الجاهزة والناجزة سلفاً، أن يُدمّر حيوات الإنسان الذي يتحرّك في عالَم مُتحرّك، ولا مجال فيه لثوابت يمكن أن تحوّل الإنسان إلى كتلة صمّاء أو إلى ماء آسن؟.

بلغة أخرى، هل انبثقت داعش وصويحباتها من العدَم، أم ثمة تراكمات عنيفة في دواخل الذهنية الجمعية، آلت إلى ما آلت إليه من دمّ سيّال على المستوى الخارجي؟. وهل نتحمّل وزر إنبات هذه الشجرة وتغذيتها، أم أننا براء منها ومن ثمرها المُرعب؟.

ذوقان عبيدات: يقول أنصار الفكر الديني إن الدين يطلب منا أن نقرأ ونفكر، ويخاطب عقولنا، إذا كان هذا مفهوم الدين، فإن الدين صار فلسفة وبحثاً، وإننا مطالبون بالبحث والاكتشاف، أما إذا كان الدين تسليم بالقلب وتصديق باللسان، فالدين صار يقيناً مطلقاً، لا تجوز مناقشته أو الشك فيه، إن هذا يتوقف على مفهوم الدين.

وإذا كان الدين سلوكاً شخصياً، يطلب بموجبه من كل فرد أن يلتزم بسلوكيات معينة - اختيارية - أي بمعنى يستطيع الفرد مناقشتها وتعديلها، فإن الدين لن يكون عقبة أمام تحرّر الفكر.

وإذا كان الدين حلاً لكل المشكلات الفرد والمجتمع، وإذا كان هو الإطار المعرفي للإنسان، فإن هذا الدين يملؤنا بما يجب أن نعمله، حتى بما يجب أن ندعو الله لعمله عنّا، فهناك أدعيه للطعام والجلوس والنوم وكل سلوك آخر، وهناك حلول لكيف نجلس ومتى وأين!!، وحلول لكيف نتواصل ونتعامل ونفكر ونقول ونعمل، فلا شك أن هذا المفهوم سوف يملؤنا باليقينيات، وما لا نستطيع الوصول إليه من يقينيات لا بدّ من سؤال من يعرفها، فحقائق الدين ثابته، يقينية، مطلقة، وهذا ما يميزها عن الفلسفة والعلم.

والدين فلسفه مثالية يقول بأن الحقائق ثابتة، وأن من يعرفها من الشيوخ مطالب بنقلها إلى الآخرين، وهذه مهمه إلهية مقدسة، بينما الواقع والحياة والعلم تقول إن الحقائق متغيرة، ومن حق الإنسان أن يجد ما يناسبه من حقائق على ضوء هذه التغيرات.

وعودة إلى المناهج، إذا كانت الحقائق ثابتة، فلا داعي للاجتهاد فيها، فلا اجتهاد في موضع النص المقدس، ولذلك، لا داعِي لتغيير المناهج والكتب المدرسية، لأن حقائقها ثابتة.

معاذ بني عامر: ما الحلّ إذن؟ إذا كانت المناهج بصيغتها الحالية تُشكّل بنية تحتية، ليس لتدمير الإنسان معرفياً وجمالياً وأخلاقياً فقط، بل ودفعه دفعاً ناحية خيارات عنيفة، بما يبقينا في دائرة ضيقة على المستوى الحضاري، فما الحلّ إذن؟. هل ثمة أفق منشود، أم إننا بصدد هاوية لا تفتأ تتوسّع دائرتها؟.

ماذا لو أجرينا تعديلات جوهرية - كما أملت في دراساتك التي تناولت هذا الموضوع - على مناهجنا التربوية؟. هل سنحظى بفرصة لإنجاز مشروعنا الحضاري، انطلاقاً من أجيال تعي دورها المعرفي/ الجمالي/ الأخلاقي المنشود، بعيداً عن أي ارتهانات ماضوية؟. هل سنحظى بعالمٍ عربي تنبت فيه جماعات تحضّ على الحياة، بموازاة جماعات تحضّ على الموت، كما هو واقع الحال هنا والآن؟.

ذوقان عبيدات: إن أهداف المناهج أو قانون التربية لا تدعو إلى العنف، ولكن حين يترجمون المناهج إلى كتب مدرسية، تعطى الفرصة للمؤلفين ببث أفكارهم، والمسيطرون على وزارة التربية هم محافظون تقليديون، ولذلك ترى العنف في معظم الكتب.

- ففي مناهج اللغة العربية، يقولون: الجنة تحت ظلال السيوف.

- وفي مناهج التربية الوطنية، يلغون الآخر المختلف دينياً، وينسبون كل القيم إلى دين معين.

- وفي مناهج التربية الإسلامية، يختارون الآيات الكريمة التي تدعو إلى الجهاد أو تهدد الكافرين والظالمين، فترى ألفاظاً مثل جهنم والسعير وحرق الوجوه والتعذيب المستمر، على حساب آيات تدعو إلى الهداية والرحمة.

- وفي مناهج العلوم، يصدرون إيحاءات أمام كل موضوع بأن مصدره القرآن الكريم.

وهنا يستغرب المرء ما فائدة ذلك؟ هل هو جهل أم سوء تقدير؟ أنا أعتقد أنهم جهلة لا يقدرون عواقب ما يكتبون، ولذلك يملؤون الكتب والمدارس بثقافة الموت بدلاً من الحياة، أو لسنا قوم نحب الموت كما يحبون الحياة؟ ألسنا قوم نقوّم حكامنا بسيوفنا إذا رأينا فيهم اعوجاجا؟؟ ألسنا من يشرب الماء النقي، ونعكّره ليشرب غيرنا كدراً وطيناً؟

إن أفكار العنف في مناهجنا، سبق أن سجلتها في مقالتي "الداعشية في المناهج والكتب المدرسية"، ولا داعي لتكرارها هنا، لكن أقول:

كيف تهاجم الكتب العلوم الحديثة؟

وكيف يطلب من كل مسلم حمل السلاح دفاعاً عن الإسلام في العالم؟

وكيف نقيم الإنسان بمدى التزامه بأحكام الشريعة لا القانون؟

وكيف يطلب من طالب في الصف الأول الأساسي من عمر ست سنوات أن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها في فكره وسلوكه وعمله؟

هل هذا معقول؟ إنه الجهل ولا شيء غير ذلك.