راهنيّة فلسفة الدين الكانطيّة في واقعنا المعاصر


فئة :  مقالات

راهنيّة فلسفة الدين الكانطيّة في واقعنا المعاصر

إنّ التطواف مع نظرية كانط في الدين المتميّزة باختلاف الرؤى والتأويلات، وكذلك المطارحات المكثّفة لشبكة من فروع الأنساق المعرفية الإبستيمية، بغية كشف المستور والمتواري بالحجب الذي يُمارسه كانط في سياق كتاباته الفلسفية سواء ما تعلّق منها بموقفه الديني قبل المرحلة النقدية، أو موقفه في المرحلة النقدية، وتلك الجذور الضاربة في مرحلته الطفولية حيث تشبّع بالروح التّقوية البروتستانتية، فإنّ مسعانا ومبتغانا في هذه المقالة هو تقييم نظرية كانط في الدين، كما طرحتها جُلّ كتاباته وأعماله المحسوبة على المدرج الديني الثيولوجي، الذي سيسترجع من خلاله «مقول المقدّس والديني واللاهوتي» في شقّه العملي، بعد أن وضع حدّاً لها على مستوى التنظير الإبستيمي العقلي، معتبراً أنّ الفكر الإنساني ينزع نزوعاً طبيعياً إلى الوقوع في التناقض كلّما حاول إدراك اللامتناهي، أي أنّ العقل يناقض نفسه كلّما حاول معرفة الله[1]، وقد اتّضح لنا من خلال هذا البحث المتواضع أنّ كانط تشبّع بروح التربية التقوية البروتستانتية، المرتكزة على عبادة الأفئدة النّقية والسّلوك الإتيقي القويم ودين السّيرة الحسنة، كما كان لحركة الإصلاح البروتستانتي التي قام بها المصلح الألماني «مارتن لوثر» حظوتهــا وقيمتها في التأسيس لمخيال كانط اللاهوتي الديني، مروراً بالنّزعة الإنسانوية النّهضوية التي جعلت من الإنسان مركزاً للكونية، ليكون تقصّينا لمراحل تطور الفكر الديني الكانطي استتباعياً بمنحى فترة الشباب الجامعية، حينما كان كانط طالباً متأثراً بفيزياء إسحاق نيوتن وتفسيره اللاهوتي الميكانيكي، لينحو بنا بعد ذلك نحو فلسـفة «ليبنتز» و«وولف»، ليضع لنا بعد نقده البراهين الكلاسيكية لوجود الله أساساً برهانياً يراه الأنجع والأجدر لإثبات وجود الخالق، لتبدأ بعدها تفنيدات كانط لأحلام أرباب الميتافيزيقا والثيولوجيا في ادّعائهم القدرة على بلوغ الحقيقة الماورائية والغيبية، حالهم في ذلك حال الوسيط الروحاني الذي يزعم رؤيته لأرواح عُلويّة سرمديّة وعروجه إلى السّماء، متأثراً في ذلك ولو بصورة إرهاصية بريبيّة (شكّية) داوفيد هيوم، ليصدر بعدها دراسة تحمل عنوان (صورة ومبادئ العالمين المحسوس والمعقول)، ويبدأ التمهيد لقيام أهم عمل فلسفي عرفته الأزمنة الحديثة ألا وهو «نقد العقل الصّرف»، مبيّناً في ذلك عن مقولتي الزمان والمكان القبليتين، وعالم النومين والفينومان، ثم يتطوّر المنحى الكانطي إلى المرحلة النقدية حيث صرّح في كتابه «نقد العقل الصرف» أنّ بغيته المثلى تكمن في وضع حدود للمعرفة البشرية لفسح المجال للإيمان الديني، ونقده براهين المثالية المدّعية قدرتها على إثبات وجود الله بقوة العقل، ليستعيض كانط عن وجود الله، في شقّه النظري بوجوده في المنحى العملي كمسلّمة من مسلّمات العقل العملي المحض (الشق الأخلاقي)، وكما يظهر الموقف الديني الكانطي في التربية إذ عمد إلى ضرورة تعليم الأحداث الأخلاق أولاً ثم الدّين، حتى يقوّم سلوكهم ويتجذّر مفهوم الواجب في ضمائرهم الحيّة، لننحو بعد ذلك إلى المرحلة المتأخرة من فلسفته الدينية، ألا وهي مرحلة صدور كتابه المثير «الدين في حدود مجرد العقل»، حيث دعا إلى ضرورة أن يُقام الدين على الأخلاق وحدها وليس العكس، بالإضافة إلى نبذه لدين الطقوسيات والشعائر والترانيم والطلاسم والبابوية والرهبانية، مستعيضاً عن ذلك بدين عقلي كوني إنساني قلبي، يقوّي علاقتنا بالله.

لكنّ السؤال الذي يؤرق عقولنا اليوم هو: هل نحن بحاجة للعودة إلى كانط في وقت الحاجة إلى الـدين؟ وكيف نعود إليه؟ ووفق أي منظور؟ هل صحيح أنّ كانط اقتدر بفضل فلسفته الدينية أن يُقحمنا لإعادة مراجعة مفاهيم الحداثة الدينية المنادية بالمجتمع المدني وقيم الحرية، وإتيقا المواطنة الكونية؟

أثار كتاب كانط «الدين في حدود مجرّد العقل» امتعاض الحكومة الألمانية في مدينة كونيجزبرغ، وهو ما نجده بالفعل في كتاب كانط «صراع الكليّات» الصادر عام 1798، الذي قصّ علينا فيه كانط قَصَصَه مع الرقابة الشديدة والمضايقات، إذ بعث وزير الملك فريديريك الثاني رسالة تأنيب يطالب فيها كانط ضرورة تبرير ما تمخّض عن كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»، من عبث وتهكم واستهزاء واستهتار بثوابت الدين المسيحي، إذ يقول: (لقد تبصّر سماحتنا منذ أمد، وبمرارة وامتعاض الأسلوب الذي انتهجتموه، ووفقه غاليتم وتنطعتم في تشويه وازدراء الثوابت الركيزة والرسمية للكتاب المقدّس وللمسيحية....، وذلك بخاصة في كتابكم «الدين في حدود مجرد العقل» (...)، فإننا نلزمكم بضرورة تبرير عملكم هذا، وإن لم تفعلوا فيجب أن تترقبوا منّا ما لا يروقكم).[2] فما كان من كانط إلا أن أجاب بكل لباقة على المرسوم الملكي قائلاً: (إنّي باعتباري مربّي الشباب، والمشرف على دروسهم الأكاديمية لم أتطاول بأي نقد للكتاب المقدّس ولا للمســيحية، (...)، وإنّي لم أشكك في دين الدولة البتة (...)، وكتابي «الدين في حدود مجرّد العقل» هو بالنسبة لعامة النّاس كتاب معقد ومستغلق، ولا يدان لهم بفهمه، بل هو عبارة عن نقاشات بين علماء الكليّة لا يعيره النّاس العاديون أيّ اكتراث)،[3] ويقول كانط في موضع آخر من كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»: (يكفي من أجل حذق هذا الكتاب في ماهيته الجوهرية، أن يكون للإنسان مجرّد الأخلاق المشتركة من دون أن يضطره ذلك إلى العودة إلى نقد العقل العملي، وأدنى من ذلك إلى نقد العقل الصّرف، إنه كتاب يمكن أن يحصف كنهه الأطفال أنفسهم)[4].

وهنا نجد تناقضاً كبيراً يفسّره الخوف والرهبة التي كانت تحيط بنفسية كانط، وسعيه الدؤوب لإرضاء الجميع سواء أكان الملك نفسه أو علماء الكلّية.

وهناك الكثير من الدّارسين والفلاسفة تهكموا على موقف كانط الديني، والبعض منهم اتّهمه بالإلحاد وبالخصوص بعض الكانطيين الجدد، وعلى رأسهم «جيل دولوز» الذي اعتبر كانط أول القائلين بموت الله على الصعيد النظري قبل نيتشه، خاصّة عندما مايز بين المعرفية العلمية الخاضعة للتجربة الإمبيريقية والتفكير الفلسفي المُبحر في التجريد، وبين المظهر الخارجي الموصوف والجوهر الباطني المُلَغَّزْ، وأكد استحالة معرفة النومين، وأنّ الغيبيّات موضوع للاعتقاد والتسليم فحسب.[5]

أمّا فريديريك نيتشه فيستهتر من مطارحات كانط، إذ يقول في كتابه «عدو المسيح»: (الفضيلة، الواجب، الخير ذاته، الخير بصفات غير شخصانية، بقيمة عمومية، تلك هلوسات يعبّر بها عن الانحطاط، والإرهاق النّهائي في الحياة، ورعاعية كونيجزبرغ).[6] ويتهكم مرّة أخرى من كانط فيقول: (هذا العدمي، ذو الأحشاء المسيحية الدوغمائية، قد فهم الفرح معارضة)،[7] ويضيف قائلاً: (من الذي يدمّر بسرعة أكثر من العمل، التفكير، الشعور، بلا ضرورة داخلية، بلا أي اختيار شخصي عميق، بلا فرح، كإنسان آلي مسيّر بالواجب؟ هذا بكل تأكيد هو الطريق إلى الانحطاط، وحتّى إلى البلاهة، كانط تحوّل إلى أبله، وقد كان معاصراً لغوته).[8] ولطالما كان نيتشه يصف كانط «بنصف قس»، وأنّ فلسفته النّظرية ما هي إلا قناع يُخفي من خلاله تقويته البروتستانتية المسيحية.

وبعض المفكرين كانوا يصفونه «بكانط المهرطق»، وأنّه «العرّاب الحقيقي للإلحاد في شكله المعاصر»، وقد أصدر المفكر الكاثوليكي ماتيوسي (Mattiussi) كتاباً سنة 1907 يحمل عنوان «السّم الكانطي»، وصف فيه تعاليم كانط بأنها كلّها خبيثة وخاطئة، بل هي سمّ يكفي قطرة منه لقتل العلم والعقل، وجعل الإيمان الديني مستحيلاً.[9]

أمّا موقف دريدا التفكيكي، ففي نص ندوة أشرف عليها «جاك دريدا» مع «جياني فاتيمو» حول «الدين في عالمنا» في جزيرة كابري الإيطالية سنة 1994، نتكنّه تفكيكية متكاملة لكتاب كانط «الدين في حدود مجرد العقل»، فتفكيكية دريدا تقوم على تصوّر جوهري مفاده أنّه ليس هناك من تنافر بين رجعة الديني في أنماطه المختلفة والعقلانية، إنّ هناك تجلياً لتحالف غرائبي بين العقل الحديث والدين... وكانط قد دعّم هذا التحالف في كتابه الدين في حدود مجرد العقل[10]، ثم ينحو بنا دريدا إلى تصور آخر لكتاب كانط إذ يقول إنّ الدين المسيحي ينفرد بكونه الدين الأخلاقي بامتياز، وإنّ المسيح هو المثل الأعلى للأخلاق الصّرفة[11]، أية أطروحة هذه التي يسعى كانط في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل» إلى إثباتها؟ قضية غريبة، لكن يجب أخذها بعين الجدّية في كل مقدّماتها.[12]

ويقول في موضع آخر من الكتاب: (هل نحن مستعدّون لتقدير مقتضيات ونتائج الأطروحة الكانطية دون ضعف أو تهاون؟ تبدو هذه قوية وبسيطة ومدوّخة)،[13] فإذا كانت الإتيقا الصرفة والديانة المسيحية متحايثتين، فماذا عن الديانات الأخرى إذن؟ يبدو أنّ كانط يشتغل لحساب الديانة المسيحية، وهو حينما يسقط في العقيدة الوثوقية، التزمتية، الدوغماطيقية التي تسعى فلسفته النقدية إلى محاربتها، أو يخرج عن حدود العقل الذي لطالما حرص على تحصينها من كل أوهام، فتفكيكية جاك دريدا تصيغ لنا كانط في صياغة مسيحية أصلية، بمماحكة لغة العقل الفلسفي، فعن أي حدود للدّين يتحدّث كانط؟ وعن أي حدود للعقل؟ وفيما وراء الذهنية المسيحية ألا يوجد هناك دين وإتيقا وعقل؟ وهل نحن أمام دين عقلي في حدود مجرد العقل، أم أننا أمام فلسفة دين في حدود أصولية تجذّرية مسيحية؟ ربما قد تتحول إلى عقلنة جذرية وتبرير خطير لكل ما يقع ضدّ الأصوليات التي تعترف اليوم في عقل الغرب بالإسلام، هذا ما يدعونا إلى فتح المجال نحو بحث آخر.[14]

كما نجد في المقابل من ذلك من أشاد بموقف كانط الديني وبجّله، ولنا أن نستحضر في مخيالنا ههنا ما كتبه أحد المعجبين بكانط (حفظك الله، أنت إنسان عظيم، إنك وسيلة عظمى في يد الله، أقول هذا دون مجاملة. إنّ فلسفتكم ستحدث ثورة كبرى، ثورة أعمّ وأشمل من الإصلاح الذي جاء به مارتن لوثر).[15]

بل هناك من تندّر باسم كانط ولقبّه بعيمانوئيل الثاني، وقد قارنه أحباؤه بالمسيح ذاته، ووصفوه بالمنقذ والمخلّص الموعود.[16] والذي يهمّنا ههنا هو موقف كانط من الدين الإسلامي، إذ نجده يعبّر عن موقفه منه في أكثر من موضع، إذ يقول: (وإنّ المحمّديين إنما يعرفون كيف يمنحون فردوسهم المرسوم بكل شهوة حسّية معنى روحياً جدّاً حقّاً)،[17] كما يعلّق كانط على الإسلام قائلاً: (أمّا دين محمد فهو يتميّز بالكبرياء، إذ بدلاً من المعجزات، هو قد وجد التأييد الخاص بإيمانه في الانتصارات، وفي قهر الشعوب الأخرى، وطقوس عبادته كلّها من نوع شجاع)،[18] ونفهم ههنا أنّ كانط يصف الدين الإسلامي بالكبرياء وليس يعني في ذلك كبرياء الطغاة، وإنما كبرياء الإيمان، وشتّان ما بينهما، فكبرياء الإيمان يقوم على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكبرياء الطغاة يستمد من الشيطان.

حقيقة نحن نشهد عَوْداً كبيراً إلى النّسق الفلسفي الكانطي، وهذا ما حدا بواحد من أهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية «فلتر بنيامين» إلى القول في كتابه الموسوم «حول برنامج الفلسفة القادمة»: (إنّ المهمة المركزية للفلسفة القادمة هي أن ترتقي بالحدوس الأكثر عمقاً، التي تستمدّها من عصرها، ومن استشعارها لمستقبل عظيم لمجال المعرفة، وهذا من خلال ردّها إلى النّسق الفلسفي الكانطي).[19]

إنّ راهنية كانط في واقعنا العربي الإسلامي المعاصر كامنة في نبذ كل سبل التناحر الطائفي والمذهبي، الذي تتولد عنه بؤر توتر في العالم العربي وقتال على أساس ديني عقائدي بين الفرق وأرباب النّحل الإسلامية، لذلك فلا قيّومية للدين الشعائري الطقوسي التزلّفي الذي يجبله الرّياء والسّمعة وحبّ الظّهور، ولا يخدم الله خدمة حقيقية متمخضة عن نيّة صادقة طاهرة السريرة، فالدّين يفقد معناه الحياتي إذا ما ارتهن فقط بمجموع الشعائر والعبادات الشكلية التي تُبتغى لذاتها ويُستعان بها فقط من دون استحضار النّية القلبية الصادقة، والسّلوك الأخلاقي القويم المؤسس على إيمان جديد ينفتح على الإنسانية برمّتها، يقول كانط: (الإيمان الجديد غير المرتبط بشرائع الإيمان القديم، ولا بأية شرائع عامة، إنما ينبغي أن يتضمن ديناً يكون صالحاً للعالم، وليس لشعب وحيد بعينه).[20] بالإضافة إلى ذلك لا بُدّ من نبذ احتكار طائفة من المسلمين تأويل القرآن وتفسيره، فهي من خلال هذا العمل تخلق تراتبية كاذبة في الفهم، ثمّ تفرضها بالقوة والإرهاب والعنف على أناس مسلمين أحرار، ومن ثمّ فتح باب الانشقاقات والفتن، وهو بالفعل ما أصاب اليوم عالمنا العربي الإسلامي. وفي المقابل من ذلك على الدولة الحاكمة حماية القرآن الكريم من تحويله إلى جهاز استبدادي مسلّط على عقول النّاس، وأيضاً حماية عقول النّاس حتى يستطيعوا أن يؤمنوا بما ورد في القرآن الكريم من زواجر وروادع إيماناً حرّاً، يقول كانط: (لذلك على الهيئات المسؤولة داخل الدولة ألّا تتدخل في مسائل الضمير، لأنّ المعتقد ليس مشكلاً قانونياً تابعاً للشرعية، وأن تسمح للبشر بأن يواصلوا التطور الحرّ للاستعدادات الإلهية لما هو أفضل للعالم في أنفسهم).[21] إنّ العدو الحقيقي ضد فكرة الدّين، وبالخصوص ديننا الإسلامي الحنيف، ليس هو العقل، كما يسترهب الكثير من الفقهاء وأهل الرأي، بل هو عقيدة دينية تمارس الاستبداد والإرهاب والتكفير والتّطرف الديني والعنجهية الدينية، وتصنّف النّاس إلى دهماء وكفّار يجوز قتلهم، والتقرّب بهم إلى الله زُلفى، وذلك أنه من مصلحة العقل كملكة على المستوى العمومي أن يبقى الدين صالحاً على المستوى الإتيقي، وعلينا أن ننأى بأنفسنا نحن ـ المسلمين ـ عن كلّ ما يؤدي إلى الكره الدموي ضد معاصرينا الذين يفكرون على نحو مغاير، وينتمون إلى الديانة نفسها (الإسلام) التي ننتمي إليها نحن، وذلك لنصل إلى الكونية في حياتنا ومعتقدنا وفضائها العمومي، وإنّ أكبر هاجس يطال المسلمين اليوم ليس في أن يدفعهم أعداؤهم إلى تغيير معتقداتهم أو تركهم يعتنقون دينهم الموروث، بل في منع النّاس من أن يقولوا رأيهم الديني على نحو عمومي، فمعركة الإكراه في الدين ومنع العقول الحرّة من التفكير هي معركة خاسرة دوماً، وإنّ ما نراه اليوم من صراعات طائفية دامية سواء بين السّنة والشّيعة أوغيرهما، فهي على وصف كانط: (إنّ كل حروب الأديان حمقاء).[22]

كما نجد تأثيراً واضحاً لإيمانويل كانط على المخيال الهابرماسي، تجلى بصورة دقيقة من خلال اعتراف هذا الأخير بالتعدد الثقافي الذي هو في حقيقة الأمر إقرار بتعدد العقل والعقلانيات، والنأي عن الإيمان النظامي التقليدي مستعيضين عنه بعقل الحداثة الواحد، كوحدانية كليانية وشمولية، لأنه مهما تباينت الثقافات والرؤى والمعتقدات والمذاهب والنحل الدينية، وتنازعت وتضاربت مناحيها واختلفت مشاربها، لا بُدّ من البحث عن وشائج القربى والقاسم المشترك الذي يكون بدوره متضمناً لعقلانية راسخة، وديمقراطية ممكنة ومواطنة متعددة يكون لبّها وجوهرها وكنهها هو «الحوار والتشاور» بين الأديان وأرباب الملل والنِحل والثقافات المتباينة، لتنخرط في مسار التشاور الديمقراطي ومسلسل الحداثة، قصد بلوغ رضى عالمي كوني مبني على الوسطية، حلول تأخذ بعين الاعتبار مطالب الأفراد وشبكات تواصلهم، لذلك يمكن للدين أن يقوم بممارستين؛ الأولى: تأسيسه لمنحى كوسمولوجي تعددي متنوع ثقافياً، والثانية: إجابة عن كيفية ضمان خصوصية الجماعات الدينية في إطار رعاية النظام الديمقراطي وقوانين المساواة دون المساس بالحقوق الأساسية للأفراد، وبالتالي يتسنى لنا تشكيل ديمقراطية تشاورية ترعى مطالب التعدد الثقافي والديني في محاولة تجمع بين الحداثة والحفاظ على الهوية.[23]

إنّ يورغن هابرماس لا يتملص من القاعدة التي يصبح بموجبها الدين من جديد رهاناً، عندما تعاني الفلسفة الحديثة من قيودها الخاصة، كما أنّ الرابطة التي يقيمها هابرماس بين الأديان وبين فكرة الحياة الجيّدة يسمح له بدمج الإيمان مع براديغم حلّ النّزاعات بوساطة أخلاق المناقشة، ويذهب هابرماس إلى المراهنة على اختفاء الدين بصورة تدريجية، وأنه سينقرض في كل أنحاء العالم، وذلك على إثر هذه الحداثة المتسارعة، وفوق كل ذلك تتجلى ثلاثة تمظهرات متطابقة تجتمع لخلق الانطباع عن ظهور عالمي جديد للدّين،[24] وحينما نسعى لتكنه حقيقة الإيمان وماهيته عند هابرماس نجده يصور الإيمان على أنه المحرك للتفاعل الإنساني، معتبراً أننا نسعى لإقامة مفاهيمنا العلمانية على بعد إيماني بالمقابل، كما يناقش هذا الأخير موضوع الطابع العلائقي بين الأصولية والإرهاب، بتوسطها الذي يفهمه على أنه مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشري، ويكون علاج اضطراب التواصل المنهجي المؤدي إلى العنف بين الثقافات يمكن أن يتم عن طريق إعادة بناء صلة أساسية من الثقة بين النّاس، التي لا يمكن أن تتم في ظلّ سيادة الخوف والاضطهاد.[25] بالإضافة إلى ذلك، فقد عمد جون راولس إلى الإشادة بالتعددية الدينية في فضاءاتنا العمومية، باعتبار أنّ التعددية واقع موضوعي تمّ تجاهله من لدن الكثير من الليبراليين واللائكيين المعاصرين، بحكم أنهم استغرقوا في ذواتهم ولم يستوعبوا أنّ هنالك آخر يملك نصيباً مع أتباع الأديان في الكون، فهذه الأديان العالمية ليست سليلة خطيئة، وليست فعلاً تاريخياً عارضاً، بل هي صورة أصيلة لها أصالة تنمّ عن المجتمعات الإنسانية، فكما أنّ تاريخ البشرية جمعاء هو عبارة عن سياقات متلاحمة تمظهرت من خلالها الإنسانية كتعددية واختلاف، كذلك فإنّ تاريخ العلاقة مع الله هو تاريخ تيارات روحانية وبشارات وخبرات شخصية متباينة وشخصية فردانية وجماعية سوسيولوجية، تهب كل بؤرة اجتماعية حظّها الوافر من الشعور بالقداسة والاستقامة واستحقاق الخلاص والتحرر، وبذلك فالتعددية الدينية هي ماهيات موضوعية قائمة بذاتها تتحقق بأنماط متعددة، ولا تقل وقائعياتها عن وقائعية أية ظاهرة أناسية أو أي معطى عقلاني محايث لتعددية المجتمعات وتنوع الثقافات وتباين الألسن واللغات، فتعددية الأديان من تعددية المجتمعات، وهي خير برهان على أنّ الظاهرة الدينية ليست مجرد شيء ينضاف إلى المجتمع من برّانيته، بل هو مؤسسة ومكوّن من مكوناته، وبعده الميتافيزيقي لا يعني بالضرورة تعاليه عن عالم الحياة الإنسية، بل هو دائماً في حالة حضور وتمظهر داخل السياقات السوسيولوجية والرؤى الثقافية، وأصبح حالة منظمة ومعقلنة للوعي، تحتوي على جملة معتقدات ومذاهب دينية مشتركة ومبادئ حياتية جامعة تنظم علاقة البشر واعترافات بعضهم ببعض. أمّا جون هيك فقد اِفْتُتِنَ بالبراديغم الإبستيمي واللاهوتي الكانطي، برغم أنه أدرك المحاذير العويصة التي قد تغالب دراساته اللاهوتية، وكذلك ما يتمخض عن هذا الأنموذج المعرفي الكانطي من صعوبات تنبجس عن تطبيق «جون هيك» لهذا البراديغم في منحى تكنهه لحقيقة معرفة الله، والمعضلة الكبرى أنّ كانط نفسه لا يتأتى له تقبّل الرؤية الفلسفية التي تقول إنّ الله هو حقيقة يمكن أن تختبر وتكتشف، ومع ذلك فالله بالنسبة له لزوم ضروري للعقل العملي، ليتسنى لنا في المقابل من ذلك فسح المجال للشِّق الإتيقي وجعل حياتنا الأخلاقية مفهومة، ووفقاً لكانط فإنّ التسليم بحقانية مقولة الإلزام الإتيقي يستلزم حقيقة الله.[26] أو بعبارة أدق أنّ الله شرط ضروري، وليس مجرد خبرة، أو أن يكون إمكانية معرفية تختبر وتكتشف، ويوضح جون هيك كيف أنّ مفهوم الحق يصبح على شاكلة مثقلة بالمعنى، حينما يحذق من خلال البصيرة الإبستيمية الكانطية في توافقه العملي، ولكن على العكس من ذلك في اللاتوافق العملي معه يعتبر أنّ الحق في ذاته لزومية باعتباره شرطاً مسبقاً، ليس فقط في مجرى حياتنا الإتيقية، بل كذلك في مجال خبرتنا الإيمانية الدينية وحياتنا اللاهوتية، بينما تكون الآلهة انبجاسات ظاهرية للحق، تتجلى في إطار الخبرة الإيمانية الدينية، وعمد إلى دمج هذين النموذجين في بوتقة واحدة، يمكن القول إنّ الحق خبرة، ويُتكنّه بوساطة الموجودات البشرية، ولكنه مختبر عن طريق المشابهة والمماثلة، ووفق التصور الكانطي فإنّ العالم يختبر بوسيلة المعلومات أو بالأحرى المعطيات الحسيّة التي يزودنا بها العالم الإمبريقي البّراني، والتي يفسرها وينظمها العقل في مصطلحاته وفق تصنيف منهجي مقولاتي، وهكذا تأتي إلى الوعي باعتبارها خبرة فينومينولوجية مثقلة بالمعنى،[27] ويتجلى لنا أنّ إعجاب جون هيك بالبصيرة الكانطية النقديّة قد تتسبب بالضرر أكثر من النفع في تصوره للحق، باعتباره مفهوماً مشتركاً للأديان، فأولاً نقلة هيك من آلهة الأديان إلى الحق في ذاته ليس مبرراً بلغة انضباطه الإبستيمي، فجون هيك بدلاً من أن ينير الإدراكات اللاهوتية الدينية لله، جعلها دامسة ومبهمة وغامضة بإدراجه اللغة الكانطية، وحتى كانط نفسه لم يكن ليقتدر على أن يرضي أولئك الذين يواصلون اكتناه كيف أنّ نظريته في المعرفة تمكّن من أن يتحدث عن النومين، فهذا الأخير أثناء سيرورة نقلته بمنحى الكانطية كان أقلّ إقناعاً من معرفية كانط نفـسه، والعلة في ذلك تكمن في تأكيد هيك على أنّ النومين ليس شرطاً لزومياً للخبرة الدينية. فبراديغم المعرفة في مطارحة هيك هو التجربة الدينية التي يكون المقصود من ورائها هو السعي لتكنّه حقيقة الله واختباره، وفي مقابل ذلك نجد كانط ينحو بنسقه الإبستمي إلى العالم الفيزيقي الذي تختبره تجاربنا الحسيّة الإمبريقية، أمّا مفهوم الله عند كانط فهو ليس موضوع تجربة حسيّة أو معرفة عقلية، بل هو مسلمّة نومينية، ضامنة لفعالية القانون الإتيقي والإيمان القلبي، ويكون بذلك الله عند كانط ليس مفهوماً إنطولوجياً، بل هو حقيقة قيمية إيتيقية لا تفهم إلا في منحى العقل العملي والواجب الإتيقي. وبهذا وسّع هيك موضوع التجربة المعرفية التي حصرها كانط بمجال الحسّي الإمبريقي لتطال مجالات لا محسوسة، مفارقة وغيبيّة.


[1]- وجيه قانصو، التّعددية الدينية في فلسفة جون هيك، المركز الثقافي العربي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2007، ص 193

[2]- Kant, Conflit des Facultés in œuvre-philosophies, ш,paris, Gallimard, 1986,p807.

[3]- Ibid, p808.

[4]- Kant, La religion dans les limites de la simple raison, p 27.

[5] - زهير الخويلدي، نظرة كانط الفلسفية للدين، صحيفة حريات، قسم قضايا فكرية، بتاريخ: 24 ماي 2013، السودان. انظر:

 http://www.hurriyatsudan.com/?p=110530

[6]- فريديريك نيتشه، عدو المسيح، ترجمة جورج ميخائيل ديب، دار الحوار، بيروت (لبنان)، ط2، ص 40

[7]- المصدر نفسه، ص 41

[8]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[9]- محمد المزّوغي، المسألة الدينية عند كانط، موقع الأوان الإلكتروني، الأربعاء 02 يونيو 2010، انظر: http://www.alawan.org/article7720.html

[10]- جاك دريدا، الدين في عالمنا، ص 20

[11]- نفسه، ص 18

[12]- نفسه، ص 20

[13]- نفسه، ص 18

[14]- نفسه، ص 19

[15]- محمد المزوغي، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، ص 59

[16]- محمد المزوغي، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، ص 60

[17]- ايمانويل كانط، الدين في حدود مجرد العقل، ص 187

[18]- ايمانويل كانط، الدين في حدود مجرد العقل (مصدر سابق)، ص 36

[19]- كمال بومنير، مدخل إلى قراءة فلسفة فلتر بنيامين (دراسة ونصوص)، منشورات الاختلاف (الجزائر)، منشورات ضفاف (بيروت)، دار الأمان (الرباط)، ط1، 2013، ص 67

[20]- كانط، الدين في حدود مجرد العقل (مصدر سابق)، ص 30

[21]- كانط، المصدر نفسه، ص 32

[22]- كانط، الدين في حدود مجرد العقل، ص 33

[23]- مجموعة مؤلفين، فلسفة الدين: مقول المقدس بين الأيديولوجيا واليوتوبيا وسؤال التعددية (مرجع سابق)، ص 358

[24]- المرجع نفسه، ص 344

[25]- المرجع نفسه، ص 348

[26]- أحمد محمد جاد عبد الرازق، التعددية الدينية واللاهوت العلموي في فلسفة الدين لدى جون هيك، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، مصر، 2005، ص 32

[27]- أحمد محمد جاد عبد الرازق، مرجع سابق، ص 33