ساري حنفي: العلوم الاجتماعية في الدول العربية


فئة :  حوارات

ساري حنفي: العلوم الاجتماعية في الدول العربية

العلوم الاجتماعية في الدول العربية([1])

يرى عالم الاجتماع الفلسطيني، ساري حنفي، أن ما يقلقه هو القطيعة التي يشهدها في البلدان العربية الإسلامية بين نخب العلوم الاجتماعية والإنسانية من جهة، والنخب الدينية من جهة ثانية، معتبراً أن هذا الانفصال موجود بموافقة ضمنية من كلا الفريقين.

ويقول ساري حنفي، أستاذ في علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، ورئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات"، في حواره مع مجلة "ذوات"، إن سوسيولوجيا هذه القطيعة ظهرت دلالاتها في أبحاثه السابقة، واستدلّ عليها بالنقاشات الغائبة بين مثقف اليسار والمثقف الدّيني في الصّحف اليومية، معتبرًا أن ما نشاهده من سجالات في التلفزيون، غالبا ما تكون على صيغة نزاعية مشهدية سجالية، وهو لا يشكل بوتقة لعقلنة الخطابات، بل هو منصّة للتجييش "البافلوفي" اليساري ضد الدّيني أو العكس.

ويشير حنفي إلى أنه يهتم حاليا بالكيفية التي خلع بها الفاعلون الدينيون الشرعية عن العلوم الاجتماعية، قائلا إنه لا يمكن تنزيل الفقه على الواقع من دون أدوات علمية كانت وماتزال تتطور في بوتقة العلوم الإنسانية بشكل عام، والعلوم الاجتماعية بشكل خاص، موضحا أن من أهم وظائف هذه العلوم هو ربط الممارسة الدينية والانتماء الديني بالظواهر الاجتماعية الأخرى، ودراسة كيف تتمّ مأسسة هذه الممارسات من خلال مؤسسات اجتماعية دينية.

وحول شروط إنتاج المعرفة في الوطن العربي، يؤكد حنفي أن من أهم معيقات نوعية الأبحاث ليس الاستعمار، الذي أثّر طويلا على الموضوعات والأطر النظرية والمناهج، وإنما الاستبداد الذي كمّم أفواه الباحثين وأقلام فكرهم النقدي، حيث يرى أن الهامش الضيّق للحرية الأكاديمية في المنطقة العربية أصبح في أحسن أحوالها مجرد "حرية مهنية" ترتبط بما هو فنّي أو خاص بتسيير العمل الأكاديمي داخل الجامعات، وبذلك فقدت الجامعة كثيراً من عوامل قوتها التربوية والأخلاقية، وأصبحت الموافقة الأمنية شرطاً من شروط التّعيين أو الترقّي، أو السّفر بالنسبة إلى أعضاء الهيئة التدريسية في مهام علمية في الخارج.

ويوضح حنفي أنه لا أثر للمجتمع الأكاديمي في صنع القرار السياسي في الوطن العربي، وأنه يجب البحث عن جذور الدولة الداعشية ليس فقط في الفهم المتطرّف للدين، ولكن في ثقافة نشرتها "الدولة الوطنية العربية الاستبدادية" منذ أمد طويل وحتى يومنا هذا.

وساري حنفي، أستاذ مشارك في علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، ورئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات"، وهو رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (انتخب في شهر يوليو/تموز 2018، لمدة أربع سنوات 2018 - 2022)، كما عمل نائب رئيس وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (2012 -2016). وقد كان مديرا للمركز الفلسطيني لللاجئين والشتات- شمل (رام الله). عمل أستاذا زائرا في جامعات بواتييه (فرنسا)، وبولونيا ورافينا (إيطاليا)، وباحثا زائرا في معهد كريستيان مكلسون- بيرغن (النروج)، وهو متخصص في السوسيولوجيا السياسية، وسوسيولوجيا المعرفة، وسوسيولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الهجرة واللاجئين والعدالة الانتقالية، لديه عدد كبير من المقالات، وأحد عشر كتاباً مؤلفاً أو محرّراً. فاز بجائزة عبد الحميد شومان عام 2015 عن "دور التكنولوجيا في التغير الاجتماعي"، وبجائزة الكويت لعام 2015 في مجال العلوم الاجتماعية.

من أهم كتبه: "اللاجئون الفلسطينيون: الهوية، المجال والمكان في المشرق" مع أري كندسن، بالإنجليزية 2010، وبالعربية 2013، و"سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة" مع ع. أوفير، م. جيفوني، بالإنجليزية 2009، وبالعربية 2012، و"حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي" 2010، و"عبور الحدود وتبدل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية" بالعربية والإنجليزية 2008، و"بروز النخبة الفلسطينية المعولمة: المانحون والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية المحلية" بالعربية والإنجليزية مع ليندا طبر 2006، و"بين عالمين: رجال الأعمال الفلسطينيون في الشتات وبناء الكيان الفلسطيني" بالعربي والفرنسي 1996، وآخر كتاب له هو "البحث العربي ومجتمع المعرفة: نظرة نقدية جديدة" مع ر. أرفانيتس، صدر بالعربي مع مركز دراسات الوحدة العربية، وبالإنجليزية مع راوتلج 2016.

 

منير السعيداني: بفعل مسؤوليتك على مجلة "إضافات"، وكذلك في المكتب التنفيذي للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، نائبَ رئيس مسؤول عن الجمعيات الوطنية، تجمّعت لديك عناصر مشهد شامل عن أوضاع علوم الاجتماع في المنطقة العربية؛ فهل من تلخيص لأهم ملامح هذا المشهد خلال السنوات القليلة الماضية؟

ساري حنفي: تتطور العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية بشكل مطرد، وهذا يظهر جليّا من متابعة منصات المجلات العلمية، كمنصة "سكوبس" باللغة الإنجليزية، أو منصة "قاعدة معرفة"، و"المنهل للغة العربية"، و"كيرن" للفرنسية، هذا من حيث الكم. أما من حيث الكيف، فالموضوع غالبا ما يتعلق بالتدريب على البحث المنهجي، إضافة إلى شروط إنتاج المعرفة داخل مؤسسات البحث والتعليم وخارجها أيضا.

في ما يتعلق بالنقطة الأولى، هناك اهتمام بدراسة النوعية في نصف العقد الأخير من قبل "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية" من خلال مرصده؛ المرصد العربي للعلوم الاجتماعية، والذي ساهم في تقريره الأول والثاني خيرة الباحثين العرب بإشراف بالتوالي من طرف محمد بامية وعبد الله حمودي، ومعهم مختار الهراس، وهشام آيت أحمد، وريما ماجد، وآخرون درسوا المحكي واللامحكي من تيمات (مواضيع) ومقاربات ومناهج وطرائق بحثية، ليخلصوا إلى أهمية ثيمات جديدة، مثل العنف والجندر، والتي تفاعلت مع الواقع العربي. وخلص حمودي إلى أن معظم الأبحاث في العينة المدروسة قد افتقرت إلى إشكاليات محددة بإطار نظري واضح ومفاهيم منتظمة، وكثيرا ما يظهر أن برامج البحث تنتج المواد الأمبريقية، وغيرها من المواد غير الملائمة للمواضيع والطروحات المذكورة. وقد قام بعض الباحثين بالتدقيق بشكل أساسي في الإنتاج المعرفي في المجلات العلمية العربية، ولعل أهمها ما قام به عدنان الأمين في مقالته البديعة: "وساوس البحث التربوي في الجامعات العربية" (2013)، وهو تنميط النماذج المنهجية في البحث التربوي، وتمييزه بين عدة نماذج منهجية، أهمها من حيث الإسهام المعرفي، هو النموذج التحليلي، إضافة إلى نماذج منهجية أخرى قد تبتعد عن الإسهام المعرفي، وتسعى في ممارستها المنهجية، إما إلى الشكلانية العلمية، أو التجريبية المجردة التي تكتفي بجمع بيانات وتحللها. وثمة أيضا، الأنموذج الذي يتقمص فيه الباحث دور الناصح. كما كشفت دراسة عدنان الأمين أيضا، تراجع نسبة الأنموذج التحليلي في البحث التربوي. وفي مقال له، سينشر في العدد القادم من مجلة "إضافات" - المجلة العربية لعلم الاجتماع- يخلص خالد عبد الفتاح عبد الله تقريبا إلى نفس النتائج، ولكن في مجالات علم الاجتماع. وفي ورقة مهمة لمختار الهراس[2] تظهر ندرة الدراسات التي تعتمد أكثر من منهج بحثي لإقامة التثليث (Triangulation)؛ كما خرجت دراستا أحمد موسى بدوي المستفيضتان بنتائج قاتمة أيضا حول أطروحات الدكتوراه في مصر، وحول المجلات العلمية الاجتماعية كذلك. ورغم أهمية هذه الدراسات النقدية، فإن تقييمي للإنتاج المعرفي العربي أقلّ حدة مما جاء في هذه الدراسات، وخاصة فيما يتعلق بالأنموذج المعياري، أو ما يسميه عدنان الأمين بـ "تقمص الباحث دور الناصح"، إذ إن هذا الدور يحتاج إلى تحليل دقيق، يحدد متى وكيف يكون مفيدا ومتى يكون غير ذلك.

أما فيما يتعلق بشروط إنتاج المعرفة، فيجب أن أؤكد أن من أهم معيقات نوعية الأبحاث ليس الاستعمار الذي أثر طويلا في الموضوعات والأطر النظرية والمناهج، وإنما الاستبداد الذي كمّم أفواه الباحثين وأقلام فكرهم النقدي؛ فالفكر السياسي الحالي هو نتاج "الكولونيالية" بقدر ما هو نتاج الاستبداد. والسؤال الأزلي "من يكتب التاريخ؟" الذي شغل النقاد "ما بعد الكولونياليين" طويلا، يجب ألا يوجه فقط للمستعمر المنتصر ومستشرقيه، وإنما لأنظمة الحزب الواحد أيضا. لقد أصبح الهامش الضيّق للحرية الأكاديمية في المنطقة العربية في أحسن أحوالها، مجرد "حرية مهنية"، ترتبط بما هو فني أو خاص بتسيير العمل الأكاديمي داخل الجامعات. وبذلك، فقدت الجامعة كثيرًا من عوامل قوتها التربوية والأخلاقية، وأصبحت الموافقة الأمنية شرطا من شروط التعيين أو الترقي، أو السفر بالنسبة إلى أعضاء الهيئة التدريسية في مهام علمية في الخارج. وهكذا، يجب البحث عن جذور الدولة الداعشية ليس فقط في الفهم المتطرف للدين، ولكن في ثقافة نشرتها "الدولة الوطنية العربية الاستبدادية" منذ أمد طويل وحتى يومنا هذا. وطوال هذه الفترة، كان البحث النقدي يؤدي إلى تهميش المسار المهني لمؤلفيه. والأسوأ من ذلك، ومنذ بداية "الانتفاضات العربية"، ظللنا نشهد يومياً دليلاً إضافيا على انتهاك الحريات الأكاديمية. وفي هذا السياق، حاول كثيرون حماية أنفسهم من خلال الرقابة الذاتية، حيث لجأ الباحث الاجتماعي العمومي إلى استخدام تقنيات المتحدّث المضلل (Prolocutor)، بحسب تعريف قاموس أوكسفورد للكلمة: "استخدام لغة غامضة بهدف التضليل"؛ أي استخدام "الإقناع لنيل ولاءات عائمة تُستخدم بنجاح، اعتماداً على القدرة البلاغية للتقديم والدعوة إلى أوضاع جديدة". وهذا مدفوع غالباً، بمزيج الخوف من الدولة والسلطات الدينية. يحدث ذلك، في حين لا يمكن حماية الباحثين وأعضاء هيئة التدريس من هذه السلطات، إلا من خلال توطيد الجماعة العلمية ومن خلاله فقط.

وباختصار، يمكن تقييم أوضاع البحوث الاجتماعية العربية، عبر تقسيم البحث العربي إلى أبحاث تخدم مشاريع التحديث من دون نقد للبنية الفوقية، وأبحاث تعتبر أن الدولة العربية أكثر حداثة من المجتمع فانتصرت لها (نموذج كتابات المفكر عبد الله العروي)، وأبحاث تتسم بنقديتها للدولة وللمجتمع على حد سواء. ولكن ظلت هناك موضوعات مسكوت عنها، مثل دراسة الظاهرة الدينية في المجتمعات العربية.

منير السعيداني: هل يمكن أن تفصل القول في هذه النقطة الأخيرة؟

ساري حنفي: تبيّن معي في دراسة مناهج كليات العلوم الاجتماعية في بعض الدول العربية، غياب مقرر علم الاجتماع الدّيني، في مجتمعات يلعب الدين فيها دورًا مهما، ليس من خلال الحركية الإسلامية الاجتماعية والسياسية فحسب، ولكن من خلال الإسلام الشعبي أيضا. وبذلك، تعرف نخبتنا المنتجة في المدارس في بلد، مثل لبنان أو خريجو الجامعة الأمريكية في بيروت، عن التاريخ الإغريقي واليوناني والروماني والأوروبي الحديث أكثر مما يعرفون عن التاريخ الإسلامي أو العربي. وقد سرّني اهتمام مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بإصدار مجلدات جدية، من بينها تقرير عن الحالة الدينية المعاصرة في مصر (بعد أن كانت مؤسسة الأهرام قد قامت بذلك منذ سنوات)، وكذلك عن الحالة الدينية في تونس. وأنا بصدد تحضير مراجعة في مجلة "إضافات" للتقرير التونسي الذي أشرف عليه الباحث التونسي منير السعيداني، ولكن ذلك، يبقى جهداً مبدئيا يحتاج إلى الاستمرار، وعليه يمكن أن يكون قاعدة للحوار مع القوى المجتمعية الدينية على أسس مبنية على احترام كافة المعارف.

منير السعيداني: هل تعتقد أن للحركات الاحتجاجية المطلبية والتحولات السياسية والثورات العربية أثرا في تشكيل/إعادة تشكيل مشهد البحوث الاجتماعية العربية هذا؟

ساري حنفي: نعم، فمنتجو المعرفة الاجتماعية ينتجون معرفة يجب تقييمها بقدر ما هي ملائمة للواقع المجتمعي، ومدافعة عن المجتمع المدني في مواجهة عنف الدولة ووحشية السوق. ولئن لم يكن إلا القليل من الباحثين في "الشارع" مع الفئات الثورية، فإن عددا من الباحثين واكبوا هذه التحولات مباركين لها، وناقدين للنظم البائدة وللأنظمة الفكرية المحافظة. وهناك من الباحثين من انزعج من النخبة السياسية الجديدة، وبالتحديد ذات التوجهات الدينية، فنَظًروا لـ "الثورة المضادة"، وطبعا، هناك أنظمة غير ديمقراطية في المنطقة غذت هذا الاتجاه الأخير، ومولت إنتاجاً معرفيا معيّنا ينسجم مع طبيعتها.

إن المشهد معقد، وأنا لست مع الخطابات التي تضع كل المثقفين/الباحثين العرب في سلة واحدة، وغالبا ما تكون للإلامة. يبقى أن ضعف الإنتاج الأكاديمي الموجه للعموم على صفحات الرأي، وكذا ضعف التدخلات الاجتماعية للباحثين، شيء لمسته في دراستي لحالة مقالات الرأي في الصحف اللبنانية، والتي نشرتها مع زميلي ريغاس أرفانيتس، ضمن كتابنا المشترك "البحث العربي ومجتمع المعرفة: رؤية نقدية جديدة"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2015.

لقد بينا في بحثنا أن هناك قلة فقط من الأكاديميين اللبنانيين المهتمين بالكتابة في الصحف، على الرغم من أنها تبدو طريقة مباشرة للمشاركة في النقاش العام، ويمكن صوغ الكثير من الحجج لتفسير هذا التردد: عدم اعتراف نظام الترقية في الجامعات بمثل هذه الأشكال من المشاركة المجتمعية، وصعوبة إيجاد صحف مناسبة، والخوف من الانتقاد العلني، وعدم الثقة بوسائل الإعلام وبقدرتها على تقديم الأبحاث من دون التضحية بالجودة الأكاديمية، ومخاطرة تعريض العمل المهني للخطر من خلال النشاط العام المستهلك للوقت. إن للنظام الجامعي ولنظام الإنتاج المعرفي تأثيراً عظيماً في تشكّل النخب في العالم العربي. وهناك العديد من العوامل التي تلعب دورًا في ذلك، لكن ما أحبّ أن أركز عليه هنا، هو تجزئة أنشطة الباحثين بطريقة إشكالية في الوطن العربي؛ فغالباً ما تُنتج الجامعات نخباً مجزَّأة داخل كلّ دولة قومية، حيث لا تتواصل مع بعضها: فهي نخب، إما تنشر عالمياً، لكنّها تندثر محلّياً، أو أنها تنشر محلّياً، لكنّها تندثر عالمياً (Publish globally and perish locally vs publish locally and perish globally).

منير السعيداني: في هذا المشهد، هل يصح الحديث عن مركز (أو مراكز) وهامش (أو هوامش) في علوم الاجتماع العربية؟

ساري حنفي: لقد قاومتُ كثيرا النظرة الاختزالية لاقتصاديات إنتاج المعرفة من خلال ثنائيات، مثل معرفة غربية مقابل شرقية، أو معرفة مركز مقابل معرفة أطراف. أعتقد أن الموضوع أكثر تعقيداً، وأن هناك عنفاً رمزيا يمارس ضد أهمية الأبحاث التي تنشر في ما يسمى بالأطراف، مثل المنطقة العربية. أعتقد أن المعرفة العربية أصبحت في وضع أحسن بكثير من السابق، وفيها شيء من الموازنة بين تدويلها، من خلال النشر في مجلات تصدر عن المراكز الفكرية الغربية في الغالب، والمعرفة الملائمة للجدل المجتمعي المحلي والإقليمي. ويشكل ضعف البنية التحتية للمعرفة (مثل قواعد البيانات مجانية الولوج) عائقا أمام تمكين المعرفة الصادرة في منطقتنا على المستوى الدولي.

وطبعاً، تخفي اختزالية ثنائية المركز والأطراف ثنائيات أخرى من غرب/شرق ومستَعمِر/مستعمَر. لفهم كثير من آثار التاريخ في الظواهر الاجتماعية لا مفر من القليل من المقاربة "ما بعد الكولونيالية"، بلا إسراف ولا ابتذال أو تبذير. ولكن ربما نحتاج إلى الكثير من المقاربة "ما بعد الاستبدادية" للفهم الكلي للظواهر التي نعيشها في مجتمعاتنا العربية، وخاصة إذا كنا حريصين على توليد، ليس فقط إبستمولوجيات جديدة، ولكن أيضا ظروف عمل صحية للعمل البحثي. لقد أدى التركيز "المرضي" على المقاربة "ما بعد الكولونيالية" على حساب المقاربة "ما بعد الاستبدادية"، إلى تشوهات فكرية مذهلة.

منير السعيداني: هل تتفضل بمزيد من التفصيل حول هذه المقاربة "ما بعد الاستبدادية"؟

ساري حنفي: المقاربة "ما بعد الاستبدادية" لا تعني أننا انتهينا من الاستبداد، ولكنني أستخدم "بعد" لدفع القارئ إلى محاكاة المقاربة "ما بعد الكولونيالية". نحن بحاجة إلى نقد مزدوج، كما يطرحه عبد الكبير الخطيبي: "أولا، تفكيك المفاهيم التي ظهرت من المعرفة السوسيولوجية وخطاب أولئك الذين تحدثوا نيابة عن المنطقة العربية، التي تتسم في الغالب بالأيديولوجيا المركزية -الإثنية - الغربية، وثانيا، نقد المعرفة السوسيولوجية والخطاب حول المجتمعات العربية الذي ينتجه العرب أنفسهم"، أو أن يكون لنا وعي مزدوج (double-consciousness)، كما يقترحه موريس أن دوبواز عالم الاجتماع الأفرو- أمريكي. في هذا المجال، ينبغي إيلاء الاهتمام، ليس فقط إلى كيفية تأثير الأنظمة الاستبدادية في إنتاج المعرفة بطرق شتى، ولكن وأيضا إلى كيفية نشأة مقاومة هذا التأثير من قبل هؤلاء الذين رفضوا ويرفضون الخنوع إلى السلطة وإلى إغواءاتها. وفي الآونة الأخيرة، انتظمت العديد من الندوات والمؤتمرات في العالم العربي، وتم إحياء الذكرى المئوية المشؤومة لاتفاقيات "سايكس- بيكو" وللتدخلات الاستعمارية، وللانقسامات الجغرافية التي شهدتها المنطقة منذ ذلك الوقت. لقد شاركتُ في واحدة منها، واقترحت استبدال الاسمين الفرنسي والإنجليزي بأسماء سياسيين محليين عززت الانقسامات في الآونة الأخيرة. وهذا لا يُكَذّبُه كون داعش أزالت المراكز الحدودية بين العراق وسوريا في عام 2014، كجزء من خطة أعلنت لاستعادة الخلافة الإسلامية على أنقاض حدود "سايكس- بيكو"، لأنه يعبر في الحقيقة عن وجود حدود جغرافية جديدة تحاول فرضها جاهدة بعض القوى الإقليمية، وتخوم اجتماعية وطائفية يحاول فرضها النظام المحلّي المستبد.

المطلوب من الآن فصاعدا، برنامج للنقد المزدوج يرفض "الاختلاف المتوحش" الذي يقذف بالآخر في خارج مطلق، فيؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المميتة، ويفرق بين المصالح السياسية الإمبريالية للغرب، وإمكانية الاستفادة من النزعات الليبرالية والإنسانية فيه. والمطلوب ليس أخذ الغرب كلّه أو رفضه كلّه، ولكن التعامل معه بحس نقدي مرهف قادر على سحب الزبدة من الحليب.

منير السعيداني: في بعض أعمالك الأخرى، اهتممت وتهتم بالأثر الاجتماعي للمعرفة العلمية الاجتماعية، فما هي أهم التحولات التي لاحظتها على هذا الصعيد في المنطقة العربية خلال السنوات القليلة الماضية؟

ساري حنفي: في إطار مفهومي مجتمع المعرفة واقتصاده، اهتمت كثير من الدول بربط صنّاع السياسات بالمعرفة والبحث العلمي، وتشكلت "نظم استشارية للسياسات" مختلفة لدعم قرارات المعنيين، تشمل اللجان الاستشارية وفرق العمل والاستشارات، والتي تقدم تقارير أو ما يسمى بالأوراق البيض (white papers). أين هو نظام السياسات الاستشاري والمعرفي العربي هذا؟ لسوء الحظ، لقد نوّهت دراسات كثيرة إلى التأثير الضعيف للمجتمع الأكاديمي العربي في صنع القرار السياسي في الوطن العربي.

لا يوجد أثر يذكر لمحاولات الجامعات العربية وصْل البحوث بالمجتمع والقطاع الخاص، وهناك حاجة إلى التفكير في المؤسسات الوسيطة (مجالس البحوث، والجمعيات العلمية، وحاضنات الأعمال)، التي ينبغي أن تربط بين البحوث المهنية ونشرها بين العموم وصانعي السياسات. هناك بالطبع، بعض المبادرات، خاصة في مصر، وتونس، والمغرب، حيث تنشر حاضنات الأعمال بحوثا داعمة للسياسات، ولكن ذلك غير كاف، وهناك حاجة إلى بذل جهود أكثر منهجية. وضمن هذا السياق، قمتُ قبل أشهر بتأسيس بوابة للتعامل مع الأثر الاجتماعي للمعرفة الاجتماعية تسمى "البوابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العلمي"، تستهدف البحث حول/ من العالم العربي (بسيسر) (https://www.psisr.net). وتهدف "بسيسر" PSISR إلى إنشاء أرشيف مفتوح لمسار البحث العلمي بكامله، بما في ذلك نقل المعرفة والأنشطة البحثية المتعلقة بالسياسات العامة ونشر المعرفة للعموم، وهو يستهدف البحوث التي تجري في العالم العربي أو تتناوله موضوعاً. تعتمد هذه البوابة على المعلومات التي يقوم الباحثون بإدخالها، وتشمل وصفاً لمشاريعهم البحثية وشرحاً لمخرجات تأثيرها الاجتماعي. إن المقصود بـ "الاجتماعي" هو المعنى الشامل الذي يتضمن الجوانب الاقتصادية، والسياسية، والثقافية والمفاهيمية، ويمكن استخدام محرك البحث من قبل جميع أصحاب العلاقة، من الباحثين، ومستفيدين من المؤسسات، وواضعي السياسات، والجمهور، ووكالات التمويل وغيرهم.

منير السعيداني: اهتممت في عدد من أعمالك بملامح الثقافات العلمية في علاقة بالثقافات الأخرى، ومنها الدينية في المنطقة العربية؛ فما هي أبرز الاستنتاجات التي توصلت إليها في ما يهمّ السنوات القليلة الماضية؟

ساري حنفي: تقلقني كثيرا هذه الأيام، القطيعة القائمة في بلداننا، بين نخب العلوم الاجتماعية والإنسانية من جهة، والنخب الدينية من جهة ثانية، ويبدو أن هذا الانفصال موجود بموافقة ضمنية من كلا الفريقين. ظهرت دلالات سوسيولوجيا هذه القطيعة في أبحاثي السّابقة، فمثلا لا توجد نقاشات بين مثقف اليسار والمثقف الديني في الصحف اليومية، وإن شاهدناها في التلفاز، فغالبا ما تكون على صيغة نزاعية مشهدية سجالية، كما نجدها مثلا في برنامج "الاتجاه المعاكس" لفيصل القاسم على قناة "الجزيرة". هذا السجال لا يشكل بوتقة لعقلنة الخطابات، بل هو منصة للتجييش "البافلوفي" اليساري ضد الدّيني أو العكس. وهكذا تصبح هذه الاستقطابات الحادة مادة غنية للجماهير، لتعميق الفكر التكفيري بشكليه العلماني والديني، أو الفكر الثنائي الذي يقسم بين الوطني/الخائن، أو بين المقاوم- الممانع/العميل. سوسيولوجيا القطيعة هذه، أظهرت لي أيضا، وعند حصر أسماء المشاركين بثلاث وعشرين ندوة أو محاضرة حول "الانتفاضات العربية" التي أقيمت في الجامعة الأمريكية في بيروت، ما بين 2011 و2015، أن من بين عشرات المشاركين، كان مدعوان من ذوي الاتجاهات الإسلامية، مقابل دعوة العشرات من المنظرين اليساريين. كانت هناك الكثير من الأوراق عن الحركات الإسلامية، ولكن بلون واحد تجييشي للحديث عن "سرقة الثورات" من قبل هذه الحركات و"عدم مصداقية مطالبتهم بالديمقراطية"، وأن "سيد قطب يبقى الملهم التنظيمي والنظري المتخفي تحت عباءاتهم"، وأنهم "عملاء لأمريكا والسعودية"... إلخ. كان ينبغي الانتظار حتى 2016 للاستماع لشخصيات مثل: هبة عبد الرؤوف، وعبد الفتاح مورو، اللذين شاركا في مؤتمر للجامعة. وفي هذا الإطار، يمكن أيضا انتقاد "مركز الوليد بن طلال للدراسات والبحث الأمريكي" في الجامعة الأمريكية ببيروت، الذي لا يعرّف الجمهور العربي إلا على صورة اختزالية واحدة عن الولايات المتحدة الأمريكية، ونادرا ما يكون هناك جدل بين اتجاهات مختلفة.

أنا أهتم حاليا، بالكيفية التي خلع بها الفاعلون الدينيون الشرعية عن العلوم الاجتماعية، ولديّ مشروع بحثي في هذا المجال، يركّز على محتوى المناهج التعليمية المتداولة في كليات الشريعة أو الدراسات الإسلامية في الجامعات العربية مع التركيز على لبنان، والكويت والمغرب. ينطلق هذا البحث من أنه لا يمكن تنزيل الفقه على الواقع من دون أدوات علمية كانت، وماتزال تتطور في بوتقة العلوم الإنسانية بشكل عام، والعلوم الاجتماعية بشكل خاص. ومن أهم وظائف هذه العلوم هو ربط الممارسة الدينية والانتماء الديني بالظواهر الاجتماعية الأخرى، ودراسة الكيفية التي تتم بها مأسسة هذه الممارسات من خلال مؤسسات اجتماعية دينية (في العالم الإسلامي: أحزاب إسلامية، الجامع، دور الإفتاء، إلخ).

وفي الوقت نفسه، قمت بعمل نقدي لكثير من منتجات مشاريع أسلمة المعرفة وتكامل المعارف في المنطقة العربية، مركّزا على ما فيها من عطب إبستمولوجي وكسل أمبيريقي. وربما كان ذلك مختلفا عما يحصل في دول إسلامية أخرى؛ فقد أجريت خلال شهر يونيو (حزيران) 2018 بحثا ميدانيا في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا (IIUM). ومما وقفت عليه، أن هذه الجامعة المؤسسة في عام 1983، تعتمد في مقاربتها "أسلمة المعرفة"، وأن هذه المقاربة قد بدأت مع إسماعيل الفاروقي، وعبد الحميد أبو سليمان، من خلال المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فيرجينيا، ثمّ انتقلت بعد ذلك إلى هذه الجامعة. لقد أسست هذه الجامعة للربط بين ما يسمونه علوم الوحي والتراث من جهة، والعلوم الاجتماعية والإنسانية من جهة أخرى. وقد بدا لي أن الإنتاج المعرفي هناك متطور جدّا عما هو عليه في المنطقة العربية، حيث ما يزال ضمن براديغم سياسات الهوية. في الجامعة الماليزية نشر الطلاب والأساتذة معرفة تأخذ بعين الاعتبار التراث الإسلامي من دون الوقوف على ثنائيات حادة (التراث/الحداثة، الشرق/الغرب، الطبيعي /الخارق للطبيعي، العالمي/المحلّي، إلخ.) وبالتالي قاموا بتطبيع (mainstreaming) تكامل المعارف بطريقة ذكية. وأطروحات الدكتوراه هناك تأخذ بعين الاعتبار الأدبيات المحلية. والجدير بالذكر، أنه على الرغم من وعي الباحثين بأهمية الرجوع لنظريات مستمدة مادتها وأمثلتها من الواقع الإسلامي، فإن الأدبيات الاجتماعية العربية تكاد تخلو من الأدبيات المستخدمة في مثل هذه النظريات. طبعا هناك استخدام لابن خلدون، ولو أن ذلك يكون في بعض الأحيان "ديكوريا" أكثر منه ضرورة. وأنا أعزو هذا النقص ببساطة إلى قلة التنظير في الأبحاث العربية والإسلامية. وفي هذه الأطروحات التي تنتجها الجامعة الماليزية، تدرس الظاهرة الدينية بجدية، ويتم التعامل مع ما هو أخلاقي وروحي وعباداتي، على أنه عوامل مهمة في فهمنا للسلوك الإنساني وللعلاقات الاجتماعية. وبالتالي، فالباحثون لا ينكرون التحليل المادي للتاريخ ولكنهم يضيفون إليه أبعادا جديدة. مثلا هناك أطروحة دكتوراه لأستاذة ماليزية تدرس في قسم علم الاجتماع، درست إشكالية تعايش المريض مع مرض السرطان، مستخدمة المنهج الإثنوغرافي، وقد أظهرت نتائج بحثها كيف أن تعبّد المريض كان سببا في تخفيف ألمه، والتقليل من القلق المزمن المرافق للمرض. وفي دراسة نفسية أخرى، تم إدخال متغير الذِكر (ذكر الله) بوصفه أحد المتغيرات المؤثرة في اتجاه التخفيف من حدة القلق لدى الإنسان، وقد كانت هذه الدراسة إحصائية، وقد تم إجراؤها بطريقة علمية كأية دراسة يمكن أن نجدها منشورة في مجلات علم النفس المحترمة.

ولكن كل ذلك، لا يعني أنه ليس هناك توتر وقلق ومعضلات ومفارقات ترافق إدخال علوم الوحي والتراث ضمن العلوم الاجتماعية، وخاصة عندما يعتبر البعض أن "الشرع" كلّه ثابت. وإذا كان ابن رشد، قد وعد بأن الفلسفة والعلوم الشرعية سوف يلتقيان في النهاية، فأنا أؤكد بأنهما سيبقيان في حالة من التوتر الدائم. وعلى ذلك، ففي الحوار وفي الحوار فقط، تكمن إدارة الاختلاف والتوتر.

منير السعيداني: إذن، أنت ترى أن الفارق هو السياق الثقافي الاجتماعي- السياسي المتباين بين المنطقة العربية من جهة، وماليزيا من جهة أخرى؟

ساري حنفي: بشكل جزئي نعم، ولكن هناك فرق بين الأجيال في ماليزيا؛ فقد أجرت الباحثة السوسيولوجية المصرية العريقة منى أباظة دراسة في التسعينيات من القرن الماضي، ونشرتها في كتابها المهم "مناظرات عن الإسلام والمعرفة في ماليزيا ومصر: عوالم متحولة‏، دراسة لمشاريع أسلمة المعرفة"، وقدمت فيها تقييما أوليا للجيل الأول[3] في سياق إنشاء الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا عام 1983. لقد ركزت على السياق السياسي الذي حف بذلك التأسيس (صراعات نفوذ فكري واقتصادي بين ماليزيا والسعودية)، وعلى سياق السياسات ما بعد الكولونيالية والخطاب الأفرو- أمريكي الذي تأثر به إسماعيل الفاروقي (مؤسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي). ولكن عند تحليلها للأدبيات المعتمدة آنذاك، لاحظت ضحالة المنتج وهيمنة سياسات الهوية، وأنا أتفق معها لدرجة كبيرة في ذلك. ولكن الوضع الحالي، اختلف عما كان عليه، من خلال بروز جيل جديد من الباحثين والأساتذة الذين جعلوا من هذه الجامعة المركز الأول لدراسات التمويل الإسلامي. لقد طوروا دراسات مهمة حول التعامل مع سياق المجتمعات متعددة الإثنيات، معتمدين مفهوم "موحبة" (Muhibah) (وأصله من الكلمة العربية "حب") كمفهوم ناظم لتنميط علاقة تتجاوز الاعتراف بالأقليات على طريقة التعددية الثقافية (multiculturalism)، باتجاه الاحترام وخلق روح تُزَكّي التعايش والتفاعل اليومي هناك. طبعا، تم تطوير هذا المفهوم ليلبي حاجة ماليزيا التي عانت من نعرات إثنية بين المالاويين الأكثرية والأقليات الإثنية الصينية والهندية. وليس مهما إن كان هذا الاتجاه المعرفي يُسمّى "أسلمة للمعرفة" (وهو مفهوم عزيز جدا على الجيل الأول في الجامعة)، أو "تكامل المعارف" (وهو شعار إدارة الجامعة الحالي). ما هو جدير بالاهتمام، هو أن هذه الجامعة قد استطاعت إلى حد الآن، أن تنتج معرفة بالغة الأهمية بالنسبة إلى ماليزيا، وكذا بالنسبة إلى المجتمعات الإسلامية. يبقى أن تدويل هذه المعرفة، وفحص ما إذا كانت صالحة للإنسانية قاطبة، وهذا واحد من شروط العلمية وهو إمكانية التعميم، يتطلب انخراطا أكبر في النشر في مجلات مرئية على امتداد العالم، وعلى منصّات وقواعد بيانات المجلات العالمية المعترف بها من كل من سكوبس (Scopus)، وويب أف سينس (Web of Science).

منير السعيداني: لماذا اعتبرت أن من شروط العلمية إمكانية التعميم؟

ساري حنفي: أنا أعتبر أن البحث الاجتماعي لا يكتمل، إلا عندما تتوفر ثلاثة عناصر، بحسب السوسيولوجي الهندي أندريه باتاي (Béteille): العنصر الأول (الأمبريقي) هو الجانب الميداني للبحث، والعنصر الثاني (السيستماتيكي) هو الإدراك بأن الظاهرة المدروسة لا يمكن فهمها من دون ربطها بالتاريخ وبالاقتصاد السياسي وبطبيعة المؤسسة السياسية؛ فمثلا لا يمكن دراسة المسؤولية الاجتماعية للشركات من دون التحدّث عن تخلّي الدولة عن برامج العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة. أما العنصر الأخير(المقارناتي)، فهو مقارنة الظاهرة في المجتمع المدروس مع أمثالها في مجتمعات أخرى؛ فمهما كان الجانب الأمبيريقي ضيّقاً، يتوجّب على الباحث إجراء المقارنات بسياقات أخرى، بغضّ النظر إن كان ذلك سيؤدي إلى التعميم أم لا، ويتمّ ذلك من خلال السعي ذهاباً وإياباً بين الأمبيريقي والنظري، حيث نتبيّن كيف أن هذا البحث سيسهم في فهم إشكاليات تتجاوز مجتمع الدراسة، ويسهم في تطوير النظرية. وإن لم نفعل ذلك، سنقع في مشكلة ما، أسميتها "أسطورة الفرادة"، واعتبار كل مجتمع على أنه فريد واستثنائي. من هنا أهتم بأن نبحث دائماً عن تجاوز الحالة المدروسة ودراسة أفق التعميم، وهو ما لم يتوفر إلى حدّ الآن في الإنتاج العلمي الاجتماعي العربي، إلا بكمية قليلة، نحن في أمس الحاجة إلى تطويرها.

[1] نشر هذا الحوار في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 50

[2] http://www.theacss.org/uploads/Background-Paper---Mokhtar-El-Harras.pdf

[3] Mona Abaza, Debates on Islam and Knowledge in Malaysia and Egypt: Shifting Worlds (London: Routledge Curzon Press, 2002).