سلفيّة علي عبد الرازق


فئة :  مقالات

سلفيّة علي عبد الرازق

من عادة الشّعراء العرب مدح الملوك وهجاؤهم، إن لزم الأمر. وأوّل أمير مُدح في الإسلام هو عمر بن الخطّاب. مدحه الحُطيئة (ت 30هـ / 650م)، ومدح الشّعراء كلّ أمراء المؤمنين، وقالوا وأطنبوا وألّهوا من شاؤوا. وقد قال ابن هانئ الأندلسي للمعزّ الفاطميّ: (ما شئت لا ما شاءت الأقدار- فاحكم فأنت الواحد القهّار)، رغم أنّ الأمير الممدوح لم يصرّح أنّه ظلّ الله في الأرض أو سلطانه في الأرض. ولم نجد أحدا من بني أميّة قال: أنا خليفة الله، أو أنا سلطان الله، أو أنا ظلّ الله في الأرض، أو أنا خليفة الله، رغم أنّهم فصلوا الدّين عن الشّأن السياسيّ، ولم يفصلوه في الشّأن الدينيّ.

فمن أوّل من صرّح أنّه سلطان الله في الأرض؟ ورد في طبقات ابن سعد (168 - 230هـ) «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِمَالٍ فَجَعَلَ يَقْسِمُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ. فَأَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُزَاحِمُ النَّاسَ حَتَّى خَلَصَ إِلَيْهِ. فَعَلاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّكَ أَقْبَلْتَ لا تَهَابُ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَنَّ سُلْطَانَ اللَّهِ لَنْ يَهَابَكَ».[1]

يبدو، إذن، أنّ عمر بن الخطّاب هو أوّل أمراء المؤمنين الّذي اعتبر نفسه سلطان الله في الأرض وصرّح بذلك. وإذا قرنّا هذه الرّواية عن عمر بالرّواية الشّائعة عن أبي بكر لَمَّا قَالُوا له: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ فقَالَ: لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، لاحظنا: أنّ مقولة الأمير هو خليفة الله في الأرض، كانت شائعة في عهد أبي بكر، وهذا مشكل حقيقيّ. من قال لأبي بكر يا خليفة الله؟ أهو بعض المسلمين أم هو مسيحيّ أم يهوديّ أم فارسيّ أسلم؟ ثمّ كيف قَبِلَ أبو بكر ذلك، واكتفى بأنّه خليفة رسول الله، وهو يعلم يقينا أنّه ليس خليفته؟ أمّا الرّواية عن عمر بأنّه سلطان الله، فإنّها تُعتبر منعرجا خطيرا في الفكر السياسيّ الإسلاميّ، إذ صدرت المقولة عن أوّل أمير للمؤمنين منصبَا ولقبًا وسلطةً. فما معنى ظلّ الله في الأرض وسلطان الله في الأرض؟ نقرأ أحد التّبريرات المعاصرة: «السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الأَرْضِ لأَنَّهُ يَدْفَعُ الأَذَى عَن النَّاسِ، كَما يَدْفَعُ الظِّلُّ أَذَى حَرِّ الشَّمْسِ. وقيلَ: مَعْناهُ سِتْرُ اللَّهِ. وقيلَ: خاصَّةُ اللَّهِ».[2]

إن اعتبر الظلّ في مفهومه اللّغويّ، أي انكسار الضّوء على حاجز، يتحوّل القول إلى تجسيد محض. وإن اعتبر مجازا، فهو تأويل متعسّف، إذ لا معنى أصلا لقولهم: ستر الله. فالله ليس في حاجة إلى أمير أو ملك لستر عباده، وهو الوحيد الستّار. وقولهم: خاصّة الله، هو نوع من التّجاوز والتّلبيس، لأنّ الله عزّ وجلّ ضرب لنا أمثلة عن عباده الّذين اصطفاهم وهم أنبياؤه ورسله، ولم يَصْطَفِ أيّ ملك أو أمير للمؤمنين. فهذا الظلّ السّلطاني المزعوم لا يعني أبدا أنّ النّاس ينعمون في حمايته ويستروحون برعايته، لأنّ الذّين يشقَون بظلم أمير المؤمنين وجور الخليفة هم الأكثر والأعظم. وهذا شاعر من العصور الأولى لخّص واقع الأمر بعيدا عن التّنظير المثالي. فقد أدان ظلم بني العبّاس وعبّر عن تمنّيه عودة حكم بني أميّة لشدّة ما لاقَى من ظلم وجور الملوك والخلفاء. قال هذا الشّاعر واسمه أفلح بن يسار السّندي (ت 180هـ) وكان قد عاصر الدّولتين الأمويّة والعباسيّة:

يا ليتَ جورَ بني مروان عاد لنا - وأنّ عدل بني العبّاس في النّار[3]

لنترك أقوال المحدّثين والفقهاء والشّعراء. هذا المنصور العبّاسيّ قال في خطبة خطبها بمكّة، يَوْمَ عَرَفَةَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا سُلْطَانُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، أَسُوسُكُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَرُشْدِهِ، وَخَازِنُهُ عَلَى مَالِهِ أُقَسِّمُهُ بِإِرَادَتِهِ وَأُعْطِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ جعلني الله عليه قفلاً، فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ فَتَحَنِي، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقْفِلَنِي عليه قفلني».[4]

لقد تجاوز المنصور خلافة رسول الله لأنّها لا تكفيه، فاعتبر نفسه نبيّا في اتّصال مباشر مع الله عزّ وجلّ، وما يفعل المنصور من صغيرة أو كبيرة من حسنة أو سيّئة من خير أو شرّ ومن قتل النّفس بغير حقّ، إلاّ وقد أمره الله بذلك. فما المنصور إلاّ وسيلة الله في الأرض. وما قوله: «أنا سلطان الله في أرضه» سوى ضرب من الفرعنة. فماذا يعني المنصور بالسّلطان غير ذلك؟ وقد وضّح الأصوليّون في الفقه السياسيّ الإسلاميّ ونظّروا وشرّعوا كلّ ما يدلّ على ألوهيّة الخليفة والإمام والملك مثل: «طاعة الأئمّة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله». وأوّل من تناول هذه الظّاهرة بالنّقد في العصر الحديث علي عبد الرّازق (ت 1966) ولذلك نتعرّض لآرائه بالتّحليل والتّفكيك.

آراء علي عبد الرّازق في الخلافة:

احتوى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرّازق على ثلاثة مباحث: الأوّل تعلّق بالخلافة والإسلام، والثّاني بالحكومة والإسلام، والثّالث اهتمّ بالخلافة والحكومة في التّاريخ. أمّا منهج الكاتب، فهو تجميعيّ توثيقيّ؛ أي إنّه يكتفي بذكر الأقوال الّتي رآها معبّرة عن الفكر السياسيّ الإسلاميّ من خلال ما رجع إليه من مصادر ومراجع، مستعملا تعبيرين؛ الأوّل: "قالوا". ولا يذكر من قال. والثّاني: "عندهم". ولا يعرّف بهم. ولا نجده يعبّر عن رأيه الشّخصيّ. وهذا مثال يوضّح ذلك: «حقوق الخليفة في رأيهم: الخليفة عندهم ينزل من أمّته بمنزلة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين، له عليهم الولاية العامّة والطّاعة التامّة والسّلطان الشّامل. وله حقّ القيام على دينهم فيقيم فيهم حدوده وينفّذ شرائعه. وله بالأولى حقّ القيام على شؤون دنياهم أيضا. وعليهم أن يُحْبوه بالكرامة كلّها، لأنّه نائب رسول الله».[5]

فهو هنا يلخّص أقوالَ الفقهاءِ وآراءَهم في مسألة ما، وبأسلوبه الخاصّ، دون أن يذكر المصادر التي اعتمدها. وهذا، في رأينا إخلال بالمنهج العلميّ النقديّ. أمّا إذا استعمل التناصّ، أو التّضمين، فإنّه يُحيل إلى المراجع. وظاهر أنّه لم يتخلّص من المنهج الأزهري، رغم دراسته في بريطانيا، إلاّ أنّه طوّر ذلك المنهج، فلم يستعمل كثيرا: "قال فلان"، و"قال الشّيخ" و"رَوى الإمام". ولكنّه لم يذكر رأيه الشخصيّ في المسائل الّتي تناولها من الفكر السياسيّ الإسلاميّ.

لفت علي عبد الرّازق انتباه القارئ إلى ظاهرة فكريّة تاريخيّة عند المسلمين قديما سمّاها: انحطاط العلوم السياسيّة عند المسلمين

أسلوب النقد في الإسلام وأصول الحكم:

نأخذ مثالا آخر يوضّح طريقة علي عبد الرّازق في النّقد: «القرآن والخلافة: لم نجد فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذّين زعموا أنّ إقامة الإمامة فرض، من حاول أن يقيم الدّليل على فرضيّته بآية من كتاب الله الكريم. ولعمري لو كان في الكتاب الكريم دليل واحد لما تردّد العلماء في التّنويه والإشادة به. ولكنّ المنصفين من العلماء والمتكلّفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجّة لرأيهم، فانصرفوا عنه إلى ما رأيتَ من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى».[6]

تمثّل النّقد في تفنيد عبد الرّازق لآراء الفقهاء والأصوليين، في خصوص فرض الخلافة والإمامة. ولكنّه، في نقده هذا، اكتفى بملاحظة بديهيّة، وهي خلوّ القرآن الكريم من ذكر النّظام السياسيّ لدولة مسلمة وصمت الرسول عن ذلك. والذين ينقدهم عبد الرّازق يعرفون ذلك يقينا؛ لذلك لجأوا إلى ما ذكره، وتجاوزوه إلى ضروب من التحريف ووضع الأحاديث. لذلك، وجب التّفريق بين الفكر والفقه من ناحية، وبين الفكر الدّيني والدّين نفسه من ناحية أخرى. وإن خلا القرآن من الحديث عن الخلافة ونظام الدّولة المطلقة فلِحِكَم بليغة أهمّها أنّ الله عزّ وجلّ يعلم أنّ الأوضاع السياسيّة تتغيّر في الزّمان والمكان، وأنّ النّظام السياسيّ الّذي يتّخذه شعب أو قبيلة لا يناسب غيرهم، فأمر بالشّورى. ولو نصّ القرآن على فرض الخليفة أو الإمام لعلمه المسلمون بالضّرورة كما عرفوا الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ. والنّظام السياسيّ ورئيس الدولة ليس من المشمولات الدينيّة، بل هما من ضرورات السّياسة المدنيّة.

حيرة علي عبد الرّازق:

بدأ علي عبد الرّازق في باب الخلافة من الوجهة الاجتماعيّة بتفنيد الإجماع، فأورد نصّا من كتاب المواقف وشرحه، كما أحال هو. وكتاب المواقف ألّفه عبد الرّحمن بن أحمد الإيجي (ت756هـ) وشرحه الشّريف الجرجاني (ت 816هـ). قال فيه: «دعوى الإجماع: زعموا، وقد فاتهم كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أنّه تواتر إجماع المسلمين في الصّدر الأوّل، بعد وفاة النبيّ، على امتناع خلوّ الوقت من إمام، حتّى قال أبو بكر في خطبته المشهورة، حين وفاته صلّى الله عليه وسلّم: ألا إنّ محمّدا قد مات ولا بدّ لهذا الدّين ممّن يقوم به. فبادر الكلّ إلى قبوله وتركوا له أهمّ الأشياء، وهو دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل النّاس على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا، من نصب إمام متّبع في كلّ عصر».[7]

من عادة عبد الرّازق استعمال كلمة: زعموا. ولكنّ سكوته على هذه الرّواية دليل أوّل على اضطرابه وسلفيّته. فهذا النصّ تحريف محض للتّاريخ وتناقض واضح مع روايات المؤرّخين. أوّلا: لم يهتمّ أبو بكر لا بغسل الرّسول ولا بدفنه، لقد أسرع إلى سقيفة بني ساعدة صحبة ابن الخطّاب وابن الجرّاح. وفي السّقيفة لم يقع إجماع على تأمير أبي بكر ولا حصل إجماع خارج السّقيفة. ثانيا: لم يقبل تأمير أبي بكر عدد كبير من وجوه الصّحابة أوّلهم العبّاس بن عبد المطّلب وعلي بن أبي طالب وأبو سفيان بن حرب وغيرهم كثير، ثمّ إنّ كافّة العرب في الجزيرة ثاروا على أبي بكر، فقمع تلك الثّورة السياسيّة بالسّيف.

وممّا يدلّ أيضا على اضطراب علي عبد الرّازق وحيرته: تفنيده لذلك الإجماع وقبوله؛ فهو يقول: «نسلّم أنّ الإجماع حجّة شرعيّة ولا نثير خلافا في ذلك مع المخالفين. ثمّ نسلّم أنّ الإجماع في ذاته ممكن الوقوع والثّبوت، ولا نقول مع القائل إنّ من ادّعى الإجماع، فهو كاذب. أمّا دعوى الإجماع في هذه المسألة، فلا نجد مساغا لقبولها على أيّ حال».[8]

فإن قبل عبد الرّازق الإجماع وأقرّ بأنّه من أصول التّشريع، فلماذا رفض ذلك الإجماع الّذي بهرجه الإيجي في القرن الثّامن الهجريّ؟ السّبب عنده أنّ دعوى الإجماع، غير صحيحة ولا مسموعة، سواء أرادوا بها إجماع الصّحابة وحدهم أم الصّحابة والتّابعين أم علماء المسلمين أم المسلمين كلّهم. إذن، هل الإجماع لم يحصل إلاّ في تأمير أبي بكر، لذلك رفضه عبد الرّازق؟ وإن حصل في غيرها، فما حجج عبد الرّازق ليقبله؟ وهل لشيخ أزهريّ أن يجهل، أو يتناسى، أنّه لا يوجد عند الفقهاء إجماع واحد، بل ضروب من الإجماع عند السنّة ومثلها عند الشّيعة؟ وكيف يجهل وقد ذكر هو نفسه اختلاف علماء المسلمين منذ القرن الثّاني حول الإجماع؛ فمنهم من أنكره جملة وتفصيلا، ومنهم من حدّد ضوابطه، ومنهم من اكتفى بإجماع طائفته أو مذهبه.

وهل ننسى أنّ أيّ إجماع يُذكر، إنّما شرّعه شخص واحد في منزله. فهذا مالك بن أنس قرّر: لا إجماع إلاّ لأهل المدينة! ومن هم عنده أهل المدينة؟ وفي أيّ زمن أجمع أهل المدينة على أمر؟ وقرّر ابن حنبل: لا إجماع إلاّ للصّحابة! وأيّ صحابة هم؟ وبِمَ يفسّر ابن حنبل اختلاف الصّحابة في القراءات وفي فتاواهم وفي تحزّبهم أحزابا وتقاتلهم على السّلطة؟ ألم يحصر الشّيعة الإجماع في آل البيت؟ الواقع أنّ ما يسمّى إجماعا ليس إلاّ إجماعا طائفيّا ومذهبيّا عند السنّة والشّيعة والخوارج. وكلّ تلك الضروب من الإجماع لا تلزم إلاّ مدّعيها.

علي عبد الرّازق وأفلاطون:

لقد لفت علي عبد الرّازق انتباه القارئ إلى ظاهرة فكريّة تاريخيّة عند المسلمين قديما سمّاها: انحطاط العلوم السياسيّة عند المسلمين. وقال عنها ما يلي: «من الملاحظ البيّن في تاريخ الحركة العلميّة عند المسلمين، أنّ حظّ العلوم السياسيّة فيهم كان بالنّسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظّ، وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلّفا في السّياسة ولا مترجما ولا نعرف لهم بحثا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السّياسة اللهمّ إلاّ قليلا لا يقام له وزن».[9]

ويعلّل سبب إهمالهم مباحث السّياسة، فيقول: «فما لهم قد وقفوا حيارى أمام ذلك العلم وارتدّوا دون مباحثه حسيرين؟ ما لهم أهملوا النّظر في كتاب الجمهوريّة (Republic) لأفلاطون وكتاب السّياسة (Politics) لأرسطو، وهم الّذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقّبوه المعلّم الأوّل؟ وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ وأنواع الحكومات عند اليونان. بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشرّ وإيمان وكفر؟».[10]

يبدو أنّ علي عبد الرّازق دخل متاهة الهلّينيّة الإغريقيّة، ونظنّ أنّه تأثّر بالرشديّة، إذ هو يلمّح إلى جمهوريّة النبيّ الّتي ذكرها ابن رشد.[11]

يبدو، في نظرنا، أنّ أسباب ذلك الإهمال للعلوم السياسيّة في تاريخ الحركة العلميّة عند المسلمين واضحة من خلال محضنته وغاياته. لقد نشأ العلم السياسيّ عند السلمين عند المتكلّمين أوّلا، ثمّ احتضنه الكهنوت الإسلامي. لم يكن أفلاطون وأرسطو رَجُلَيْ دين أي فقيهين. وكلّ من نظّر للسّياسة في الإسلام محدّث أو فقيه مذهبيّ. فكيف يريد عبد الرّازق أو غيره أن يتحرّر أولئك من تقديس المرويّات الموضوعة الّتي صنعوها؟ وكيف يريد أن يذكر ذلك الكهنوتُ الجمهوريّةَ، وهو حبيس مرويّاته؟ أليس في الجمهوريّة نوعٌ من الشّورى والتّداول على السّلطة؟ بينما شرّع الكهنوت الإسلاميّ تأليه الخليفة ومن خلفه، وشرّع الاستبداد والظّلم. ففي الواقع، لم يكن علماء المسلمين يجهلون آراء أفلاطون وأرسطو وسقراط وغيرهم من اليونان. ولكن تكفّل الكهنوت خدمة لمآربهم وللسّلطان، أن يحاربوا تلك الآراء فكفّروا من ذكرها وسجنوا من نشرها وأحرقوا كتبهم.

وبعد ذلك، فإنّ أهمّ أركان النّظام السياسيّ في الإسلام هي قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. وكان الإسلام ينتظر من الصّحابة الأوائل، ولا يزال ينتظر من المسلمين كافّة، أن يجدّدوا النّظام السياسيّ وأن يبتكروا ما لم يأت به الآخرون. ولكن، حاد أمراء المؤمنين الأوائل عن الشّورى، وشرّع الكهنوت خروجهم عنها فكانت الكوارث. ونواصل نقد علي عبد الرّازق من خلال مبحثه الثّالث: الخلافة والحكومة في التّاريخ.

علي عبد الرّازق، ضدّ الخلافة أم معها؟

لعلّ علي عبد الرازق أراد أن يجعل المبحث الثّالث خاتمة لكتابه: الإسلام وأصول الحكم، لأنّ هذا الكتاب ليس له خاتمة. فهو من ناحية منهجيّة تلخيص للمبحثين الأوّلين مع زيادات توضيحيّة. فهل نجد فيه رأيا واضحا عن الخلافة وهل يطرح نظريّة بديلة عنها؟

انطلق من الواقع الاجتماعي والسّياسي للقبائل العربيّة قبل الإسلام. فوصف البلاد العربيّة بقوله: «البلاد العربيّة، كانت تحوي أصنافا من العرب مختلفة الشّعوب والقبائل متباينة اللّهجات ومتنائيّة الجهات. وكانت مختلفة أيضا في الوحدات السياسيّة. فمنها ما كان خاضعا للدّولة الروميّة ومنها ما كان قائما بذاته مستقلاّ».[12]

لا تختلف أحوال الشّعوب والقبائل عن ذلك إلى يوم النّاس هذا. فما الجديد؟ رأى عبد الرّازق أنّ تلك الأمم المتنافرة صارت أمّة واحدة ذات زعيم واحد هو النبيّ. هذا تعميم وإطلاق عاطفيّ لا يؤيّده الواقع التّاريخيّ. ففي عهد النبيّ إلى وفاته، بقيت جيوب كثيرة وهامّة لا تخضع لزعامته. ففي الجزيرة، نجد اليمامة واليمن والبحرين، ولا نتحدّث عن القبائل العربيّة في الشّام والعراق. والمهمّ أنّ علي عبد الرّازق فرّق وفصل بين الوحدة السياسيّة والوحدة الدينيّة، فقد رأى أنّ الوحدة العربيّة الّتي وُجدت زمن النبيّ لم تكن وحدة سياسيّة بأيّ وجه من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدّولة والحكومة. بل كانت قائمة على وحدة الإيمان والمذهب الدينيّ، لا وحدة الدّولة ومذاهب الملك.

يبدو أنّ هذه الفكرة عبّرت عن الرّأي الأساسيّ الّذي من أجله ألّف كتابه. فقد رأى أنّ الرّسول لم يؤسّس دولة ولم يعيّن أحدا ليخلفه سياسيّا، وأنّ الإسلام لا يدعو إلى تأسيس دولة واحدة تضمّ كلّ المسلمين في الجزيرة العربيّة وخارجها. وإذا كان هذا اقتناعه، فهذا ينفي الخلافة مطلقا، شكلاً ومضمونًا. وكتابه في ظاهره ومجمله يحلّل هذا الرّأي ويحتجّ له. من ذلك مثلا تقريره بأنّ أنظمة الإسلام دينيّة لا سياسيّة. ويدلّل على هذا بسيرة النبيّ الذي: «لم يتعرّض لشيء من سياسة الأمم ولا غيّر شيئا من أساليب الحكم عندهم، ولا ممّا كان لكلّ قبيلة منهم من نظام إداريّ أو قضائيّ. ولا حاول أن يمسّ ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعيّة أو اقتصاديّة. ولا سمعنا أنّه عزل واليا ولا عيّن قاضيا ولا نظّم فيها عسسا. ولا وضع قواعد لتجارتهم ولا لزراعاتهم ولا لصناعاتهم. بل ترك لهم كلّ الشّؤون وقال لهم أنتم أعلم بها».[13]

رأى علي عبد الرّازق أنّ الرّسول أسّس أمّة الإسلام ووضّح لها متطلّبات الدّين لكلّ مسلم. ولم يراقبهم في تطبيقهم والتزامهم بتك المتطلّبات أو الفرائض. فمن شاء صلّى ومن شاء ترك، ومن شاء صام ومن شاء أفطر ومن شاء حجّ ومن شاء قعد ومن شاء أخرج زكاته ومن شاء حجب، لأنّ مردّ كلّ ذلك إلى الله تعالى وحده وليس إلى الرّسول. وكذلك، لم يتدخّل الرّسول في الشّؤون الداخليّة للقبائل الّتي أسلمت أو أظهرت إسلامها. وقد ترك الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة في اليمامة، وقد ادّعيا النبوّة.

علي عبد الرّازق والسلفيّة الأزهريّة:

كرّر علي عبد الرّازق فكرة: أنّ النبيّ لم يسمّ خليفة من بعده، عدّة مرّات؛ فقد لحق بالرّفيق الأعلى من غير أن يسمّي أحدا، يخلفه من بعده، ولا أن يشير إلى من يقوم في أمّته مقامه، بل لم يشر طول حياته إلى شيء يسمّى دولة إسلاميّة أو دولة عربيّة.[14]

حسنا، وماذا فعل أبوبكر؟ يبدو أنّ علي عبد الرّازق اعتبر زعامة أبي بكر نوعا من الزّعامة الجديدة والمبتكرة، فهي لم تكن متّصلة بالرّسالة، وبالتّالي لم تكن دينيّة فهي بهذا الاعتبار: «زعامة مدنيّة أو سياسيّة، وزعامة الحكومة والسّلطان لا زعامة الدّين».[15]

قرّر عبد الرّازق أنّ البيعة لأبي بكر، كانت بيعة سياسيّة مَلَكيّة عليها كلّ طوابع الدّولة المحدثة

يكون هذا صحيحًا لو أوقفنا التّاريخ يوم وفاة الرّسول وما حدث في سقيفة بني ساعدة. ولكنّ التّاريخ لم يتوقّف ولن يتوقّف. فهل نلغيه من مراجعنا وذاكرتنا أم نحرّفه أم نتدبّره؟

قرّر عبد الرّازق أنّ البيعة لأبي بكر، كانت بيعة سياسيّة مَلَكيّة عليها كلّ طوابع الدّولة المحدثة، وأنّها قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوّة والسّيف. حقّا، قامت دولة أبي بكر على الإكراه على البيعة وعلى القوّة والسّيف. ولم يكتف علي عبد الرّازق بقول ذلك فحسب، وإنمّا نزع فيه إلى التمجيد والإطراء: «تلك دولة جديدة أنشأها العرب؛ فهي دولة عربيّة وحكم عربيّ. كانت دولة عربيّة قامت على أساس دعوة دينيّة. وكان شعارها حماية تلك الدّعوة والقيام عليها. وكان لها عمل غير منكور في تحوّل الإسلام وتطوّره. ولكنّها، على ذلك، لا تخرج عن أن تكون دولة عربيّة أيّدت سلطان العرب وروّجت مصالح العرب. ومكّنت لهم في أقطار الأرض فاستعمروها استعمارا، واستغلّوا خيرها استغلالا، شأن الأمم القويّة التي تتمكّن من الفتح والاستعمار».[16]

ونظرا لعظمة تلك الدّولة الّتي أسّسها أبو بكر ومزاياها على العرب والإسلام، بما أنّها هي الّتي حوّلته وطوّرته إلى ما صار عليه، فإنّ علي عبد الرّزاق يؤيّد بكلّ حماسة الخلافة التّي يريد من جهة أخرى إلغاءها. ولماذا يلحّ إلحاحا شديدا على عروبة تلك الدّولة؟ أليست هي مقالة أغلب المستشرقين؟ وبما أنّها كانت على أساس دعوة دينيّة، أليس من المنطق أن نقول إنّ أبا بكر استغلّ الدّين للسّياسة ليفرض نفسه أميرا؟ ومن أعطى للعرب، بل لأبي بكر وحده، الحقّ في حماية تلك الدّعوة والقيام عليها؟

نرى علي عبد الرّازق يعود إلى سلفيّته الأزهريّة منوّها بأبي بكر ومشيدا بدوره في الحفاظ على الإسلام ومؤيّدا لخلافته. فكأنّه يقبل الخلافة العربيّة ويرفض الخلافة الدينيّة.

إثر وفاة الرّسول، لم تكن توجد أيّة مشكلة عند القبائل العربيّة. فلكلّ قبيلة سيّدها ومجلسها الاستشاري، أو ملكها. ولكلّ قبيلة حكيمها وشاعرها ولكلّ قبيلة سيادتها. ولم تكن تلك القبائل في حاجة إلى أبي بكر ولا غيره يسلب لهم حرّياتهم ويستغلّ ثرواتهم. ولم ترتدّ تلك القبائل الّتي أسلمت وما فكّرت في الارتداد عن الإسلام.

كانت المشكلة في المدينة وحدها وفي المهاجرين من قريش. كانت المدينة وحدها في الجزيرة العربيّة تفتقر إلى أمير ينظّم شؤونها السياسيّة والمدنيّة. وكان من المفروض أن يعود الأمر إلى واحد من الأوس أو الخزرج بعد النبيّ. ولذلك، اجتمعوا في السّقيفة أيّاما وتشاوروا واتّفقوا على سعد بن عبادة أميرا على المدينة. وهذا الأمر المنطقيّ والسّليم كان يثير تخوّفات المهاجرين وخصوصا السّياسيين منهم مثل أبي بكر وعمر وعليّ. فكانوا يرون أنّ استيطانهم واستقرارهم في المدينة وما كسبوا فيها كانت مهدّدة وربّما يقع إجلاؤهم من المدينة. فهذا التوجّس كان الدّافع الحقيقيّ لنجاح حزب أبي بكر في انفراده بالسّلطة في المدينة وتولّي أبي بكر السّلطة السياسيّة والدينيّة فيها. ولذلك، قَبِل أن يكون خليفة رسول الله، رغم أنّه لا خليفة للرّسول.

علّل علي عبد الرّازق التوجّه السّابق تعليلا سقيما، فقال: «لكنّ أسبابا كثيرة وُجدت يومئذ قد ألقت على أبي بكر شيئا من الصّبغة الدينيّة، وخيّلت لبعض النّاس أنّه يقوم مقاما دينيّا ينوب فيه عن رسول الله. وكذلك وجد الزّعم بأنّ الإمارة على المسلمين مركز دينيّ ونيابة عن رسول الله. وإنّ من أهمّ تلك الأسباب الّتي نشأ عنها ذلك الزّعم بين المسلمين ما لقّب به أبو بكر من أنّه خليفة رسول الله».[17]

عند علي عبد الرّازق، كلّ ما يتعلّق بالخلافة في شأن أبي بكر هو زعم، بل إنّه يواصل كلامه، فيزعم بدوره أنّه: «لم يستطع أن يعرف على وجه أكيد ذلك الّذي اخترع لأبي بكر لقب خليفة رسول الله. ولكنّه عرف أنّ أبا بكر قد أجازه وارتضاه»![18]

نرى التّعميم والتّعتيم عند علي عبد الرّازق في كلّ ما يتعلّق بأبي بكر، بل نراه في هذا، يتّبع خطى شيوخ الأزهر. أ يجهل أنّ كلّ ذلك كان لأبي بكر بشعاره الشّهير: «والله لو منعوني عقال بعير»؟ لماذا جعل أبو بكر قراره الأوّل إنفاذ جيش أسامة، رغم أن لا مصلحة دينيّة فيه بعدَ الرّسول؟ ولماذا جعل قراره الثّاني قمع الثّورة السياسيّة بتعلّة منع الزّكاة؟ ولماذا جعل قراره الثّالث اجتياح اليمامة بتعلّة نشر الإسلام. والإسلام براء من ذلك؟

أحقّا يجهل علي عبد الرّازق ذلك، وقد قال في كتابه ما يدلّ على علمه الدّقيق بكلّ ذلك؟ «لعلّ بعض أولئك الّذين حاربهم أبو بكر لأنّهم رفضوا أن يؤدّوا إليه الزّكاة، لم يكونوا يريدون بذلك أن يرفضوا الدّين وأن يكفروا به، ولكنّهم رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر كما رفض غيرهم من جلّة المسلمين. فكان بديهيّا أن يمنعوا الزّكاة عنه، لأنّهم لا يعترفون به ولا يخضعون لسلطانه وحكومته».[19]

فمن جهة، يقرّ بأنّه لم تكن ردّة كما أشاعها أبو بكر، ويعترف بأنّه من حقّ المسلمين ألاّ يؤدّوا زكاتهم إليه ولا إلى غيره من حكّامهم، ومن جهة أخرى يدافع عن أبي بكر في قبوله لقب خليفة رسول الله، وفي تأسيسه لدولة المدينة العربيّة وتوسّعها.

لم ينفع علي عبد الرّازق دفاعه وإعجابه وتأييده لأبي بكر ولما سمّي الخلافة الرّاشدة. فقد أثار كتابه عليه حربا شعواء وأحدث جلبة وضوضاء لم تحدثها كلّ كتب طه حسين. وإن لم نكن لنعجب من تلك الرّدود، إذ هي مجرّد نقل لتلك الجعجعة المعهودة في المصادر والمراجع التقليديّة الإسلاميّة. وقد أهملَتْ عن قصد ما ذكره عبد الرّازق من حقائق تاريخيّة لتركّز على المصطلحات الفقهيّة المتوارثة عندهم مثل: فرضيّة الخلافة والإمامة والإجماع وطاعة السّلطان، وما إلى ذلك من التّبريرات. ولم نر أحدا ناقش علي عبد الرّازق في رأيه وموقفه المتناقض من الخلافة. فهو يرفض الخلافة الدينيّة ويقبل، إن لم نقل ينادي بالخلافة العربيّة اعتقادا منه أنّ الخلافة العربيّة والدّولة العربيّة الّتي أسّسهما وشرّع لهما أبو بكر، هما مدنيّتان لا دخل للدّين فيهما. ونعجب أكثر من شدّة الرّدود وكثرتها على الإسلام وأصول الحكم؛ فهو كتاب تجميعيّ توثيقيّ اضطرب فيه صاحبه وتذبذب حول الخلافة نفسها كضرورة سياسيّة عربيّة. ولو حذف من الكتاب التّكرار وكلّ ما لا يتعلّق بالنّظام السياسيّ لظهر في بضع ورقات. والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ المؤلّف لم ينظّر لنظام سياسي لدولة مسلمة، وأهمل مسألة الشّورى ولم يلتفت إليها.

[1] - ابن سعد، الطّبقات الكبرى، تحقيق: إحسان عبّاس، دار صادر، ط1، بيروت، 1968. ج3، ص287

[2] - النّاصري، محمّد المكّي، التّيسير في أحاديث التّفسير، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، 1985م. ج4، ص331

[3] - البيهقي، إبراهيم بن محّمد، المحاسن والمساوي، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1991. ج1، ص230

[4] - ابن كثير، البداية والنّهاية، تحقيق: علِي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1988م. ج10، ص130

[5] - عبد الرّازق، علي، الإسلام وأصول الحكم، دار الكتاب اللّبناني، بيروت، 2012. ص11

[6] - المرجع السّابق، ص25

[7] - المرجع نفسه، ص33

[8] - م. ن، ص34

[9] - م. ن، ص34

[10] - م. ن، ص36

[11] - أرنست رينان، ابن رشد والرّشديّة، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة، 1957. ص171

[12] - علي عبد الرّازق، الإسلام وأصول الحكم، ص111. سبق ذكره.

[13] - المرجع السّابق، ص112

[14] - المرجع نفسه، ص116

[15] - م. ن، ص121

[16] - م. ن، ص124

[17] - م. ن، ص126

[18] - م. ن، ص127

[19] - م. ن، ص130