ظِلال كورونا: منظور سوسيو- تاريخي


فئة :  مقالات

ظِلال كورونا:  منظور سوسيو- تاريخي

ظِلال كورونا:

منظور سوسيو- تاريخي

ملخص

تتطلع هذه الورقة البحثية في هذا المقام إلى رصد ظلال كورونا الاجتماعية؛ أي بعض انعكاساتها الاجتماعية على المجتمع المغربي. مُعتمدين في ذلك على ما سميناه هنا بالتحليل العنيف للمشاهد الصغرى، والذي يستعدي استحضار تاريخانية الأوبئة عندنا وكيفية تشكلها في علاقة المجتمع المغربي بالدولة، مقتصرين في ذلك على شكلين من الأوبئة أو بالأحرى وباءين اثنيْن (الطاعون والريح الصفراء)، مع التركيز على لحظتين تاريخيتيْن (القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). وذلك وفقاً لمنظور سوسيو- تاريخي، يأخذ بعين الاعتبار تاريخانية التشكل الاجتماعي للوباء، في مجتمع كالمجتمع المغربي.

مقدمة

لقد انطلقتُ في هذه الورقة البحثية من سؤال مركزي ألا وهو: كيف تشكلت الأوبئة بالمغرب وتتشكل تاريخياً واجتماعياً، في علاقة المجتمع بالدولة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة أشكال من الأوبئة: من الطاعون والكوليرا (بوكليب) إلى فيروس كورونا المُستجد، والذي لم يعد مستجداً.

اقتضى التعامل مع هذا السؤال تشكيل ثلاث لحظات أساسية. أما اللحظة الأولى، فسميتها بلحظة الموْضعة، وهي بمثابة تقعيد مكثف، حاولت فيها موْضعة الأوبئة باعتبارها موضوعاً لاجتماعيات الثقافة. وأما اللحظة الثانية، فوسمتها بـ "الأوبئة في تاريخ المغرب: بين المجتمع والدولة"، استحضرت فيها، انطلاقاً من حس تاريخي وخيال سوسيولوجي، الكيفية التي تعامل بها المغاربة، في علاقة المجتمع بالدولة، مع وباءيْن أساسييْن هما الطاعون وبوكليب (الريح الصفراء)، في لحظة تاريخية بعينها، وهي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما ترتب عن هذا التعامل من انعكاسات تاريخية واجتماعية وغيرها كثير. وأما اللحظة الثالثة، فنعتتها بـ "كورونا في الحاضر المغربي: موضوعاً سوسيولوجياً"، والتي استهللتها بمساءلة التهافت المعمم للكثير من المثقفين عندنا الذين يراد لهم أن يكونوا علماء اجتماع، تهافتات من شأنها تحويل السوسيولوجيا إلى علم متهافت على الطارئ والمستعجل، فضلاً عن تفنيد بعض القراءات المنسوجة حول الانعكاسات الاجتماعية لكورونا بالمغرب، انطلاقاً من نظريات شمولية، كما هو شأن "نظرية المخاطر"، وما ترتب عليها من اختزالية عمياء، علاوة على استشكال كورونا فيروس وتشذيرها في إشكالات معينة، يراد لها أنْ تكون سوسيولوجية، وصفاً وتأويلاً. اعتمدت في ذلك على ما سميته بالتحليل العنيف (الكثيف) للمشاهد الصغرى micro-scénes. لعلنا نتمكن من رصد ظلال كورونا الاجتماعية وغير الاجتماعية، وإنْ كانت ظلالاً هاربة.

الأوبئة موضوعاً لاجتماعيات الثقافة

ما الوباء؟ هل هو منتوج طبيعي أم بشري؟ لاريب في كون الوباء باعتباره مرضاً فيروسيا،ً بمثابة منتوج طبيعي. ليس من منظور علم الأوبئة بعامة وعلم الفيروسات بخاصة وحسب، خاصة بمعناها الحديث، وإنما من منظور الجماعات والمجتمعات الموبوءة السابقة على ميلاد ونشأة هذين العِلميْن الدقيقيْن، فطالما نُظر إلى الوباء خاصة في المجتمعات ما قبل الحديثة بكونه ناجماً، إما عن الطبيعة أو عن قوى غيبة إلهية.

لكن ما يميز الأوبئة عن غيرها من الأمراض، وفقاً للبيولوجيا نفسها، هو كونها مرضاً فيروسياً، أيْ مُعدياً، تُساهم العلاقات الاجتماعية في نشره بشكل كبير، ومن ثم تُساهم في تغذيته إن لم نقل إعادة إنتاجه. ألا يجعل ذلك من الوباء أيضاً، بالإضافة إلى كونه منتوجاً طبيعياً، بمثابة منتوج تاريخي واجتماعي؟ أيْ بشري. إنه ليس بشرياً لكونه أضحى يُصنع مِخبرياً، وهذا الأمر صحيح، بل لأنه محمول اجتماعياً من طرف البشر، ويُسهمون بشكل أو بآخر في إعادة إنتاجه. ينطبق ذلك على مختلق الأوبئة التي مست المجتمعات البشرية بعامة والمجتمع المغربي بخاصة، الذي يهمنا في هذا المقام: من الطواعين إلى كورونا فيروس المُستجد.

صحيح أن الأوبئة من أهمها فيروس كورونا، الذي يعد موضوعاً حيوياً وراهنياً للبيولوجيين بعامة وعُلماء الفيروسات بخاصة الذِين لا يزالون يتعرفون عليه، ويفحصونه مخبرياً لتخليص البشرية مِن وباء فتاك وجائحة عالمية عابرة للقارات والأوطان. هكذا دأب التقليد: الأسبقية للدراسات العِلمية البيولوجية. فحِفظ الحياة أول الأولويات وآخرها. هذه المسألة قد يعرفها المؤرخ والأنثروبولوجي والسوسيولوجي، قبل البيولوجي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأوبئة ومفعولاتها الاجتماعية والثقافية. لكن اختزال الفيروس المعني فيما هو بيولوجي محض، قد يكون ضرباً من ضروب الاختزال القاتل.

يتعلق الأمر هنا في نهاية المطاف بمرض فتاك. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه مرض معدٍ يخترق الحدود ويعبر الأوطان. يجعل من الجسد البشري مسكناً له، وناقلاً له في الآن نفسه. وما قد ينجم عن ذلك مِن تحولات في الشرط البشري برمَّته على مختلف المستويات والسياقات والوضعيات.

أما كون الأوبئة مرضاً بشرياً، فهذه حجة كافية في حد ذاتها، لكي تكون موضوعاً لمجالات معرفية وحقولاً علمية وتخصُّصات فكرية متعدّدة ومتنوعة، مِن بينها الفلسفة، على اعتبار أن المرض تجربة أنطولوجية خالصة، فاصلة بين الموت والحياة، الوجود والعدم. إنه معاناة قبل أي شيء آخر، يُتيح لنا إمكانية التفكير في جسدنا وهشاشة حياتنا البشرية والتفكُّر في الحدود الفاصلة بين الحياة والموت.

وأما كونها مرض معدٍ أو بالأحرى وباء معمم فهذه حجة ثانية، باعتباره تجربة اجتماعية حدودية لعلاقتنا كأفراد وفاعلين وذوات في علاقتنا بالمجتمع والسلطة من جهة، وفي علاقتنا بالطبيعة من جهة ثانية. وبالتالي إمكانية الحديث عنها كموضوع للعلوم الاجتماعية بشكل عام، وكموضوع للسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ بشكل خاص. فضلاً عما يمكن لمجال خصب كالتحليل النفسي أنْ يقدمه بهذا الخصوص.

مِن هنا بالضبط تستمدّ هذه المجالات والتخصُّصات المعرفية مشروعيتها الإبستيمولوجية في التعامل مع كوروناً علمياً وفقاً للمنطق الداخلي للعلوم الاجتماعية، وبالتالي التفكُّر في الانعكاسات والمفعولات الاجتماعية والثقافية والتاريخية والأنطولوجية لهذا المرض؛ تحويل الوباء من كيان- فيروس- بيولوجي إلى موضوع للدراسة اللَّا- بيولوجية، أيْ من خارج البيولوجيا، ومن داخل اجتماعيات الثقافة، نخص بالذكر هنا علم التاريخ والسوسيولوجيا.

من هنا تستمد عبارة منظور سوسيو- تاريخي مشروعيتها، العبارة المكملة للعنوان. ولأن الأمر يتعلق هناك برصد الأوبئة في حالة معينة أو سياق معين هو السياق المغربي كما هو مبين في العنوان، فإننا سنقف عند رصد تاريخي موجز للأوبئة أو لبعضها في لحظات تاريخية محدودة، لكنها أثرت بشكل كبير على المغاربة في علاقة المجتمع بالسلطة المركزية (السلطان المركزي) وكذا في تاريخيتنا كمغاربة، فضلاً عن رصد استشكالي، من منظور يراد له أنْ يكون سوسيولوجياً، لوباء بعينه مازلنا نعيش مآلاته ونتنفس انعكاساته الاجتماعية وغير الاجتماعية: يتعلق الأمر بكورونا فيروس.

الأوبئة في تاريخ المغرب:

بين المجتمع والدولة

ليس من السهولة بمكان رصد مجمل الأوبئة التي وسمت تاريخ المغرب، لا أتحدث هنا الرصد الكرونولوجي فحسب بقدر ما أتحدث عن التاريخ الاجتماعي للأوبئة بالمغرب. هل ثمة تاريخ اجتماعي للأوبئة بالمغرب؟ من الصعوبة بمكان التفاعل مع هذا السؤال بالتأكيد، نظراً لغياب دراسات بهذا الصدد تعمل على الكيفية التي كانت تدبر بها القبائل المغربية مثلاً، في اللحظة ما قبل الاستعمارية، علاقتها بالأوبئة. بل من الصعوبة الحديث عن تاريخ للأوبئة عندنا كتاريخ متخصص دقيق كما دأبت على ذلك مدرسة الحوليات الفرنسية. طبعاً هناك مصادر تاريخية ومخطوطات ورسائل ووثائق تؤرخ بشكل مباشر أو غير مباشر لهذا الوباء أو ذاك، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك، لكنها لا تشكل تقليداً علمياً قائماً بذاته. مع العلم أنها تقل وتشح كلما حاولنا رصد الوضع الوبائي بمغرب ما قبل القرنيْن السادس عشر والسابع عشر، نظراً لندرة المواد التاريخية وشحها، إنْ لم يكن غيابها أو عدم اكتشافها بعد.

كيف يمكن التأريخ للأوبئة بالمغرب؟ ثمة محاولات ومجهودات عدة مؤخراً تُحاول أنْ تنحو نحو ما دأبت عليه الحولية الفرنسية بهذا الصدد؛ أيْ التأريخ بالأوبئة: التعامل مع الأوبئة ليس بوصفها مادة تاريخية، بمعنى كموضوع لعلم التاريخ، تاريخ الأوبئة، وإنما التعامل مع الوباء كعامل مفسر للتاريخ، لتاريخ المغرب وما عرفه من تقلبات وتعقيدات.

تجدر الإشارة هنا فيما يتعلق بتاريخ الأوبئة بالمغرب إلى نقطة مهمة جداً: استحالة تأريخ الأوبئة بمعزل عن المجاعات. لهذا، فإن حديثنا عن الأوبئة بشكل منفصل عن المجاعات ليس إلا إجراءً منهجياً وعملياً. لكن ما يهمنا في هذا المقام هو: كيف تعامل المغاربة مع الأوبئة التي سكنت أجسادهم ومخيلاتهم، في علاقة المجتمع بالسلطة، في ظل غياب أنظمة صحية مهيكلة أو لنقل في ظل غياب سياسة صحية أو وبائية معقلنة؟

إننا لا نسعنى هنا لرصد كرونولوجي لجميع الأوبئة التي هزت البلاد، فعملية من هذا القبيل تتجاوز الغرض من هذا البحث أو التمرين. أقول تمرين، لأن الأمر لا يتعلق إلا بتمرين. إننا نرمي إلى الوقوف عند بعض الانعكاسات الاجتماعية والسياسية لأوبئة بعينها ولحالات محدودة جداً، لكنها نوعية، بغية رسم معالِم فرضية أولية تستجيب للسؤال المطروح. سنقتصر، من الناحية التحقيبية، على القرنيْن الثامن عشر والتاسع عشر؛ أيْ ما قبل اللحظة الاستعمارية بقليل. يعود ذلك لاعتبارات عدة لا يسمح المقام هنا بذكرها جميعها. من أهمها: مرجعية هذه الحقبة في تكوين الوطنية أو الهوية المغربية، وكذا توفر مصادر ومراجع موثوقة بشأن الأوبئة. كما اقتصرنا على شكلين من أشكال الأوبئة: الطاعون والكوليرا (بوكليب). هذا وبغض النظر عن الوباء المتأخر الذي مازلنا نعيش تبعاته وانعكاساته: كورونا المُستجد.

عرف المغاربة العديد من الأوبئة على مرور الزمن، سواء فيما قبل الاستعمار أم في ظله أو فيما بعده، من الطاعون بألوانه والكوليرا بأصنافها ثم التيفوئيد إلى التيفوس فالزهري وغيرها من الأوبئة التي وسمت تاريخ المغرب. مثلها في ذلك مثل باقي الجوائح الأخرى، أكانت مجاعات أو زلازل وبراكين وإعصارات وموجات من الجفاف وغزو الجراد للحقول الزراعية. وغيرها من الجوائح، بما فيها الأوبئة والحال هذه، التي أدت إلى نتائج كارثية على جميع المستويات، إلى درجة يمكن القول فيها: إن الجوائح عندنا ليست معطى عرضياً بقدر ما هي معطى بنيوي في العُمق. يكفي أنْ نُشير هنا إلى ظاهرة التأريخ بالجوائح لدى عموم المغاربة، من قبيل: عام الجوع/ بوهيوف/ البون، عام أوقية بدرهم، عام إرني، عام الصندوق... وهلم جرا من التسميات التي تحيل إلى لحظة تاريخية بعينها. ربما لن نبالغ إذا قلنا: إن تاريخ المغرب في مستوى معين هو تاريخ للجوائح، كما هو شأن الحقبة موضوع التحليل.

صحيح لم تبدأ الجوائح في المغرب مع القرنيْن الثامن عشر والتاسع عشر، فهي قديمة ضاربة في العمق التاريخي للمغرب. كما لم تنته مع انتهاء هذين القرنيْن. تجدر الإشارة هنا إلى ما يسمى في الأدبيات التاريخية بالطاعون الجارف أو الأسود أو الأعظم، الذي وقع ما بين 1348 و1350، وجاء إلى المغرب من بلاد الحوض المتوسط. وقد أودى هذا الوباء بما لا يقل عن مليوني نسمة من ساكنة المغرب التي كانت تقدر آنذاك بخمسة مليون نسمة. علاوة على طاعون 1678- 1680 الذي ظهر في عهد مولاي إسماعيل، وتميز بقوة تدميرية لا تقل على غيره من الطواعين. وغيرها من الطواعين والأوبئة اللاحقة كثير، والتي أدت إلى انقلابات بنيوية ديموغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية. وصولاً إلى أوبئة الحقبة المعنية، وما تتضمنه من أربعة طواعين، وكذا الكوليرا بمختلف موجاتها.

بعد استراحة البلاد من الطاعون آنف الذكر، والذي تزامن مع عهد مولاي إسماعيل، والتي دامت زهاء نصف قرن، ظل المغرب مهدداً بأخطار العدوى القادمة من البلدان المتوسطية، كما هو شأن طاعون 1742- 1744، الذي دخل إلى البلاد عن طريق قافلة تجارية محملة بالحرير قادمة مِن الشرق (الجزائر)، فحملت معها عدوى الطاعون، بنوعيْه الدملي والرئوي، إلى قرية بضواحي فاس، ومنها انتشر إلى بوادي ومدن عديدة من التراب المغربي. شأنه في ذلك شأن الطواعين اللاحقة إليه كما هو شأن طاعون 1747- 1751، وإن كان هذا الأخير يعد ذيلاً أو امتداداً طبيعياً للأول، أيْ صدر من الداخل، من سوس تحديداً، فطاعون 1798- 1800، الذي جاء بعد الثاني بنصف قرن تقريباً، ثم الرابع: طاعون 1818- 1820، الذي جاء بعده بثمانية عشرة سنة من الثالث.

بالإضافة إلى الطواعين سالفة الذكر فثمة أوبئة أخرى غزت الجسم المغربي للقرن التاسع عشر، كما هو حال التيفوئيد والديفتيريا والزهري وغيرها من الأوبئة الخطيرة، لكن الكوليرا أو بوكليب كما كان يفضل المغاربة تسميتها. علاوة على المجاعات الخمس التي تعاقبت على البلاد خلال الحقبة المعنية: 1721- 1724، 1737-1738، 1779- 1782، 1817- 1818، 1825- 1826.

غير أن الكوليرا، مقارنة بالطواعين السابقة، جاءت في سياق تاريخي متميز، يتميز باحتكاك التشكيلة الاجتماعية المغربية ما قبل الرأسمالية بالرأسمالية الأوروبية، من خلال التسرب الأوروبي إلى المغرب، خاصة بعد هزيمة معركتي إسلي سنة 1844 وتطوان سنة 1860، في سياق مجتمعي متهالك، على إثره اضطر المخزن إلى عقد معاهدات تجارية مع كل من بريطانيا سنة 1856 وإسبانيا سنة 1861، وغيرها من المُعاهدات التي أثقلت كاهل البلاد أكثر مما هو مثقل، ولعبت دوراً كبيراً في إعداد شروط الاستعمار.

تسرب، ساهم بشكل أو بآخر في تأزيم الوضع الكارثي للبلاد ورعايته، الوبائي منه والمجاعي. على الرغم من التدابير المتخذة في الموانئ للحلول دون اجتياح بوكليب للتراب المغربي، فإنها لم تقم إلا بتأخيره إلى الموجة العالمية الثانية منه (1829- 1837)، بعد موجة أولى (1817- 1824). ظهر الوباء أول ما ظهر في يوم 3 نونبر 1834 بفاس قادماً من الجزائر، ثم انتشر بعد ذلك إلى باقي المعمور. على الرغم من قوته التدميرية، فإنها لا تضاهي القوة التدميرية للطواعين السابقة عليه خاصة الأخير منها؛ ذلك أن خطورته الأساسية، بالإضافة إلى قوته التدميرية، تكمن في عودته الدورية التعاقبية: 1834- 1835، 1854- 1855، 1859- 1860، 1867- 1869، 1878- 1883. تلك العودة التي استنزفت بشكل كبير قوى المغارب. لم تتعاف البلاد وتستريح من وقع الكوليرا، ليجتاحها التيفوئيد.

لقد خلفت هذه الطواعين والكوليرا بمختلف موجاتها ومراحلها، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تزامنها مع العديد مِن المجاعات والأزمات الغذائية والتدخلات الأوروبية، كوارث بنيوية على جميع الأصعدة والمُستويات. أما على المستوى الديموغرافي: أدت إلى نزيف ديموغرافي حاد، يتراوح بين الثلث والثلثين من ساكنة المغرب آنذاك التي كانت تقدر ما بين أربعة وخمسة ملايين نسمة. مما أثر بشكل مهول على البنية الفلاحية والإنتاج الفلاحي وتدمير الحياة التجارية والحرفية، ولا سيما أن الاقتصاد المغربي في هذه اللحظة التاريخية كان يقوم على القوة البشرية، إلى درجة انقرضت فيها الفلاحة في بعض المناطق وانكمشت الرقعة الفلاحية في المناطق الأخرى، كما عرفت هذه الفترة نزوحاً قرويا ومجالياً واسعاً. هذا بدون الحديث عن التسلط الأجنبي على الأراضي والأزمة النقدية اللذين تزامنا مع هذا الوضع الموبوء.

وأما على المستوى السياسي: لعبت هذه الأوبئة دوراً كبيراً في تأجيج الاضطرابات السياسية، كما هو شأن الحرب على العرش بين أبناء المولى إسماعيل، المولى عبد الله والمولى المستضيء، التي كانت قائمة في ظل الطاعون الأول، حيث ساهمت الوحدات العسكرية للأميريْن في نشر الوباء؛ إذا كان التجار هم من أدخل الطاعون المعني، فإن وحدات المقاتلين هي التي نشرته. هذا وبغض عن توظيف هذه الكوارث من طرف المخزن لتوطيد سلطته، يكفي أنْ نُشير بهذا الصدد إلى استغلال المخزن، سواء في عهد المولى إسماعيل وخلفائه أو في عهد المولى سليمان، للطاعون لصالحه، ولا سيما أنه لم يحدث أضرارا في المناطق التي كانت تحت سيادة المولى عبد الله، الأمر الذي اعتبره الكثير من المغاربة بمثابة معجزة سلطانية مرتبطة ببركته، وكذا قضاء الوباء على خصومه وإضعاف قبائل السيبة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية ساهمت هذه الأوبئة المتوالية بما فيها الكوليرا في إضعاف السلطان المركزي وتدمير قوته العسكرية وتقليص نفوذه على مختلف القبائل المتمردة. لقد أدى الضغط الأوروبي على المخزن في ظل الجوائح المعنية إلى إفلاسه التام، لكنه في المقابل كان يُصرف ذاك الضغط في بطشه على القبائل بالرفع من الجبايات والضرائب مما نتج عنه العديد من الاضطرابات السياسية.

وأما على المستوى الاجتماعي: تراكم الكوارث والأوبئة أدى إلى نوع من التقهقر والاضطراب والخوف والقلق الذي تملك النفوس وبالتالي تهيء مقومات نفسية واستعدادات اجتماعية لشرعنة سلطة مولاي عبد الله وابنه من بعده سيدي محمد؛ استفحلت ظاهرة الاستيلاء على الأراضي وممتلكات الغير من الضحايا وثرواتهم مما أثر على بنية التراتبية الاجتماعية وعلى توزيع الثروة وخَلق نوعاً من التوازن الاجتماعي. وأما على المستوى الثقافي أو الذهني، والذي لا ينفصل عن المستوى الاجتماعي، الذي يتمثل في العمق في موقف الفقهاء من هذه الأوبئة المساهم بشكل أو بآخر في استفحالها والحلول دون الأخذ بالتدابير اللازمة للوقاية منها أو على الأقل للحد من نتائجها الكارثية. هذا الموقف يتمثل في النظر إلى الوباء كغضب من الله على ما كانت تعرفه البلد من اضطرابات وتمردات على السلطة المركزية واستفحال للفساد، لكنه لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى درجة أنكر فيها إمكانية العدوى وكذا الدعوة إلى عدم محاربته؛ لأن ذلك سيفضي بالعباد إلى معارضة قضاء الله وقدره.

طبعاً كان هناك موقفاً مضاداً يمكن اعتباره معتدلاً، لكنه لم يكن هو الموقف المهيمن، أو بعبارة حديثة، لم يكن هو الأدلوجة المهيمنة في المجتمع المغربي. ربما ذلك ما يفسر عدم الأخذ بإجراءات احترازية من قبيل ما سمي في الضفة الأخرى بالكرونتينة كتدبير وقائي يحد من انتشار الأوبئة. إننا أمام أوبئة مزلزلة، أدت إلى انكماش اجتماعي وتعطيل الفعالية البشرية والاقتصادية، وذلك برعاية القوى الأوروبية، خاصة في منتصف القرن التاسع عشر. أولم تُساهم الأوبئة وما آلت إليه من نتائج هزت أركان المجتمع والدولة المغربييْن، في خلق شروط مجتمعية واستعدادات نفسية للاستعمار: القابلية للاستعمار؟ هذا سؤال تاريخي أكثر منه سؤال سوسيولوجي، سنتركه للمؤرخين للخوض فيه؛ لأنه يحتاج إلى دراسات تاريخية معمقة.

ما يهمنا في هذا المقام هو: كيف تعامل المغاربة في علاقة المجتمع كمجتمع قبلي بالدولة كمخزن مع الأوبئة آنفة الذكر وما تعاقب عليها من كوارث طبيعية وبشرية؟ وما الانعكاسات الاجتماعية لهذا التعامل؟ دينياً: تعاملوا معها في الغالب وفقاً لمنطق ديني يعبر عن رؤيتهم للوباء وللعالَم في زمانهم ذاك، وهي رؤية تغلب عليها الطبيعة الدينية بالمعنى السوسيولوجي للعبارة، أيْ كممارسة اجتماعية وتمثلات. ولأن الوباء غضب إلهي، فإنهم كانوا يواجهونه باللطيف، وبزيارة الأضرحة ومناجاة الصلحاء، فضلاً عن الاعتكاف في المساجد والإكثار من الصدقات. سياسياً: التمرد على المخزن تارة واللجوء إليه تارة أخرى.

كوروناً في الحاضر المغربي:

مَشاهد صُغرى

لمَ العودة إلى تاريخ الأوبئة بالمغرب، مادام يتعلق الأمر هنا بوباء جديد ما زلنا نعيش انعكاساته إلى اليَوم؟ ولمَ الانتقال مباشرة من الوضع الوبائي في القرن التاسع عشر إلى الوضع الوبائي في القرن الواحد والعشرين، من دون التوقف عند الوضع الوبائي في القرن العشرين عموماً وعند اللحظة الاستعمارية الحديثة وما بعدها؟ ألم يشهد المغرب أوبئة قبل ذلك؟ وهل هو انتقال مشروع إبيستيمولوجياً؟

طبعاً، شهد المغرب العديد من الأوبئة في ظل الاستعمار الفرنسي والإسباني وبعدهما بكثير، ولم يكن تأثيرها ضئيلاً على التكوين التاريخي والمجتمعي للجسد المغربي وخياله، لكن الأوبئة عندنا في تلك الفترة جاءت في ظل سياسة صحية حديثة، أُحدثت من طرف الإدارة الاستعمارية أو من طرف "الدولة الوطنية" (دولة الاستقلال) لاحقاً.

هذا العامِل الحديث من شأنه أنْ يُفقِد الغرض المنهجي من استحضار الوضع الوبائي ما قبل إحداث سياسة صحية قائمة بذاتها، بالأحرى وجود سياسة وبائية مخصوصة. إنها ليست عودة جزافية ولا كرونولوجية ضيقة تقوم على التاريخ التحقيبي، وإن استحضرنا التاريخ فإننا نستحضره كحس تاريخي، من شأنه أنْ يُسعفنا على استشكال الوضع الوبائي المغربي الحاضر، استشكالاً يُراد له أنْ يكون سوسيولوجياً. إننا أمام عودة جينيالوجية؛ أي إننا لم نعد خطوات إلى الوراء إلا لنتمكن من الصعود وأخذ فكرة عن تاريخانية الأوبئة في تشكيل مجتمعنا: من خلال قوته التدميرية من جهة وانعكاساتها الاجتماعية من جهة ثانية.

إن هذه القفزة أو الوثبة منهجية، بل إنها تمرين شاق على مستوى التحليل، يُمكننا من تحليل عنيف (كثيف). إنه ليس تحليلاً عنيفاً إلا لكونه يُمزق ذاك الوتر التحقيبي للتاريخ كسلسلة متعالقة، يعود فيها اللاحق بالضرورة إلى السابق.

جاء كورونا فيروس إلى المغرب في سياق عالَمي مَوْبوء، انطق أول الأمر من مدينة وُوهان الصينية، والتي سجلت أول حالة في 31 دجنبر 2019، ومنها انتشرت العدوى إلى باقي بلدان العالَم، بتاريخ 7 يناير 2020. سُجلت أول حالة رسمية بالمغرب يوم 2 مارس 2020، بالدار البيضاء. ومنها انتشر الوباء التاجي إلى باقي الجهات. وصولاً إلى اليَوم. أودى الفيروس المعني بالكثير من النفوس والحيوات. لكن المغرب الحالي الذي جاء فيه الوباء المعني ليس هو مغرب القرن التاسع عشر. هذا أمر بديهي، غير أن السؤال هنا هو كيف يمكننا استشكال كورونا سوسيولوجياً؟ في حالة بعينها، ألا وهي حالة المغرب دون أنْ يمنعنا ذلك من تعميمات استقرائية كونية؛ لأن الأمر يتعلق بوباء عالَمي في نهاية المطاف. مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المنطقيات الداخلية للمجتمع المغربي الحالي في تعامله مع هذا الوباء المستجد.

هل يمكن اعتبار كورونا موضوعاً سوسيولوجياً، وكيف يمكن موْضعته سوسيولوجياً؟ وماذا يعني أنْ تكون موضوعاً سوسيولوجياً؟

منذ اللحظة الأولى التي تجاوز فيها فيروس كورونا المجال الترابي الصيني، قبل إعلانه وباء عالمياً، مروراً بإعلانه وباءً عالمياً وانتشاره على مدى واسع في أرجاء المعمورة، وخرجات عُلماء الاجتماع بخاصة، وغيرهم مِن الباحثين في مجالات العلُوم الاجتماعية بعامة، لا تنفك عن التوقف، سواء عندنا أو عند غيرنا. مُجمل هذه الخَرجات كانت في البداية بمثابة خرجات صحافية في هذا المنبر أو ذاك، والتي أخذت في الغالب شكل حوار صحافي. إلى أنْ تتطور لاحقاً إلى مقالات أكاديمية في العديد من مراكز الأبحاث والدراسات، وفي العديد مِن المجلات التي خصصت أعداداً خاصة بالجائحة المعنية. إلى درجة تأليف بضعة كُتب خاصة بهذه الجائحة مِن تأليف باحثين يُراد لهم أنْ يكونوا عُلماء اجتماع. بغض النظر عن تنظيم لقاءات وندوات افتراضية، و«لاَيْفَاتْ» يومية في الوسائط الإعلامية الجديدة، كما هو حال فيسبوك على سبيل المثال، مِن طرف هذه الجهة أو تلك، مِن طرف هذا الباحث أو ذاك.

ما هذا التهافت؟ متى كانت السُّوسيولوجيا مُتهافِتة إلى هذه الدرجة على المُستعجل والطارئ والسريع والجاهز؟ هل يُراد للسُّوسيولوجيا أنْ تكون عِلماً للمستعجلات؟ هذا إذا سلمنا فعلاً بسوسيولوجية تلك الخرجات وعلميتها.

هناك الكثير من الكلام قيل بخصوص التداعيات والانعكاسات الاجتماعية لفيروس كورونا المُستجد. وهو كلام محسوب على باحثين يُسجلون انخراطهم في مجالات معرفية خِصبة، لها قواعدها الإبستيمولوجية الرصينة، وصرامتها المنهجية اللازمة، في أي تشخيص أو بالأحرى في أي كلمة تقال باسم هذا التخصص العِلمي أو ذاك. فهذا يُحدّثنا عن تداعيات كورونا على الرابط الاجتماعي، وذاك عن التضامن الاجتماعي، وآخرون عن المابعديات: «ما بعد كورونا»، وغيرهم عن الدولة الوطنية والدولة الاجتماعية، وهناك مَن يتحدث عن «النوع الاجتماعي»، ومجتمع المخاطر، والخطاب، إلخ. وبغض النظر عن الإسقاطات القاتلة للاجتماعي بكل أشكاله وألوانه، فيما يُسمى بـ «زمن كورونا».

كل هذا التهافت المُعمَّم قد يكون مفهوماً إلى حدّ ما كآراء وانطباعات منفصلة عن أصحابها، ومجالات تخصُّصهم العِلمي، إذا ما نحن استحضرنا وَقع كورونا على البشرية برمَّتها، فضلاً عن العنف الذي يُمارسه علينا الراهن باستمرار: عنف الراهن. لكن لا ينبغي أنْ يكون ذلك على حساب العِلم وفعاليته.

لقد سجلت هذه الملاحظة بعد ما يناهز ثلاثة أشهر على بروز أول حالة في المغرب. حينها لم تختمر بعد الانعكاسات الاجتماعية لكورونا، بل لم تكن بعد فحصت بالدقة العلمية من طرف البيولوجين وعلماء الفيروسات أنفسهم؛ أيْ قبل صناعة اللقاح المضاد. ماذا الآن، ماذا بعد مرور أزيد من سنتيْن على تفشي الوباء وتعايش المغاربة معه، بمفعولاته وانعكاساته، وفي ظل سياسة صحية وبائية قائمة بذاتها؟

تجدر الإشارة هنا إلى أننا أعرضنا عن الكثير من الطروحات العامة، لكونها لا يُمكن أن تقدم أي شيء على مستوى التحليل، خاصة عندما يتعلق الأمر بمجتمع كالمجتمع المغربي. أخص بالذكر والحالة هذه: مجتمع المخاطر. كثيرة هي القراءات عندنا التي حاولت أن تُوظف نظرية مجتمع المخاطر في قراءة الوضع الوبائي المغربي الحالي. غير أن قراءات من هذا القبيل لا تنتهي في نهاية التحليل إلا إلى اختزالية عمياء تذيب الواقع المعيش للمغاربة في نظرية للمجتمعات الكوسموبولتية، فضلاً عن كون هذه النظرية، والتي نتعامل معها هنا كفرضية، شاملة وتقدم مفهوماً ميتافيزيقياً عن الخطر لا يُمكن اختباره تجريبياً وميدانياً.

مجمل هذه القراءات لم تنتبه إلى تمييز أساسي يقيمه صاحبها بين الكوارث والمخاطر، فالخطر عنده ليس هو الكارثة نفسها وإنما هو إمكانية أو احتمالية حدوثها. السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: كيف يمكن فحص احتمالية حدوث هذه الكارثة أو عدمه سوسيولوجياً؟

كيف يُمكنني أنْ أصف خطر وباء كورونا مثلاً، إن لم أعشه بعد كاحتمال فعلي؟ بالأحرى أقدم تأويلاً علمياً بصدده. لهذا أبعدتُ هذه الفرضية؛ لأنها لا تُقدم أي إضافة نوعية على مستوى الفهم؛ ذلك أن الخطر الناجم عن فيروس كورونا مثلاً، يجيء كأثر أو كمفعول لاحق: ثمة الكثير من المغاربة إلى اليَوم يُشككون في وجوده في الأصل. هذا وبعد تجربة فعلية للعدوى والفتك بذوي القربى والأصدقاء والزملاء؛ فما بالنا بدراسة الوباء كأثر قادم من المستقبل.

لكن ما يهمنا من هذه الفرضية هو فكرة الخطر نفسها، خطر الوباء، تصويره وإخراجه من طرف الإعلام، ومن ثم من طرف السلطة السياسية المركزية. بعبارة أخرى: مَن يُعرف الخطر الوبائي؟ ومَن له المشروعية في الإقدام على ذلك؟ أو مَن يحتكر الوسائل والإمكانيات التي تمكنه مِن تعريف الخطر؟ هذه هي الأسئلة التي لم تطرح بعد. فأسئلة من هذا القبيل، يمكنها أنْ تنحو بنا إلى تأويل مغاير، قد يُفند الأطروحة التي تقوم عليها نظرية المخاطر تلك.

من هذا المُنطلق، ولكيلا أسقط بدوري في اختزالية عمياء، سأعمل على موْضعة كورونا سوسيولوجياً انطلاقاً من استشكالات وفرضيات تقوم على القابلية للتفنيد. تقوم على حس إثنوغرافي أولي، يأخذ بعين الاعتبار تاريخانية الأوبئة في تشكيل المجتمع المغربي، آنفة الذكر، كما تقوم على إعمال الخيال السوسيولوجي وتشغيله: على اعتبار أن الذات المُستشكِلة والمُفترضة هنا لا تُشكل عائقاً أمام عملية الموْضعة تلك بقدر ما تُعززها.

إن الأمر لا يتعلق بعرض أجوبة أو أفكار جاهزة، بل العكس هو الصحيح. فما يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو طرح الأسئلة ولا شيء غير الأسئلة. وحدها الأسئلة، تمكننا من فتح إمكانيات وآفاق جديدة للتأويل، من خلال استشكال مشاهد صغرى لبعض المفعولات الاجتماعية والثقافية الفعلية وتأويلها سوسيولوجياً.

1- التصوير الإعلامي لكورونا وإخراجها: تجدر الإشارة هنا إلى الحصيلة اليومية التي كانت تقدمها الحكومة إعلامياً لعدد الإصابات ومستوى انتشار العدوى ومدى خطورتها وسجل الوفيات الناجمة عن الوباء، فضلاً عن إحداث منصة إلكترونية خاصة لهذا الغرض. ما يهم في هذا المقام هو إيقاعها، والكيفية التي تعامل معها الناس ويتعاملون معها. في البداية، عرفت اهتماماً واسعاً من طرف مختلف الفئات، مثلها في ذلك مثل التدابير الاحترازية التي دعت إليها السلطة، لكنها سُرعان ما قُوبلت بكثير من الريبة، إلى درجة لم تعد اليوم تلقى أي اهتمام من طرف كثير من الناس. بما في ذلك دعوات التلقيح المستمرة. فكلما اقتربت مناسبة معينة، كرأس السنة أو الأعياد أو العطل المدرسية إلا وتسجل الحصيلة ارتفاعاً تصاعدياً، وتكثر الخرجات الإعلامية لأخصائيين يتكلمون باسم العلم والحفاظ على سلامة المواطنين، موجهين بذلك دعوتهم للعموم: بلغة آمرة ناهية، تُحمل فيها عموم الناس مسؤولية الوضع الموبوء. المسؤولية، كل المسؤولية تقع دائماً على عاتق العموم، أما السلطة السياسية، أكانت مركزية أو هامشية، فلم تكن موْضع مساءلة: أوليست هي التي تمتلك الوسائل التي تمكنها من تصوير الخطر الوبائي متى رأت ذلك مناسباً، ومن ثم امتلاك القدرة على إخراج الوباء كخطر فعلي قائم بذاته؟

2- كورونا بين سلطوية الدولة ومقاومة المجتمع: منذ ظهور الوباء إلى اليَوم، تعاملت الدولة بمختلف أجهزتها مع المجتمع وفقاً لمنطق الهيمنة، تماماً كما يتعامل الرجل مع النساء في المجتمعات الأبوية، أو كما يتعامل الراشد مع الأطفال، كأن ما يُحرك المجتمع هو العاطفة. أما الدولة، فهي العقل المدبر، غير أن المجتمع بدوره وإنْ كان يبدو خاضعاً لقرارات السلطة السياسية، فإن هامشا كبيرا من أفراده وفاعليه لم يكن يأبه بقراراتها، وإنْ هو فعل بقوة القانون وإجباريته فإنه يتحايل عليه بشكل فني. لنأخذ إلزامية ارتداء الكِمامة على سبيل المثال لا الحصر: الكثير ممن كانوا يرتادون الكِمامات، إما أنهم يرتادونها في الإدارات التي كانت تشترط الولوج إليها بارتدائها، ويضعونها جانباً لمجرد الخروج منها، أو إن هم ارتادوها يضعونها في غير موْضِعها لتمويه السلطات لا غير، سواء في المجالات العمومية أم في الطرق بالنسبة إلى وسائل النقل. كيف يُمكن للمرء أنْ يُقنع من ينكر الوباء بارتداء الكِمامة من أجل الحد من انتشاره أو الوقاية منه؟ ألا يُمكن اعتبار هذه التصرفات المُراوِغة للسلطة المُهيكلة بمثابة مقاومة صامتة من طرف سلطة اجتماعية كامنة، وبالتالي من طرف سلطة مضادة، سلطة اجتماعية غير رسمية لمقاومة سلطوية الدولة؟

3- كورونا وعودة المخزن: لقد ساهمت كورونا بشكل أو بآخر، خاصة في ظل حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي، وما نجم عنها من قرارات، كما هو شأن رخصة التنقلات، في عودة قوية للمخزن، في الأحياء والدواوير، بشكل غير مسبوق، خاصة من خلال أعوان السلطة غير المنتخبة، من المقدم إلى الشيخ والقيد. كيف يُمكن فهم هذه العودة؟ عودة لعب فيها أعوان السلطة غير المُنتخبة دوراً كبيراً في تسييج حركة الأفراد ومراقبة الأفضية والبيوت عن كثب. مع الأخذ بعين الاعتبار تصوير هذه الخرجات وإخراجها إعلامياً، أفي الإعلام العمومي أو في العالَم الافتراضي. ألا يعني ذلك أننا أصبحنا أمام سلطوية تدبيرية أكثر منها سلطة قمعية؟

4- كورونا وتقويض الحركية: ماذا يعني تقويض حركية الأفراد باسم الحد من العدوى، في وقت بعينه، ليلاً: انطلاقاً من السادسة أو الثامنة أو العاشرة أو الحادية عشرة..؟ على اعتبار أن العدوى لا تنتقل إلا ليلاً، كما يقول مغاربة بسخرية: وهل كورونا "جن" حتى تنتشر في الليل من دون النهار؟ من رخصة التنقلات إلى جواز التلقيح كجواز للحركية. وهل هناك سلطوية أشد من ضبط حركة الأجساد؟ أولم يحول الحجر الصحي المجتمع إلى سجن كبير: مجتمع المراقبة؟ مُراقبة الأجساد، بل ومراقبة الأفكار أيضاً. كما هو شأن محاكمة كل من عبر عن تشكيكه في حقيقة الوباء، كما حدث مع المسماة بـ "مي نعيمة" في اليوتيوب وغيرها كثير. فأنْ تُشكك في الوباء، معناه أنك تشكك في مصداقية الدولة ومشروعيتها. تكفي الإشارة هنا إلى تخصيص خطاب ملكي موجه فقط للمشككين، من المغاربة. إننا أمام مفارقة صارخة بين الخطاب الرسمي وخطاب الحياة اليومية وممارستها، غير أن هذا التشكيك أو الإنكار له مستوى آخر لا يقل أهمية عن المستوى الأول، هو عدم ثقة الكثير من المغاربة في الدولة وأجهزتها، أليس ذلك تعبير صريح عن انفصال المجتمع عن الدولة؟

5- كورونا وتعزيز الفكر الواحد: على عكس هيمنة الموقف الفقهي اللاغي من الطواعين كما رأينا في القرن التاسع عشر، كإيديولوجيا مهيمنة، فإن المواقف الفقهية اليوم في ظل إمارة المؤمنين كمؤسسة دينية مدسترة بقوة القانون، تُشرعنُ الموقف الإيديولوجي للدولة بشكل عام وللمَلكية بشكل خاص، ظلت خاضعة لموقف الدولة. صحيح كانت هناك مواقف لاغية، أكانت دينية وعلى ندرتها، أو كانت إيديولوجية يسارية كما هو شأن موقف زعيمة الحزب الاشتراكي الموحد، والتي أعلنت منذ البداية عدم اعترافها بهذا الوباء، على الأقل كوباء طبيعي، وفقاً لتفسير إيديولوجي معروف. بما في ذلك رفضها التلقيح، مثلها في ذلك مثل مغاربة عدة، وإنْ لم يكن لهم التفسير نفسه. أولم يؤد ذلك بشكل أو بآخر إلى هيمنة الفكر الواحد، ألا وهو فكر الدولة وإلغاء ما دونه؟ سواء باسم كورونا أو باسم الحفاظ على الصحة العمومية، وبالتالي على الأمن الصحي للمجتمع، أو باسم الوطنية نفسها، في سياقات أخرى.

6- إغلاق المساجد ونزع الطابع الإسلامي عن الدولة: لقد أدى إغلاق المساجد إبان حالة الطوارئ الصحية، في مقابل الإبقاء على المقاهي والحانات مفتوحة ولو كان إبقاءً مشروطاً، أدى إلى شيوع موقف مضاد من طرف الكثير من المغاربة، بمن في ذلك مَن لا يصلون أو لا يرتادون المساجد. هذا الموقف أدى بشكل أو بآخر إلى نزع الطابع الإسلامي عن الدولة وتكفيرها. هذه ملاحظة خاصة جداً ومهمة جداً. فنزع الطابع الديني عن الدولة، هو بمثابة نزع للاعتراف بإمارة المؤمنين، ذلك الطابع الذي يشرعن عندنا وبشكل كبير، ليس للفعل السياسي للملكية فحسب، وإنما يشرعن وجودها كنظام سياسي قائم بذاته.

7- "زمن كورونا": هناك تضخم كبير في الآونة الأخيرة في استعمال عبارة "زمن كورونا"، وهي عبارة من العبارات التي جاءت بها كورونا، ليس في الصحافة والإعلام فحسب، بل حتى لدى فئة ليست قليلة من الساسة والمثقفين والعلماء، دون تحمل عناء أي تحديد دقيق لمعناها، ربما من المعاني التي يُمكن أنْ تُسعفنا على استفهام هذه العبارة، هو معنى الزمن الوبائي. كيف يتحول الوباء إلى زمن؟ لسنا نتحدث هنا عن الزمن بمعناه الضيق، أي الوقت، زمن عقارب الساعة، الزمن الخطي أو الدائري، أو الزمن الكرونولوجي، وإنما نتحدث عن الزمان بمعناه الواسع، أي بوصفه زماناً تاريخياً من ناحية، وبوصفه زماناً اجتماعياً وثقافياً من ناحية ثانية. لا ريب في كوننا نعيش سياقاً وبائياً- كورونياً- عالمياً، لكن هل يعني ذلك أن الزمان بالمعنى الواسع آنف الذكر، أصبح مرضياً؟ يحق لنا أنْ نتساءل أيضاً: هل تحولَ كورونا فيروس إلى زمن تاريخي؟ وهل يمكن اعتبار كورونا لحظة تأريخية مجتمعية؟ وهل نعيش لحظة تاريخية تحولية ومفصلية، يُمكنها أن تفصل بين لحظة تاريخية مجتمعية قبلية وأخرى بعدية، أم إننا أمام لحظة تاريخية عابرة؟

8- "أفول عالَم اجتماعي وانبعاث آخر": يتعلق الأمر بإضفاء الطابع الكوروني على العالَم الاجتماعي. لا نختلف في كون كورونا فعلت فعلها في المجتمع: تخللت بنياته وتجذرت في ذهنيات فاعليه العميقة، لكن: هل نحن بصدد أفول العالَم الاجتماعي الحالي باختلاف المجتمعات والتشكيلات المجتمعية الاقتصادية، وانبعاث عالم اجتماعي جديد؟ ثمة الكثير ممن يتحدث عن الما بعديات: أي المجتمع المغربي ما بعد كورونا. هل يُمكن الحديث سوسيولوجياً عن إمكانية تشكيل مجتمع مغربي مغاير ما بعد اللحظة الوبائية الكورونية يختلف جذرياً عن المجتمع المغربي فيما قبلها؟ السؤال هو: هل نعرف اليوم المجتمع المغربي معرفة سوسيولوجية دقيقة حتى نتمكن من الحديث عما بعده؟ إن الحديث عن تحولات بنيوية في التشكيلة المجتمعية المغربية تفضي إلى الانتقال من تشكيلة إلى أخرى تقتضي بالضرورة صياغة تصنيف نموذجي مثالي علمي للمجتمع المغربي وتحديد طبيعته، حتى يتسنى لنا الحديث عن نموذج آخر بعدي.

9- كورونا وانقلاب التراتبية الاجتماعية: لعبت كورونا دوراً مهماً في انقلاب التراتبية الاجتماعية. قد يكون انقلاباً ظرفياً أو لحظياً أو سياقياً، وقد يبدو لنا انقلاباً ميكروسكوبياً، لكنه انقلاب مهم جداً. أتحدث هنا عن المنع الذي طال العديد من المغاربة غير الملقحين؛ أي الذين لا يتوفرون على جواز تلقيح، مما حال دون ولوجهم لمؤسسات عمومية كبرى، وليست مجرد مؤسسات. سأعطي هنا مثاليْن يكشفان هذا الانقلاب أو ما سميته على هذا النحو، وهما مثالان يلعب فيهما رجل الأمن المعاصر، أو ما يسمى محلياً بـ "السيكيريتي"، دوراً بطولياً، بوصفه فاعلاً رئيساً في عملية الانقلاب تلك. أما المثال الأول، فيكمن في منع برلمانيين من ولوج البرلمان. وأما المثال الثاني، فيتمثل في منع قضاة من ولوج المحاكم. مِن طرف مَن؟ مِن طرف أصغر موظف في المؤسسة، هذا إذا انطبقت عليه صفة موظف، قد لا يتقاضى حتى الحد الأدنى من الأجور في كثير من الأحيان. لكن لا ينبغي التعامل معه هنا وفقاً لمنطق بنيوي متخشب؛ أي أن ننظر إليه كمجرد عوْن من أعوان المقاولة التي يشتغل فيها أو للدولة ومؤسساتها وحارس أمين لقراراتها، بل ينبغي التعامل معه كفاعل اجتماعي له دماغ؛ أي يملك ما يكفي من ملكة العقل وحامل لقيم خاصة تُعينه على توجيه أفعاله، بما في ذلك فعل المنع، منع مَن لا يتوفر على جواز التلقيح من الولوج. ألا يمنحه ذلك نوعاً من رد الاعتبار لماكنته الاجتماعية وكذا نوعاً من الاعتراف الاجتماعي بأهميته ضمن سلم التراتبية الاجتماعية؟ فضلاً عن الإنشاء الذاتي، الذي يُمكن أنْ ينجم عن هذا الاختيار؟ إننا أمام فعل انقلابي، ساهم بشكل أو بآخر في توتر البنية الاجتماعية التي تقوم عليها التراتبية الاجتماعية.

10- "كورونا: بين المحلي والكوني": لقد لاحظنا كيف تعاملت الدول مع وباء كورونا، على نحو قومي، بل ومتطرف أحيانا، خاصة فيما يتعلق بتدبير مواردها الغذائية والطاقية والصحية، في ظل عصر مُعولم جديد، عرف تضخماً خطابياً في الحديث عن الكونية، إلى درجة القول بدول كوسموبيليتية ومواطن كوسموبيليتي. هل نحن بصدد تحولات عميقة وجذرية في منظومة العولمة الجديدة؟ قد تؤدي إلى تحللها وتفككها، أو إعادة صياغتها على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار المسألة المحلية بالدرجة الأولى: عودة القومية. وما قد ينجم عن ذلك من تغيُّرات في علاقات الهُويَّة والغيريَّة، بمعناها الأنثروبولوجي المعاصر. لكن السؤال هو: ما موقنا نحن ضمن هذه التحولات؟

 

المراجع:

- العربية

المشرفي، العربي بن عبد القادر بن علي، ‫الطعن والطواعين، الفرقان للعربي المشرفي، الحسين (محققاً). الرباط: دار التوحيدي، 2014.

البزاز، محمد الأمين، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ‫الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم والإنسانية، 1992.‫

- الأجنبية

Fabre, Gérard, Épidémies et contagions: L'imginaire du mal en occident. Paris, 1989

McNeill, William Hardy, Le Temps de la peste: essai sur les épidémies dans l'histoire (1917-2016). Hachette, 1978

Scott C. James, La domination et les arts de la résistance: Fragments du discours subalterne, Paris: Éditions Amsterdam, 2009