سياسة ما بعد الحداثة: الحياد والتقاطع


فئة :  مقالات

سياسة ما بعد الحداثة: الحياد والتقاطع

سياسة ما بعد الحداثة: الحياد والتقاطع

يحاول هذا المقال، أن يتناول مشكل التعددية داخل المجتمع الديمقراطي تناولا مختلفا عن المقاربات الكلاسيكية التي غالبا ما تجعل من التعددية مجرد تجربة عرضية زائلة، يكون الخطاب الفلسفي مرغما على تجاوزها بالاعتماد على وحدة المفاهيم وكليتها، حتى وإن حاول الخطاب الفلسفي المعاصر مراعاة التعددية واعتبارها ظاهرة أساسية داخل المجتمع الديمقراطي؛ فهو لا يكاد يركز إلا على فكرة الحياد Neutralité، إذ إن النقاشات المعاصرة تعود في آخر المطاف إلى نواة أساسية تتمثل في السعي إلى تجنب الانحياز إلى أي تصور جزئي للخير أو السعادة. يفهم جون رولز الحياد على أنه حياد إجرائي procedural، لأنه يقتصر على المسارات المعتمدة في الاتفاق حول مبادئ العدالة، ويعتمد على الحياد الإجرائي من أجل تجاوز حالة الصراع بين المجموعات الدينية أو بين المجموعات الدينية والدولة، ويدعونا إلى أن لا ننطلق من القيم الأخلاقية التي تفرقنا بل من القيم السياسية مثل الحياد وعدم الانحياز impartialité والانسجام في تطبيق القانون إلى جانب المساواة في التعامل مع الجماعات المتصارعة.

هناك فكرة أساسية داخل التفكير الليبرالي، وهي ضرورة امتناع الدولة عن تفضيل مذهب على آخر

يمكن أن نذكر أنّ هناك فكرة أساسية داخل التفكير الليبرالي، وهي ضرورة امتناع الدولة عن تفضيل مذهب على آخر، لكن هذه الفكرة الأساسية لم تكن حاضرة على الدوام داخل الفكر الليبرالي، لأنه يميل في جذوره العميقة إلى ضرب من الفردانية individualisme ولا يعدو الحياد أن يكون سوى حياد ظاهري، لأنّ هناك مغزى خفيا يهدف إلى استبعاد بعض الرموز الغريبة عن الثقافة الليبرالية. فرغم أهمية هذا الحياد الإجرائي، فلا شك أنه لا يضمن معاملة كل المواطنين بشكل متساوٍ، لأنه يمكن أن ينزلق في الانحياز إلى مبدأ الحرية في إطار الصراع بين المتسامحين وغير المتسامحين. فرغم أن مبدأ التسامح يجب أن يشمل كل المواطنين مهما كانت دياناتهم وتصوراتهم للخير، فإن جهاز الدولة يضطر إلى تحديد حرية أعداء التسامح من أجل الحرية ذاتها لا من أجل مبدأ آخر مثل الأمن أو المصلحة العامة، حيث إننا ننتهي إلى أن نتسامح مع التصورات غير المعقولة التي تهدد مبادئ العيش المشترك.

وعلى الرغم من أن فكرة الحياد قد نجحت إلى حد كبير في الاستجابة إلى تطلعات العديد من المدافعين عن الليبرالية السياسية، إلا أنها مازالت عاجزة عن الوصول إلى ما يطمح إليه بعض فلاسفة العصر الراهن، مثل جون رولز الذي يرى أنها غير قادرة على فهم المعاني الجديدة لليبرالية السياسية[1]. لذلك، فهو يشير في مقدمة كتاب "الليبرالية السياسية" إلى فكرة جديدة هي فكرة الوفاق المنسجم مع التعددية الفلسفية والدينية والإيديولوجية... وهذا لا يعني أنه قد تنكر للبعد الكوني المجرد الذي يميز "نظرية العدالة"[2] بل إنه قد عمل على تدعيم هذا البعد الكوني الديونطولوجي[3] عبر مراعاة الشروط السياقية لقبوله داخل المجتمع الديمقراطي، إذ إن مسالة التعددية يمكن أن تكون اختبارا حقيقيا لقدرة أية نظرية على ضمان شروط قبولها داخل سياق الديمقراطيات المعاصرة.

هناك اختلاف كبير بين التعددية التي تتعلق بالمصالح والرغبات والتعددية الإيديولوجية

ويعتمد تحليلنا في هذه المقالة على منهجية مزدوجة: تأويلية وجدالية. سنحاول أن نشرح كيف أن فكرة التقاطع Recoupement يمكن أن تنفتح على التصورات المختلفة حول العالم داخل الفضاء العمومي؛ ذلك أن الرهان الأساسي للديمقراطية الليبرالية هو المحافظة على المنحى الكوني لمبادئ العدالة وفي نفس الوقت الاستفادة من الطاقات الهائلة للمذاهب الفلسفية والدينية والميتافيزيقية المتعددة. فعوض أن نضطر إلى تحييد هذه المذاهب وإقصائها من الفضاء العمومي بذريعة الفهم السطحي للائكية، يمكن أن نستفيد من طاقاتها العقلانية عبر إرجاعها إلى تجربة التقاطع. أما هابرماز[4] فيرفض إمكانية الانسجام بين الطابع الكوني لأسس الوفاق السياسي والخاصية التعددية للديمقراطيات المعاصرة. يدافع مواطن مجتمع ما بعد الحداثة حسب هابرماز على شخصية تصل إلى أعلى درجات العقلانية، حيث تكون قادرة على القطع مع الأفكار والمصالح التي تجد أصولها داخل ثقافة جزئية؛ أي أن التنظيم الاجتماعي الديمقراطي يفترض اكتساب المواطن لخاصية كونية ينجح بواسطتها في التعلق بالقيمة الصورية دون غيرها. لكن يبدو أن الحل الذي اختاره رولز يتجه إلى الدعوة إلى التسامح المستنير، والذي يكون قد تخلص من كل ادعاء لامتلاك الحقيقة. لقد اختارت الليبرالية السياسية مراعاة التعددية الأيديولوجية؛ وذلك عبر الاعتماد على مفهوم جديد، وهو مفهوم الوفاق التقاطعي Consensus par recoupement.

هناك اختلاف كبير بين التعددية التي تتعلق بالمصالح والرغبات والتعددية الإيديولوجية. فلئن كان من الممكن أن نحكم التعددية في المصالح بواسطة فرضية الوضع الأصلي، فإنه من المستحيل أن نرجع التعددية الإيديولوجية والمذهبية إلى مسار كوني مجرد؛ أي أنه من غير الممكن أن نجد حلولا للاختلافات التي تتعلق بفهمنا للعالم بمجرد الانطلاق من البرهنة العقلية، وهذا لا يعني أن مراعاة التعددية الأيديولوجية يشترط التعارض مع ما هو عقلي Rationnel، لأنّ فضاء التعددية يحتاج إلى شكل خصوصي من أشكال العقلانية يسميه رولز بالمعقول Raisonnable وهو مفهوم سياسي يتمثل في تلك القدرة على الانفتاح على الآخر، وعلى عدم الانحياز إلى أي تصور للخير؛ وذلك على خلاف ما هو عقلي أي ما يرتبط بمفهوم الخير والمنفعة، وهو ما يفسر طابعه الاقتصادي الاستراتيجي المتمثل في استعمال الوسائل المناسبة من أجل الوصول إلى تحقيق هدف محدد، وهو مفهوم شديد الصلة بالأمر الشرطي على خلاف مفهوم المعقولية الذي لا ينسجم إلا مع الأمر القطعي بالمفهوم الكانطي.

توجد ظاهرة لا يمكن التنكر لها داخل الديمقراطيات المعاصرة، وهي ظاهرة التعددية المعقولة، والتي يمكن أن تعود إلى صعوبة الاعتماد على العقل في تنظيم الاختلافات داخل المجتمع. وهكذا، فإن الرهان الأساسي لفلسفة ما بعد الحداثة هو تأسيس موقف أخلاقي عمومي يكون في نفس الوقت مراعيا لتلك المقاومة الجذرية الكامنة في التعددية. كيف يمكن للموطنين التوفيق بين بحثهم عن الحقيقة كما تراها تصوراتهم المختلفة للعالم، وبين ذلك المشروع الكوني والعمومي للعدالة ؟ تشترط الإجابة عن هذا السؤال العودة إلى تاريخ الديمقراطيات الحديثة، إذ إن السبب الرئيس الذي جعل التعددية ظاهرة قارة لا يمكن تجاهلها في كل مجتمع ديمقراطي يكمن في أنها نتيجة ضرورية للاعتماد على العقل في تنظيم المؤسسات الحرة، وقد كان من الضروري أن نمهد لميلاد سلوك ديمقراطي جديد في الأجيال القادمة من خلال التركيز على مراحل التربية السياسية والأخلاقية للمواطن عبر الاهتمام بتاريخ المجتمعات الديمقراطية.

يميز رولز بين مرحلتين فيما يتعلق بالمسار الذي يؤدي إلى الوفاق التقاطعي، ويمكن أن نفترض سياقا ما تكون فيه مبادئ المفهوم السياسي للعدالة مقبولة بواسطة الرجوع إلى اتفاقية التعايش السلمي Modus vivendi وقد نجحت هذه الاتفاقية السلمية بشكل واضح في إنهاء الحروب الدينية الهدامة التي عاشها العالم الغربي؛ وذلك بفضل الالتفاف حول مجموعة من المبادئ الليبرالية المقبولة من طرف المواقف المتنازعة. لا شك أن هذه المرحلة الأولى على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تعتمد على مبدأ التسامح الذي ورثته الأجيال القادمة التي اقتربت تدريجيا من الوفاق والتعايش. إن النجاح المتواصل للتعاون بين الموطنين هو أكبر ضمان في تطوير ثقة الجميع في المؤسسات الديمقراطية وفي احترام مبادئها الدستورية[5]، وهي مرحلة يسميها رولز الوفاق الدستوري.

يمكن أن نعتبر أن قبول المبادئ في هذه المرحلة هو قبول اصطلاحي Conventionnel، إذ مازال ينقصه المزيد من العمق والامتداد والتجرد من منطق موازين القوى المتقلبة؛ وذلك لأنّ التوافق في هذه المرحلة ليس مرتبطا بشكل واضح بالمثل الديمقراطية، خاصة وأنه لا يتجاوز حدود الخيارات الاصطلاحية للحكومة الديمقراطية، مما يجعله عاجزا عن الوصول إلى منزلة الوفاق التقاطعي.

أما الاعتراف بالمبادئ داخل الفضاء العمومي، فيشترط خروج المواطنين من الدائرة الضيقة للمواقف الشخصية من أجل التعويل على مشروعية البراهين التي يمكن أن تكون مقبولة من الجميع. وهكذا يتعلم المواطنون التمييز بين الاستعمال العمومي للعقل المرتبط بالمداولات حول الخير العمومي والاستعمال غير العمومي للعقل الذي يكون شديد الصلة بالحياة الخيرة، ويمكن أن يولد هذا التمييز بين هذين الاستعمالين للعقل نتيجتين واضحتين:

يبدو أن العودة إلى لغة التبرير العمومي يمكن أن تولد تدريجيا عند الأجيال القادمة استقلالا متصاعدا للفضاء العمومي عن باقي المجالات المتعددة؛ فالاختلاف بين الاستعمالات المتعددة للعقل يمكن أن يؤدي إلى المراجعة النقدية للقناعات الشخصية عند المواطنين، وهو ما يجعلنا نقترب شيئا فشيئا من الشروط الضرورية للتقاطع بين التصورات المختلفة حول العالم والقيم العمومية، ويمكن أن نصل إلى الوفاق التقاطعي، عندما يستقر التحوير النقدي للمذاهب حول التصور العمومي الذي يجد قبولا واضحا من طرف كل المذاهب المعقولة مهما كانت نزعاتها الأيديولوجية[6]، وهو ما لن يكون ممكنا إلا إذا قبل كل مواطن أن يضيق من بحثه عن حقيقة تصوره الخاص للعالم من أجل الحفاظ على استقلالية مجال البرهنة العمومية، والنتيجة أن المواطن في هذه الحالة يكون قد حافظ على القيمة البرهانية لتصوره للعالم، لأنه لم يجبره أحد ما على التخلي عنها، بل إنه يمكن الانطلاق منها من أجل تبرير استقلالية الفضاء العمومي. فمن المستحسن أن ننطلق من المصادر النقدية للتصورات المختلفة للعالم من أجل جعل المواطنين يبرهنون على خصوصية المجال العمومي وضرورة احترام أجهزة البرهنة التي تميزه.

وبالتالي، فهناك اختلاف جذري مع المشروع الكوني الكلاسيكي الذي يطالبنا بالقطع التام مع تصوراتنا ومعتقداتنا الخاصة من أجل البرهنة العقلية المجردة. فلا شك أن الوفاق التقاطعي يجعلنا نحتفظ بالقدرات الخلاقة في البرهنة التي تمتلكها المذاهب الفلسفية والدينية؛ وذلك بدل التضحية التامة بها بدعوى الانسجام مع متطلبات البرهنة العقلية الصارمة، حيث إن تقاطع المفهوم العمومي مع الاعتقادات الشخصية لن يؤدي إلى حرمان المجال العمومي من خصوصيته، بل إن ذلك سيعمل على إثرائه عبر فتح المواجهة بينه وبين المعتقدات الشخصية. ترتكز تجربة التعلم الاجتماعي على مسارين مختلفين؛ أولا: الاختلاف بين الاستعمال العمومي والاستعمال غير العمومي للعقل، وهو تعلم ناتج عن الاعتماد على القواعد والمسارات الخصوصية للفضاء العمومي، ثانيا: مسار تحوير التصورات المختلفة للعالم من خلال العودة إلى متطلبات المشاركة الديمقراطية، وهو مسار يعتمد على القدرات الخلاقة للتصورات المختلفة للعالم الناتجة عن ظاهرة التعددية.

ولئن كان رولز يشترك مع هابرماز في فكرة أساسية هي أن المبادئ الأخلاقية يمكن أن تكون قابلة للبرهنة، فإنهما يختلفان في المنزلة التي يمكن إعطاؤها للتعددية الاجتماعية والأيديولوجية، بل إن مقاربة رولز المنفتحة على التعددية قد جعلت هابرماز يذهب إلى أن الطريقة التي صاغ بها صاحب نظرية العدالة نظريته الإجرائية قد أدت إلى نتيجة غير إرادية متمثلة في اختزال المنحى الإبستيمي للنظرية الرولزية[7]. فمن الواضح أننا أمام قراءتين مختلفتين لما بعد الحداثة: النظرية التحررية عند رولز والفعل التواصلي عند هابرماس. فكيف يمكن أن نفهم الحوار بين رولز وهابرماس؟

- لا بد أن نتفطن إلى الاختلاف بين رولز وهابرماس، فيما يتعلق بمفهوم التجريد ومنزلته إذ اعتبر هابرماس أن التجريد هو محور نظرية الفعل التواصلي، وأنه يتعارض ضرورة مع تعددية التصورات الميتافيزيقية والدينية التي تستجيب إلى فكرة الأصالة والخصوصية. أما جون رولز، فقد أظهر احترازا واضحا من مسار التجريد، رغم تركيزه على الكونية وعدم الانحياز من خلال الاعتماد على فرضية الوضع الأصلي (وهي فرضية فلسفية متشابهة مع فرضية الحالة الطبيعية، لأنها تدعونا إلى التخلص من المصالح والأعراض التي تفرق الشركاء في النقاش) كما يركز على الاختلاف بين دائرة الفضاء العمومي ودائرة الفضاء غير العمومي فيما يتعلق بفهمنا للثقافة وللمجتمع وللشخصية. ويتجنب رولز في كتاب "الليبرالية السياسية" الانخراط في معارك غير مجدية مع أصحاب المذاهب الميتافيزيقية والدينية؛ وذلك خلافا للنقد الذي وجهه للعديد من المذاهب في كتاب "نظرية العدالة"؛ فهو يعتبر أن كل المذاهب الفلسفية والدينية لها معقولية خاصة بها، لأنها تعترف بصعوبة الحكم، وهي قادرة على التحكم في ادعائها امتلاك الحقيقة. فلئن كان هابرماس يعتقد أن الانطلاق من التعددية المذهبية بكل أجهزتها البرهانية المتنوعة يتعارض ضرورة مع مقاربة التحديث الثقافي، فإن رولز لا يتفق معه في هذا الادعاء. لا يري رولز أي مانع في أن تحتفظ المذاهب الفلسفية والدينية... بشحنتها الوجودية وبقدرتها على التقييم الذاتي وعلى المداولة العقلية، إذ إن الاحتفاظ بالطابع البرهاني للمذاهب لا يتعارض مع الحداثة السياسية والثقافية.

- يتعلم المواطن في المجتمع الديمقراطي القدرة على التمييز بين التبرير العمومي والتبرير العقلاني للاعتقادات الشخصية المرتبطة بالمذاهب الفلسفية والدينية... إذ إن قبول المواطنين للتصورات العمومية لا يفترض ضرورة إقصاء القناعات الشخصية كما هو الشأن عند هابرماس، لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى إضعاف ما هو عمومي، وبالتالي فإن قبول التصورات العمومية يمكن تقويته بواسطة المواجهة مع الاعتقادات الشخصية عوض استبعادها التام من دائرة الفضاء العمومي، وهنا تتدخل فكرة التقاطع التي تعمل على عدم عزل البرهنة العمومية عن دائرة القناعات الشخصية، وكأن فكرة التقاطع تدعو كل الديمقراطيين إلى تجذير قناعاتهم داخل المبادئ العمومية؛ فهذا التقاطع لا يعني إقصاء البراهين الميتافيزيقية والدينية من دائرة النقاش العمومي، كما أنه لا يعني تبعية النقاش العمومي للنزعات الشخصية المتقلبة؛ وذلك على خلاف هابرماس[8] الذي يتهرب من القناعات الشخصية عوض مواجهتها لعلها تستجيب لخصوصية الفضاء العمومي، إذ إن هابرماس يبالغ في التأكيد على الطابع الصوري الخالص، مما جعله يشترط على كل مشروعية عمومية أن تتخلص من الرسوم التأويلية التي تريد قناعاتنا الشخصية أن تقوم بها؛ أي أن نتخلص من قدرة الإقناع الكامنة في محتوى قناعاتنا الشخصية. يمكن للمواطن أن يسخر كل قناعاته ودوافعه من أجل تبرير وقبول أولوية مبادئ العدالة السياسية، وهذا لا يعني السماح لهذا المواطن بالعودة المباشرة إلى التصورات الميتافيزيقية والدينية بل إنه يشارك في النقاش العمومي دون أن يستبعد بشكل نهائي كل سلطة برهانيه للمذاهب المختلفة حول العالم أي أنه في استطاعة كل مواطن أن يستعين بقوة الدوافع والقناعات التي تسكن مفاهيمه الدلالية الدينية أو الميتافيزيقية من أجل جعل مبادئ العدالة السياسية مقبولة داخل المجتمع الديمقراطي.

إن النجاح المتواصل للتعاون بين الموطنين هو أكبر ضمان في تطوير ثقة الجميع في المؤسسات الديمقراطية

- وهكذا يمكن أن نضمن استقرار التوافق بفضل ذلك الدفاع المزدوج الذي يتصالح فيه "العمومي" مع "غير العمومي" ونعني بذلك تعاضد جهود المذاهب الدينية أو الفلسفية والقيم السياسية في إنجاح مسار التبرير العمومي لنظرية العدالة، مما يؤدي إلى استقرار التعاقد حول المبادئ الأساسية، وهو ما لا يمكن أن نفهمه إلا إذا ركزنا على الطريقة التي يعتمدها رولز من أجل تبرير نظريته في العدالة السياسية. يعتمد الفيلسوف المعاصر على ثلاثة مستويات في تبريره لنظرية العدالة؛ فهو يبررها (أ) بالعودة إلى قيم الثقافة العمومية الديمقراطية أو (ب) بالتركيز على التقاطع بين القيم والقناعات الشخصية التي توجد عند كل مواطن أو (ج) بالعودة إلى المجتمع السياسي في مجموعه.

لم يكن هابرماس راضيا على هذا التبرير العمومي الذي يستند إلى الوفاق التقاطعي، وذلك رغم اشتراكه مع رولز في المقاربة البرهانية للمسائل الأخلاقية، إذ إن التبرير العمومي الرولزي قد انتهى إلى عكس ما كان ينشده، لأنه قد فشل في ضمان تصور كوني وغير منحاز للعدالة؛ وذلك راجع إلى مبالغته في التركيز على الطابع البرغماتي على حساب الطابع الابستيمي، وقد انتهي هابرماس إلى ذلك لأنه يختلف مع رولز في قراءته للحدس الإجرائي. يرجع هذا الفيلسوف الألماني كل القيم المعيارية إلى مسار واحد قادر على التحكم في الاستعمال العمومي للعقل إذ تدمج "نظرية الفعل التواصلي" البعد الديونطولوجي (الصدق) والبعد البراغماتي الذي تحدث فيه عملية التبرير في موقف واحد. أما رولز فيعتمد في تأسيسه لمبادئ العدالة على مسارين مختلفين: الوضع الأصلي والوفاق التقاطعي.

لم يكتف رولز بالتبرير العقلاني الذي يستند إلى فرضية الوضع الأصلي، لأن نظريته الإجرائية لا تركز تحليلها على المأسسة القانونية institutionnalisation juridique[9] للعقل العمومي. لذلك فهي لا تغض الطرف عن مراعاة شروط القبول العملي، وهذا ما جعل "الليبرالية السياسية" في علاقة "بنظرية الفعل التواصلي" تحدث تغييرين واضحين دخل النظرية المعيارية. تميز هذه النظرية بين التأسيس الديونطولوجي والتأسيس البراغماتي للمعايير؛ فهناك فرق بين ما هو صحيح valide وهو الذى يرتبط بمفهوم الوضع الأصلي، وما هو مشروع Légitime والذي يتكفل به مفهوم العقل العمومي. ويرتبط هذا التمييز بوجود بعد ثالث من الأبعاد المعيارية، وهو القبول العملي للمبادئ وهذا البعد الثالث الذي يرفضه هابرماس هو الذي عمل على إدماج التحقق الذاتي داخل الإتيقا الإجرائية.

يمكن لهذه المكونات الثلاثة أن تعطينا فهما للنظرية المعيارية نكون قادرين فيه على التمييز بين ثلاثة أبعاد، وهي الصدق validité والمشروعية Légitimité والقبول العملي acceptabilité pratique. ويعتبر جان لادريار [10]Jean Ladrière أن هذا البعد العملي الأخير هو البعد الأساسي للنظرية المعيارية، لأنه يحرص على الإدماج الواقعي للمعيار داخل سياق الفعل الأخلاقي والسياسي. إن هذا التعايش بين المعيار وسياق الفعل هو الذي جعل هابرماس يعيب على الليبرالية السياسية وبصفة خاصة فكرة التقاطع أنها اغتصبت تقسيم العمل بين النظرية الأخلاقية ونظرية الفعل، مما جعلها تدخل الفوضى والغموض في العلاقة بين التبرير والقبول العملي.

لا يقتصر النقد الهابرماسي على رفض فكرة إدخال البعد الإيتيقي داخل النظرية المعيارية، بل إنه لا يرتاح البتة إلى تركيز رولز على فكرة الاستقرار Stabilité على حساب الطابع الإبستيمي لنظرية العدالة؛ وذلك لأن الاستقرار السياسي يعود في جذوره العميقة إلى الاعتبارات الإمبريقية المرتبطة بنظرية الفعل. إن فكرة الوفاق التقاطعي تجعلنا نضع البعد الإبستيمي لمجموع النظرية محل شك وحيرة وكأن جون رولز يشك في قدرة الليبرالية السياسية على تأسيس موقف أخلاقي عمومي، يكون قادرا على إدماج الخصائص البرهانية للتصورات المختلفة حول العالم. وفي هذا الإطار، يرفض هابرماس هذا الاختلاط أو التداخل بين التصور العمومي للعدالة الذي يقترب مما هو معقول Raisonnable والمذاهب غير العمومية التي تبحث عن الحقيقة Vérité[11] وهذا يعني أن هابرماس يرفض أن تأخذ النظرية العمومية مشروعيتها الأخلاقية من براهين غير عمومية. فكيف يمكن الإجابة عن هذا النقد ؟ عندما نعود إلى النصوص الرولزية، نلاحظ أن هناك مراوحة بين البعد العمومي والبعد غير العمومي؛ أي أن رولز لا يرجح كفة البعد البراغماتي على حساب الجانب الإبستيمي.

كما أن الوفاق التقاطعي لا يقتصر على هذه المراوحة بين العمومي وغير العمومي[12]، بل إنه يرتبط بأفق ثالث هو أفق المجتمع المدني أين يترجم المواطنون قناعاتهم الشخصية داخل لغة المشروعية؛ أي محاولة تأويل الدلالات الدينية والميتافيزيقية بما يتلاءم مع الفضاء السياسي وهكذا، فهذا الفهم هو الذي يمكن أن ينجح في تخليص النص الرولزي من الصعوبات التي حيرت هابرماس، خاصة وأن هذا الفهم يمكن أن يرجع الأساس المعياري إلى البعد الفلسفي الأصلي الذي طالما حرص هابرماس على عدم التخلي عنه لفائدة الطموح البراغماتي لنظرية العدالة، إذ يعتبر العديد من الباحثين مثل Muriel Ruol أن الليبرالية السياسية تدافع على الدوام على موقف كوني غير منحاز إلى أي مذهب من المذاهب وتعتمد المداولة العمومية عند رولز على ثلاثة مستويات من التبرير.

- يضمن "الوضع الأصلي" تأسيسا أخلاقيا مستقلّا لمبادئ العدالة السياسية، كما يضمن تعايش هذه المبادئ مع الحدوس العميقة للثقافة الديمقراطية.

- تبرر هذه المبادئ بشكل تام وشامل من خلال امتحان انسجامها أو على الأقل عدم تعارضها مع التصورات المختلفة حول العالم.

- المواجهة بين المبادئ داخل الفضاء العمومي، مما يفتح المجال لإمكانية ترجمة القناعات الشخصية داخل لغة المشروعية.

والنتيجة هي عكس ما قاله هابرماز، إذ إن انفتاح الوفاق التقاطعي على كل المذاهب الدينية والفلسفية والميتافيزيقية والدينية لم يجعله يتخلي عن الطابع الكوني لنظرية العدالة، لأنه يقدم لنا موقفا سياسيا بالمعني الرولزي للكلمة؛ أي أنه لا ينحاز إلى أية مصلحة أو مذهب من المذاهب حتى أنه لا يصوغ لنا أفكاره إلا داخل لغة الثقافة العامة للمجتمع الديمقراطي، مما يجعله يتخلى عن لغة الأنساق الفلسفية والكتب الدينية التي لا يفهمها المواطن داخل الفضاء العمومي؛ فهناك ديناميكية خلاقة قد يصعب التفطن لها ما لم نستنطق النصوص الرولزية في كل جزئياتها، وهنا تكمن طرافة مفهوم الوفاق التقاطعي عند جون رولز من حيث إنه يفتح آفاقا جديدة للفلسفة العملية من خلال البحث عن موقف وسطي بين التعددية المطلقة التي يمكن أن تؤدي إلى الفوضى والكونية الكلاسيكية لعصر الأنوار، إذ يبحث رولز عن كونية سياسية متصالحة مع التعددية.

 

المراجع:

  • Amselle, J. L, Vers un multiculturalisme français, Paris, Aubier, 1999
  • Audard, Catherine «John Rawls et le concept du politique», publié in Justice et démocratie, p13.33, «Pluralisme et consensus: Une philosophie pour la démocratie?», in Critique, n 505, 506,1988 et «John Rawls et les alternatives libérales à la laïcité», Raisons politiques, 2, 2009 (n 34), p101,125
  • Bauberot, Jean, La laïcité, quel héritage? Genève Labor et Fides, 1990 et Cécile Labore, Critical Republicanism, The Hijab Controversy and political philosophy, Oxford University Press, 2008
  • Bayard, J, F, L’illusion identitaire, Culture et Conflit, 1996
  • Dumont, L, Essais sur l’individualisme, Paris, Seuil, 1983
  • Fleury, Cynthia, Dialoguer avec l’orient, P U F, 2003
  • Gerard Noiriel, A quoi sert l’identité nationale, Marseille, Agon, 2007
  • Habermas, J, (Religion in the Public Sphere), European Journal of philosophy, vol, 14, no 1, avril, 2006
  • Malek Chebel, Islam et libre arbitre? La tentation de l’insolence, Ed.Dervy, 2003
  • Rawls, John, Théorie de la justice, trad, de langl.par Cathérine Audard, Paris, Seuil, 1987. Libéralisme politique, Paris, P U F, 1995. The Idea of Public Reason Revised (P R R). Universty of Chicago Law Review, vol 64, 1997
  • Reza Aslan, No god but god, Londres , Random. House, 2005
  • Taylor, Charles, (Modes of secularism), in Rageev Bhargava (dir), Secularism and its Critics, Oxford, Oxford University Press, 1998
  • Tocqueville, A, De la démocratie en Amérique, Paris, Grannier Flammaron, 1997
  • Zarka, Yves charles, Difficile tolérance, Paris, P U F, 2004

[1] John Rawls, Libéralisme politique, C. Audard, Paris, P.U.F, 1995, p234

[2] J. Rawls, Théorie de la justice, C. Audard, Seuil, 1987

[3] يميز روولز بين التصور الديونطولوجي Déontologique الكانطي الذي يسبق العدل على الخير والتصور التليولوجي Téléologique المنفعي الذي يجعل الخير سابقا عن العدل.

[4] J. Habermas, et J Rawls, Débats sur la justice politique, Paris, Cerf, Humanités, 1997.

[5] John Rawls, Libéralisme politique, oc, P204

[6] "Un consensus par recoupement existe dans une société quand la conception politique de la justice qui gouverne ces institutions de base st acceptée par chacune des doctrines, morales, philosophiques et religieuses qui durent dans cette société à travers les générations". John Rawls, Justice et Démocratie, Ed du seuil, Paris, 1993, p 427.

[7] J. Habermas, et J Rawls, Débats sur la justice politique, o.c, p 70

[8] A. Berton, "Tradition démocratique et universalité", in Revue philosophique de louvain; vol.93, 1995, p33.

[9] Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, p489

[10] "L'assomption effective de la norme dans les contextes d'action". J. Ladrière, "La déstabilisation de l'éthique", dans variations sur l'éthique, Bruxelles, P.U.S.L, 1994, p57.73

[11] J. Habermas, et J Rawls, Débats sur la justice politique, oc, p161

[12] "Il ya ici un point capital: bien que la justification publique de la conception politique pour une société politique dépende de doctrines compréhensives raisonnables, cette justification n'en d'épand que de façon indirecte. Autrement dit, les contenus explicites de ces doctrines ne jouent aucun rôle normatif dans la justification publique; les citoyens ne considèrent pas le contenu des doctrines d'autrui et restent ainsi dans les limites du politique ou plutôt, la seule chose dont ils tiennent compte et à laquelle ils accordent du poids, c'est le fait- l'existence- du consensus raisonnable lui-même, établit par recoupement". ( D.J.P, p 70.71).