سياقات الفضائيات الدينية


فئة :  مقالات

سياقات الفضائيات الدينية

هذه الورقة ليست بحثا في الإعلام الديني، باعتباره مكونا من مكونات الإعلام التقليدي العام، يعمل على تمرير مضامينه ومحتوياته و"رسالته" من خلال أو عبر الحوامل المكتوبة أو المسموعة أو المرئية أرضيا، أو المقتنية للشبكات الرقمية على اختلاف تطبيقاتها وتشكيلاتها.

وليست بحثا في مضمون الخطاب الديني المموسط إعلاميا، المرتكز على مرجعية في الدين محددة، والمبني على تصور في الأداء الإعلامي يأخذ من الشريعة الإسلامية مادته وفلسفته وتوجهه العام.

     المشهد الإعلامي الديني في الوطن العربي، قد عرف تطورات هائلة خلال السنوات الخمس الأخيرة، على المستوى الكمي كما على المستوى النوعي

هذه الورقة هي محاولة لوضع السياق العام، سياق نشأة الإعلام الديني المقتني للأقمار الصناعية ذات الوظيفة التلفزيونية الصرفة؛ أي الإعلام الذي تتكفل به الفضائيات الباثة على هذا القمر أو ذاك، وطنيا أو إقليميا أو دوليا، والذي تتوخى من خلاله تجاوز ضيق الفضاء القطري أو المحلي، أو التحايل على رقابة التشريعات الوطنية، أو الإفلات من احتكارات الدولة القطرية للأثير، وهيمنتها على مجالي الصوت والصورة والكلمة.

ثم هي محاولة للتوقف عند بعض خلفيات هذه الفضائيات ("الدينيات" بمنطوق البعض)، بغرض التدقيق في طبيعتها وملامسة الفلسفة العامة الثاوية خلف تصميم شبكتها البرامجية.

والحاصل أن المشهد الإعلامي الديني في الوطن العربي، قد عرف تطورات هائلة خلال السنوات الخمس الأخيرة، على المستوى الكمي كما على المستوى النوعي، حتى ليبدو من المتعذر حقا حصر عدد قنواته أو نوعها، أو تتبع وتيرة تنقلها بين هذا الساتل أو ذاك، ناهيك عن تحديد الجهات القائمة عليها، والغاية الحقيقية الثاوية وراء إنشائها.

فعلى المستوى العددي الصرف، انتقل عدد الفضائيات الدينية ما بين العام 2009 ونهاية العام 2012، من 43 قناة إلى ما يناهز ال 110 قناة، الغالبية العظمى منها قنوات دينية خاصة، وضمن هذه الأخيرة نجد 60 منها جامعة، وأكثر من 50 متخصصة، جلها أو معظمها يبث باللغة العربية الفصحى.

وعلى الرغم من العدد الوافر من هذه الفضائيات واختلاف توجهاتها، لا بل وتضارب أهدافها وغاياتها، ناهيك عن طبيعة الجمهور المستهدف من لدنها، فإنها تشترك مجتمعة في اعتبار الدين الإسلامي الخيط الناظم الذي يميزها عن باقي أنواع الفضائيات، العام منها كما الخاص على حد سواء، أعني عن باقي حلقات الإعلام المتعارف عليه، من إعلام سياسي وإعلام اقتصادي وإعلام رياضي وإعلام طبي وإعلام بيئي وما سواها.

لا تتميز الفضائيات ذات النزعة الدينية عن الحلقات إياها على مستوى الشكل والوظيفة والجمهور المستهدف فحسب، بل وتتميز عنها أيضا في كونها تقدم نفسها على أنها وسائل إعلام تستوظف الأقنية التقنية، شأنها في ذلك شأن باقي القنوات الفضائية، لكن من زاوية نشر الدعوة الإسلامية، وتقديم رسالة محددة، الغاية منها التعريف بالإسلام، نصا مقدسا وسيرة نبوية، بما يخدم القيم السامية التي جاء بها من أكثر من 14 قرنا من الزمن، سواء من بين ظهراني المسلمين أو من بين ظهراني غير المسلمين.

إنها بالتالي، قنوات يطغى على معظم موادها وبرامجها المحتوى الديني، ابتداء من الدعوة والنصح والإرشاد، وانتهاء بالدفاع عن المذهب والطائفة، مرورا ببرامج في التفسير والتبليغ وشرح العقيدة وما سوى ذلك.

لذلك تراها تنهل من منطلق واحد مفاده، أن الإعلام الديني هو مفهوم عام، لكنه يشترط على كل من يتعرض له أن يدرج قوله تحت لوائه، حتى باختلاف زاوية النظر والمقاربة. فتشترط على من يتحدث في السياسة أن يتحدث فيها من منظور إسلامي، ومن يتحدث في الاقتصاد أن يتحدث فيه بمرجعية إسلامية، ومن يتحدث في الثقافة أن يؤطر حديثه بما سنته الشريعة وارتضته، وهكذا دواليك.

     تشترك الفضائيات مجتمعة في اعتبار الدين الإسلامي الخيط الناظم الذي يميزها عن باقي أنواع الفضائيات، العام منها كما الخاص على حد سواء

ولذلك أيضا، نجد بين مكونات هذه "الباقة" من الفضائيات اختلافا جوهريا لا يطال المحتوى (وهو ديني أو ذو صبغة دينية دون شك)، بل ويطال أيضا الشكل ونبرة الخطاب، والحبكة الفنية في تصميم "الرسالة" الإعلامية وإخراجها، ثم اختيار فترات البث المناسبة لتمريرها.

وعلى هذا الأساس، فإذا كانت جل هذه الفضائيات تستقي مادتها من معين مشترك، وتختلف فقط في طرق وزوايا تصريفها، بالاحتكام إلى مقاصد الجهة القائمة عليها، الممولة لبرامجها، فإنها استفادت مجتمعة من سياقات مشتركة فسحت لها في المجال واسعا للبروز والاستمرار:

§ولعل أول سياق خدم ظهور هذه الفضائيات المتخصصة (كما العامة منها على حد سواء) هو سياق الطفرة التكنولوجية الكبرى التي طاولت مجال الإعلام والمعلومات والاتصال، ووفرت عناصر البنية التحتية (من سواتل للبث التلفزيوني وبرمجيات ضغط الصوت والصورة، ومسالك إرسال وبث من سعة عالية...الخ)، وفرت لكل من لديه بعض من المال أو التجربة، سبل إنشاء قناة فضائية أو أكثر، دونما تكاليف في الاستثمار باهظة، كانت الحكومات وحدها، في زمن ما قبل هذه الطفرة (زمن الندرة التكنولوجية)، هي القادرة على تحملها، أو تمويل مفاصلها، فيما يخص البنية المادية الحاملة، وفيما يخص المضامين الممررة والمبثوثة من خلالها أيضا.

إن الثورة الرقمية التي طاولت تكنولوجيا البث الفضائي، وأسهمت في انفجار أعداد القنوات الفضائية، وتخصص معظمها في البث التلفزيوني العابر للقارات، وسهولة الحصول على "نطاق" للبث من خلالها بتكاليف متواضعة، لم يغر الحكومات والمجموعات الإعلامية الكبرى، ولم يقتصر على إغراء خواص وأشخاص ذاتيين يبحثون عن الاستثمار في قطاع واعد، ذي مردودية مضمونة، بل وأغرى أيضا وبالآن ذاته، أحزابا وتيارات سياسية من أطياف مختلفة، وضمنها حتما التيارات ذات النزوع الديني، والتي وجدت في الوافد الجديد ضالة لم تكن متاحة، في ترويج "رسالة" لها لم تكن تجد سبلا في الرواج، اللهم إلا التواصل المباشر المحصور في المكان، أو اللجوء إلى تقنيات الأشرطة المقتصرة على النخب الميسورة، أو الدعوة بالكتاب والمقال، الخاضعة لرقابة السلطة ومراقبتها.

إن التركيز على البعد التكنولوجي في انفجار القنوات الفضائية الدينية، ليس مرده يسر ركوب ناصيته من لدن كل من لديه سلطان أو مال، بل ومرده أيضا استحالة تكريس إعلام ديني "على الفضاء" في غياب البنية التحتية الرافعة والمتاحة ب"السوق الدولي"، والغير عابئة، فضلا عن ذلك، بتشريعات الحكومات ولوائحها في الضبط، أو في ممارسة الرقابة القبلية على ما ينتج أو ما يبث.

     أول سياق خدم ظهور هذه الفضائيات المتخصصة (كما العامة منها على حد سواء) هو سياق الطفرة التكنولوجية الكبرى التي طاولت مجال الإعلام والمعلومات والاتصال

§أما ثاني سياق في ظهور الإعلام الديني المقتني للأقمار الصناعية، فيكمن في تزامن الطفرة التكنولوجية المتحدث فيها أعلاه، وظهور ما بات يصطلح عليه منذ مدة ب"الإسلام السياسي أو "الإسلام الحركي"، أو "إسلام الجهاد"، أو ما سوى ذلك من تسميات واصطلاحات.

ومع أننا لا ننكر أن بعض الفضائيات قد تكفلت حصريا وعلى علة ما تقدم، بالعمل على "تصحيح صورة الإسلام"، وتقديمه بصورة مغايرة لما يقدمه الإعلام الغربي (والسينما أيضا)، لا سيما في ظل تزايد استهداف الإسلام كتابا ودينا ورموزا، فإن العديد من هذه الفضائيات قد باتت منذ مدة، تسلك مسالك أخرى، وضمنها حتما مسلك التحريض على الحكام أو على المذاهب، أو النبش فيما تعتبره تمييزا أو تمايزا عن هذه العقيدة، أو الطائفة، أو القبيلة، أو العرق، أو عنها مجتمعة.

وهو الواقع الذي لاحظناه بأعقاب انتهاء الحرب الأهلية في لبنان مثلا، حيث تحصلت العديد من الأحزاب السياسية والطوائف اللبنانية على تراخيص رسمية لإنشاء قنوات تلفزيونية فضائية، اتضح بمرور الزمن، أنها تدافع، كل فيما يخصها، عن فكر أصحابها أو توجهاتهم السياسية أو خلفياتهم الدينية، لدرجة لا نكاد نعثر بشبكاتها البرامجية المختلفة، عما يوحي بوعي من لدنها، بضرورة الدفاع عن مبدإ العيش المشترك، أو التعايش مع باقي الأطياف الدينية أو العقدية أو السياسية، بقدر ما بتنا بإزاء أقنية فضائية تطلق الكلمة والصوت والصورة بوجه المتلقين، تماما كما تطلق البارودة الرصاص على صدر الغريم بدم بارد.

وهو نفس الواقع الذي لاحظناه ولا نزال نلاحظه في العراق، بأعقاب الاحتلال الأمريكي لهذا البلد بالعام 2003 وإلى اليوم، وما ترتب عنه من انفجار للنعرة المذهبية والطائفية، وتحولها المباشر إلى أداة للاحتراب السياسي والتناحر العرقي، والقتل على الهوية والمعتقد، فيما يشبه حالة من الاقتتال الممنهج الشامل، الكل بظله مع الكل، وضد الكل في الآن معا.

صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دورا كبيرا في انبعاث وتأجيج النعرة المذهبية بين شيعة العراق وسنته. وصحيح أنها أمعنت في استخدام مصطلحات وتعابير تحيل على هذا التمييز، من قبيل "المقاومة السنية" و"التيار الصدري الشيعي"، وما سواهما. هذا صحيح. لكنه لا ينفي توافر القابلية للفتنة المذهبية، لا سيما وأن "شيعة" العراق لم يفتأوا يرفعون شعار "المظلومية" والتهميش والإقصاء، الذي كانوا مكمنه وضحيته زمن الرئيس الراحل صدام حسين.

بالتالي، فبالإمكان اعتبار الاحتلال الأمريكي من ضمن الأسباب الأساس التي خلقت البيئة المواتية لزرع بذور الاحتقان بين السنة والشيعة، ناهيك عن لجوئها إلى توسيع رقعة هذه البيئة وتأجيج مداها، بالإشارة، في سياق ذلك، إلى "أطماع إيران الشيعية" وتطلعات "حزب الله الشيعي"، و"الهلال الشيعي"، وهكذا.

وقد استسهلت التيارات المذهبية هذا المدخل، فأنشأت لنفسها فضائيات بنزوع ديني، لكنها كانت تضمر في باطنها (لا بل وتجهر به في منطوق خطابها)، تضمر أجندات سياسية تتقاطع بصلبها المشاريع الخارجية مع ترتيبات التيارات إياها على المستوى القطري والإقليمي.

      العديد من هذه الفضائيات قد باتت منذ مدة، تسلك مسالك أخرى، وضمنها حتما مسلك التحريض على الحكام أو على المذاهب، أو النبش فيما تعتبره تمييزا أو تمايزا عن هذه العقيدة، أو الطائفة، أو القبيلة، أو العرق، أو عنها مجتمعة

§أما ثالث هذه السياقات، فهو سياق الانتفاضات العربية التي أنهت أنظمة في الحكم بتونس ومصر وليبيا واليمن، ودفعت بتنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي للواجهة، وأوصلت بعضها للحكم. وعلى هذا الأساس، فبقدر انتشار الأحزاب السياسية في أعقاب هذه الانتفاضات، بقدر انتشار الفضائيات الناطقة باسمها، أو الدائرة في فلكها، أو المتبنية لها بهذا الشكل أو ذاك.

لقد انتشرت هذه "الدينيات" في أعقاب الانتفاضات العربية، انتشرت كالفطر، منها من كان موجودا ومهادنا للنظم المستبدة، لكنه عمد إلى تطويع خطابه ليلائم معطيات المرحلة الجديدة، ومنها من أنشئ خصيصا ليدافع عن النظام الجديد، كما هو الحال في العديد من الفضائيات المصرية ذات المظهر الديني، ومنها من استفاد من بلوغ أبناء تياره للسلطة، فأقام فضائيات له دون حواجز أو موانع، وأمعن في مناهضة غرمائه في السياسة، أو في المعتقد، أو في الفكر، أو في "المشروع المجتمعي"، أو فيما سوى ذلك.

بالتالي، فقد بتنا اليوم بإزاء عشرات الفضائيات الدينية، ذات التوجهات المذهبية الصارخة، أو المروجة لخطاب في الدين متشدد، يعمل على تأثيثه "فقهاء في الفتوى" مفوهين، وتقوم بتقديمه وجوه يبدو من هيئاتها، أن لا علاقة لها بالحرفة الإعلامية، ويطغى على "خطها التحريري" مهاجمة هذه الجهة أو تلك، مع تلوين كل ذلك ببرامج تشارف على تكفير من يخالفها الرأي، ناهيك عن دعواتها للجهاد بهذا البلد المسلم أو ذاك، "للقضاء على الظلم" أو إزاحة هذا الحاكم أو ذاك، كمدخل لإعادة إحياء الدولة الإسلامية الراشدة، أو بهذا يبشرون.

هل استطاعت هذه الفضائيات الإفادة من هذه السياقات الإفادة الإيجابية، أعني الرقي بالإعلام الديني؟ هذا ما سنفرد له المقال المقبل.

* د. يحيى اليحياوي كاتب وباحث مغربي