صابر السويسي: في المعرفة الصوفية


فئة :  حوارات

صابر السويسي: في المعرفة الصوفية

 حوار مع الدكتور صابر السويسي

في المعرفة الصوفية


شكل التصوف حقلاً معرفيًّا خصبًا لكثير من الباحثين والمفكرين سواء منهم المحسوب ضمن دائرة الفكر الإسلامي أو المستشرقين، ولعل سبب هذا الاهتمام المتزايد بالتصوف والعرفان يرجع بالخصوص إلى طبيعة المعرفة الصوفية والأفق الإنساني الذي تختزله هده المعرفة أضف غلى ذلك ما قدمه المتصوفة من إبداع شمل مستويات متعددة بدأ باللغة والنظرية الأخلاقية وانتهى، بمصادر المعرفة.

يأتي هذا الحوار مع متخصص له إسهامات علمية رصينة في دراسة التصوف ورجاله ونظرياته، هو الباحث التونسي صابر السويسي.

عبد الله إدالكوس: في البداية نود من الأستاذ الفاضل أن يقدم نفسه للقارئ العربي.

صابر سويسي أستاذ باحث في الحضارة الإسلاميّة، أدرّس بجامعة صفاقس (الجمهوريّة التونسيّة) تحديدًا كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، أهتمّ بالخطاب الصوفي، متحصّل على شهادة الدراسات المعمّقة ببحث عنوانه "الفناء في التجربة الصوفيّة إلى نهاية القرن الخامس للهجرة" (1998)، وعلى شهادة الدكتوراه برسالة موضوعها "مقالات الصوفيّة بإفريقيّة في العهد الموحّدي" (2007) تحت إشراف الدكتور توفيق بن عامر. عضو بالجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة، ووحدة البحث في "المتخيّل". شاركت في ندوات علميّة دوليّة، ولي مجموعة من المقالات المنشورة بعدة مجلات علميّة محكّمة وضمن مؤلفات جماعيّة أو أشغال ندوات أو على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث مثل:

  • "الرؤيا في الفكر الصوفي: المعلن والمسكوت عنه". (دراسة محكّمة منشورة قدّمت للمشاركة ضمن ندوة "المسكوت عنه" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس أيام 16-17-18 أفريل2009).
  • "موقع الذات في الخطاب الصوفي". (دراسة منشورة في مجلّة الحياة الثقافيّة، عدد210 - فيفري 2010، وهو عدد خاص بالتصوّف جاء تحت عنوان "التصوّف ثنائيّة النظر والعمل"، وسبق أن قدّمت هذه الدّراسة في شكل مداخلة ضمن أعمال ندوة وحدتي بحث "الدراسات الإنشائية" و"التراث والتحقيق والدراسة والترجمة" تحت عنوان "الذات في الخطاب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، أيّام 4 و5 ديسمبر 2009.).
  • "صورة الآخر في التراث الصوفي". (دراسة محكّمة قدّمت في شكل مداخلة ضمن أعمال المؤتمر الدولي السادس لكلية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربية تحت عنوان "الذات والآخر في الثقافة العربيّة والإسلاميّة"، أيام 27-28-29 ديسمبر 2009. ونشرت على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث).
  • "الجسد بين الحقيقة والخطيئة: قراءة في موقع الجسد من التّجربة الصّوفيّة". (دراسة محكّمة منشورة قدّمت في شكل مداخلة ضمن ندوة "الدّين والجسد" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان أيام 15-16-17 أفريل 2010).
  • ""إنّ النفس لأمّارة بالسّوء": تحوّلات الشّرّ في الخطاب الصوفي". (دراسة محكّمة منشورة قدّمت للمشاركة في ندوة "الشّرّ: القيمة والخطاب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان أيام 20/21/22 فيفري 2013).
  • "تجربة الإيمان بين الإطلاق والنسبيّة في المدونة الصوفيّة". (مقال محكّم قيد الطبع ضمن مؤلف جماعي بعنوان: "مقاربات في الإيمان: الإيمان في الفلسفة والتصوف الإسلاميّين"، تحت إشراف مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث).
  • "صناعة البركة في خطاب المناقب". (دراسة منشورة على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.)..

عبد الله إدالكوس: أشرتم في إحدى دراساتكم إلى أنّ التجربة الصوفية حظيت باهتمام واسع وشامل في الوسط الأكاديمي الاستشراقي، بحيث تعددت مداخل الدراسة لتشمل مقاربات مختلفة منها ما هو لساني ومنها ما هو انتروبولوجي واجتماعي وتاريخي ونفسي.

فلماذا هذا الاهتمام في نظركم؟ وهل تجدون أنّ هذه التجربة الصوفية نالت ما تستحق من البحث والدراسة في الوسط العربي؟

هذا الاهتمام له مبررات عديدة، منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، فمن المستشرقين من اطلع على التراث الصوفي، وعثر على ضالته فيه، إذ أثارته مقالات الصوفيّة وتجاربهم الروحيّة والحياتيّة عامة، فتأثّر بها، وعمل على مزيد الحفر فيها بغية تحصيل معرفة معمقة بأدبيات التصوف وعقائده وأبعاده، لذا لا نستغرب إعلان بعض المستشرقين إسلامهم وانضمامهم إلى طريقة صوفيّة أو عنايتهم بصوفيّ بعينه وإقرارهم بإعجابهم وافتتانهم به ومحاولتهم الانتصار له والتعريف بحقيقة توجّهه وخصائص فكره. وقد اعترف بعض المستشرقين بأنّ للتصوّف قيمة كونيّة ومنهم من عدّه ظاهرة كونيّة لا يمكن تجاهلها أو إنكار فضلها في التعريف بالإسلام ونشره، وهو ما يؤكّد أهمّية البحث فيها.

 ومن مظاهر هذا الاهتمام أيضًا ما يتنزّل في سياق معرفي وأكاديمي ويتمثّل في رغبة المستشرقين في اكتشاف الآخر المسلم ومكوّنات فكره وأبعاد ثقافته وحضارته. وقد عثروا في التصوّف على مادة ثريّة وعميقة رأوها مميّزة، ولاحظوا أثره في الفكر الإسلامي والموقع الذي احتلّه بين مختلف العلوم والصلات التي أقامها معها. بل لاحظوا كذلك تقاطعات عدّة بين التصوف والتشيّع والفلسفة اليونانيّة والتجارب الغنوصيّة أو العرفانيّة في مختلف الثقافات الأخرى. لذا نقرأ في كتابات المستشرقين كلامًا على صلة محتملة للتجربة الصوفيّة بالبوذيّة أو الأفلاطونيّة المحدثة (جولدسيهر مثلاً) أو الرهبنة المسيحيّة (فون كرومر مثلاً)، ومحاولة البرهنة على وجود تأثّر بمفاهيم مشتقة من هنا وهناك. حتّى أنّ بعض الدارسين العرب ذهبوا إلى أنّ عددًا من القراءات الاستشراقيّة لم يكن لها من همّ سوى تجريد التراث الصوفي الإسلامي من أصالته ونزع التميّز عنه بهدف تحقيق غايات ايديولوجيّة تقضي بالتفاضل بين الثقافات والعقائد.. أو لغايات استعماريّة.. وإن كنّا نجد في دراسات أخرى من يلحّ على الأصل العربي والقرآني لاصطلاحات الصوفيّة ومقالاتهم (لويس ماسينيون وبولس نويا..).. وحتّى إن كان لمثل هذه الاتهامات ما يسندها فالمهمّ في نظري هو أنّ الدراسات الاستشراقيّة قدّمت إضافة هامة لا يمكن إنكارها في دراسة التصوف، فقد نفضت الغبار عن الجزء الأكبر من التراث الصوفي تحقيقًا ودراسة ونشرًا. ولم يكن لنا أن نفهم التصوّف وندرك قيمته حقيقة لولا هذه المجهودات الاستشراقيّة سواء أصابت أو أخطأت، بدليل أنّنا مازلنا إلى اليوم ننهل منها ونحيل عليها ونستفيد من كيفيّة توظيفها للمناهج العلميّة الحديثة في مقاربتها للخطاب الصوفي. فقد وفّرت هذه الدراسات مجالات عدّة للباحثين يمكن لهم عبرها تناول التراث الصوفي ومحاولة فهمه. فالبحوث الفيلولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة والانثروبولوجيّة والظاهراتيّة.. أبانت قيمة هذا التراث وثراءه وانفتاحه، وأكّدت قابليّة الاستفادة منه في اختصاصات عدّة، مثلما دلّت على موقعه في الثقافة العربيّة والإسلاميّة. ولكن للأسف ما زالت بعض الدراسات العربيّة تكتفي بالتأريخ للتصوّف أو تستهجن حتّى دراسته وترفضه. ومنها ما يكتفي باستعراض مقالات أصحابه ونقل أطوار حياتهم. والحال أنّ مخزون هذه التجربة الروحيّة مازال يحتاج منّا الكثير من الجهد والبحث، فالمخطوطات مازالت تحتاج تحقيقًا ودراسة. ونكاد لا نظفر اليوم ببحوث عميقة في كتابات التصوّف المتأخّرة. نحتاج اليوم إلى تقارب أيضًا بين الباحثين في هذا المجال لأنّ ثمّة من المواضيع ما استهلك وكثرت الكتابات في شأنه في حين ظلّت مواضيع أخرى طيّ الكتمان ولم تنل حظها من الدرس، فضلاً عن عديد البحوث الأكاديميّة التي مازالت أسيرة رفوف بعض الجامعات لم تبرح مكانها منذ تمّت مناقشتها ولم تحظ بالنشر أو التوزيع. صحيح أنّ عديد الجمعيّات والمراكز البحثيّة المهتمّة بالتصوّف على غرار مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفيّة المتخصصة بالمغرب أو الجمعيّة التونسية للدراسات الصوفيّة أو مركز القاسمي للدراسات والأبحاث الصوفيّة بالجزائر.. فضلاً عن بعض مخابر البحث والمواقع الالكترونيّة لا تدخر جهدًا في العناية بالتراث الصوفي والتعريف به ودراسته، ولكن التنسيق والتعاون والنشر مازال محتاجًا إلى جهود أكبر. هذا بالإضافة إلى أنّ الظاهرة في ذاتها وسعة انتشارها وتأثيرها اليوم، لا في العالم العربي فحسب بل في جميع أنحاء العالم، مسألة تغري فعلاً بالدرس بل تفرضه.

عبد الله إدالكوس: المتصوف كما يقول أحد الباحثين يعيش المعرفة، ولا يفكر فيها، حياته طريقة سلوك وليست طريقة تفكير، وإذا ما هام الفيلسوف في ميدان العقل، ليصل إلى فكرة عن الحقيقة بإرادة جامدة، تكاد لا تلامس نفسه، فإنّ الصوفي يتجاوز ميدان العقل إلى ميدان الوجدان والإرادة، إلى حياة روحية خصبة، يشعر فيها بالسعادة القصوى، لا من جراء معرفته للحقيقة فحسب، بل من أجل اتصاله بها وتذوقها.

فهل يعني هذا أنّ الخطاب الصوفي يتنزل عن قيمة العقل في تأسيس المعرفة؟ أم الأمر يدل على مفهوم مغاير للعقل؟

في هذا المجال نجد تنوّعًا في القراءات. والصوفيّة يصرّحون بأنّ العقل قاصر عن إدراك الحقائق ولكنّهم لا يلغونه بل يعتبرونه ركنًا هامًا من أركان تحصيل المعارف وإن كانوا يضعونه في مرتبة أدنى من مرتبة المعرفة القلبيّة أو الكشفيّة. ولكن حين نباشر الخطاب الصوفي بالدرس هل نسلّم مسبقًا بصحّة ما يرد في هذا الخطاب؟ إذا سلّمنا وانخرطنا في السياق الصوفي فإنّنا نحكم منذ البدء على بحثنا أو دراستنا بالفشل والعقم لأنّ أداتنا البحثيّة هي العقل. صحيح أنّ للصوفيّة فهمهم الخاص للمعرفة وهم يميّزون بين الظاهر والباطن وبين الكسب والهبة الإلهيّة.. وحتّى كلامهم فيه الكثير من الرمز والإشارة وخرق المألوف مثل ما نجد في تفاسيرهم للآيات القرآنيّة، ومنهم من يعتمد الرؤى ويقول بالإلهام.. ولكن حين نباشر الخطاب الصوفي يفترض بنا أنّنا أمام نصّ مكتوب بلغة تخضع ضرورة لنواميس وقواعد وتتقيّد بضوابط وضعها لها العقل، وتتحرّك في سياق له أنساقه المعرفيّة المعلومة، وله أبعاده الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة.. المؤثّرة حتمًا في تحديد معالم أفق تقبّله. ومهما اجتهد أصحاب هذا الخطاب في خرق أفق التقبّل أو التمرّد على نواميس الكتابة فإنّهم يظلون محكومين بما تتيحه لهم اللغة نفسها من إمكانات العدول عن المألوف دون الإخلال بقواعد هذه اللغة، وهم باجتهادهم هذا يتيحون لنا فرصة التساؤل والبحث عن خلفيّة اختيارهم ومرجعيّته وأسبابه وأشكاله أو طبيعته، وسنجد مرّة أخرى أنّنا نقارب هذا الاختيار بما هو في المنطلق والنهاية مشترك بيننا وهو اللغة. لذا قد تكون لغتهم كما يقولون في مصنفاتهم رهينة خوض التجربة وعيشها، وهي من ثمّ لا تمنح أسرارها أو شفرتها لغيرهم، ولهم ذلك، بما أنّهم يسعون إلى حماية التصوف من المتطفلين عليه. ولكن هذا لا يعني عندنا أنّ الخطاب الصوفي منطقة محظورة تستعصي على الدرس. لماذا إذن اختار بعض الصوفيّة وضع معاجم لمصطلحاتهم وحاولوا تعريفها؟ لماذا عمل بعضهم على تقديم مراحل الطريق الصوفي في صيغة تعليميّة مبسطة وبلغة متاحة للعالم ولغير العالم؟ ما فائدة رواية أخبار الصوفيّة؟ وبأيّ لغة رويت؟ وهل يمكن لتنضيد المادة وترتيبها وتصنيفها في كتب التصوّف أن يفلت من إسار العقل؟ ولا يعني هذا أنّ النص الصوفي سهل المراس خال من التعقيد والغموض. إلاّ أنّه في الآن نفسه لا يحجب وجود حلول خاصة من جهة المناهج العلمية الحديثة خاصة في اللسانيات وتحليل الخطاب فهي تمكن من تجريب مقاربات متنوعة للخطاب الواحد وتتيح الفرصة لإيجاد الخيط الناظم المتحكّم في الكتابة الصوفيّة..

أمّا في ما يتعلّق بطبيعة المعرفة ذاتها عند الصوفيّة وكونها تخضع للسلوك لا للتأمّل، فهذا نسبي يرتبط بمواضع معينة في الطريق الصوفي، وهم يرون أنّ المعرفة الحق هبة واصطفاء إلهيّان قد تحدث عن طريق السلوك فتكون تتويجًا له دون أن يعني هذا أنّها تحصل بالكسب، وقد تقع دون سلوك وذلك من طريق الجذب. وهي في كلا الحالين كشفيّة ذوقيّة ولكنّها إذا دوّنت أضحت في جزء منها عقليّة وإن تحدثت عما يخترق مجال العقل. وقد يكون من أهمّ خصائص المعرفة الصوفيّة والتصوّف عامة هو قيمة البعد الفردي فيها فهي تجربة فرديّة بامتياز وهي تثمّن هذا الجانب وتقرّ به لاعتمادها على الوجد والوجدان والذوق، وهذا يختلف من شخص لآخر حتّى في حياتنا العاديّة، إذ الأذواق والتعبير عنها متنوّع ومتباين، ويقدّم بعض الصوفيّة مثال حكاية الفيل الذي طلب من بعض الأشخاص وصفه أو التعريف به اعتمادًا على لمسه دون رؤيته وتنوعت أماكن اللمس بين ناب وأذن وقدم وذيل.. فكان الوصف على غاية من التقابل والاختلاف. والإحساس بالمعرفة أو عيشها والتفاعل الوجداني معها عبر الإلهام والرؤيا وخلال طقوس الذكر والسماع مثلاً قد يمنحها عند الصوفيّة أبعادًا أخرى يرون أنّها تميّزهم عن أصحاب سائر العلوم والمعارف وخاصة العقليّة منها. ولكنّهم في جميع الأحوال لا ينفون العقل ولا يستطيعون إلغاءه. ولعلّنا ههنا أحوج ما نكون إلى تعريف العقل وبيان المقصود منه لنفهم إن كان للصوفيّة تصوّر لعقل مغاير أو تجاوز له.

عبد الله إدالكوس: تميز الصوفية - حسب حسين مروة - بربط قضية الإنسان بمسألة المعرفة الحدسية، خارقين جدار التنزيه الإطلاقي لفكرة التوحيد اللاهوتية بعقدهم الصلة المعرفية المباشرة بين الله والإنسان، ثم تجاوزوا الصلة المعرفية إلى الصلة الوجودية، فقالوا بالشهود الحضوري، أي اللقاء المباشر.

فإلى أي حد في نظركم يمكن الركون إلى هذا التصور في تأسيس نزعة إنسانية علمًا أن نظرية وحدة الوجود التي قال بها الصوفية تلغي فاعلية الإنسان أمام الإرادة المطلقة لله؟

القول بالمعرفة الحدسيّة ليس حكرًا على صوفيّة الإسلام، وفكرة التنزيه المطلق لله مبثوثة في الخطاب الصوفي وهم يحرصون على الاعتراف والالتزام بها. ولهذا أكّدوا براءتهم من دعوى الحلول والاتحاد وصنّفوا الأقوال الملتبسة في هذا الباب ضمن الشطحات وربطوها بحال السكر مثل قول البسطامي "سبحاني ما أعظم شأني" أو قول الحلاّج "أنا الحق" وميّزوا بين اللاهوت والناسوت وأكّدوا ألاّ امتزاج بينهما. وكمال المعرفة من كمال الإنسان عندهم موقوف سواء في وحدة الوجود أو وحدة الشهود على التدخّل الإلهي الذي يمثّل علامة على اصطفاء العبد واختصاصه بالقرب الإلهي، ويعدّ هذا تتويجًا للمراحل التي يقطعها السالك في سبيل تطهير نفسه وإفنائها وتحقيق التوحيد في أرقى صوره وفاءً بالميثاق الذي قطعته البشريّة على نفسها لحظة الذرّ، وهو مضمون تأويل الصوفيّة للآية 172 من سورة الأعراف ونصّها: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ". فإذا ما تمّ تطهير القلب من شواغل النفس البشريّة وحجبها وفني العبد عن السوى أشرقت الأنوار الإلهيّة فيه وحظي بفيض العلوم والمعارف الإلهيّة التي تعدّل نظرته إلى ذاته وإلى ما حوله وتجعله خير مظهر للأسماء الإلهيّة ومجلى لها. هنا يرى الصوفيّة فاعليّة الإنسان وهو يحيا مزوّدًا بمنظومة أخلاقيّة أو قيميّة تحكم صلته بالآخر وتوجهها نحو التواصل والتراحم والتسامح والتعايش فتراه لا يأبه للاختلاف العقدي والاجتماعي والثقافي.. ولا يرى الآخر آخرَ، بل يراه جزءًا لا يتجزّأ من ذاته وكينونته، وتذوب من ثمّ الفوارق وتتلاشى لتلتقي عند نقطة البدء التي منها انطلق العالم للوجود. فالكل علامة على وجود الله وحكمته في خلقه، والإنسان جامعها وعصارتها لذلك سمّي بالعالم الأصغر والمختصر الشريف والكون الجامع تنعكس في مرآته كمالات العالم الأكبر.

بمثل هذه النظرة وبمثل هذه المنظومة الأخلاقيّة ربّما يكون الحديث أوضح عن نزعة إنسانيّة، خاصة وأنّنا نجد الصوفيّة يحشدون في نصوصهم شواهد يستقونها من القرآن والحديث النبوي ومن التوراة والإنجيل والزبور وما نقل من آثار الأنبياء والرسل ولا يتحرجون من ذلك بل يرونه ميزة في خطابهم الجامع لكلّ الأديان باعتبارها تصدر عن أصل مشترك تختزله الحقيقة المحمدية.

مع العلم أنّ من أسس النزعة الإنسانيّة في الخطاب الصوفي حسن استثماره لفكرة المحبّة أو الحبّ فالعلاقة مع المعبود لم تعد مبنيّة على خشية العقاب أو الخوف من الوعيد ومن العذاب والنار، بل أضحت مبنيّة على حبّه والتقرّب إليه في ذاته ولذاته، ومثل هذا الحب يفيض على كل الكائنات باعتبارها علامات على وجود الله وتجليًا لأسمائه وصفاته. والحبّ أيضًا أصل في الخلق والمعرفة. وهم في هذا الباب كثيرًا ما يستحضرون الحديث القدسي "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر..". حتّى أنّ الحبّ أضحى عقيدة ورباطاً مقدّسًا يصل الإنسان بأخيه الإنسان لا فقط بمعبوده. وليس في هذا الباب أبلغ من أبيات ابن عربي:

لَقَدْ صَــــارَ قَلْبِي قَابِـلاً كُلَّ صُورَةٍ        فَمَرْعًى لِغزْلاَنٍ ودَيْرٌ لِرُهْبَـــانِ

وَ بَيْتٌ لِأَوْثَــانٍ وكَعْبَةُ طَـــــــائِفٍ        وَأَلْـوَاحُ تَوْرَاةٍ وَمُصْحَـفُ قُـرْآنِ

أَدِيــنُ بِدِيـــــنِ الحُبِّ أَنَّـى تَوَجَّهَتْ       رَكَائِبُهُ فَالحُـبُّ دِينِـي وإِيمَــانِي.

عبد الله إدالكوس: أنقل عنكم هذا النص "لم تقتصر صلة الصوفية بالآخر المسيحي أو اليهودي أو الهندي... على مجرد التناظر والتحاور والدعوة إلى المذهب أو العقيدة إنّما اعتبر هذا "الآخر" أحيانًا مرجعًا وسندًا في إرساء قواعد التجربة الصوفية، سواء كان ذلك عبر الاستفادة من نصوصه المقدسة أو من خلال الاستئناس بسلوكه وطقوس تعبده أو تصوراته للوجود والخلق والصلة بالله."

أليس هذا مدخلاً من المداخل التي عيبت على الصوفية؟ أم أنّ الامر ينطوي على فهم عميق للمشترك الإنساني؟

حاولت التوسع في هذا الكلام في مقال لي منشور بموقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود تحت عنوان "صورة الآخر في التراث الصوفي" وكذلك في مقال آخر بعنوان "النصوص المقدّسة في التراث الصوفي: في سبيل ترسيخ منظومة أخلاقيّة مشتركة" وكذلك مقال: "الكتاب المقدّس عند الصوفيّة: محاولة لاحتواء الآخر". وقد يكون الفهم الشائع المتداول أنّ النصوص الدينيّة السابقة للقرآن جميعها محرّفة ولا يؤخذ بها، من دواعي الاعتراض على الصوفيّة في إثباتهم في متون كتبهم شواهد من هذه النصوص. وتستحضر في الاعتراض آيات قرآنيّة كثيرة تتهم النصارى واليهود بتحريف كتبهم (الآيات 12-13-14-15 من سورة المائدة/ الآية 46 من سورة النساء.. مثلاً) إضافة إلى أحاديث نبويّة مثل الحديث الذي نقله الدارمي في سننه ومضمونه: "أخبرنا محمد بن العلاء حدّثنا ابن نمير عن مجالد عن عامر عن جابر أنّ عمر بن الخطاب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله هذه نسخة من التوراة فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغيّر فقال أبو بكر: ثكلتك الثّواكل ما ترى ما بوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله صلّى الله عليه وسلّم.. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيًّا وأدرك نبوّتي لاتّبعني". أو الخبر الذي رواه النسائي في سننه وفيه: "أخبرنا الحسين بن حريث قال أنبأنا الفضل بن موسى..عن ابن عباس قال كانت ملوك بعد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بدّلوا التوراة والإنجيل..".

ولكن هذا لا يعني انقطاع العلاقات بين المسلمين وأصحاب سائر الديانات وخاصة النصارى، ولنا في كتابي الأصفهاني والشابشتي عن الديارات خير دليل على ذلك. ولكن يمكن أن ننزّل سلوك الصوفيّة في هذا الباب ضمن اعتقادهم في فكرة الحقيقة المحمّديّة ومن ثمّ إيمانهم بأنّ جميع الديانات تصدر عن أصل مشترك واحد باختلاف أزمنتها وأماكنها. وهم يميّزون بين مرحلتين في وجود هذه الحقيقة أو النور أو الكلمة الجامعة: مرحلة أولى بالقوّة قبل خلق آدم روحًا وجسدًا استنادًا إلى حديث منسوب إلى الرسول ومتنه: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين" ومعناه أنّ العلم الإلهي الممثل لباطن النبوّة المحمّديّة كان مكتملاً كامنًا خفيًّا. أمّا المرحلة الثانية فوجود بالفعل على مراحل فقد اغترف كلّ نبيّ علومه ومعارفه من هذه الحقيقة المحمّديّة كلّ حسب حاجة عصره وقدرته على التقبل والفهم وصولاً إلى خلق النبيّ محمّد روحًا وجسدًا حيث برزت حقيقته كاملة وتجلّت في رسالة القرآن وأعلنت ختم النبوّة ورفع الوصاية عن العقل البشري وأهليّة الإنسان لتحمّل المسؤوليّة على الأرض.

في هذا السياق المؤمن بوحدة الأديان واشتراكها في أصل واحد يمكن أن يفهم تفاعل الصوفيّة مع الآخر في الجزء المتمثل في أخذهم شواهد من نصوص دينية غير القرآن والحديث النبوي. دون أن ينفي هذا وجود سياقات أخرى منها أنّ مثل هذه النصوص توظّف في باب الاحتجاج على الآخر ومحاولة احتوائه بإبراز هذا المشترك وفضل الإسلام في الاعتراف به ودعمه وتثبيته. وقد نفهم ههنا مثلاً تواتر أخبار تحكي نجاح عدد من الصوفيّة في مناظرة الرهبان أو تمكنهم من تحويلهم إلى دين الإسلام مثل حكاية البسطامي في بلاد الروم..

عبد الله إدالكوس: كيف ترى واقع التصوف اليوم في العالم العربي والإسلامي، خصوصًا مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية، ألا تزال للخطاب الصوفي راهنيته المعرفية؟ أم أنّه اختزل إلى أنماط من الطقوس الفارغة من العمق المعرفي؟

الإجابة على مثل هذا السؤال تحتاج دراسة معمقة، وما سأقوله ربّما لا يتجاوز مجرّد انطباع أوّلي يتعلّق بعدد من الظواهر التي يلاحظها كل فرد منّا حين يتأمّل المشهد الغالب على التصوّف اليوم. من هذه الظواهر أنّنا نجد الكثيرين اليوم في العالم العربي الإسلامي يحرصون على تأكيد انتسابهم إلى طريقة من الطرق الصوفيّة فهؤلاء يقولون نحن على طريقة الإمام الجنيد السالك وهؤلاء يقولون إنّ نسبهم شاذلي أو قادري أو من التيجانيّة أو العيساويّة أو النقشبنديّة أو المولويّة... وهذا دليل على عمق اختراق التصوّف للنسيج الاجتماعي والعقائدي في العالم العربي الإسلامي سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي، فكثيرون يحرصون على الانتساب ولكنّهم لا يجهدون النفس في معرفة حقيقة ما ينتسبون إليه ولا خصائصه الفكريّة والعقائديّة.. ويكتفون بمجرد التقليد وترديد ما ورد في كتب التصوف الأولى دون فهم دقيق لها أحيانًا. ومن المنتسبين إلى التصوّف اليوم من يحرص على حفظ أذكار أو أوراد أو أحزاب وردت في كتابات صوفيّة أكثر من حرصه على قراءة القرآن، بل قد يكتفي بتكرار قراءة آيات بعينها معزولة عن سياقاتها اعتقادًا منه أنّها ستعود عليه بنفع ما تقليدًا لسلوك درج في الوسط الصوفي الذي ينتمي إليه.

من هذه الظواهر أيضًا غلبة المشهد الفولكلوري على التصوف اليوم، فانتظام المنتسبين إلى الطرق الصوفيّة ضمن فرق إنشاد أو حلقات سماع أو رقص هو ما نلحظه في وسائل الإعلام وفي التظاهرات الثقافيّة أو المهرجانات وفي عدد من الحفلات الخاصة وفي المواسم الدينيّة. وهذا فيه جانب إيجابي يؤكد ثراء التصوف وقيمته في مجال الإبداع الفني حتّى أنّ عددًا من المعزوفات والألحان الصوفيّة أضحت شهرتها عالميّة وكذلك بعض الرقصات التي أصبحت من التراث الثقافي العالمي وباتت تدرّس في عدد من الجامعات. ولكن نجد فيه أحيانًا جوانب سلبيّة مثل العنف المجسد في عدد من طقوس رقص المنتسبين إلى العيساويّة، أو اختلاط الإنشاد الصوفي بإنشاد يحمل أبعادًا سياسيّة.. أو اختزال التصوّف في مثل هذه الطقوس واختيار لباس مخصوص لها.. هذا فضلاً عن أنّ طرائق الرقص أحيانًا تبدو غريبة ويختار لها أصحابها المساجد فضاء مما يزيد من استهجانها وإنكارها.. وقد يكون الانتساب إلى التصوّف أحيانًا وتكوين خلايا صغرى في شكل فرق للإنشاد والرقص بهدف الكسب المادي أو حتّى الشرف الاجتماعي بفعل عامل الوراثة أو التوارث الدارج في مثل هذا السياق نتيجة ما ترسّخ في الاعتقاد الشعبي من توقير واحترام وإجلال لرجال التصوف وأمل في بركتهم..

من هذه الظواهر أيضا تواصل ادعاء عدد من الصوفيّة امتلاك العلم الباطن واحتكارهم له ومن ثمّ تنصيب أنفسهم أوصياء على تديّن غيرهم، واستمرار نشر أخبار الكرامات والخوارق وتجاهل خلفياتها وأبعادها النفسية والاجتماعيّة والعقائدية.. حتّى أنّني استغربت يومًا تدخّل أحد الحاضرين في ندوة علميّة دوليّة وقوله مبرّرًا توظيف الصوفيّة لأحد الأحاديث الموضوعة في خطابهم، وهو دارج مألوف عندهم، بقوله: "هذا الحديث مما صحّحه ساداتنا (يقصد الصوفية) كشفاً" وهو بذلك يضرب صفحًا عن كلّ الجهود التي أنفقها علماء الحديث في جرد مدوّنة الحديث النبوي وتحديد ضوابط الصحة والضعف فيها.. ويفتح الباب أمام منفذ جديد في التعامل مع النص وهو الكشف، على الرغم من أنّ أوائل الصوفيّة ومنهم الجنيد نقل عنهم تقديمهم الكتاب والسنة على الكشف بل دعوا إلى عدم الأخذ به إذا ما تعارض مع النص من ذلك قول أبي الحسن الشاذلي: "إذا عارض كشفك الكتاب والسنّة فتمسّك بالكتاب والسنّة ودع الكشف".

من هذه الظواهر أيضًا العزوف عن الكتابة في التصوف، وحتّى ما يكتب يكون في أحيان كثيرة شعرًا ولا نجد من يتابعه بالدراسة والبحث. لهذا لا نستطيع الحكم ربّما بحجم الإضافة التي قدّمها المنتسبون إلى التصوّف اليوم وحجم انخراطهم الفاعل في التحولات الاجتماعيّة والسياسيّة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في تاريخه المعاصر.

من هذه الظواهر يمكن أن نذكر حجم الاهتمام بالزوايا من الناحية السياسيّة وتوظيفها اجتماعيًّا واقتصاديًّا في مقابل الحملات التي أقيمت ضدّها وبلغت حدّ الهدم والنهب والحرق. فهذه الزوايا مازالت تستقطب عددًا كبيرًا من الزوار وتحظى بمنزلة مخصوصة في وجدان الناس وهي مؤثرة بقوة في التدين الشعبي. ومن ثمّ إذا تساءلنا عن مدى حضور البعد المعرفي الصوفي إزاء هذه الظواهر أو الطقوس فإنّنا سنجده ضامرًا بل ربّما منعدمًا أحيانًا أمام سلطة الاتباع والمحاكاة. فالحضور الصوفي أضحى من باب العادة والتقليد أكثر من حرصه على البحث والتأمّل والسعي إلى تصفية الباطن ومعرفة الأسرار الإلهيّة، ربّما طغى اليوم الجانب السلوكي الرافع للشعار الأخلاقي والمدافع عن معاني الورع والتقية والعفة والصبر والتوكل أكثر من الجانب العرفاني.

لعلّ المفقود الأكبر في التصوّف اليوم هو هذا البعد الفردي الذي أكّده أوائل الصوفيّة وثمّنوه، إذ يبدو أنّ التصوّف الطرقي قد أحكم السيطرة على الأفراد وقيّد إمكاناتهم الإبداعيّة وعمل على توجيهها وتوظيفها في سياقات محدودة وضيقة فقّرت الخطاب الصوفي وأفرغته من عمقه الروحي والمعرفي خاصة في عالمنا العربي والإسلامي الذي عاد مجدّدًا إلى عقليّة التقليد والاتباع. دون أن ينفي هذا وجود نخب حاولت ومازالت تحاول المحافظة على خصوصيات الخطاب الصوفي الجمالية والأخلاقيّة والثقافية بما تقدّمه من أعمال فنية وما تجود به من كتابات ومحاورات وما تعقده من ندوات ومؤتمرات غايتها إبراز الجوانب المضيئة في التصوف والمنسجمة مع روح العصر ومنزلة الإنسان في الكون.