حسن حنفي: التصوّف وضرورة الانتقال من ثقافة الفناء إلى ثقافة البقاء


فئة :  حوارات

حسن حنفي: التصوّف وضرورة الانتقال من ثقافة الفناء إلى ثقافة البقاء

المفكّر حسن حنفي واحد من أبرز المفكّرين العرب المعاصرين، وهو من مواليد 13 فبراير عام 1935. له تكوين فلسفي ثريّ جمع بين التراث القديم والمذاهب الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة؛ فقد تحصل عام 1956 على ليسانس الآداب في الفلسفة من جامعة القاهرة. وأحرز عام 1966 الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون. ودرّس في كليّة الآداب بجامعة القاهرة، وترأّس بها قسم الفلسفة (1988-1994) ودعته عدّة جامعات عربيّة وأجنبيّة (المغرب، ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكيّة، اليابان..) بصفة أستاذ زائر، فضلا عن مساهمته في عديد المؤتمرات والملتقيات العلميّة الدوليّة، وهو من مؤسّسي ما عرف بـ"اليسار الإسلامي"، إذ أصدر عام 1981 مجلّة تحمل اسم "اليسار الإسلامي" وفيها بيّن المقصود منه وأهمّ مبادئه وأفكاره...

له كتابات كثيرة استأثر اهتمامه فيها بقضيّة التراث والتجديد نذكر منها: "نماذج من الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط" (1968)، "في فكرنا المعاصر" (1976)، "التراث والتجديد" (1980)، "اليسار الإسلامي" (1981)، "مقدمة في علم الاستغراب" (1988)، "من العقيدة إلى الثورة" (1988)، "الدين والثورة في مصر" (1989)، "من النقل إلى الإبداع" (2000-2002)، "من النص إلى الواقع" (2003-2004)، "من الفناء إلى البقاء" (2009)، "من النقل إلى العقل" (2010).

صابر سويسي: ضمن مشروع الدكتور حسن حنفي الفكريّ في أيّ سياق يمكن أن ننزّل اهتمامه بالتصوّف؟

د. حسن حنفي: التصوّف مازال منتشرا بقوّة ومؤثّرا بشدّة في الطبقات الشعبيّة خاصّة، انظر مثلا إلى انتشار الطرق الصوفيّة في مصر؛ فحوالي عشرة مليون مصري وربّما أكثر منخرطون في الطرق الصوفيّة أو أنّهم يحضرون حفلاتهم الدينيّة، وحلقاتهم، الأمر لا يختلف كثيرا في السودان، وفي موريتانيا، وفي المغرب، وحتّى في تونس، وفي غيرها من البلدان الإسلاميّة. في كلّ هذه البلدان يلقى التصوّف رواجا، وقبولا واعتناقا من قبل عامّة النّاس... وانظر أيضا ما يفعله الناس والمتصوّفة في ذكرى المولد النبويّ وما يأتونه من ممارسات، يختلط فيها التقديس بالخرافة والشعوذة أحيانا، ومختلف مظاهر الاعتقادات الشعبيّة المستهجنة والغريبة عن الإسلام

هذا أوّلا، أمّا ثانيا فإذا ما تساءلنا حول تصوّراتهم بأنّ العلم، أو الاتّصال تكون عن طريق المجاهدة والتوبة والورع... وما يتحدّثون عنه من مقامات وأحوال، هل أنّ العلم يكون بحصول هذا الإلهام الفجئيّ الربّانيّ وانتظار أن يقذف الله في قلبك نورا ما..؟ أم أنّ العلم يكون عن طريق التجربة، والممارسة، وعن طريق ملاحظة الطبيعة وكشف أسرارها ومعرفة قوانينها؟ هل سنقتنع بأنّ هذه الطريق هي الطريق الوحيدة للعلم، ونشرع فيها، ونفعل كما يفعل سائر العالم، أم أنّنا سنظلّ نعتمد على الغرب في هذا العلم الطبيعي والعلم الرياضي؟ العلم الصوفيّ بصورته التي نراها لا قيمة له في حياة النّاس، بل إنّه يمثّل خطرا على مناهجنا في التعليم، وخطرا علينا، بما أنّه يضعنا في وضعيّة ترقّب لا طائل منها، فيها إهدار للوقت، وانصراف عن الدنيا التي يجب أن تكون محلّ اهتمامنا. وكذلك أرى الأخلاق الصوفيّة، هي أيضا خطر علينا نحن المسلمين لأنّها تدعو إلى الصبر والورع والخوف وانتظار ما لا يمكن أن يتحقّق دون الفعل والتجربة والبحث العلميّ الذي يعتمد مناهج صارمة وتقنيات يقع تطويرها باستمرار.. عن أيّ صبر يتحدّثون؟ بلغة بسيطة أقول إنّ الصبر له حدود، وله عيوب كثيرة، والخوف كذلك لا يختلف أمره. هذه معطّلات للشعوب عن الحركة، ونحن نعيش في ثقافة تقوم على الخوف، خوفنا متعدّد الوجوه، هو الخوف من الحاكم والخوف من الآخر، والخوف من المجهول، والخوف من التجربة... هي عقدة الخوف العامّ، والتصوّف الذي نرى اليوم يساهم في تدعيم هذه الحالة السلبيّة.

وأخيرا يقولون إنّ الطريق الصوفي فيه تقدّم، ولكن في أيّ اتّجاه يكون هذا التقدّم؟ هو تقدّم إلى الأعلى لا إلى الأمام؟ أمّا التقدّم الحقيقي الذي تتغيّر به حياتنا، فلا وجود له عندهم، ولذا يطرح السؤال نفسه، هل سنبقى نستعير فكرة التقدّم من الغرب؟ لِمَ لا نحوّل التقدّم الروحي الرأسي إلى تقدّم أفقي؟ أقصد هذا التقدّم الذي نجد آثاره الماديّة والعينيّة في حياتنا الواقعيّة، لا التقدّم المزعوم في التصوّف بوصفه ارتقاء واقترابا من اللّه، لا تتغيّر معه حياتنا أيّ تغيّر ملحوظ.

هذه المظاهر التي نشاهدها في التصوّف الرّاهن، وفي الممارسة الشعبيّة هي من الأسباب التي وجّهتني إلى الاعتناء بهذا الموضوع الحارق، وهو اهتمام يمكن أن ندرجه في انشغاليّ بتحرير هذه المجتمعات التقليديّة من العوامل الثقافيّة والدينيّة والسياسيّة التي تمنعها من المضيّ إلى الأمام.

صابر سويسي: هل من مبرّر لعودة التصوّف بقوّة في عدد من الدول الإسلاميّة اليوم وخاصة تلك التي عاشت نوعا من الثورات؟

د. حسن حنفي: لا أعتقد أنّ التصوّف عاد في الدول الإسلاميّة، ولا أرى أنّ هناك علاقة لعودة ممكنة بالثورات التي عرفها العالم الإسلاميّ. التصوّف قديم عندنا، وأصوله تعود إلى تاريخنا الإسلاميّ البعيد، فقد نشأ التصوّف تاريخيّا في مرحلة ضعف حضاريّ عاشه المسلمون، بعد أن اغتصب الأمويّون الحكم، وحوّلوه إلى ملك. وقد كان الخليفة الأموي معاوية يرهّب الناس ويقول لهم، إمّا الجزرة وإمّا العصا، وكان يروّع معارضيه ويرمي أنصار عليّ من أعلى المآذن. وهنا اختلفت مواقف الناس. فثمّة منهم من تمسّك بالمعارض وضحّى بنفسه وقبل الشهادة، وثمّة آخرون رفضوا ذلك، ورأوا أنّ الاستشهاد ليس حلاّ، وقالوا: نحن أيضا لا نريد أن نشارك معاوية. ولكنّهم لم يختاروا طريق المعارضة، إنّما اختاروا طريق الانسحاب من الحياة الجماعيّة، حتّى لا يتورّطوا فيها، فعزلوا أنفسهم ودخلوا بيوتهم وهربوا إلى اللّه فظلّوا يعبدونه. كانت تلك طريقة رفضهم للنظام السياسيّ المغتصب، هو رفض سلبي للنظم السياسيّة الظالمة، لا يقوم على مقاومة للنظام وسعي إلى تغييره. وسؤالي الآن هو إذا كان الأمر جرى بتلك الصورة في الماضي، فهل علينا أن نكرّره الآن بالصورة نفسها؟ هل طريق المقاومة الأمل منه مفقود؟ إذا ما استعدنا علاقة اليهود والفلسطينيّين، الواضح أنّ المقاومة منذ 1948 لم تنجح، ولم تصل إلى استعادة الأرض المغتصبة، فهل يعني هذا أن نترك خيار المقاومة، ونقبل بالهزيمة، ويذهب كلّ إلى بيته ويترك الفلسطينيّ أرضه وحقّه للاحتلال الذي يدمّر كلّ شيء؟ الاستسلام والسلبيّة لا يمكن أن نجني منها شيئا، والمشكلة أنّ التصوّف يكرّس هذه الصفات، منذ تاريخنا القديم. وبدل اعتناق قيم جديدة تحرّرنا، نحن نتمسّك بهذا الهروب من المواجهة بثقافة العجز عن الفعل التي نركن إليها ونستطيبها.

صابر سويسي: يستفزّني ههنا عنوان كتابكم الذي اهتممتم فيه بالتصوّف، وهو "من الفناء إلى البقاء" فعن أيّ بقاء يمكن أن نتحدّث مع الصوفيّة إذا كانت مثل هذه الصورة السلبيّة علامة على تجربة التصوف؟

د. حسن حنفي: البقاء الذي أقصده هو البقاء في الأرض التي نعيش فيها. الصوفيّة يقولون بالبقاء في الله، وإلى جوار اللّه، هذا هو معنى الفناء عندهم، هم يبقون بفنائهم في اللّه، وبهذا فهم يفنون من الدنيا. أمّا أنا، فأحوّل هذا البقاء إلى بقاء في الأرض وفي العالم، هكذا يكون البقاء فعلا، وإلاّ فلا مصير غير الفناء. وهذا المفهوم الذي أريده للبقاء هو ما حاوله محمّد إقبال أيضا، وله بيت شعر في الفناء والبقاء بهذا المعنى الذي أقصده. وليس من المعقول أيضا أنّ إسرائيل تقوم بتجميع اليهود المنتشرين في العالم وتسكنهم في أرض الفلسطينيّين، بينما نقوم نحن بطرد الفلسطينيّين وتشريدهم. ثمة ثمانية ملايين فلسطيني أربعة ملايين منهم تحت الاحتلال والبقيّة مهجّرون خارج أراضيهم. فما الأولى بنا أن نفعل: أن يفنوا أم أن يبقوا في الأرض؟. الفناء الصوفي عدوّ لهذا البقاء الذي يجب أن يكون. لهذا يجب مقاومة هذه الأفكار الهدّامة، والمكرّسة لوضع العبوديّة.

صابر سويسي: هل يعني هذا انتفاء أيّة خصوصيّة أو ميزة للإيمان الصوفي عن سائر أشكال الإيمان؟

د. حسن حنفي: لا أدري إن كانت المقامات السلبيّة والأحوال السلبيّة التي يرجو المريد المرور بها، صالحة في فلاحة الأرض وبناء المصانع وفي التعليم في الجامعات وفي تحقيق شروط العيش. فما نشهده من قيم الرضا والتوكّل والورع والخشية... لا أدري إن كنّا قادرين على بناء مجتمع بهذه القيم. كلّ المجتمعات تحقّق وجودها بالعمل والفعل والعلم ورفض الاستسلام، لا بثقافة الرّضا والتوكّل التي تعبّر عن عجز تام عن الفعل.

صابر سويسي: حتّى إن كان هذا الإيمان مرتكزا على أبعاد أخلاقيّة قد توجّه الإنسان نحو تفعيل قيمه داخل الحياة الاجتماعيّة؟

د. حسن حنفي: في هذه الحالة لا يكون الأمر تصوّفا. وفي هذه الحالة، يكون الأمر نزعة إيمانيّة أخلاقيّة لتفسير الإسلام لفائدة المسلمين ولما يفيدهم، وهذا أمر مطلوب حقّا، حين يتحوّل الإسلام إلى دافع للفعل والتجربة والتقدّم. أمّا المعجزات أو الكرامات التي يؤمن بها الصوفيّة ويقولون بقدرتهم على القيام بها، فلا دور لها غير تكريس العجز، وتفقير الإسلام. من الطرائف أنّ أحد الصوفيّة وجدوه يمشي على بطنه أو يزحف على بطنه في بغداد، فسألوه عن صنيعه وعن وجهته، فأخبرهم بأنّه متّجه زحفا على بطنه إلى مكّة. فهل من المعقول أن يصدّق هذا الأمر عاقل، هل يمكن للمرء أن يزحف على بطنه من العراق إلى الحجاز؟ لِمَ يتمّ إلهاء الناس بهذا النوع من الأفعال غير المعقولة ونحن في زمن العقلانيّة ومطالبون بأن ندعو إلى العقلانيّة، وترك الخرافات والشعوذة؟ هل يجوز لنا أن نستمرّ في هذه الممارسات التي ما عاد التقدّم العلميّ البشريّ يسمح بوجودها؟ لو وجدت مثلا شخصا يمشي في الطريق، ويقول مثل الحلاّج "أنا الحقّ" فتأكّد أنّهم سيمسكون به ويقتلونه، تماما كما قتل الحلاّج. فلِمَ تخاطر بنفسك بين ناس يرفضون أيّة دعوة إلى تطوير الإيمان؟ ابن تيمية، وهو زعيم السلفيّين، قال إنّ التصوّف طريق الخاصّة وليس طريق العامّة. ومن أراد التصوّف حقّا فليسلك الطريق بمفرده، ويعيش تجربة إيمانيّة شخصيّة، ولكن لا يدعو الناس إليه، ويحوّلهم إلى أتباع ومريدين. الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، يساعده ويأخذ بيده ويحسن إليه. والطريق إلى الله ليس في السماء، إنّما الطريق إلى الله في الأرض مع النّاس المحتاجين مع الضعفاء، والفقراء والعرايا. هذا هو الطريق إلى اللّه.

صابر سويسي: ولكنّ الصوفيّة وجدوا إقبالا من العامة الذين احتموا بهم واتّخذوهم سندا في مقاومة الطغيان والظلم.. لاعتقادهم في قوّة إيمانهم وقربهم من الله. فبم نفسّر ذلك؟

د. حسن حنفي: أنا تفسيري أنّه هروب من المواجهة، من مواجهة ما يمنع الحياة الكريمة، وعجز عن تلك المواجهة. لو كنتُ مكان الصوفي لأخذتُ هؤلاء العامة ودفعتهم إلى الفعل والمواجهة. وبدل أن يهربوا من المواجهة ويلجؤوا إلى التصوّف ويستسلموا لوضعهم، أكوّن منهم كتيبة مقاومة، تقاوم الظلم والطغيان، وتتصدّى لهما.

صابر سويسي: هل تشاطرون إذن بعض الدارسين الرّأي في ما ذهبوا إليه من كون التصوّف لا يعدو أن يكون ثورة ميّتة؟

د. حسن حنفي: أنا لا أريد أن أصدر حكما على الناس، ولكنّي أريد أن أبيّن مخاطر هذا الطريق على الحياة العامّة، فنحن في حاجة إلى إيمان إيجابي. يحوّلنا من حالة الاستكانة والرضا بوضعنا إلى حالة المقاومة والرّغبة في التغيير والعمل عليه بكلّ ما أوتينا من جهد.