عرض كتاب "الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي"


فئة :  قراءات في كتب

عرض كتاب "الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي"

ولد عزالدين العلام في مدينة مراكش جنوب المغرب، ويعمل حالياً أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء. عضو في الجمعية المغربية للعلوم السياسية وبهيئة تحرير مجلة "أبحاث" ودورية " دفاتر سياسية"، اللتين كان يشرف عليهما عالم الاجتماع السياسي عبدالله ساعف.

لعزالدين العلام عدد لا بأس به من البحوث والدراسات، أهمها أطروحته "السلطة والسياسة في الأدب السلطاني" (1991)، وترجمته لكتاب "الإيديولوجيا الباردة" (1989)، ناهيك عن الكتب الجماعية والإسهامات في العديد من المنابر المغربية والعربية.

ويبدو، من كتابات العلام، أن مجال اهتمامه الأساس، إنما هو– تحديداً - هذا " النوع من أنواع الفكر السياسي"، الذي أفرزته الحضارة العربية/الإسلامية بمشرقها كما بمغربها على حد سواء، والذي "لا تزال علاقته بحاضرنا ملتبسة ومتموجة ما بين القطيعة والاستمرار".

2. ينقسم كتاب "الآداب السلطانية" إلى مقدمة، تغيا الباحث من خلالها وضع السياق وتحديد مجال الدراسة، وإلى ستة فصول مركزية، جال فيها عبر تاريخ هذه الأدبيات، وعلاقتها بواقعها وتداعياتها وامتداداتها، وكذا مكانتها قياساً إلى ما سواها من أفكار سياسية، تماوجت بهذه المرحلة من التاريخ العربي/الإسلامي أو تلك:

·في المقدمة "ثوابت الخطاب السياسي السلطاني" يحدد المؤلف الآداب السلطانية في:

- "تلك الكتابات السياسية التي تزامن ظهورها الجنيني مع ما يدعوه الجميع بحدث انقلاب الخلافة إلى ملك، وكانت في جزء كبير منها نقلاً واقتباساً من التراث السياسي الفارسي، واستعانة به في تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة".

- وتلك الكتابات التي "تقوم في أساسها، على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم، إذ تتضمن كل موادها مجموعة هائلة من النصائح الأخلاقية والقواعد السلوكية، الواجب على الحاكم اتباعها، بدءاً مما يجب أن يكون عليه في شخصه، إلى طرق التعامل مع رعيته، مروراً بكيفية اختيار خدامه واختبارهم، وسلوكه مع أعدائه".

- وتلك الكتابات التي اتبعت "تصوراً عملياً براغماتياً، يجعل منها في النهاية فكراً سياسياً أداتياً، لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطاني، دونما قفز على ما يتيحه من إمكانات".

- وتلك الكتابات "التي اعتمدت في صياغة تصوراتها السياسية الأخلاقية، على ثلاث منظومات مرجعية كبرى هي السياسة الفارسية الساسانية، والحكم اليونانية الهلنستية، والتجربة العربية/الإسلامية"، مع العمل على تذويب كل تعارضاتها ومتناقضاتها، لدرجة يتعذر على المرء اختزالها في واحدة منها أو بعضاً منها.

هي إذن أدبيات ترتكز في جوهرها على مبدأ النصيحة، إذ "يتقمص الأديب السلطاني دور ناصح السلطان ومستشاره، متوهما أن ما يسديه من نصائح يساهم في ترتيب أمور البيت السلطاني وتقوية دعائمه".

وإذا كانت هذه الآداب لم تعرف الكثير من المساءلة والشرح والتحليل والتحقيق، فلأنها كانت مكمن تجاهل، إما "بدعوى ارتباطها ببلاطين السلاطين الاستبدادية، والطابع الإيديولوجي الذي يكتنفها"، أو لاعتبارها "نبتة غير شرعية" داخل الحقل العربي والإسلامي.

·في الفصل الأول ضمن القسم الأول المخصص لـ "محددات الكتابة السياسية السلطانية":

يتحدث المؤلف عن "مورفولوجية الأدب السلطاني"، باعتبار الفرضية القائمة على وجود "وحدة ما في الفكر السياسي السلطاني تطال مختلف العناصر المكونة له والناظمة لنصوصه"، والتي تجعل تناظراً ما بين مختلف أنواع الكتابة السياسية التي عرفتها الثقافة العربية/الإسلامية عبر تاريخها.

وإذا كان الكاتب قد أورد خمسة معايير لتحديد "المتن السلطاني" (معيار تاريخي/موضوعي، معيار/جغرافي، معيار موضوعاتي، معيار طبيعة النصوص ذاتها ومعيار مؤلفي هذه المتن، من فقهاء ومؤرخين وأدباء وفلاسفة ووزراء وملوك وما سواهم)، فإنه يفترض محدوديتها،إن هي أخذت منعزلة عن بعضها البعض (مما يستوجب صهرها مجتمعة في تصور منهجي محدد)، على الرغم من "الوحدة المورفولوجية" التي تميزها وتؤشر على وحدة مدلولها.

من هنا، يقف المؤلف عند ثلاثة عناصر كبرى، يعتبرها لازمة جوهرية لمعظم الآداب السلطانية التي عرفتها الحضارة العربية/الإسلامية، وليتلمس من خلالها بعض مظاهر الوحدة (بالشكل والمضمون) التي تطبع هذه الآداب:

- فهناك العنوان أولاً. والعنوانفي هذه الآداب هو، بتصور الكاتب، بمثابة المفتاح للقضايا التي يريد المفكر السياسي السلطاني التعرض لها؛ فالماوردي، يقول الكاتب، عنون كتابه بـ "تسهيل النظر وتعجيل الظفر"، والطرطوشي بـ "سراج الملوك"،وأبو حمو الزياني بـ "واسطة السلوك في سياسة الملوك"، وابن رضوان بـ "الشهب اللامعة في السياسة النافعة"، والشيرزي بـ "المنهج المسلوك في سياسة الملوك"، والثعالبي بـ "تحفة الملوك"، وابن الأزرق بـ " بدائع السلك في طبائع الملك" وهكذا.

هذه العناوين، وإن بدت متباينة الألفاظ والعبارات،إلا أنها تؤدي المعنى ذاته والوظيفة نفسها،"جاعلة من الكتاب السلطاني كتاباً ناصحاً ومنيراً وذهبياً ونادراً"، وفق ما يختاره له صاحبه من رونق وتطريز على مستوى العنوان.

- وهناك المقدمة ثانياً، إذ غالباً، يقول الكاتب، ما يعتبر المؤلف كتابه دليل عمل أخلاقي/ سياسي،وجهه لصاحب السلطة الذي هو المخاطب الأول (ولربما الأخير) من لدن المؤلف.

وباعتبار الكتاب دليل عمل، فإنه غالباً ما يضم بين ثناياه "الصفات الخلقية والقواعد السياسية اللازم على صاحب السلطة الاهتداء بها، تحقيقاً لهدف مركزي يتمثل في دوام الحكم وتقوية دعائمه". هي حكم ووصايا ومواعظ تقدم للسلطان وتعبر، وفق الكاتب، عن مفهوم تقني للسياسة واضح، إذ لا يهم الأدب السلطاني "من الدولة أو السلطة السياسية، البحث في أسسها أو تاريخيتها أو مناقشة شرعيتها، بقدر ما يبحث في الوسائل والتقنيات التي من شأنها تقويتها والحفاظ على هيبتها".

- ثم هناك الفهرسة ثالثاً. في هذه النقطة،يلاحظ الكاتب أن معظم الكتابات السلطانية لا تتضمن فهارس، "حيث يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره من دون عناوين أصلية أو فرعية، من شأنها أن تدل القارئ على المحاور الأساسية أو الثانوية للكتاب"، لكنها متمحورة حول ثلاثية أخلاقيات السلطان (من عظمة وتجبر وكرم وحزم وغير ذلك)، والحاشية السلطانية بكل مراتبها (من ندماء ووزراء وأعوان وما سواهم) ومقومات الملك، والتي تشمل عموماً الجند والمال والعمارة والرعية وما سواها.

·في الفصل الثاني "أدبية النص السلطاني":

يلاحظ الكاتب أنه إلى جانب حضور اللفظ، فإن المؤلفين السلطانيين غالباً ما يقررون "أنهم إضافة إلى ما يتوقون إليه من استفادة السلاطين من نصائحهم،فقد غلفوا آراءهم وتصوراتهم بكل ما لذ وطاب من الحكم والأمثال والأقوال والحكايات، وألبسوا لغتهم حلة قشيبة متنوعة الأشكال، حتى لا يمل القارئ/السلطان من تصفح الكتاب، مع احتمال إعادة قراءته لما فيه من متعة وانتفاع".

وعلى الرغم من التباين الثقافي للمؤلفين وتنوع ميولاتهم، فإن ذلك لا يؤثر كثيراً في ماهية النص السلطاني، بنظر الباحث، إذ تذوب كل المعارف التاريخية والفقهية والأخلاقية في خدمة هذا الأخير (النص السلطاني أعني). النص، من هنا، يبدو كما لو أنه مكمن "انحلال المرجعيات"، من تاريخ وأخلاق وشرعيات وعمران وما سوى ذلك.

لا ينحصر الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى لجوء المؤلف السلطاني إلى النص/الحكاية، كلجوئه مثلاً للحكاية الرمزية أو التمثيلية أو التقديمية أو غيرها، واعتماد الاستعارة والشخوص الافتراضية للتعبير عن مبتغاه.

·في الفصل الثالث "بين المؤلف والنوع":

ينطلق الكاتب من التمييز المنهجي "بين مؤلف يكتب ونص كتب"، سيما في ظل اعتراف الأدباء السلطانيين" بأنهم لم يقوموا بأكثر من جمع ما سبق أن قاله أو كتبه غيرهم، ونقله وتلخيصه وترتيبه". وهو الحال مع الطرطوشي، كما مع ابن رضوان، كما مع ابن الحداد، كما مع الشيرازي، كما مع الماوردي ذاته.

يبدو الأمر هنا، يقول الكاتب، كما لو أننا بإزاء مظهر من مظاهر "انتصار النوع على المؤلف"... لدرجة مركزية النوع وهامشية المؤلف، تماماً كما لو أن هناك انتفاء للعلاقة التحديدية "بين الحياة السياسية التي عاشها المؤلف والظرفية السياسية التي عاصرها، وبين ما صاغه من أدب سلطاني".

بالتالي، يعتبر الكاتب، أن النص السلطاني ليس بحثاً في أسس الدولة، "ولا هو بتفسير خاص لواقع خاص. إنه أقرب إلى أن يكون صورة هلامية تصلح لكل السلطنات، من دون أن يتمكن من تعليل واقع سلطنة بعينها أو تفسيره".

وهو حال لا تمحي معه فقط صفة الفقيه الموظف للشرع (الذي على الدولة أن تقوم على تحقيقه، أو الدفع على أساسه باستقرار الدولة)أو صفة الفيلسوف، بل وأيضاً فيما يتعلق بعلم العمران... كلها روافد معرفية انمحت، يقول الكاتب، ولم تؤثر كثيراً في "نظام الكتابة السلطانية".

قد يكون تكوين الأديب السلطاني المعرفي أو الثقافي مصدراً لبعض من التميز، لكن ذلك يبقى من باب الشكل والأسلوب، على أن "محددات النوع تدفع إيجاباً نحو إلحاقه بجوقة المؤلفين السلطانيين".

·في الفصل الرابع / من الجزء الثاني "مفاهيم سياسية سلطانية":

يقف الكاتب عند مفهوم السلطان، باعتباره "المفهوم المركزي الذي تتمحور حوله كل القضايا التي تطرحها الكتابة السياسية السلطانية".

يركز الكاتب، بهذا الفصل، على ثلاث قضايا كبرى، يعتبرها أساسية لفهم وظيفة السلطانومكانته:

- الأولى، وتتعلق بما يسميه الكاتب بـ "علامات الاستبداد". والمقصود بهذه العلامات ليس البعد السياسي المتمثل في التسلط المادي الذي يمارسه السلطان على رعيته، عبر الجبايات، أو مصادرة الممتلكات أو عبر التنكيل، ولكن تحديداً تلك "الصور والحالات والأشكال والقواعد والأوضاع المعبرة، التي تجعل من السلطان الكائن الأول في مملكته، مطلقاً ومفرداً في سلطته".

فالسلطان طينة خاصة، لا يخاف الموت، يتربع على كل المراتب، هو فريد من نوعه، "يتموقع خارج الأسماء، وخارج أخلاق العامة"، طبيعته عدل، ينتفي الزمن في سلوكه، متجرد من كل العلاقات، ولا مكان للصداقة معه، رقيب على كل ما يجري، موائده تحضر للتشرف لا للتشبع...هو منفرد في الاسم والملبس والمأكل والمسكن، وقس على ذلك.

ثم إن مجلسه لا يعبر عن طقوس شكلية ظرفية، بل على نظام سلطوي، على أداة هيبة وهيمنة. بالتالي وجب اعتماد ما يعبر عن المقام، واجتناب ما قد يضيره أثناء مجالسته للتداول في شؤون المملكة أو للهوه وراحته، وكل ما كان بعيداً (من خاصته أو من العامة) إلا وهيب جانبه، حتى إذا بدا، كان ذلك مصدر مفاجأة واكتشاف.

- القضية الثانية، وترتبط بعلاقة الدين بالسلطان، وكيف عالجها الأدب السلطاني.

ليس ثمة من شك، يقول الكاتب، بأن معظم ما كتب من آداب سلطانية، إنما يعبر عن درجة معينة من درجات المماثلة (أو على الأقل التشبيه) بين "ذات الحاكم" و"المقام الإلهي"، واعتبار السلطان ظل الله في الأرض... خليفته الدنيوية.

بالتالي فمعظم الآداب السلطانية، إنما عمدت إلى تذويب التناقضات (يسميها الكاتب "انحلال الشرعيات") بين الخلافة الدينية، والسلطان الدنيوي، وأحلت محلها "نوعاً من التساكن، موسعة من دائرة الشرع ومكيفة له، ليتلاءم مع مستجدات الوقائع، ومجندة للفقهاء في أغلبهم، لخدمة الرعايا في معاملاتهم ومنازعاتهم وللسلطان في سياسته".

- أما القضية الثالثة، فتتعلق بثلاثية السلطان والعمران والسياسة؛ فالسلطنة مماهاة للسياسة، ووجود السلطان كشخص مركزي، يجعل من المستحيل حقاً "تصور السياسة داخل هذه الدولة شيئاً عمومياً".

ولما كان "الفعل السياسي السلطاني" محكوماً بالعمران، فلأن هذا الأخير هو الذي يحيي الدولة السلطانية ويميتها، إذ "يمهد لها في بدايتها، ويزهر لها في توسطها، ثم يحفر لها قبرها في النهاية".

·في الفصل الخامس "مفهوم المرتبة السلطانية":

يؤكد الكاتب أن المراتب كيفما كان نوعها، تفترض "العمل مع السلطان"، والاندراج في خدمته وصحبته. وقد تمايزت الكتابات السلطانية بين من يعارض ذلك بشدة (باعتبار السلطة مفسدة في جوهرها)، وبين من يؤيده، بحكم خاصية الولاء أو النفعية التي تترتب عن القرب من السلطان. وقد استشهد الكاتب بنصوص تسوغ هذا التوجه أو ذاك.

·في الفصل السادس"مفهوم الرعية":

يلاحظ الكاتب أن الخطاب السياسي السلطاني لا يتعامل مع الرعية "ككيان قائم بذاته، ولا يتصورها ذاتاً مستقلة تستحق خطاباً مستقلاً، بقدر ما هي على الدوام موضوعاً لذات السلطان".

ولما كانت الرعية هي أساس السلطة ورأس الفتنة، فإنه "بطاعتها للسلطان وانصياعها له تستقر الأمور، وبخروجها عنه تعم الفتن وتحدث القلاقل". بالتالي، فصلاحها هو من صلاح السلطنة وفسادها من فساد هذه الأخيرة...؛فالرعية بطبيعتها مادة غير منتظمة، "تميل إلى الفساد ومعرضة باستمرار للتلف. لذا لا بد لها من وازع يقيها من نفسها الأمارة بالسوء".

وعلى هذا الأساس، فكل ما يتميز به السلطان من كرم وحلم وعفو وعقاب وما سوى ذلك (والتي تتشكل منها عناصر النص السلطاني)، كلها "تقنيات تجد مادتها في الرعية موضوع السلوك والتعامل السلطاني".

إذن، الرعية موضوع لسلوك السلطان، وجل الآداب السلطانية تدرك أن "طاعة المحكوم للحاكم والخضوع له، لا تكون في الغالب الأعم طوعاً، بل قوة وشوكة وعصبية". لكن الآداب إياها تدرك أيضاً أن القوة لوحدها غير كافية، ما لم تتلازم ببعض من "الانقياد الداخلي نحو الطاعة أو الرغبة في الخضوع، وتحبيبه إلى النفوس". بالتالي، وجب التريث في استعمال القوة، يقول الأدب السلطاني، والعمل على الرحمة والتودد للرعية في بعض الأحيان.

هناك إذن، يقرر الكاتب، مزاوجة بين تقنية الترغيب وتقنية الترهيب، إذ "حق السلطان في الفعل الاستبدادي" يفترض بعضاً من اللين لاجتناب ردود الفعل المحيلة حتماً على الانتفاض، على اعتبار أن واجب الرعية يفترض حقوقاً بالمقابل يضمنها لها السلطان.

هو جانب (جانب ما للرعية وما عليها بإزاء السلطان) لا يسائل فقط، يقول الكاتب في خاتمته، الآداب السلطانية المكرسة تاريخياً لدولة السلطان، بل وأيضاً تلك الآداب التي لاتزال تنسج بالوقت الحاضر على منوالها، للحيلولة دون انتقال مجتمع الرعايا إلى مجتمع المواطنين... مجتمع المواطنة بالبداية وبالمحصلة النهائية.