علاوة عمارة: أنماط التديّن في مغارب العصر الوسيط


فئة :  حوارات

علاوة عمارة: أنماط التديّن في مغارب العصر الوسيط

في هذا الحوار المعرفي الثري، الذي جمعنا بالأستاذ الدكتور علاوة عمارة، تطرقنا إلى موضوع تاريخي بامتياز يدخل في إطار التاريخ الديني للغرب الإسلامي، لكنه يلقي بظلاله على راهننا اليوم؛ ذلك أنّ الحديث عن أشكال التدين داخل الدائرة الإسلامية وما يترجمه من تيارات ومذاهب دينية، يستدعي العودة إلى دفاتر التاريخ بغية رصد جذور الظاهرة تاريخيا. لأجل ذلك استضفنا البروفيسور علاوة عمارة أستاذ التاريخ بجامعة الأمير عبد القادر - قسنطينة، الجزائر.

أ. محمد بن ساعو: الأستاذ والصديق "علاوة عمارة" مرحبا بكم في هذا الحوار تحت سقف مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

أ. د. علاوة عمارة: الشكر موصول للأستاذ محمد بن ساعو على إتاحة هذه الفرصة التي ستسمح بالتواصل مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للحديث في موضوع تاريخي مهم.

أ. محمد بن ساعو: الدكتور علاوة عمارة اسم غني عن التعريف بالنسبة إلى الباحثين في التاريخ الوسيط، لكن بودّنا أن تقدّم نفسك للقارئ العربي أيا كان اختصاصه ومجال اهتمامه.

أ. د. علاوة عمارة: علاوة عمارة متحصل على شهادة دكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون الفرنسية في تخصص التاريخ الإسلامي الوسيط (2002)، ويعمل منذ عام 2003 أستاذا بقسم التاريخ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، ويشتغل كباحث مشارك بعدّة مراكز بحث وطنية ودولية منها المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) بفرنسا ومركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية والاقتصادية (CRASC) بالجزائر. تمحورت اهتماماته العلمية حول الكتابة التاريخية في الغرب الإسلامي وتاريخ النصوص الفقهية والاخبارية، وأيضا أسلمة وتعريب بلاد المغرب والتاريخ الحضري والريفي للمغرب الأوسط، بالإضافة إلى مختلف التحولات الاجتماعية والثقافية والمذهبية التي عرفتها بلاد المغرب الإسلامي. له أزيد من مئة منشور في مجلات دولية وعربية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية بالإضافة إلى كتب متخصّصة.

أ. محمد بن ساعو: لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أنّ دراسة أنماط التدين المغاربي لا تستقيم إلا بالعودة إلى التاريخ الديني للغرب الإسلامي، ودراسة البنية المذهبية للمجتمعات المغاربية خلال العصور الوسطى خاصة، فهل يمكن لكم بدايةً أستاذ القيام بعملية مسح تاريخي للحياة المذهبية في الغرب الإسلامي؟

أ. د. علاوة عمارة: قبل الحديث عن التاريخ المذهبي لبلاد المغرب، يجب التذكير بقضية مهمة، وهي الصفة التي أعطتها النصوص الإخبارية المدرجة في خانة "كتب فتوح البلدان"، باعتبار العمليات العسكرية هي بمثابة انتشار للإسلام في الأقطار المفتوحة. هذه الأخيرة كانت في حقيقة الأمر سلسلة من العمليات العسكرية أفضت إلى ضم مجالات جديدة للخلافة الإسلامية، لكن عملية انتشار الإسلام كانت طويلة ومعقّدة، حيث لا يمكن الحديث عن انتشار كلّي للإسلام بالنسبة إلى بلاد المغرب إلاّ في القرن الخامس الهجري (11م) وبالنسبة إلى بلاد المشرق ما زالت العملية مستمرة إلى يومنا هذا في بلاد الشام والعراق ومصر على اعتبار أنّ الكنائس المشرقية قد حافظت على وجودها إلى يومنا هذا. وهذه الوضعية الدينية السابقة للأسلمة كان لها أيضا دور في تشكيل الخريطة المذهبية خلال الحقبة الإسلامية الأولى، فمثلا نجد مجالات المسيحية الدوناتية تكاد تكون نفسها بالنسبة إلى انتشار الجماعات الإباضية، في حين نجد ارتباط الجماعات المسيحية الأرثوذوكسية والكاثوليكية التي اعتنقت الإسلام بالمذاهب التي كانت على علاقة مباشرة بسلطة القيروان، والتي ستصنّف لاحقا في خانة أهل السنّة والجماعة. بالعودة إلى الحياة المذهبية، هناك مشاكل منهجية ووثائقية كبيرة تطرحها النصوص التراثية والدراسات الحديثة عن التاريخ الديني والمذهبي للغرب الإسلامي.

لقد كان لانتشار المذهب المالكي في الغرب الإسلامي في مرحلة متأخرة مقارنة مع الجماعات الإسلامية الأخرى الدور المحوري في "تحوير" الذاكرة الدينية للغرب الإسلامي، خصوصا وأنّ التيارات السياسية والكلامية والفقهية الأخرى - ما عدا الإباضية الوهبية والإسماعيلية - قد اختفت دون أن تترك لنا مادة وثائقية من شأنها أن تعطي لنا شيئا عن تاريخ هذه الجماعات. إنّ تصوير الآخر انطلاقا من الأنا كان له دور أساسيّ في توصيل فكرة مشوّشة ومغلوطة عن مشاريع مختلف الجماعات والمذاهب في الغرب الإسلامي. وبناء على النصوص الإخبارية والوصفية والفقهية التي وصلتنا يمكن القول بأنّ التيارين الإباضي الوهبي والإباضي المحبي المنعوت بالنكاري وأيضا التيار الصفري كان لها سبق الانتشار في الغرب الإسلامي. هذه التيارات الأولى التي صنّفتها الكتابة "السنّية" في خانة "الخوارج" عرفت نجاحا باهرا لدى الجماعات الرعوية أو ما يعرف بالرُحَّل في المناطق الواقعة في الأطلس الصحراوي والمناطق الاستبسية والواحات، وهي الجماعات التي عرفت في النصوص العربية باسم زناتة بمختلف فروعها. كان هدف هذه الجماعات هو الوصول إلى إقامة "إمامة المسلمين" بعدما فشلت فيها في المشرق وتحديدا على أطراف مركز الخلافة.

نجحت هذه الجماعات الأولى في تشكيل ما تصبو إليه سياسيا من خلال الإمامة الإباضية في تاهرت التي توارثتها عائلة عبد الرحمان بن رستم والإمامة الصفرية في سجلماسة بجنوب المغرب الأقصى التي توارثتها أسرة بني واسول المكناسية. كان هذا النجاح في حدود منتصف القرن الثاني الهجري ضربة قوية للخلافة العباسية التي فقدت الغرب الإسلامي ولم يبق لها إلاّ نفوذ رمزي في إفريقية. وهنا يجب التذكير بدور العامل السياسي في تصنيف سكان بلاد المغرب المتواجدين خلال فترة الفتوحات الإسلامية، حيث صنّفوا في مجملهم ضمن "البربر"، بمعنى الجماعات التي كانت تعيش على أطراف جنوب إفريقية وغربها وصولا إلى المحيط الأطلسي، وهذا بفعل تفاعلها مع التيارات الإباضية والصفرية ثم الزيدية وتشكيلها لمجالات معارضة لسلطة الخلافة الأموية ثم العباسية. كما نجد ضمن هذه التيارات المختلفة الأحناف والمالكية والإسماعيلية والمعتزلة...

أ. محمد بن ساعو: كان دعاة المذاهب ينظرون إلى الغرب الإسلامي كبيئة حاضنة لتوجهاتهم الدينية والسياسة بعد التضييق الممارس عليهم في المشرق، فما هي الظروف التي ساعدت على انتقال هذه المذاهب إلى المغرب الإسلامي؟

أ. د. علاوة عمارة: نعم، كانت بلاد المغرب وإلى غاية التجربة الإسماعيلية حاضنة بشكل كبير للأفكار والدعاة الوافدين من المشرق، حيث نجد هناك تيار الاعتزال في إفريقية الأغلبية، وأيضا في ناحية تاهرت الرستمية وعلى الخصوص في جهة وليلي قرب مدينة مكناس الحالية. وبعده، نجد مختلف التيارات السياسية والفكرية والفقهية المشرقية على غرار المعتزلة والحنفية والمالكية والإسماعيلية. عندما نقول البيئة الحاضنة، هناك توجّه عام للتيارات المعارضة للانتشار وإعادة التنظيم في أطراف العالم الإسلامي أملا في العودة إلى المركز بعد النجاح هناك، وهو ما حاولت الجماعة الإسماعيلية القيام به بعد نجاحها في تأسيس إمامتها وقيامها بإصلاح عقدي نظّر لدار الهجرة قبل الوصول إلى موطن الدين، وهو مركز دار الإسلام المتجسّد آنذاك في مدينة السلام بغداد. لقد استغلت هذه التيارات بعد معظم مجالات بلاد المغرب عن مراكز السلطة السياسية في القيروان والتنوع الإثني والاجتماعي والثقافي لاستغلاله في عملية الانتشار مما أعطى في نهاية المطاف تنوّعا مذهبيا مطابقا تقريبا للتنوّع الاجتماعي، حيث نجد اعتناق معظم الجماعات الرعوية المتنقلة والمعروفة تراثيا باسم زناتة للمذهبين الإباضي والصفري. لقد وجدت هذه الجماعات في التيارات السياسية والفكرية المعارضة لسلطة الخلافة الأمل في التخلص من الهيمنة السياسية والضريبية لممثلي سلطة الخلافة المستقرين في مدينة القيروان الذين استمروا في فرض نظام ضريبي قاس رغم توسّع عملية الأسلمة.

أ. محمد بن ساعو: هل تمكّنت هذه المذاهب من تبيئة مشاريعها الدينية والفكرية في الغرب الإسلامي، خاصة وأنّها احتمت بكيانات سياسية مؤدلجة كدولة بني مدرار الصفرية بسجلماسة، والدولة الرستمية الإباضية بتاهرت والدولة الفاطمية الشيعية...؟ أم إنّ الأمر لا يعدو أن يكون حضورا شكليا غير وازن في الحياة الدينية؟

أ. د. علاوة عمارة: كانت بلاد المغرب إلى غاية نهاية الربع الأول من القرن الخامس الهجري عبارة عن فسيفساء مذهبية شكّلت فيها المذاهب التي ستصنّف في خانة "السنّة والجماعة" فيما بعد أقلية نخبة حضرية قوامها العناصر العربية والفارسية المستقرة في مدن إفريقية الشمالية والشرقية بعيدا عن المغربين الأوسط والأقصى وإفريقية الجنوبية، حيث انتشرت أفكار تيارات إسلامية قادمة من المشرق ويجمعها الموقف المعارض للسلطة الأموية ثم العباسية. نجحت معظم هذه التيارات في تحقيق جزئي للهدف، وهو الانتشار بشكل واسع لدى الجماعات الريفية المنتشرة غرب وجنوب ولاية إفريقية الموالية لسلطة الخلافة بالمشرق. بالنسبة للإباضية، تجب الإشارة إلى تأسيس الإمامة في البداية في منطقة طرابلس وجبل نفوسة على يد أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري (140-144 هـ/757-761م) وفي المرحلة الثانية ،كانت الإمامة العظمى بتاهرت على يد عبد الرحمان بن رستم التي تحوّلت إلى تنظيم وراثي قوامه السلالة الرستمية، وتنسحب نفس الملاحظة على الجماعة الصفرية التي نجحت في تأسيس الإمامة بسجلماسة في جنوب المغرب الأقصى حيث احتكرتها سلالة بني واسول المكناسية. وقبل الحديث عن الإمامة الإسماعلية الفاطمية، تجدر الإشارة إلى نجاح الجماعة الزيدية العلوية في تأسيس مجموعة من الإمارات أهمها الإمارة الإدريسية في وليلى بالمغرب الأقصى التي أصبحت فاس عاصمتها، والتي تحالفت بشكل مباشر مع الجماعات المحلية المعتزلية في المنطقة التي جسدتها جماعة أوربة. كما نجح ابن أخ ادريس بن عبد الله مؤسس السلالة الإدريسية وهو محمد بن سليمان الفارّ معه من معركة فخ في تأسيس إمارة انشطرت إلى 12 كيان سياسي ارتبط بما يعرف بالمدينة-الإمارة، والتي انتشرت في المغرب الأوسط من مغنية إلى غاية مدينة البويرة بالجزائر وتعرف لدى الدارسين بالإمارات العلوية.

التجربة الإسماعيلية هي المعبّرة، والتي نجحت في تأسيس أهم وأقوى كيان سياسي في بلاد المغرب قبل القرن الخامس الهجري، حيث نجح دعاة الفرع الإسماعيلي من الجماعات الشيعية في الانتشار على تخوم إفريقية الغربية على مرحلتين: الأولى كانت في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث الهجري، وهو الذي هيّأ الأرضية للداعي أبي عبد الله الذي أرسله داعي الدعاة باليمن ابن حوشب إلى التخوم الغربية للمقاطعة الإفريقية وتحديدا إلى مجالات كتامة بداية من 280 هـ/893م، حيث نجح في نشر المذهب الإسماعيلي في المنطقة بعد نشاط دعوي كبير في إطار مجالس الحكمة، سمحت له من توسيع التصنيف الكتامي الذي كان حكرا على جماعات متخندقة في المنطقة الواقعة بين شمال مدينة سطيف وجيجل، ليوسعها تدريجيا نحو الشرق، ويضم إليها الجماعات المنتشرة على ضفتي وادي شال (الرمل) بما في ذلك مدينة قسنطينة. كان هذا النجاح كبيرا إلى درجة تولي جماعات مختلفة صنّفها ضمن كتامة عدة مناصب عليا في هيكل الدعوة الإسماعيلية ووزعها بحسب دور كل جماعة على غرار بني سكتان وبني غشمان وجيملة ولهيصة ومتوسة، وكلها تشير إلى نجاح الداعي الإسماعيلي في نشر الدعوة رغم المعارضة الشديدة التي تلقاها في بداية الأمر من بعض مشايخ جماعات كتامة. كان لنجاح الدعوة دوره في إنشاء تنظيم عسكري تمكّن على مراحل عديدة من السيطرة على المجالات الأغلبية بإفريقية وصولا إلى رقادة عاصمة هذه الإمارة الموالية روحيا للخلافة العباسية. وتجدر الإشارة هنا إلى الإصلاح العقدي الذي قام به الإمام الإسماعيلي المهدي الذي حوّل القلاع والمدن الإسماعيلية خلال المرحلة المعروفة لدى الدارسين بالخلافة الفاطمية إلى دور هجرة لتبرير نهاية تأجيل قيام الساعة بظهور "المهدي" وتبرير الطموح السياسي في محاولة للعودة إلى المركز عبر بناء مدن-دور هجرة مؤقتة قبل الوصول إلى الهدف المنشود وهو بغداد، وهذه القلاع والمدن هي ايكجان وتازروت والمهدية وصبرة المنصورية والقاهرة. كان نجاح هذه الجماعات باديا قبل منتصف القرن الخامس الهجري بفعل المتغيّرات الكبيرة التي أحدثها تواجد الإمامة الإسماعيلية ببلاد المغرب ثم عودتها إلى بلاد المشرق.

أ. محمد بن ساعو: أسس البرغواطيون كيانا دينيا يبدو مغايرا للمنظومة الدينية المعروفة آنذاك، هل لك أن تحدّثنا باختصار عن البرغواطيين؟، ثم ألا يمكن عدّ التجربة البرغواطية أول محاولة للتأسيس لنمط إسلامي مغاربي كان فيه للغة الأمازيغية والعادات والأعراف حضور ملفت في تشريعاته وطقوسه؟

أ. د. علاوة عمارة: معلوماتنا حول برغواطة على الساحل الأطلسي للمغرب الأقصى ومعها غمارة في بلاد الريف على الساحل المتوسطي للمغرب الأقصى وسسوالة في المنطقة الواقعة بين قلعة بني حماد وأشير - بمعنى المحيط الجنوبي الشرقي لمدينة الجزائر - تبقى قليلة وغير مباشرة وعدائية في نفس الوقت، لأنّ الرواية الأقرب هي التي نقلها لنا الجغرافي الأندلسي البكري (ألف كتابه في عام 460هـ/1067م) نقلا عن وثائق دوّنت رواية سفير صاحب برغواطة إلى البلاط الأموي بقرطبة، حيث نجد فيها فعلا وصفا لتبنّي ديانة جديدة تستلهم مبادئها من الإسلام نفسه، والتي صنّفتها السلطة الفقهية المالكية والسلطة السياسية الأموية والزيرية والمرابطية في خانة الكفر. لكن ما يثير انتباهنا هنا هو تبنّي لغة محلّية تعرف باللسان الغربي في أدبيات العصر الوسيط وبالشلحية التي هي فرع من فروع الأمازيغية في المدوّنة اللسانية الحديثة. مهما يكن، فإنّ معلوماتنا حول هذه الجماعات الثلاث التي مارست تديّنا وصفته السلطة الفقهية بالكفر، وكان أصحابها عرضة للتغنيم والتخميس تبقى محدودة جدا وتعطي لنا مثالا عن المثاقفة وعن إدماج الممارسات الاجتماعية المحلّية في منظومة التديّن في بلاد المغرب في القرون الهجرية الأولى. وهذه العملية لم تكن حصرا على هذه الجماعات الثلاث المتهمة بالرِدّة والتي استأصلت بحدّ السيف في زمن بحث السلطة السياسية على الوحدة المذهبية ورفض التنوّع الديني والمذهبي الذي كانت عليه بلاد المغرب خلال الأربعة قرون الأولى من تاريخها الإسلامي. فالمتمعّن جيدا في الخطاب الفقهي المالكي يدرك جيّدا إدماج العادة والعرف في مصادر التشريع منذ زمن الفقيه المالكي المعروف ابن أبي زيد القيرواني (ت 386هـ/996م) الذي اشتهر بإفتائه لبعض الجماعات الريفية بأعرافهم الخاصة.

أ. محمد بن ساعو: الفكر الاعتزالي ممثلا في الواصلية سجّل هو الآخر حضورا مهما في بلاد المغرب، أثرى الخريطة المذهبية المغاربية آنذاك، في رأيكم إلى أي مدى استوعبت الذهنية المغاربية الوسيطة هذا الفكر العقلاني؟، وهل نحن في حاجة إلى إعادة إحياء التقاليد الاعتزالية في راهننا اليوم؟

أ. د. علاوة عمارة: عرف الفكر الاعتزالي ممثّلا في الواصلية انتشارا في بعض مناطق بلاد المغرب بداية من القاعدة الإسلامية الأولى، وهي القيروان ومرورا بتاهرت ووصولا إلى وليلى، لكن أتباعه لم يتركوا لنا كتابات تمكّننا من معرفة تنظيم الجماعات الواصلية وسماتها الفكرية مقارنة مع معتزلة المشرق. إنّ معطيات المسكوكات تؤكد لنا تحالف هذه الجماعات مع الجماعة العلوية ذات التوجّه الزيدي، وبالتالي كان حضورها لافتا في ناحيتي وليلى وتاهرت وحتّى في إفريقية الأغلبية، حيث عيّن عدد من المعتزلة في مناصب القضاء، رغم موقف فقهاء المالكية الرافض لهم والمتبنّي تدريجيا للعقيدة الأشعرية. وقد عرفت بعض مدن المغرب مسألة خلق القرآن كما في المشرق وذاع صيت بعض المعتزلة على غرار الفقيه ابن أبي الجواد الذي تولّى القضاء في النصف الأول من القرن الثالث الهجري (9م). وقد نسجت كتب التراجم المالكية المتأخرة عن الفترة روايات وقصص حول محنة الفقهاء الذين رفضوا الإقرار بمسألة خلق القرآن ورفض هؤلاء لمناظرة المعتزلة حول هذه المسألة. فكانت العقيدة الأشعرية هي التي أعطت الديناميكية اللازمة بحسب تعبير أحد الدارسين لمواجهة توسّع الفكر المعتزلي الذي أثّر بصورة جليّة في بلاد المغرب وتأثرّت به عدّة جماعات خصوصا الجماعة الإباضية الوهبية التي استلهمت عددا من مبادئه خصوصا مسألة خلق القرآن. حاول المعتزلة نشر فكر عقلاني يستلهم مبادئه الأساسية من التراكم المعرفي القديم، ونحن بحاجة اليوم طبعا إلى العقلانية العلمية الحديثة وإلى العقل العلمي بتعبير جاستون باشلار (Gaston Bachelard) وإلى روح النقد التي عرفت تطوّرات لافتة في مختلف نظريات المعرفة العلمية في العالم الغربي وفي الحضارة الإنسانية المعاصرة بصفة عامة.

أ. محمد بن ساعو: ما هي العوامل التي أدت إلى تراجع، بل واندثار مختلف المذاهب الكلامية والفقهية وسيادة المذهب المالكي في مختلف أرجاء بلاد المغرب ما عدا بعض "الجزر" الإباضية؟

أ. د. علاوة عمارة: بداية من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (9م) بدأت بلاد المغرب تعرف تغيرات جوهرية أحدثها نجاح الجماعة الإسماعيلية في المنطقة. فبعد انتشار التشيع الإسماعيلي في بلاد كتامة وفي طبنة وبعض مدن إفريقية الجنوبية-الشرقية خصوصا نفطة، جاء الدور على الجماعات الإباضية النكارية التي واجهت السياسة الضريبية الفاطمية ودفعت ثمن ذلك بانسحابها جنوبا باتجاه وارجلان وغربا باتجاه منطقة تلمسان والمغرب الأقصى، حيث تحالفت هناك مع السلطة الأموية في الأندلس التي دخلت في صراع إيديولوجي ضد الإمامة الفاطمية في بلاد المغرب. هذه الأخيرة لم تنجح في نشر التشيع خارج مناطقها التقليدية في بلاد كتامة والمحيط الشرقي لجبال الأوراس، ولهذا حاولت جاهدة التحالف مع الجماعة المكناسية في تاهرت وزيري بن مناد أمير صنهاجة بجنوب مدينة الجزائر. سرعان ما تحوّل التحالف بين جماعات زناتة الإباضية في ناحيتي تلمسان والسلطة الأموية إلى اعتناق مذهب هذه الأخيرة وهو المذهب المالكي بعدما نجح الفقهاء التجار الأندلسيين في تنقلاتهم بالمغرب الأقصى والأوسط في نشر المؤلفات المالكية، لتصبح جماعات بني يفرن ومغراوة الإباضية سابقا مالكية، وتنسحب نفس الملاحظة على جماعات مكناسة التي تخلّت على صفريتها وأصبحت مالكية.

كان للشبكة التجارية التي كان الفقهاء جزءا منها وأيضا التدخل الأموي في الأندلس دور كبير في تحويل المجالات الغربية لبلاد المغرب إلى المذهب المالكي خلال القرن الرابع الهجري (10م) مثلما حصل تقدّم الحركة المرابطية ذات التوجه المالكي أيضا من الجنوب نحو المعاقل الأساسية لبرغواطة وغمارة وإنهاء ديانتيهما في القرن الخامس الهجري (11م). أما فيما يخصّ المجالات الشرقية لبلاد المغرب، فقد نجحت المالكية خلال العصرين الأغلبي والفاطمي في فرض وجودها في المدن الكبرى انطلاقا من القيروان خصوصا بعد التحاق معظم الأحناف في القيروان بالتشيع الإسماعيلي. ولهذا فقد استغلت هذه الجماعات المالكية فرصة عودة الفاطميين إلى المشرق لتعلن الحرب ضد الجماعات الشيعية المتبقية تحت ذريعة اضطهادها على يد "الرافضة"، وقد كان لبناء الذاكرة الجماعية دور كبير في تصوير "مقاومة" السياسة الفاطمية، وهذا ما دفع هذه الجماعات إلى تنظيم مجازر جماعية ضد بقايا التشيع في عدة مدن إفريقية في الربع الأول من القرن الخامس الهجري (11م). كان لهذا التقدم المالكي دور في دفع الأسرة الزيرية التي نصّبها الإمام الفاطمي المعز لدين الله على حكم بلاد المغرب إلى تبنّي المذهب المالكي كمذهب رسمي للدولة الجديدة في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (11م)، وإعلان القطيعة مع القاهرة الفاطمية في حدود عام 443 هـ/1051م. لم تكتف الجماعات المالكية المتحالفة مع السلطة السياسية الممثلة في الأسرة الزيرية في إنهاء الوجود الشيعي الإسماعيلي، وإنمّا وصل الأمر إلى استباحة الجماعات الإباضية من خلال تنظيم حملات لتغنيمها وتخميسها بعدما اشترط عليها الفقهاء المالكية التوبة أو القتل أو السجن، وهو ما دفع معظم هذه الجماعات لاعتناق المالكية أو الفرار نحو الواحات جنوبا.

أ. محمد بن ساعو: هل من تأثير وانعكاس للتقلّب المذهبي الذي شهدته هذه المنطقة الجغرافية على راهن التدين، مع ما نشهده من توافد للتيارات الدينية التي تسعى جاهدة لحجز مكان لها في الساحة الدينية المغاربية؟ وبصيغة أخرى ما مدى تاريخانية - بتعبير العروي - مداخل محاولة الاستقطاب المذهبي؟

أ. د. علاوة عمارة: كانت بلاد المغرب كغيرها من البلدان التي شكّلت دار الإسلام بالمنظور الفقهي مركز استقطاب لمختلف الجماعات التي تدّعي طبعا تمثيليتها للإسلام الصحيح. كانت تحوّلات القرنين الرابع والخامس الهجريين مفصلية في هذا الجانب، رغم نجاح الجماعات الإباضية الوهبية في الحفاظ على ذاتها ولو بشكل محدود جدا في مناطق وارجلان وميزاب وجربة وجبل نفوسة في ليبيا، بفضل عدم سعيها لاستحداث نظام الإمامة وتعويضه بتنظيم اجتماعي-ديني يعرف بالعزّابة. وعرفت هذه الجماعات عدة محاولات إصلاحية جسّدها خصوصا الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أو المحاولة الإصلاحية للشيخ بيوض الذي تبنّى موقفا متقاربا من المذاهب الفقهية الأخرى المصنّفة في خانة السنّة والجماعة. لا يمكن طبعا فصل مختلف التحوّلات المذهبية أو على الأقل محاولات نشرها عن الأهداف السياسية لمختلف الكيانات على مرّ العصور.