عن الحق في الاختلاف...


فئة :  مقالات

عن الحق في الاختلاف...

إذا كانت الثقافة الغربية قد أنجزت سؤال الاختلاف وعيّنته في إتيقات وحصّنته بالقوانين والمؤسسات، فإن الثقافة العربية-الإسلامية لا زالت تنشده، وتتوسل كل السبل لتحقيقه.

وفي الحقيقة، لا يمكن لسؤال الاختلاف أن ينبجس خارج سياقات تنويرية حقيقية، إذ يفترض الحديث عن الاختلاف، توفر أشراطه وحواضنه: وأولها بلا منازع: منسوب مرتفع من الوعي الجمعي يحترم حقوق الاختلاف ولا يُجرّمها. لكن هذا لا يستمر في الزمن إلا بالضمانة القانونية والمؤسساتية، إذ قد يؤول الاختلاف في الكثير من الأحيان إلى خلافات درامية، لا تحل إلا بالعنف والمغالبة. وفي هذه الحالة، من سيردع انحرافات "المختلفين" إن لم يكن القانون ومؤسساته؟ وعليه لا تكفي إتيقا الاختلاف (بوصفها مجموع الوعي المشترك بضرورته لضمان العيش المشترك)، بل يتعين أن يحيل المختلفون ضمانة اختلافاهم ورسم حدوده ومحاذيره إلى هيئة محايدة تحمي ثقافة الاختلاف من كل أشكال الانحراف والإفراط، ونعني بها مؤسسات الدولة الديمقراطية. فهل تحققت أشراط ثقافة الاختلاف المنشودة في بنية الوعي العربي؟ كيف نشخّص عدم قدرة العقل العربي على استيعاب ثقافة الاختلاف في رؤيته لنفسه وللآخرين وللعالم؟

إن ما نسميه على سبيل التعميم المفهومي "ثقافة عربية-إسلامية"، من شأنه أن يحيلنا من الوهلة الأولى إلى غياب كل إحالة إلى التعددية والتنوع، وميلا شديدا إلى الوحدة والتجانس والانغلاق. ذلك أن المفهوم المركّب يوحي باكتمال ملامح هذه الثقافة وانغلاقها على رافدين منتهيين في التاريخ: اللغة والدين، وبالتالي فلا حاجة لها بالنهل من روافد أخرى بتعلة البحث عن الاختلاف والتجدد والتنوع.

إن مشكل الثقافة العربية الإسلامية هو تحولها الذاتي من المجال الثقافي والتاريخي إلى التصنيم الهووي العابر للتاريخ الذي بات يعمل وفق مبدأ الإقصاء العدمي: "من ليس معي فهو ضدي"، لا سيما عندما تزعم أنها تنهل من مرجعيات دينية متعالية وغير قابلة للتبدل.

لقد أدى الاستثمار الهووي للثقافة العربية الإسلامية الى عطالة عميقة لمست كل مناحي الحياة، ولا سيما أنظمة السلطة المادية والرمزية، حتى عُد الاختلاف معارضة لأهل الجماعة ولأصحاب "الحل والعقد" يراد به الفتنة والتآمر على "وحدة الأمة". لهذا تُلحق بالمعارضين والمخالفين شتى أنواع النعوت والتبرم، تصل إلى حد التكفير والتنكيل، إن كانت المعارضة تستهدف تأويلا دينيا أو فقهيا لا يتفق واتجاهات السلطة القائمة. ويزخر التاريخ العربي بالأمثلة، فقد نُكّل بالأديب عبد الله بن المقفع، الذي كانت أعضاؤه تقطّع أمام عينيه الواحد تلو الآخر، ثم بالحلاج والحسن بن الهيثم حين وضع في السجن، وما تعرض له عمر الخيام من شتى أشكال التنكيل، ولنا في المغرب الإسلامي أمثلة عديدة أبرزها ما تعرض له أبو الوليد بن رشد القرطبي ومحيي الدين بن عربي والجعد ابن درهم، إلخ... وتزخر الأزمنة الحاضرة بأمثلة لا تحصى حول أنواع التنكيل والتكفير التي تعرض لها على سبيل الذكر محمود محمد طه شنقا وفرج فودة اغتيالا ونصر حامد أبو زيد وسلمان رشدي وسيد القمني تكفيرا، إلخ، وذلك بسبب خروجهم عن التأويل الفقهي الرسمي للدولة الهووية وجرأتهم على حلحلة المعتقدات الجماعية البائدة.

ولا يزال سؤال الاختلاف معطلا منذ تلك المحن، ولا تزال المنظومة الاستبدادية التي أنتجت الفكر الأحادي /الوثوقي والجماعوي ناشطة في أنظمة العقل العربي ومؤسساته، حيث أجهضت في المهد كل محاولات التنوير النادرة في التاريخ العربي.

وعلى الرغم من تلاشي منظومة الخلافة مطلع القرن العشرين وتشكّل دولة الاستقلال، لا زالت خلفيات الثقافة العربية الإسلامية طاغية على مرجعيات المواطنة. وكان من المفروض أن تستبدل دولة الاستقلال الولاء للرموز القبَلية والدينية والعرقية بالمساواة أمام القانون والمؤسسات بقطع النظر عن كل الولاءات الثقافية والإيديولوجية. لكن طالما أن هذا التحول لم يحدث، فالنتيجة هي عودة مكبوت "الهوية" و"التكفير" والتعصب الذي يحركه ويغديه مخيال "أمة" أسطورية لا زالت تزعم أنها قادرة على "انتشال" المسلمين من الأوضاع المهينة التي تردوا فيها.

فشلت تجربة "دولة الاستقلال" في تحقيق العبور إلى مرحلة المواطنة بما تعنيه أولا، من قبول حق الاختلاف في اختيار كل مواطن لنمط العيش الذي يرتئيه. وثانيا، في حيادية الدولة عن التدخل في الاختيارات والصراعات الإيديولوجية الجارية في المجتمعات العربية، واكتفائها بضمان حقوق الاختلاف واستمرارها في الزمان.

ولم تفشل دولة الاستقلال لوحدها في مشروع الحداثة العربي، بل فشلت معها الحركات القومية واليسارية والماركسية والإخوانية، في حلحلة الوعي العربي من الولاء القبَلي والديني إلى الولاء الوطني والمواطني. وكان من تبعات الفشل المزدوج، عودة التيارات الدينية المتطرفة للشأن العام وتبشيرها بالحل السحري: العودة إلى "الإسلام الطُهري" ورفض كل التأويلات والاجتهادات التي "حرّفته"، والأهم من كل ذلك الدعوة إلى مقاتلة "المخالفين" و"المرتدين" وكل المجتمعات "الجاهلة" التي انخرطت في السياقات الحداثية الغربية.

وهكذا انتكس الوعي العربي مرة أخرى بهذه الردّة التي تُعبّر عنها اليوم الحركات الإخوانية والجهادية والسلفية المبثوثة في كل مكان. والأمر أدهى وأمرّ حين نعاين العودة القوية للتيارات التكفيرية المعادية للاختلاف في أعقاب موجة "الربيع العربي" (داعش أنموذجا).

والسؤال الذي نود إثارته هنا هو التالي: لماذا تُجهض محاولات التنوير بهذا الشكل الدراماتيكي، وهي في المهد: هل يتعلق الأمر بأعطاب بنيوية ثاوية في بنية الثقافة العربية-الإسلامية؟ وإذا كان الأمر كذلك: كيف يمكننا تفكيك هذه البنية وتشخيص مواطن أعطابها؟ وبتعبير آخر: كيف نخلّص الموروث الثقيل من عطالته، ونعيد إقحامه في السياقات الزمنية والتاريخية، حتى يغتني بالنسبية والتنوع؟

ولا شك أن استشراف حلول عملية لهذه المعضلات، ستكون بوابتنا إلى الحداثة العربية المنتظرة، والتي تشترط في رأينا:

● عدم التعويل على الأنظمة السياسية العربية في دفع وعي شعوبها نحو التحرر الفكري والثورة الفكرية المنتظرة.

● الشروع في تشكيل لبنات المجتمع المدني (منتديات وتجمعات وجمعيات ورابطات ومنابر من المفكرين الشبان) تكون قادرة على معارضة الطبقة السياسية بكل أطيافها الحاكمة و"المعارضة". ونحن نعتقد أن مستقبل المجتمعات العربية والكونية عموما، لا تحدده الغرف السياسية المغلقة والمراكز الإستراتيجية بل فضاءات النقاش العمومي (الافتراضي كما الواقعي) القادرة على صناعة رأي عام بديل، من شأنه أن يُنسّب أو يعدّل أو يُبطل أراجيف الترسانة الإعلامية الضخمة للطبقة الحاكمة. ويعني هذا أن الرهان القادم لا ينصب من هنا فصاعدا على ذلك "المثقف" الأكاديمي أو "الكلاسيكي" الذي تبرّم منه كل من غرامشي وحنا ارنت وبول نيزان (في "كلاب الحراسة" مثلا) بوصفه "يقول ما لا يفعل"، و"يفسر ولا يغير" (ماركس). على المثقف الجديد أن يكون منخرطا "عضويا" ومؤثرا بفاعلية داخل الفضائين العموميين الافتراضي والواقعي. وبعبارة أوضح، أن يكون "مثقفا مدنيا" متحررا من كل أشكال الوصاية الدينية والسياسية.

● إن ما نوصّفه بـ "المثقف المدني" هو البراديغم المتبقي والبديل لكل البراديغمات الفاشلة في حاضرنا العربي، اذ بعد أن شهدنا فشل "المثقف- الفقيه" (أو مثقف المؤسسة الدينية) و"مثقف-الدولة" (دولة الاستقلال الوطني والجامعات الحكومية) ومثقف المعارضة (القومي واليساري والإسلامي)، آن الأوان للتفكير في نموذج بديل على ضوء ما توفره اليوم تكنولوجيات التواصل المعاصرة من آليات تأثير وتأثر لم تتوفر للمثقف السابق (الفقيه-الأكاديمي- والمعارض).

● "المثقف المدني" ليس "كوجيتو مفكر" يعمل في عزلة افتراضية أو تأملية أو من وراء ستار "شاشة الكمبيوتر" باسم مستعار، بل هي جماعات و"كيانات ضغط" أمكنها الظهور اليوم في أعقاب فشل النماذج السابقة، وخاصة سياسات الدولة الوطنية الهووية الغربية، وقد يكون تعبيرا وترجمة لهذا الكيان المهمّش من السكان الذي لفظته آليات الإدماج العولمي، والذي يطلق عليه هاردت ونيغري نعت "الحشود" La Multitude (اللامنتمين) لكنه ليس تماما المعنى الذي نتقصّده في سياقاتنا العربية، لأن المثقف المنشود يجب أن يكون منخرطا وعضويا بمعنى منتميا إلى أفق فكري وفضاء واقعي ومجال طبقي وهوية متعددة الروافد، وكل هذه الانتماءات تشكل مصدر قوته وثرائه الداخلي. ذلك أن المثقف الذي ننتظر ميلاده لن ينزل علينا من السماء، بل سيولد -بالضرورة- من رحم النماذج الفاشلة، ليصنع منها النجاح المنتظر بعد أن يكون قد استفاد من النقد والنقد الذاتي لكل مكامن العطالة التي أصابت الوعي العربي وشلّت قدراته على التغيير.