عن الفرق والاختلاف: الفروق الجنسية نموذجاً


فئة :  مقالات

عن الفرق والاختلاف:  الفروق الجنسية نموذجاً

عن الفرق والاختلاف: الفروق الجنسية نموذجاً

نفترض أن الاختلاف هو شكل تعين الحرية في الواقع، لا على الصعيد المورفولوجي وعمليات التشكل فقط، بل على صعيد الأفكار والقيم والتصورات والآراء والعقائد والتوقعات والمطالب، وأن كل اختلاف يعين فرقاً قد يرقى، بقوة السلب، إلى جدل (ديالكتيك) يهز عرش "الحقيقة". ومن أظهر أشكال الاختلاف اختلاف الأنوثة عن الذكورة واختلاف النساء عن الرجال، ما يعني أن الاحتفاء بالاختلاف احتفاء بالحرية، وهذا ما يعين معنى المساواة وضرورة معارضتها بالحرية.

حتى وقت قريب كان يسود في أوساط الفلاسفة والعلماء اعتقاد مفاده أن الفروق بين النساء والرجال في الأدوار الاجتماعية، وممارسة السلطة، والمكانة المهنية ترجع إلى عوامل بيولوجية وراثية، ونيروبيولوجية وتكوينية، منها تأثير هرموني الأندروجين والإستروجين في تطور أجزاء من الدماغ تظهر فروقاً جنسية وفروقاً في السلوك والقدرات الإدراكية. أدى هذا الاعتقاد، كغيره من الاعتقادات المنسوبة إلى العلم، على خلفية المعتقدات الدينية والأفكار السائدة، إلى اعتقاد آخر مفاده أن الفروق الجنسية فروق نوعية مطلقة، لا فروق في الدرجة، لذلك لا تزال عبارة "الفروق بين الجنسين" شائعة وتوحي بأن الذكور جنس والإناث جنس آخر. ولا تزال عبارة "الجنس الآخر" تسيطر على الأذهان، لدى الحديث عن هذه الفروق. تجدر الإشارة هنا إلى أن ثمة علاقة ضرورية بين نتائج أي بحث (علمي) وبين فرضياته ومسلماته ومصادراته، لذلك أشرنا إلى أثر العقائد والأفكار المسبقة والمعرفة النمطية في ما يسمى نتائج علمية.

هل الإناث جنس آخر؟ وهل ثمة في الواقع أنواع وأجناس وأصناف ورتب وصفوف وفصائل أم هذه كلها مقولات "كلية"، ونماذج صورية من عمل الذهن أو العقل الذي لا يعمل إلا بالكليات، ولا يمكنه إلا أن يقوم بعمليات نمذجة وتنويع وتجنيس وتصنيف لمقاربة الواقع العياني، الأفرادي، والإمكاني أو الاحتمالي، والمتغير على الدوام، للتغلب على واقع الكثرة والاختلاف ومحاولة تنظيمه؟ ثم أليست هذه العمليات نفسها عمليات تنميط واختزال لصفات الأفراد وخصائصهم ممهورة بختم العلم والمعرفة الموضوعية؟ وما سر جنسنة العلوم التي تعنى بالكائن البشري، في حين لا نقع على مثل هذه الجنسنة في علوم الحيوان والنبات، مع أن وظيفة التكاثر و"حفظ النوع"، أو حفظ الحياة، هي نفسها في جميع الأحوال؟ لا بد هنا من البحث عن القاع الإبستيمولوجي الذي يكشف عن نزوع ما إلى الكلية والشمول والتجريد والتعميم، والجمع والتوحيد، ومحاولة القبض على الكلي والمطلق واللانهائي، الثابت والدائم، الذي لا يعباً باختلاف الأفراد وتغير أحوالهم، فلا ينظر إليهم إلا على أنهم أعراض ومظاهر لجوهر خالد، مع أن جميع العلوم التجريبية تبدأ بدراسة الأفراد والحالات الخاصة.

على صعيد اللغة لا يهتم المتكلم بواقع أن الفرق هو، بمعنى ما، نتيجة الاختلاف ومتعلق به. كل اختلاف يضع أو يعيِّن فرقاً، مهما يكن الاختلاف طفيفاً؛ وأن هذا الأخير قد يكون اختلافاً كيفياً أو كمياً. الاختلافات الطبيعية بين الكائنات تعين فروقاً مورفولوجية بين أفراد كل (نوع)، أو فروقاً في الشكل تقوم عليها تصنيفات وضعية، من عمل الذهن. فالإيحاء الدلالي (السيميائي) للفرق يوهم بأن الفروق الجنسية أو غيرها فروق نوعية، جوهرية ومطلقة. وعبارة الفرق توحي بالفصل والقطع والبعاد، ومنها الفراق، وتفريق الشمل، ومفرق الطريق والطلاق والموت .. (راجع/ي لسان العرب، مادة فرق)

من يرون الفروق الجنسية بين الإناث والذكور، باستثناء الحمل والولادة وشكل الجهاز التناسلي، فروقاً مطلقة، إنما ينظرون إليها على أنها فروق نوعية أو جنسية[1] (من النوع Kind والجنس sort) مبنية كلها على هذا الاستثناء؛ أي فروق بين نوعين أو جنسين من البشر، ومن هنا، على الأرجح درج الحديث عن جنسين، وصار يشار إلى الإناث على أنهن "جنس آخر". نعتقد أن الفروق الجنسية differences sexual (البيولوجية) وفروق الجنوسة (الاجتماعية والسلوكية) كلها نسبية، وقابلة للملاحظة والقياس بنية ووظيفة، باستثناء شكل الجهاز التناسلي، لا وظيفته، التي لا تتحقق إلا بتضافر الأنوثة والذكورة وتضافر جميع الأجهزة الحيوية الأخرى. إن قابلية الفروق للقياس الكمي هي ما يؤكد كونها فروقاً نسبية.

عمليات التنويع والتجنيس والتصنيف ترجع إلى عملية "التعقيل" الأرسطية، أو عملية تقعيد وقوننة ما هو قائم بالفعل، التي قامت على ثنوية الهيولى والصورة أو المادة والصورة، أو الجوهر والعَرَض، ومبدأ الوظيفة، والتراتب الهيرارشي الصاعد من الأدنى إلى الأعلى[2]: من الجمادات فالنباتات فالحيوانات فالإنسان، فالآلهة. وهذه جميعاً سرت في الفكر البشري والعقائد الدينية، ولا سيما التوحيدية منها، ولا تزال حاكمة في الثقافات التقليدية، لدى مختلف الشعوب.

كل رجل ذكر بنسبة ما وأنثى بنسبة أخرى، وكذلك كل امرأة؛ لذلك نتحاشى دوماً الحديث عن أو إلإشارة إلى جنسين أو إلى "الجنس الآخر"، و"الجنس اللطيف" .. إلخ، مع أن إحدى الغايات التي يتوخاها هذا النص، هي إبراز الاختلاف والاحتفاء به. لكن الاختلاف النسبي شيء والاختلاف المطلق أو الجذري، شيء آخر. واختلاف الأنوثة عن الذكورة شيء، واختلاف الأنثى عن الذكر أو المرأة عن الرجل شيء آخر.

معنى الأنوثة لا يطابق معنى المرأة، فيستبعد الذكورة من بنيتها. ومعنى الذكورة لا يطابق معنى الرجل فيستبعد الأنوثة من بنيته. هذا أمر غاية في الدقة والأهمية، يدل تفويته على اختلاط في الوعي وتشوُّش والتباس في المعرفة. ومن ثم، فالخصائص التي تنسب إلى الأنوثة ليست خصائص المرأة حصراً، ناهيك عن المرأة س أو ص أو ع. والخصائص التي تنسب إلى الذكورة ليست خصائص الرجل حصراً، ناهيك عن الرجل س أو ص أو ع. وإلا باتت الفروق بين الأنوثة والذكورة، وبين الرجال والنساء فروقاً مطلقة، والبيولوجيا سيدة الموقف: المرأة تحيض، فهي مدنَّسة؛ انتهى الأمر. المرأة تحمل وتلد، فهي مقدَّسة؛ انتهى الأمر. في الحالين لا يمكن أن يجمعها شيء مع الرجل. المرأة ليس لها قضيب؛ المرأة ليس (= سلب)؛ انتهى الأمر.

التدنيس والتقديس والليْس (= السلب) مبنية كلها على بيولوجيا مبسطة ومسطحة، بل جاهلة، دعونا نسمها "بيولوجيا اجتماعية"، عامة، والعمومية هنا عماء. البيولوجيا الاجتماعية عنصرية، كالداروينية الاجتماعية، التي تبنتها النازية. أليس هذا جذر ما يسمى "التمييز ضد المرأة"؟

إن مصطلحات "فرق جنسي" و"تمايز جنسي" و"فرق جنوسة" يمكن أن تستعمل بالتبادل لوصف سمات "جسمانية" وخصائص نفسية وسلوكية تختلف في المتوسط بين الإناث والذكور[3]. فثمة فرق بين النساء والرجال في الطول، مثلاً، لكنه فرق في متوسط الطول، ولا يعني أبداً أن جميع الرجال أطول من جميع النساء، أو أن الطول صفة خاصة بالرجال. فالفروق ليست نسبية فقط، بل هي فروق في المتوسط الحسابي. وإذا كان قياس الفروق القابلة للملاحظة والقياس يسيراً فإن قياس الفروق النفسية بالغ الصعوبة. فالخصائص النفسية لا تظهر مباشرة، بل يستدل عليها من السلوك، وليس لها معايير ثابتة ومتفق عليها، كمقاييس الطول أو الحجم أو الوزن. والأهم من ذلك أن معايير الخصائص النفسية محكومة بآراء شائعة، وأفكار مسبقة أو منمِّطة stereotype، يتبناها العامة وكثير من العلماء، بلا تمحيص، وبعضها فروض أساسية لدراسات وبحوث توصف بالعلمية والموضوعية، تتناول عينة عشوائية أو منتقاة. نعتقد أن الفروق الذهنية والنفسية والسلوكية فروق فردية أساساً، فمن التعسف اعتبارها فروقاً بين النساء والرجال، واصطناع نماذج صورية من السواء النفسي والسلوكي، لكل من "الجنسين" المفترضين.

ثمة "مشكلة سياقية" يعانيها الناس عامة والباحثون خاصة، كافتراض أن الألعاب العنيفة أو الميول العدوانية، مثلاً، مقصورة على الذكور. مع أنه يمكن افتراض أنها خصائص ذكورية، كامنة في خافية الأولاد والبنات والرجال والنساء، في مقابل خصائص أخرى معاكسة، في الأولاد والبنات والنساء والرجال، تتفاوت نسبها، حسب البيئة والتربية والثقافة. فلا يمكن فصل هذه الميول أو غيرها عن شروط تنميتها أو كفِّها. فلا مفر من افتراض أن أكثر ما يسمى خصائص ذكورية وخصائص أنثوية متأصلة في المطالب والتوقعات الاجتماعية من الذكور والإناث، على مر القرون ومئات القرون، ومعززة أو مكفوفة بالتربية والثقافة. ولا مفر من الاعتراف بأن هذه المطالب والتوقعات قابلة للتطور والتغير، تبعاً لتطور أنماط الحياة الاجتماعية وتغيرها.

كل اختلاف بين الأفراد قابل للملاحظة والإدراك الحسي المباشر، بالحواس المجردة أو بوساطة الأدوات المكبِّرة يعيِّن فرقاً قابلاً للقياس، وقد يرقى إلى تناقض جدلي. اللافت في موضوعنا أن من يتحدثون عن وجوه الاختلاف والفروق الناجمة عن كل منها، يسكتون عن وجوه التشابه بين الإناث والذكور، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها وإدراكها بالحواس وأدواتها، أو في الخصائص النفسية - الذهنية والسلوكية؛ فلا اختلاف بلا تشابه، وإلا كانت الأحكام تعسفية. لذلك لا ينبغي إهمال التشابه ولا إهمال الفروق، بما في ذلك الطفيفة منها، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها أو في الخصائص النفسية والسلوكية.

ثمة مستويان من الفروق: فروق بين الذكور والإناث، وبين الرجال والنساء، وفروق بين الأفراد بغض النظر عن الجنوسة، والثانية لا تقل أهمية عن الأولى، لأنها تبين أثر العوامل الطبيعية والاجتماعية والثقافية، وأثر التربية والتنشئة في الأفراد، ونعتقد أنها أولى بالدراسة لأنها أكثر شمولاً.

أكثر الفروق الجنسية وضوحاً تلك المتعلقة بهوية الجنوسة المركزية والميول الجنسية، أي بشعور الذكر بأنه ذكر والأنثى بأنها أنثى، والاهتمام بالشريكة أو الشريك، باستثناء اضطرابات الهوية الجنسية، وهي أقل، قياساً بالحالات العامة[4]؛ غير أن اضطراب الهوية الجنسية، أي إصرار الأنثى على تعريف نفسها بأنها ذكر ورغبتها في التحول إلى ذكر، أو العكس، يجب أن تقوم دليلاً، لا على نسبية الفروق فقط، بل على وحدة الأنوثة والذكورة أساساً، وكذلك الميول المثلية والثنائية، على الرغم من ضآلتها النسبية. وهذا ما نشير إليه بإمكانية تأنُّث الخصائص الذكورية وتذكُّر الخصائص الأنثوية، في الفرد، أو في "الكلية العينية". "فعلى الرغم من أن معظم الناس يبدون إما على أنهم ذكور بوضوح، وإما على أنهن إناث بوضوح، فإن كلاً منهم أو منهن فسيفساء معقدة من الخصائص الأنثوية والذكرية، إضافة إلى أن هناك من تولد أو يولد خنثى"[5]. الاستثناء هنا لا يؤكد القاعدة، بل ينفي عنها صفة العمومية، إذ يدل إما على ميل في التطور ينحِّي صفات أو خصائص بعينها، وإما على إمكان قد يتحقق غداً أو بعد غد، لذلك لا يجوز إهماله على نحو ما هو شائع. والاستثناء، من جهة أخرى، يضع الاستقراء، الذي تربع على عرش المعرفة "العلمية"، تحت السؤال. وإلى ذلك، لاحظ فرويد (1856 - 1939) أن مفهومي المذكر والمؤنثة، اللذين لا يحيط بهما ظل من شك في نظر العامة، هما من أشد المفاهيم تعقيداً، من وجهة النظر العلمية. فهذان اللفظان يستعملان بثلاثة معان مختلفة؛ ".. فيمكن أن يعنيا "الإيجاب" و"السلب"، وقد يؤخذان أيضاً بالمعنى البيولوجي، أو أخيراً، بالمعنى السوسيولوجي"[6].

نريد أن نقول إن اختلاف الأفراد، من الذكور والإناث والرجال والنساء علامة على أن كلاً منهم أو منهن هو أو هي النموذج الكامل للإنسان، وأن الحرية المتعينة في الاختلاف هي قوام إنسانيتهم وإنسانيتهن, نحن أحرار لأننا مختلفات ومختلفون. ومن ثم فإن المساواة قد تكون فخا إذا لم تقترن بالحرية، وتنحدُّ بها أولاً، وإذا لم تتحدد بالتساوي في الحيثية الإنسانية، والحيثية الوطنية ثانياً، وبأنها مساواة في الحريات المدنية، الخاصة والعامة، والحقوق المدنية والسياسية والالتزامات القانونية أخيراً.

[1] - ليس هنالك اتفاق على أيهما أكثر شمولاً، النوع أم الجنس، وليس من معيار غير اصطلاحي لذلك.

[2] - راجع/ي، إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص 25 وما بعدها.

[3] - ميليسيا هاينز، جنوسة الدماغ، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 333، يوليو 2008، ص 8 وما بعدها.

[4] - ميليسيا هاينز، المصدر السابق، ص 14 وما بعدها.

[5] - ميليسيا هاينز، المصدر السابق، 24

[6] - سيغموند فرويد، ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1983، الهامش (9)، ص 92