فوزية ضيف الله: في الفارماكون، التأويل واللوغوس


فئة :  حوارات

فوزية ضيف الله: في الفارماكون، التأويل واللوغوس

تتشرف مؤسسة مؤمنون بلا حدود اجراء هذا الحوار الفكري معكم دكتورة فوزية ضيف الله

يوسف بن عدي: أهلا وسهلا

فوزية ضيف الله: مرحبا أستاذ يوسف بن عدي، وشكراعلىهذه الاستضافة.

يوسف بن عدي: كيف تقدمين تجربتكُم الفلسفية ومساركُم العلمي والأكاديمي للقارئ؟

فوزية ضيف الله: مرحبا، فوزية ضيف الله: مرحبا، أنا خريجة دار المعلمين العليا والمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، مبرزة في الفلسفة منذ 2003، أحرزت على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة منذ 2011، بإشراف من الأستاذ الدكتور محمد محجوب. أدرس بالجامعة التونسية منذ 2003 وأشغل حاليا خطة أستاذ مساعد بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس. كان اهتمامي موجها منذ بداية مسيرتي العلمية بالتأويل والفينومينولوجيا، ولي عدة محاضرات ومقالات في هذا المبحث، من بينها مؤلفي الأول الصادر مؤخرا في دار ضفاف للنشر، "كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهيدغرية"، أما المقالات الأخرى فهي منشورة في مجالات عربية وكذلك ضمن منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

يوسف بن عدي: هل بالفعل، أنّ التأويل كان في البدء سبب الكتابة(فرماكون) ولعنتها حسب أفلاطون؟

فوزية ضيف الله: الكتابة عند أفلاطون هي لعنة من لعنات الآلهة، فالنص حالما يكتب، تعدد آباؤه ويصبح عرضة لتعدد التأويلات، فيقوم كل مؤول بمهمة البحث في نسب هذا النص الذي تكثر آباؤه. ذلك يعني أن الكتابة من جهة ماهي "فارماكونا" (الفارماكون هو الدواء الذي يمكن أن يكون علاجا أو سما) هي لعنة. لقد ظلّت أسطورة الكتابة ناظمة للقول الفلسفيّ في التاريخ وفي الكتابة وفي الذاكرة: فإن كان أفلاطون قد جعل الكتابة "فارماكونا" للذاكرة، فإنّ هذا "الفارماكون" ظلّ مراوحا بين أن يكون "علاجا أو سمّا"، وقد تجلّى هذا الالتباس في القراءات المعاصرة لأفلاطون (دلوز، نيتشه، فوكو، ريكور). ولعّل الغريب في الأمر هو أنّ هذه المراوحة كانت قد حكمت القول النيتشوي في التاريخ من جهة تصوّره "ضاراّ ونافعا" للحياة حسب طريقة استعماله. فما يشدّ انتباهنا في المقاربة النيتشويّة للتاريخ هو تحويله لهذه الولادة الأسطوريّة للتاريخ التي لم تحسم أمرها بنفسها وظلّت دافعا لقيام التأويلات المتضاربة، إذ عمد نيتشه إلى قلب هذه الأسطورة بإخضاعها للجينيالوجيا بحثا في التاريخ الماضي عن التسلسل النسبي للكتابة التاريخيّة. كما أخضع التاريخ إجمالا ضمن نصّ الإعتبارات لرؤية نقدية وعملت على رصد الأخطاء والفظاعات المرتكبة في حقّ الحياة والإنسان بدعوى الوصول إلى معرفة موضوعيّة.

لقد عمد ريكور وكذلك جيل دلوز إلى إعادة قراءة وكتابة "أسطورة اختراع الكتابة" لمعرفة إن كان التاريخ علاجا أو سمّا أو إن كان علاجا وسمّا في الوقت ذاته (فارماكون). لا يمكن أن نفهم محاولة ريكور في قلب مفهوم "أغلوطة" اشتباه الولادة الأسطوريّة للكتابة كما رواها أفلاطون في محاورة الفيدروس، دون أن نشير إلى التشديد الريكوري على ضرورة التفريق بين المعاني التي يحيل عليها "الأصل" عن المعاني التي تدلّ عليها "البداية" أو "البدء". يشير الأصل إلى انبثاق فعل أخذ المسافة الذي يجعل المشروع كلّه ممكنا بالتالي في بدايته في الزمان كذلك.

تؤكّد هذه الأسطورة أنّ الكتابة "لعنة من لعنات الآلهة" لأنّ النصّ المكتوب حالما يولد يصبح "نصّا يتيما" بل "نصّا لقيطا" دون أب. إنّ الأب في فهم داريدا هو "اللوغوس" (العقل) لكونه الفاعل المتكلّم. إلاّ أنّ "اللوغوس الابن" (النصّ المكتوب) يكون "لقيطا" في غياب أبيه (صاحب النصّ الأصلي) الذي يدافع عنه ويحميه من زخم التأويلات المتضاربة. لذلك فإنّه "ليفنى من دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر. حضور أبيه الذي يُجيب. يُجيب عنه ومن أجله. من دون أبيه، لا يعود، بالذات، سوى كتابة. كذلك هو، على الأقلّ، ما يقوله هذا الذي يقول، هذه أطروحة الأب. وعليه، فخصوصيّة الكتابة إنّما تعود إلى غياب الأب". يصبح هذا النصّ المكتوب نصّا غير معترف بأصوله، فإلى من سينتسب؟ ستتكثّر آباؤه وتتعدّد محاولات إثبات نسبه دون جدوى. لذلك اعتبرت هديّة الكتابة هديّة "مسمومة" جامعة بين الداء والدواء، ذلك هو معنى أن تكون الكتابة فارماكون. لا يكاديكون النصّ المكتوب ابنا لأحد، فيعيش تجربة اليتيم الذي لحظة مجيء القول إلى التدوين. فإن كان "اللوغوس الأب" (الكلام الحيّ) يتمتّع بأب حيّ ماثل في الحاضر يسانده، فإنّ "اللوغوس الابن" (المكتوب) نصّ اغتيل أبوه، وهكذا تصبح الكتابة تجربة لليتم والتدمير القاتل للأب.

لقد وردت عبارة "الفارماكون" في محاورة الفيدون من جهة دلالتها على أنّ الذاكرة والتعلّم كانا قد وجدا علاجهما ضمن تقنية الكتابة التي تكون في الوقت نفسه داء ينهش الخطاب الحيّ وينزع عنه حيويّته وشفافيّته. فأن تكون الكتابة "فارماكونا" هو أن تكون في الوقت نفسه داء ودواء. يتضمّن "الفارماكون" الضدين معا مثلما عبّر عن ذلك أفلاطون نفسه في المقطع 919 ب من النواميس: "لمثل هذه الرذائل، ينبغي أن يجد المشرّع في كلّ حالة فارماكونا. وإنّه لمصيبٌ المثلُ القديم القائل إنّ من الصعب مقارعة ضدّين في آن واحد، وهذا ما تثبته الأمراض وآفات أخرى كثيرة".

يبيّن جيل دلوز أنّ عبارة "الفارماكون" عند أفلاطون مندرجة ضمن سلسلة متداخلة من الدّلالات قد لا تتوافق مع مقاصد أفلاطون نفسه، بل تكشف عنها "دهاليز المعنى" بفضل تفكيكية تغادر الامتثال لضرورات اللغة قاصدة مناطق الثقافة المختلفة. لعلّ الممرّات التي ينتهجها أفلاطون في حديثه عن هذه الكلمة هي ممرّات تلفّها العتمة، تاركة الأسئلة متواترة الطرح ومتعذّرة الإجابة. إنّ أسطورة الكتابة هي عينها أسطورة ولادة التاريخ، ذلك أنّ رهان هذه الأسطورة هو "مصير الذاكرة"، وإن كانت الذاكرة الحقيقية هي التي تتعارض مع كلّ أشكال الكتابات. لذلك يتساءل ريكور "كيف يمكن للسجال بين الذاكرة وبين التاريخ ألا يكون معنيّا بالأسطورة؟"

يقدّم ثيوث (Theuth) الكتابة على أنّها علاج للعلم والذاكرة، معنى ذلك أنّ كتابة التاريخ هي الذاكرة الاصطناعيّة التي تتعيّن كوريثة شرعيّة لفنّ الذاكرة. غير أنّ كتابة التاريخ بهذا المعنى ليست "إعادة تذكّر من داخل النفس" بل "إعادة تذكّر من الخارج" بواسطة تقنية الحفظ غيبا. إذّاك يبرز ضرر الكتابة من جهة كونها الفنّ الذي ينتج النسيان عوض أن يعالج الذاكرة. تؤدّي تقنية كتابة التاريخ على الاستغناء عن الاستعمال الذاتي للذاكرة الشخصية واستبدالها بذاكرة اصطناعيّة تتمثل مهمّتها في الاستظهار أي إعادة التذكّر لا التذكّر نفسه. يقول سقراط في الفيدروس (275 أ): "وبالفعل وبعد وضع ثقتهم في ماهو مكتوب فإنّهم سيقومون بعمليّة إعادة التذكّر من الخارج بفضل بصمات غريبة، وليس من الداخل بفضلهم هم أنفسهم، إذن أنت لم تجد علاج الذاكرة بل وجدت علاج إعادة التذكّر".

يُشدّد ريكور على ضرورة التخلّص من الشبهة التي تعتبر التاريخ ضررا للذاكرة، والتخلّي عن دواء الأسطورة الذي لم يتبيّن إن كان علاجا أم سمّا. إذ يقرّ بالتطابق بين "ذاكرة علّمتها وأثارتها كتابة التاريخ، (...) وتاريخ عالم قد أصبح قادرا على أن يُنعش الذاكرة الآفلة". وتنتهي أسطورة الكتابة بانتصار الخطابات التي "تُكتب في النفس" عن كلّ الخطابات الأخرى، وتنتصر الكتابة على التاريخ.

يوسف بن عدي: هل يعني التأويل التحام الذات مع الموضوع واضفاء المعاني والدلالات على العالم والموجودات؟

فوزية ضيف الله: التأويل في اللغة اليونانية: هرمينوطيقا (Herméneutique) وهذا اللفظ مشتق من الفعل اليوناني (hermeneúô) الذي يعني "ترجم" (traduire)، فسّر (expliquer)، وعبّر (exprimer). يكون الفعل الاغريقي في هاته الأحوال الثلاثة دالا على إبلاغ الفهم (amener à la compréhension)، فتكون مهمة التأويل مهمة توسطية لتكفّلها بإيصال المعنى، ويكون المؤول بمثابة الرسول الذي توكل إليه مهمة إبلاغ المعنى نسبة إلى هرمس (Hermès) رسول الآلهة في الميثولوجيا الاغريقية والذي تعود إليه تقاليد إبداع اللغة والكتابة وتقنيات الهرمينوطيقا عامة. قد لا يختلف التأويل (interprétation) عند نيتشه عن التقويم (évaluation)، بل قد يوصلنا الجمع بينهما إلى إرادة الاقتدار. إن إرادة الاقتدار هي التي تُؤول وتُقوّم. فإن كان التأويل هو تحديد الاقتدار الذي يُعطي معنى للشيء، فإن التقويم هو تحديد لإرادة الاقتدار من جهة ما تعطيه للشيء من قيمة، وهكذا تُشتق قيمة القيم ودلالة المعنى من إرادة الاقتدار نفسها. لذلك تقودنا إرادة الاقتدار عند نيتشه إلى التأويل، ويحيلنا التأويل إلى إرادة الاقتدار.

يتمثَّل التأويل عند نيتشه في تقدير درجات الاقتدار المتباينة مقارنة بدرجة اقتدار أقوى. يُبيّن نيتشه هاهنا أنّ الاقتدار التأويلي الذي تكتسبه الإرادة يتحدّد ضمن العلاقة القائمة بين مختلف القوى المتباينة، وضمن تبادلها للهيمنة في اتجاه تزايد الاقتدار نفسه. تنظر إرادة الاقتدار إلى القيم على أنّها تأويلات ومظاهر للمعنى، فتنسب ما تمّ اختياره والإحساس به إلى الأشياء الخارجة عنها: فكلّ معنى هو إرادة اقتدار، وكلّ المعاني العلائقيّة تُردّ إليها. يكتب نيتشه ضمن إحدى شذراته المتخلّفة قائلا: "إنّ قيمنا هي تأويلات أسقطناها على الأشياء، هل هناك معنى لما هو في ذاته؟ أليس المعنى، تحديدا، هو بالضرورة معنى علائقيّا، أو منظورا؟ كلّ معنى هو إرادة اقتدار (...)". إنّ التقويمات الأخلاقية من قبيل "الخيّر والشرّير" هي تقويمات لم تحسم بعد علاقتها بإرادة الاقتدار، ولا معنى يمكن أن يحصل لنا من وراء التقابل بين هذه المفاهيم الأخلاقيّة، فلابدّ من ربطها بنشاط إرادة الاقتدار التأويليّ.

كلّ جسد هو إرادة اقتدار (إنساني مفرط في انسانيته)، وكل جسد عليه أن يكون سيّدا، قويّا مهيمنا مقتدرا لأنّه يحيا والحياة هي إرادة الاقتدار نفسها. لكن ينبغي احتواء هذه الإرادة لتشرع في تجاوز القيم القديمة وخلق قيم جديدة وتكون العودة للإرادة بممارسة التأويل من جهة ما هو تقويم للقيم عبر غرائز الجسد المقتدرة. كما أنّ غرائزنا وحاجاتنا هي التي تؤوّل العالم، فكلّ غريزة هي ضرب من الرغبة في الهيمنة والغلبة، تختار لنفسها المنظورية التي تفرضها على بقية الغرائز محوّل إيّاها نحو الوجهة التي تريد.

إنّ التأويل هو محاربة أخلاق الكهنوت الارتكاسية، لذلك يُحارب نيتشه المؤسسة الدينية التي تكون وراء نشأة قيم الخير والشرّ، فيكون تأويلية إرادة الاقتدار ضربا من محاربة أخلاق الكهنوت الارتكاسية التي أنتجت إنسان الحداثة المشوّه الذي لم يعد قادرا لا على أن يكون سيّدا ولا على أن يكون عبدا. يكتب نيتشه: "التأويل هو تحرير المعنى من الكاهن (جينيالوجيا الأخلاق، الفقرة 16). إرادة الاقتدار هي سياق تأويلي، والتأويل هو ضرب من إرادة الاقتدار، هو نمط من التطبيب النفسي ومداواة للنفس من التدجينات الأخلاقية ونمط من النبش الجينيالوجي في نسب القيم والتقويمات الأخلاقية المختلفة. لذلك يتطلّب معاشرة للمفاهيم وتفكّرا طويلا. إلاّ أنّه فنّ صعب المراس ولا يأتينا في كلّ مرّة إلاّ بإبانة مؤقتة" (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثانية، الفقرة 16). فالمؤوّل لا يدافع عن أيّ معنى نهائيّ، لذلك لا يملّ نيتشه من تحويل وجهة المصطلحات التقليدية والميتافيزيقة باستمرار ويستخدمها بشكل مجازيّ، فالفلسفة في حاجة ملحّة ومستمرّة للتأويل والتقويم والتحويل المفهوميّ.

يوسف بن عدي: إلى أيِّ حدٍ يمكن اعتبار أن مؤلفكم: "كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهيدغرية" (2015) وغيره من النصوص، هو بيان ان الوقائع والافكار والاثر... ليست إلا تأويلات لامتناهية؟

فوزية ضيف الله: يرى نيتشه أنّ قيمة العالم تكمن في تأويلنا له، وأنّ المظهر المباشر للحياة لا يخفي في أعماقه واقعا أكثر عمقا من الذي نراه أمامنا. ذلك ما يقصده نيتشه بقوله ضمن أثره المتخلّف إرادة الاقتدار ”لا توجد وقائع، ليس إلاّ تأويلات“. («il n’y a pas de faits, rien que des interprétations».) فحسب نيتشه لا وجود لواقع موضوعيّ متفق عليه، ولا وجود لأيّ "مفاهيم" أو "مقولات" بريئة، بل هي علامات على تدخلّ حيّ لإرادة الاقتدار، هي لعبة التأويلات الخاصّة بإرادة الاقتدار في تزايد مطّرد للاقتدار على الحياة (ما وراء الخير والشرّ، فقرة 36). فإذا كانت إرادة الاقتدار "إرادة متجهة نحو الاقتدار"، مثلما هو متجلّ ضمن الأصل الألماني لهذه "الكلمة الأساسية" (Der Wille zur Macht)، فإن كلّ إرتقاء وتزايد في الاقتدار من شأنهما أن يفتحا منظوريات جديدة في التأويل. تكمن مهمة التأويل في الكشف عن المعنى المتخفي خلف صراعات القوى والغرائز فيما بينها، فتكون كلّ قوة في علاقة مع قوى أخرى، إمّا للطاعة أو لتوجيه الأوامر. فالتأويل هو فضح العلامات التي لم تعد بريئة، هو فنّ اختراق الأقنعة والكشف عنها. لذلك يرى نيتشه أنه من الضروري أن نلقّن الفلاسفة "فنّا رفيعا في القراءة الجيّدة" باستطاعته أن يخترق شبكة التأويلات. ذلك أنّه يقيم علاقة وطيدة بين القراءة والكتابة والتأويل: فلا قراءة دون تأويل، أو دون كتابة جديدة تنقل المعنى الأول بلطف وتدفع منظورية النصّ نحو اتجاه جديد. فالقراءة التأويلية هي كتابة لنصّ جديد. إن الأثر النيتشوي يظل ملهما للقراء أبدا، فالتأويلات لا تنتهي، مادام نيتشه فيلسوفا "على غير أوانه".

تتطلّب قراءة الشذرات التسلّح بفنّ فيلولوجيّ صارم، يرتقي بالقراءة إلى مستوى الفنّ، ترسيخا لعلاقة النصّ بالقارئ من خلال التأويل. ذلك أنّ أسلوب الكتابة وفق الشذرات هو أسلوب متوعّر، وقد تتزايد صعوبة القراءة نظرا لقصر الشذرة وإيحائيّتها. فعلى القارئ ألاّ يدّخر عناء قراءتها، بل عليه أن يكون قارئا متأنيّا، يقظا، صبورا، فقيه لغة جيّد "بأنامل وعيون رقيقة". فالشذرة لا تُغري إلاّ العقول الحرّة التي تجد فيها "ميدانا جديدا للرقص". إنّ الشذرة لا تستدعي مجرّد القراءة بل تطلب تأويلا (Auslegung)، فطلاسمها (entziffert) لا تنكشف إلاّ عند الشروع في تأويلها تأويلا دقيقا. ولا بدّ على المرء في تقدير نيتشه أن يرتفع بقراءته إلى مرتبة تجعلها فنّا من الفنون، ويُورد في هذا السياق مجازا طريفا يشبه فيه معاودة القراءة لحصول الفهم بظاهرة "الاجترار" لدى البقرة: فلا بدّ للمؤوّل أن يكتسب ملكة "الاجترار" التي تغافل عنها ونسيها حتى يتمرّن على القراءة. لذلك ينفي نيتشه فكرة الانتهاء إلى تأويل نهائيّ، واحد ومطلق، فلا وجود لحقيقة مطلقة، بل إنّ نيتشه يتكلّم في الفقرة 208 ("الكتاب الذي كاد يصير إنسانا") من السفر الأوّل من إنسانيّ مفرط في إنسانيّته عن ترسيخ قاعدة للفهم المتعدّد للنصّ الواحد. فيفاجأ الكاتب حينما يرى أنّ نصّه قد انفصل عنه ليحيا حياة تأويلية جديدة، يرتحل من فهم إلى آخر، ومن منظوريّة إلى أخرى باحثا دوما عن قرّاء جدد "يبعث الحياة، يُلهم الفرح، يُلهم الرعب، تتولّد عنه أعمال أخرى، يصير روح بعض التصميمات وبعض الأعمال. (...)، يحيا ككائن له روح وعقل ولكنّه مع ذلك ليس إنسانا. (...)، إنّه لم يعد يُمثّل سوى الرماد بينما ناره قد توزّعت في كلّ الآفاق ولم تنطفئ". لذلك، ينفي نيتشه فكرة الانتهاء إلى تأويل نهائي، واحد ومطلق، فلا وجود لحقيقة واحدة. بل إن الفيلولوجي المتمرّس هو الذي يُثبت أنَّ النصَّ حمَّال معان متعدِّدة وأنَّ المشروع الفيلولوجي يقتضي أن تتصارع الإرادات وتتداخل لتجعل الكلمات تتبرّأ في كلّ مرَّة من معنى ما لتُلبسها معان أخرى تحِّل محلّها.

يوسف بن عدي: هل يعني هذا أن التأويل الانطولوجي مناهضة للتاريخ وللتطابق والهوية..؟

فوزية ضيف الله: إن كنتم تقصدون بالـتأويل الأنطولوجي القراءة الهيدغرية لتاريخ الفلسفة عامة من جهة مشكل الوجود، فذلك يعني أن هيدغر وفق هذا التصور لم يكن مختلفا عن الاغريق. بيد أنه علينا أن نفهم أن هيدغر لم يكن مناهضا للتاريخ والهوية والتطابق على نحو مطلق، بل عمد إلى مراجعة هذه الثوابت من خلال تحطيم تاريخ الأنطولوجيا، ربط الهوية بالاختلاف، وإقامة جدل كبير مع الاغريق. عندما يتعرض هيدغر إلى مثل هذه الأطروحات فهو بصدد مناقشتها مع تاريخ كامل، هو تاريخ نسيان الوجود.

يوسف بن عدي: أليس من شرط تحقق القراءة التأويلية هو الاقلاع عن المطلق والكلي والواحد والمثل..؟

فوزية ضيف الله: لا يتحقق الفهم إلا ضمن الغيرية، فيكون الفهم تحدّ لهذه الغربة ولهذه الغيرية. إن التأويل هو تملّك للمعنى من خلال فهمنا لخطاب غريب. لكن، لا يمكننا الجزم أن التأويل هو إقلاع عن المطلق والكلي، لأن ما سيحوّل هذه الغرابة إلى ألفة هو الاشتراك في هذا المطلق نفسه. يتقمص المؤول المعنى المضمر في النص "تقمصا وجدانيا" محاولا أن أن يصيّر ما كان غريبا شأنا حميما وخاصّا. فالتقاء القارئ بالنصّ لا يحصل إلا من خلال اختبار الغيرية، بمعنى أن الإحساس بالمسافة هو شرط لكلّ فهم وأنّ عدم الفهم متأت من عدم القدرة على طيّ المسافة وتجاوزها. تكون القراءة التأويلية محاورة للمطلق والكليِّ، رغم العزم على مغادرته من خلال ارساء تأويلات متعدّدة.

لقد تحدّث فوكو في جينيالوجيا المعرفة عن التأويل عند أقطاب الظنّة "نيتشه، فرويد وماركس" قائلا: "(...) إنّهم لم يُضفوا معنى جديدا على أشياء لم يكن لها معنى وإنّما غيّروا في الحقيقة طبيعة الدليل وبدّلوا الكيفية التي كان بإمكان الدّليل أن يؤوّل بها" (ص47). ذلك أنهم طرحوا إمكانيات أخرى للتأويل، أحدثوا تغييرات على الموضع الذي تتواجد فيه العلامات والدّلالات، فأصبحت تدرك في عمقها الخارجي متفاوتة الدرجات ومتغيرة في المكان. لذلك كان ينبغي على المؤوّل أن ينزل إلى أسفل ليكشف عن هذا العمق الباطني الذي لا يعني ما يدعيه. فإذا "كان على المؤوّل أن ينزل هو ذاته نحو الأعماق منقّبا فإنّ حركة التأويل تكون على العكس من ذلك، حركة سطح يتزايد علوّه بحيث يدع العمق ينكشف من فوقه شيئا فشيئا. وحينئذ تكون الأعماق قد استعيدت كما لو كانت سرّا مطلق السطحية، بحيث يكون طيران النسر وصعود الجبال، وجميع تلك الاتجاهات العمودية التي يزخر بها كتاب (زرادشت)، عبارة عن قلب للأعماق وكشف عمّا كانت تخفيه، (...) وكلّما اتخذ العالم تحت أنظارنا شكلا أكثر عمقا فإنّنا سنتبيّن أنّ جميع الأشياء التي كانت تشكّل أعماق الإنسان لم تكن إلاّ لعب أطفال"(ص48).

على المؤوِّل إذا أن ينزل إلى القاع، إلى القعر، إلى العمق وأن يكون منقّبا جيّدا كما يفصح عن ذلك نيتشه نفشه في الشذرة 446 من كتابه فجر. بيد أنّ هذا العمق هو "عمق السطح"، هو "عمق خارجي"، فحركة التأويل عند نيتشه على حدّ تعبير ميشال فوكو هي حركة السطح الذي يتزايد علوّه. يكتسب مفهوم "السطح" دلالة كبرى لدى نيتشه وماركس وكذلك عند فرويد: فقد أحدث نيتشه قلبا لمفهوم "العمق" وجعل عمق الشيء كامنا في "سطحه"، وبيّن ماركس أنّه ينبغي أن ننغمس في الضباب حتى نتبيّن غياب وجود الأشباح أو الألغاز العميقة، كما عاين فرويد التدرج المكاني للوعي واللاوعي تحت أنظار المحلل الذي ينظر إلى المريض من فوق.

لقد بيّن فوكو أنّ التأويل المعاصر عامّة، وعند نيتشه خاصّة، لم يعد بحثا عن التناغمات والتشابهات، لم يعد تفسيرا لما هو غامض، أو بحثا عن معنى متخفيّا في عمق النصّ، وإنّما صار ترتيبا للمعاني الممكنة. يغادر نيتشه العمق إلى السطح، ويُغادر أحاديّة المعنى نحو تعدديّة المعاني والدّلالات، ذلك لأنّه لا يجعل التأويل عمليّة نهائية تنغلق بالوصول إلى المعنى الواحد أو القصد الأوّليّ. إنّ التأويل يكون لانهائيّا، لأنّ زمنه هو زمن العود الأبديّ الدائري، ينفتح على المستقبل، يعود إلى الماضي ليأخذنا إلى تأويلات أخرى، هي في حدّ ذاتها تأويلات لتأويلات أخرى، دون أن تنتهي سلسلة التأويلات، فلا نحصل على ما كان يسمّى "معطى أوّليّا" أو على ما يُسمّى "قصد الكاتب الأوّليّ". لقد صار التأويل لانهائيّا، لأنّ العلامات –كما يقول فوكو- لم تعد تتوزّع بكيفيّة متجانسة، ولكنّها صارت منتشرة في مواضع متفاوتة.

يوسف بن عدي: ما هو مبرر دعوة نيتشه إلى ممارسة القلب الأفلاطوني في تاريخ الفلسفة؟

فوزية ضيف الله: لقد عرف نيتشه بمفهوم "قلب القيم"، وهذا المفهوم متأسس عل مشروع أساسيّ هو "قلب الأفلاطونية" لكونها، أرست عالما من الثنائيات: عالم النسخ/عالم المثل، النفس، الجسد، الحقيقة/الخطأ، الفضيلة/الرذيلة، الخير/الشرّ.... وقد أدّت هذه الثنائيات إلى نكران عالم الحسّ والحياة والجسد مقابل تعظيم للنفس والفكر والعقل، فساهمت في انتشار قيم ارتكاسية لا تمت إلى إرادة الاقتدار بصلة.

لقد أفضى البحث الجينيالوجي في قيم الخير والشرّ في الفقرة 2 من جينيالوجيا الأخلاق إلى اكتشاف أنّ مجتمع الأسياد كان هو المسؤول الأوّل عن خلق مثل هذه الثنائيّات ترفع شأن من هو في الأعلى، من له السيادة، فتسميه "النبيل" و"الشريف" في مقابل "الوضيع" و"اللئيم". يعني ذلك أنّ التقويم الأخلاقي خاضع لمعيارية غير عادلة هي من وضع السيّد نفسه، وهو تقويم منغرس في المتضادات والثنائيّات التي كرّستها المسيحية وأخلاق الفلسفة الأفلاطونية.

يوسف بن عدي: أليس هذا الأمر راجع الى طبيعة تصور صاحب ارادة القوة للمعرفة والقيم ذاتها؟

فوزية ضيف الله: يؤكّد نيتشه أنّه ضدّ كلّ هذه الثنائيات، وضدّ الغرائز الارتكاسيّة لأنّها تمثّل الخطر الأكبر على الإنسانيّة برغم ما فيها من إغراء وتغرير. إنّها تقود البشريّة نحو العدم وتجعل الإرادة منقلبة ضدّ الحياة، إنّها نمط من المرض العضال الذي يصيب الإنسانية ويكتسح أوروبا بأكملها. بل إنّ الغريب في الأمر هو أنّ الفلاسفة أنفسهم صاروا غير مقلعين عن الكتابة في هذا النمط من الأخلاق. لقد صارت الثقافة الأوروبية والحضارة عامّة مثيرة للقلق وتكاد تكون منقلبة إلى بوذية جديدة.

أدّت الثنائيات إلى إقصاء الشّر، إقصاء الحياة، الحواس والأرض. إذا كانت اللغة تعمل على الإخفاء والتمويه، فإنّ مفهوم الخيّر لا يدلّ حقيقة على ما هو "غير أنانيّ"، ومفهوم "الشرّير" لا يدلّ فعلا على ما هو "أنانيّ"، بل إنّ "غير الأناني" ليس المقابل الحقيقيّ لـ "الأنانيّ".يبدو أنّ التقابل بين المفاهيم ليس تقابلا موجودا في أصل الكلام، وما يدلّ عليه هو في الواقع من وضع الأسياد اللذين استحوذوا على حقّ وضع الكلام بناء على تراتبيّة المجتمع ونباين المراتب والدّرجات، فإحساسهم بالترفّع والعلوّ جعلهم يضعون مسافة لغويّة بيت "الخيّر" /"الشرّير" و"النبيل" /"الوضيع". هذه المسافة اللّغويّة تلبيّ غرور حكمهم وتتوافق مع المسافة الموجودة افتراضا بين الأسياد ومجتمع العبيد.

تكون إرادة الاقتدار عند نيتشه مبدأ لقلب القيم قبل أن تكون مبدأ لتأسيسها، وقلب القيم هو تقويض لكلّ القيم العليا السائدة نتيجة فقدان الاعتقاد فيها، إنّها "العدميّة" عينها. لذلك يقترح نيتشه تحويلا في السؤال عن "الخير والشرّ" إلى سؤال عن الخيّر والشرّير (bon et mauvais). بمعنى ماهي الظروف التي أدّت بالإنسان إلى خلق أحكام القيمة المتعلّقة بالخير والشرّ أو الكريم واللئيم؟ وماهي قيمة هذه الأحكام القيمية؟ أي ماهي قيمة القيم؟ فهل أدّت هذه القيم إلى تطوير التقدّم الإنساني أم أنّها كانت علامة على اليأس والسقوط في العدمية والانحطاط؟ هل تعبّر هذه القيم عن امتلاء الحياة وقوّتها وإرادتها أم أنّها أفضت إلى الإحساس العميق بالعدميّة؟

يوسف بن عدي: ماهي الأسباب والاعتبارات التي جعلت الثقافة العربية اليوم، رغم مجهودات الكثير من المفكرين، لم ترق الى منزلة التأويل كتفكيك وجنيالوجيا وحفر وتقويض..؟

فوزية ضيف الله: تظلّ الثقافة العربية في حاجة إلى نبش جينيالوجي، وإلى حفر أركيولوجي، تاريخنا العربي ثري لكن علينا أن نتجاوز الرؤية التراكمية وكذلك الرؤية التاريخية التي تكتفي بسرده دون التدقيق في الروايات وفي النصوص. لا ينبغي أن ننظر إلى تراثنا العربي بنظرة المتفرج على إرث أو متحف عظيم، فالإحساس بالعظمة لا يجعل النقد والتفكيك ممكنين. لعلّ دارسي التراث والحضارة العربية في حاجة إلى الانصات أكثر إلى هذه السنفونية الغريبة الجامعة بين الثراء والتراكم، بين العمق وغياب النقد. تتطلب قراءة الحضارة العربية التسلّح بفنِّ فيلولوجي صارم، هكذا نقد نيتشه وقرأ ثقافة القرن التاسع عشر. إن الفيلولوجيا هي فن القراءة البطيئة، التي تستدعي الحذر الشديد في تعاملها مع التأويلات أو النصوص، وقد تتمكن الفيلولوجيا من كشف شفرات هذه الحضارة دون خلطها بتأويلات ما.

يوسف بن عدي: ماهي مشاريعكم المستقبلية؟

فوزية ضيف الله: لازلنا نشتغل في مجال التأويل والتأويليات، ونحن بصدد الشروع في بحوث أخرى في علاقة وطيدة بهذا المجال.

يوسف بن عدي: شكرا لكم دكتورة فوزية ضيف الله على هذا الحوار الفلسفي الممتع