في المقاربة المُرَكبة للظاهرة الإسلاموية: منهجياً ومعرفياً


فئة :  مقالات

في المقاربة المُرَكبة للظاهرة الإسلاموية: منهجياً ومعرفياً

 

معلوم أنّ الحديث عن الحركات الإسلامية، بتفرعاتها الدعوية والسياسية والقتالية [أو قل "الجهادية"]، يُفيد الخوض في ظاهرة مجتمعية مُركبة تأسست في غضون العام (1928) في مصر بالتحديد، بعد سقوط ما يُصطلح عليه بـ"الخلافة العثمانية" بنحو أربع سنوات.

وإذا سَلمنا بأننا إزاء ظاهرة مُجتمعية مُركبة، فمن باب أولى أن يكون تناولها مُركباً، وبالنتيجة لا يمكن أن نختزل الظاهرة في بُعد تفسيري واحد، حتى لا نلج الباب الذي كان يُحذّر منه الراحل محمد أركون؛ أي السقوط في مأزق «السياجات الدوغمائية المُغلقة» [clôture dogmatique]، وبيان ذلك أن هذه السياجات تؤسّس لنماذج تفسيرية تكاد تكون اختزالية، بتعبير الراحل عبد الوهاب المسيري، إن لم تكن كذلك؛ أي التركيز مثلاً على المُحدد السياسي في قراءة الظاهرة، انطلاقاً من أدبيات "العلوم السياسية"، أو التركيز على المُحدد الاجتماعي أو الديني انطلاقاً من أدبيات "علم الاجتماع الديني"، وغيرها من المُحدّدات النفسية والاقتصادية والفلسفية والأمنية والاستراتيجية وغيرها.

كلما اتسعت دائرة المُحدّدات التي تتناول الظاهرة اقتربنا من نموذج تفسيري مُركب يساعد الباحث المعني، بلْه المتلقي، على القراءة والتفاعل. وواضحٌ أن إحدى أهم المُعضلات المنهجية ذات الصلة بقراءة الظاهرة ترتبط بموضوع المقاربة التفسيرية المُتبعة في البحث، فكانت النتيجة فورة في "الكم التفسيري"، البحثي والإعلامي، العربي والغربي، الذي يشتغل على الظاهرة، مع تواضع في "النوع التفسيري"، وهذا سببٌ وجيه، ضمن أسباب أخرى، يُغذّي بشكل مباشر مصالح المشروع الإسلامي الحركي، ولاسيما إذا كانت هذه المقاربات البحثية ذات صلة بالقرارات الاستراتيجية التي يستأنس بها صنّاع القرار في معرض التفاعل الميداني مع الظاهرة، على غرار ما عاينّاه بشكل واضح مع لائحة عريضة من التقارير البحثية الصادرة عن المراكز البحثية الأمريكية [Think Tank]، ولاسيما التقارير التي اشتغلت على بعض أنماط التدين في المجال التداولي الإسلامي: التديّن الصوفي، والتديّن الرسمي، والتديّن الإسلامي الحركي، في شقيه الإخواني والسلفي الوهابي، والمتفرّع بدوره على ما يُصطلح عليه بـ"السلفية العلمية" أو "التقليدية"، و"السلفية الجهادية".

في هذا الإطار، يأتي هذا العمل الجماعي الذي يشتغل على إحدى أهم الحركات الإسلامية في التداول الإسلامي العربي، والحديث عن جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية، التي سوف تتفرع عنها مُجمل الحركات والجماعات الإسلامية، سواء كانت دعوية من قبيل جماعات "الدعوة والتبليغ"، أم حركات إسلامية تشتغل في العمل السياسي من قبيل أحزاب "العدالة والتنمية" في المنطقة (المغرب وتركيا وماليزيا)، أم حركات إسلامية قتالية أو "جهادية" من قبيل ظاهرة تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش".

هذا يُفيد أنّ ثمّة قواسم مشتركة عدة بين مُجمل هذه الحركات والجماعات، وأنّ ثمّة أيضاً فوارق عدة، وهنا المعضلة المنهجية والمعرفية في آن، وبيان ذلك كالآتي:

1 ــ لا يمكن الجزم بغياب قواسم مشتركة بين هذه التفرعات أو وجودها، في ظل غياب مقاربات عِلمية مُتعددة المداخل النظرية. وإذا كنا نتفهم أنه إلى وقت قريب، قبل منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن خاصةً، كان السائد في التفاعل النظري والميداني مع الظاهرة ينتصر للنماذج التفسيرية الاختزالية، ومن ثم اختزال التفاعل العملي على أرض الواقع في المُحدد الأحادي، يتقدّمه على الخصوص المُحدد الأمني؛ فالأمر مختلف اليوم، بمقتضى تشعب مُسببات الظاهرة؛ بل إنها ازدادت تعقيداً خلال العقد الأخير، كما عاينّا ذلك بشكل جلّي مباشرة بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي" ابتداء من مطلع (2011).

2 ــ إذا استثنينا كتاب (أوهام الإسلام السياسي) للراحل عبد الوهاب المؤدب[1]، فقد انتظرنا أكثر من عقد لكي نُعاين صدور كتاب أكثر جدة في مقاربة الظاهرة الإسلامية الحركية من منظور علم النفس، من خلال الاشتغال على العدة النفسية للمتديّن الحركي الذي يعتقد أنه يُجسد «المسلم الفائق» [surmusulman]، باصطلاح مؤلف الكتاب، والحديث عن كتاب (رغبة عارمة في التضحية: المسلم الأعلى)[2]، الذي ألّفه الباحث فتحي بن سلامة. وبصرف النظر عن بعض أعطاب مقاربة بن سلامة للظاهرة، بمقتضى نهله من أعمال جاك لاكان، يكمن المستجد هنا الذي يستحق التنويه في خوضه مغامرة قراءة الظاهرة تأسيساً على مُحدّد لا يزال مُغيباً في أغلب ما يصدر حولها، وخاصة عند الأقلام البحثية، التي تنهل من العلوم السياسية، أو علم الاجتماع الديني، والتي تعتقد أن النهل من هذا الحقل العلمي أو ذلك يحول دون طرق أبواب باقي الحقول العلمية لقراءة الظاهرة، بلْه تفكيكها.

3 ــ ولكي نأخذ فكرة أولية عن تعقيدات أيّ ظاهرة مجتمعية، بما فيها الظاهرة الإسلامية الحركية، سوف نتوقف عند بعض النماذج التفسيرية، انطلاقاً من مُحدّد أحادي دون سواه:

أ ــ التفسير السياسي: ونجده عند الأقلام المُسيسة خاصةً، ومعها الأقلام التي تنهل من العلوم السياسية والإدارية والقانونية، والتي غالباً ما تلخص أداء الفاعل الإسلامي الحركي في الشقّ السياسي، كأن تشتغل على الأداء السياسي والحزبي، مع تغييب أو تجاهل الأداء الدعوي والجمعوي والنقابي والطلابي وغيره.

ب ــ التفسير الاجتماعي: ونجده عند بعض الباحثين في علم الاجتماع، الذين يربطون بين التضخم الديمغرافي الذي مرت منه المنطقة، وصعود المد الإسلامي الحركي، الإخواني والسلفي، الدعوي والسياسي والقتالي، مع استحضار تراجع دور الدولة في التفاعل الميداني مع المطالب المتوقعة لارتفاع نسبة النمو الديمغرافي والتمدد العمراني في آن، أو الأوضاع الاجتماعية للفاعل الإسلامي الحركي.

ج ــ التفسير الديني: ونجده خاصةً عند الأقلام البحثية بلْه الإعلامية المحسوبة على المرجعية الفكرانية [الإيديولوجية] المنافسة للمرجعية الإسلامية الحركية، من قبيل ما يُصطلح عليه بـ"المرجعية العلمانية"، أو "المرجعية الحداثية"، و، من باب تحصيل الحاصل، أقلام "المرجعية الليبرالية". وترى هذه الأقلام أن ولادة الظاهرة مرتبطة ببُعد ديني صرف يكمن أحد أسبابه في تراجع المؤسسات الدينية عن تلبية الطلب على الدين في "سوق دينية" مفتوحة البقاء فيها لمن يتفاعل نظرياً وعملياً وبشكل نوعي مع مؤشرات "السؤال الديني" و"العرض الديني".

د ــ التفسير النفسي: وهذا ما عايناه مع الأمثلة سالفة الذكر؛ أي أعمال الراحل عبد الوهاب المؤدب، الذي أكد أنه ينهل من عدة مرجعيات وهو يُحرر العمل، منها أعمال ابن عربي ونيتشه، أو كتاب المُحلل النفسي فتحي بن سلامة، ويُركز هذا المُحدد على البعد النفسي بالدرجة الأولى، ويُساعدنا على قراءة حالات إسلامية حركية فردية، ولكن يصعب إسقاط حيثياته ومضامينه على الحالة الإسلامية الحركية برمّتها في التداول الإسلامي، سواء في محور الدار البيضاء ــ جاكرتا، أم لدى الفضاءات المجتمعية التي تضم جاليات وأقلية مسلمة.

هـ ــ تفسير "فلسفة الدين": معلوم أنّ حقل "فلسفة الدين" لا يزال متواضعاً في التداول الإسلامي السني بشكل عام، مقارنةً مع حضور أعمال "فلسفة الدين" في باقي المجالات التداولية. وبالنتيجة لا يخرج واقع التأليف في المجال التداولي المغربي عن هذه القاعدة، باستثناء حالة خاصة اشتهرت منذ عقود بالتحرير في هذا الحقل، والإحالة على بعض أعمال طه عبد الرحمن[3].

توجد أدبيات "فلسفة الدين" في مقدمة المفاتيح المفاهيمية، التي تساعد الباحثين وصنّاع القرار على قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، بتفرعاتها الدعوية والسياسية والقتالية ["الجهادية"]، لولا أن الوعي بمفاتيح هذا الحقل المعرفي متواضع، ومن ثم نحتاج إلى تأهيل الأقلام البحثية أولاً، وانتظار المنتوج البحثي لاحقاً.

وإذا كانت قضايا ومفاهيم "فلسفة الدين" غائبة عن التداول الفقهي في المؤسسات المعنية بالتصدي للظاهرة الإسلامية الحركية، فواضحٌ أن غيابَ تطبيقاتها أولى؛ لأنها [أساساً] توجد في مقام اللامفكر فيه[4] [Impensé].

تأسيساً على ما سبق، على جميع الباحثين المعنيين بالاشتغال على الظاهرة أن يأخذوا في الاعتبار أنّ الحركة الإسلامية المعنية أكبر وأعقد من أن يتمّ اختزالها في حزب سياسي "إسلامي المرجعية" [Islamic Party]، أو حركة إسلامية متحالفة مع هذا الحزب، أو فرعه الطلابي والنسائي، أو التفرعات الإعلامية التقليدية والرقمية، وما إلى ذلك، ولاسيما أن أغلب الحركات الإسلامية، كما هو الحال مع النموذج المغربي، متغلغلة في مؤسسات الدولة السياسية والدينية والتعليمية وغيرها، فالأحرى التغلغل في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة/ المستقلة؛ بقدر ما يتعلّق الأمر بما يمكن أن نصطلح عليه بـ«مَجَرّة إسلامية حركية» [Islamic Galaxy].

إن مُجرد الحديث عن مشروع إسلامي حركي واختزاله في أداء حركة إسلامية ما، بحليفها السياسي/ الحزبي، مع تغييب متعمّد أو غير متعمّد لباقي عناصر المَجَرّة، لن يساعد الباحث على قراءة أداء المشروع؛ لأننا لا نتحدث عن حركة منفصلة عن حزب، أو حزب منفصل عن تنظيم يشتغل على المنظمات الأهلية، وإنما نتحدث عن مشروع مجتمعي ينهل مما يُصطلح عليه بـ "المرجعية الإسلامية"، يروم (كما تُعبّر عن ذلك أدبيّاته) «أسلمة المجتمع والنظام والدولة»، سواء عبر البوابة الدعوية أم السياسية، أم القتالية، كما هو قائم عملياً وليس نظرياً وحسب مع جميع الحركات الإسلامية التي تبنت الخيار القتالي/ "الجهادي".

بعد هذه الأرضية المنهجية التي تتطلب عُدة معرفية ليست هيّنة، يمكن الخوض في قراءة ومآل أهم الحركات الإسلامية في التداول الإسلامي العربي؛ أي جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية، بتفرعاتها الإقليمية والدولية، وارتباطاتها السياسية والأمنية والاستراتيجية، وهذه وحدها مُحددات ميدانية جديدة تقتضي أن تُؤخَذ في الاعتبار مجموعةٌ من المُستجدات من قبيل ما عايناه مع تفاعلات أحداث "الربيع العربي"، التي أكدت للباحثين أننا، على الرغم من المبادرات التي أعلنت عنها دول المنطقة مباشرةً بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، ذات الصلة بمراجعة المناهج التعليمية، أو تشجيع الحركات الإسلامية على الانخراط في "المراجعات"، وغيرها من المبادرات، عدنا بعد أحداث "الربيع العربي" إلى مرحلة ما قبل اعتداءات نيويورك وواشنطن من حيث الحضور الإسلامي الإخواني والسلفي؛ لأن مُجمل هذه المشاريع كانت في مرحلة كمون طول عقد من الزمن تقريباً [بين أيلول/ سبتمبر 2001 وكانون الثاني/ يناير 2011]، قبل اندلاع شرارة تونس؛ ليخرج المشروع من مرحلة الكمون نحو مرحلة الفعل.

هذه مفاتيح نظرية ذات صلة بالعُدّة المعرفية والمنهجية، ولا يمكن لوم باحث مّا إن ارتأى الظفر بمفتاح واحد منها لكي يتفاعل بحثياً مع الظاهرة [المشروع الإخواني نموذجاً]، ولكن الوجه الآخر لهذا الخيار يُفيد أن قراءة الظاهرة ستتمّ بشكل أفضل لو ارتأى الباحث نفسه الظفرَ بأكبر عددٍ من هذه المفاتيح من باب تأهيل المقاربة المنهجية وتغذية الأرضية المعرفية.

[1] Abdelwahab Meddeb, La Maladie de l'islam, Seuil, Paris, 2002.

وصدرت ترجمة العمل إلى العربية بعنوان مختلف عن العنوان الأصلي، حيث جاءت كالآتي: أوهام الإسلام السياسي، ترجمة محمد بنيس، دار توبقال، الدار البيضاء، دار النهار، بيروت، ط 1، 2002م.

[2] Fethi Benslama, Un furieux désir de sacrifice: Le surmusulman, Le Seuil, Paris, 2016, 160 pages.

[3] انظر خاصةً كتابه: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت ــ الدار البيضاء، ط2، 1997، وثلاثية دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط1، 2017.

[4] بتعبير ميشيل فوكو في التداول الأوربي، أو محمد أركون ومحمد عابد الجابري في التداول الإسلامي.