في مبادئ الحوار وأخلاقياته


فئة :  مقالات

في مبادئ الحوار وأخلاقياته

يبدو أنه ليس أمام البشر من سبيل لحل مشكلاتهم، الأساسية منها والعارضة، سوى اللجوء إلى القوة، على اختلاف وجوهها، أو اللجوء إلى الحوار والنقاش، للتوصل إلى حلول مثلى لأي من المشكلات، يقبل بها الجميع ويربح منها الجميع، وإن بنسب متفاوتة. فما يعدُّه أي طرف من الأطراف المنخرطة في الحوار خسارة له هو ربح صاف للجميع بالتساوي. ومن البديهي أن البشر "العقلاء" سلكوا ويسلكون أحد هذين السبيلين اختياراً أو اضطراراً، ولكن البشر العقلاء والأخلاقيين يؤثرون الحوار دوماً، ويتلافون استعمال القوة أو التهديد باستعمالها، بجميع الطرق الممكنة. فإن ما يميز الحوار من القوة هو اقتران العقل بالأخلاق، لأن العقل وحده لا يتجه إلى الخير العام بالضرورة، ولا يبالي بالقيم الإنسانية العامة، في كثير من الأحيان. ولعل هذا مما يفسر التسلط والاستبداد والميول العدوانية.

ولما كان التعصب هو علة التطرف، ويحمل جرثومة العنف، ويغلق على الحرية، وهي قوام إنسانية الإنسان، فلا سبيل إلى تقييده وكسر حدته إلا بالحوار. لذلك كان الحوار تداولاً للحرية، وتداولاً للمعرفة وسعياً مشتركاً إلى إنتاج حقيقة تواصلية، تقيم الحد على الوثوقية واليقينية المطمئنتين إلى أن المعرفة الذاتية تساوي الحقيقة، وإلى أن الرأي المدعم بهاتين الوثوقية واليقينية (الدوغماتية) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فثمة وثوقية يقينية "عِلمانية" (بكسر العين) وعلموية، وأخرى دينية / مذهبية، تتعاوران الخطاب الثقافي والسياسي، وتنتج كل منهما أيديولوجية مغلقة صماء مكتفية بذاتها، وما أكثر ما تتبادلان المواقع. ومن شأن الوثوقية واليقينية أن تحوّلا التوق والتطلع إلى المستقبل إلى وهم، وأن تحوّلا الأخير إلى تعصب، إذ الوهم والتعصب صنوان، وركنان من أركان الاستبداد.

نفترض هنا أن ثمة ارتباطاً وثيقاً وعلاقة لا تنفصم بين وثوقية الخطاب ويقينيته من جهة وحصرية المصالح من الجهة المقابلة؛ ومن ثم، فإن الرأي ملازم للمصلحة الشخصية والخاصة لا ينفك عنهما، مادام التعارض الذي يخترق المجتمع ويلازمه في جميع أطوار نموه هو التعارض بين الفرد الطبيعي، الذي يسعى من أجل إشباع حاجاته المتطورة باستمرار وتحقيق مصالحه، وبين المواطن الذي يتطلع إلى الحرية والانعتاق والعدالة والمساواة. ولعل ما يردم الهوة بين هذا وذاك هو الاعتراف المتبادل، بشرعية المصالح والتساوي في الحقوق.

لذلك يقتضي الحوار زحزحة الذات عن مركزيتها الوهمية ونرجسيتها، وهذا لا يتم إلا بشرطين: أولهما قدرة الفرد على أن يضع نفسه في موقع الآخر، لتفهم وجهة نظره، والثاني إدراج رؤية الآخر المختلف في الافتراضات التداولية للمناقشة، على أساس المقبولية العقلية ومعاييرها الاجتماعية، لا على أنها الحقيقة. ومن ثم، فإن الهدف الأبعد للحوار هو التأليف بين المساواة والحرية، وبين الوحدة والتعدد، بين التشابه والاختلاف، في تركيب يشبه التركيب الكيمياوي، وذلك بنزع طابع الإطلاقية عن هذه الحدود. فإن صلاحية المعايير الاجتماعية، أي المعترف بها بين الذوات، لا تتأسس إلا انطلاقاً من تذاوت وتفاهم بين أفراد الجماعة المعنية والمجتمع المعني. فالقناعات المتفق عليها بطريقة تذاوتية تشكل التزاماً متبادلاً بين المشاركين في التفاعل. واعتباراً لهذه القاعدة فإن "القناعات المونولوجية، أي ما يعتبره كل واحد في داخله صحيحاً أو خاطئاً لا يمكن أن تؤثر إلا في المواقف الفردية".

فالحوار لا يهدف إلى إلغاء ذاتية الأفراد المنخرطين أو المنخرطات فيه، ولا يصادر خياراتهم وتفضيلاتهم الشخصية، ولا يحجر على حريتهم الشخصية، بل يهدف إلى التوافق على "الحل الأمثل"، في الشروط المعطاة، لمسائل معينة، تهمهم جميعاً. أي إنه يُظهر، أو يظهِّر، البعد النوعي، الاجتماعي – الإنساني، الملازم للبعد الشخصي لهؤلاء الأفراد، وذلك هو قوام الاجتماع المدني، والحياة الاجتماعية – السياسية، بما هي "الحياة النوعية للإنسان"، بتعبير كارل ماركس، أو الحياة الأخلاقية، ولا فرق.

الحوار نشاط تواصلي على خلفية العالم المعيش؛ فالمشاركون في التواصل، أو المنخرطون في الحوار أو النقاش العام، من أجل التفاهم على وضعية ما، يرتبط كل منهم بتراث ثقافي يستمد منه بعض العناصر، ويعمل على تجديدها. لذلك فإن النشاط التواصلي، من الزاوية الوظيفية للتفاهم، يعمل على تداول المعرفة الثقافية وتجديدها؛ ومن زاوية تنسيق الفعل يقوم بوظائف الاندماج الاجتماعي وخلق التضامن؛ ومن زاوية التنشئة، يسهم في تشكيل الهويات الفردية (وإعادة تشكيلها باطِّراد)؛ أي إن النشاط التواصلي يعيد إنتاج البنيات الرمزية للعالم المعيش، من خلال الاحتفاظ بما هو صالح منها وتجديده، ويعمل من جهة أخرى على استقرار أشكال التضامن بين أعضاء الجماعة، ويسهم من جهة ثالثة في تكوين فاعلين مسؤولين[1]، وفاعلات مسؤولات بالطبع. وهذا يقتضي الاعتراف المتبادل بتساوي المرجعيات الرمزية للأفراد المختلفين والجماعات المختلفة، فلا تكون أي منها مرجعية معيارية وحيدة، ولو كانت مرجعية الأكثرية العددية.

"وهكذا، فإن الحقل الدلالي للمضامين الثقافية، والمجال الاجتماعي، والزمن التاريخي، تشكل معاً الأبعاد التي تتطور فيها الأنشطة التواصلية. فالتفاعلات التي تنسج شبكة الممارسة التواصلية اليومية تكوِّن الوسط الذي من خلاله تتم إعادة إنتاج الثقافة والمجتمع والشخص"[2]. والشخص هنا هو الفرد القادرة أو القادر على الكلام والفعل، على اعتبار الكلام إنتاجاً للمعنى، والفعل إنتاجاً للقيمة، فلا معنى قبل الكلام ومن دونه، ولا قيمة قبل الفعل ومن دونه.

المعاني والقيم الموروثة أنتجها أشخاص غيرنا، في زمن آخر وشروط أخرى، تبنِّيها الأعمى وتكرارها لا يجعلان منا أشخاصاً أحراراً وحرائر، ولا يرقيان بالتذكر إلى معرفة. المعرفة ليست تذكراً، كما افترض أفلاطون، بل ترجمة بيوسوسيولوجية، وبيوسيكولوجية للذات وترميز للعالم وأشكال الوجود.

"ليس الحوار فسحة أخلاقية، بل معركة روحية ووجودية ومدنية، (غير مضمونة النتائج)؛ لأن سيرورة التحرر المدني قابلة للانعكاس، كما تبين التجربة السورية وتجارب أخرى كثيرة، وهو مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان، فعن طريقه تستطيع أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية"[3]. فإن الحوار الذي يدخل فيه الشخص مع الآخرين، والذي يعطيه فرصة لتقوية القدرة على الاستدلال، هو في جوهره ممارسة لمعرفة الذات نفسها؛ "حواري مع الآخرين هو حوار لمعرفة الذات". إلى ذلك، "الحوار واجب إنساني، ينبغي أن يعم جميع الفئات، أيا كانت، وجميع الموضوعات، كيفما كانت، على شرط التزام قواعده. لأن في تحقيق الحوار وتوسيعه مع جميع الأطراف وفي جميع المجالات زيادة في معرفة الذات، فضلاً عن معرفة الآخر، وزيادة في تحقيق إنسانية الإنسان"[4].

ولعل مما يوجب الحوار اجتماعياً وإنسانياً تعدد الحقيقة في ذاتها، وتعددها في أحكام الناس فيها، على اعتبار الحقيقة هي الظاهرة المُدرَكة والحادثة المعيَّنة، في الواقع المعيش، لذلك تجدنا إزاء جملة من الحقائق أو جملة من أشكال الحقيقة الواقعية، وجملة من تأويلاتها وأحكام الناس فيها. وليس بوسع الفرد وحده، مهما أوتي من قدرة عقلية وعملية، أن يحيط بجميع وجوه الواقعة، ويدرك جميع أبعادها، ويقف على جميع أسبابها، ويتبين جميع علاقاتها بغيرها، ويقدِّر جميع آثارها .. ولنا في تعدد الوقائع (الحقائق) السورية واختلاف أحكام السوريات والسوريين فيها دليل يصعب دحضه. ومن ثم، فإن إحدى غايات الحوار هي التوصل إلى "حقيقة تواصلية" وإدراك نسبيتها وشروط انبثاقها وتشكلها وعوامل تغيرها، وما تنطوي عليه من ممكنات، تتأسس عليها البدائل الممكنة والمرغوب فيها.

فلا يكون حوار إلا حيثما وحينما وبقدر ما يكون اختلاف، لا في الآراء والأحكام والمواقف فقط، بل في طرائق التفكير وكيفيات الإدراك والتمثل والتقدير والعمل، أي في ما يؤسس الآراء والأحكام والمواقف ويعيِّن أنماط السلوك. "ليس هنالك طريق ملكية إلى الحقيقة"، بل ثمة طرق مختلفة اختلافَ الأفراد واختلاف شروط حياتهم، إذ لا ينفصل التفكير عن مبادئه المعرفية (الإبستمية) وشروطه النفسية والاجتماعية والإنسانية. وما دامت هذه الطرائق والكيفيات مجذَّرة في الأفراد الأصحاء جميعاً، إناثاً وذكوراً، فالحوار كامن فيها بالقوة، ويمكن أن يتحقق بالفعل.

هنا، تغدو المسألة مسألة شروط إمكان الحوار، لا مجرد إمكانه. الحوار ممكن دوماً، بحكم الطبيعة التواصلية والتبادلية للكائن الإنساني، ولكن شروط تحققه لا تكون متاحة دوماً، ولا سيما في أوقات النزاعات والحروب، مع أن الحاجة إلى الحوار تصبح أشد وأكثر راهنية. لكن الميل الطبيعي إلى التغلُّب يكفُّ الحاجة إلى الحوار أو يعلِّقها. ولا يمكن استبعاد هذا الميل من الحوار ذاته، فما أكثر ما يتحول الحوار إلى مساجلة ومبارزة كلامية وجدال عقيم، خاصة حينما تتماهى الذات ومحمولاتها، فيغدو الدفاع عن الرأي أو العقيدة دفاعاً وهمياً عن الذات، لأن الذات نفسها تكون أسيرة أوهامها عن نفسها وعن العالم. لذلك يعد "انقطاع التنافس بين الأفكار كارثة عقلية، وحذف التنافس بين الأفكار جريمة سياسية" حسب موان. فنحن في حاجة إلى آراء من نختلف معهم كلياً، من الهامشيين والمستبعدين، أكثر مما نحن في حاجة إلى أفكار من نتفق معهم أو نختلف معهم إلى هذا الحد أو ذاك.

الحوار مع الآخر المختلف والأخرى المختلفة (Dialog) تداول صريح وضمني، مباشر وغير مباشر، للمعاني والقيم، بين الأفراد والجماعات، وبين الأمم والشعوب، أداته اللغة، لا ينفك عن الطبيعة التبادلية والتداولية للأفراد والجماعات والمجتمعات، فهو بهذه الصفات تبادل وتداول للحرية المدنية، التي تستمد مدنيتها من العلاقات الاجتماعية والإنسانية والانتظامات والمؤسسات الحرة والمستقلة، وسبيل، لا سبيل غيره، لمعرفة حقيقيَّة الذات بدلالة الآخر المختلف والأخرى المختلفة، في مقابل حقيقتها الوهمية و/ أو الميتافيزيقية، وسبيل إلى التعارف والتثاقف والتواثق والتعاقد والتعاون. فهو، لذلك، شقيق الديالكتيك Dialectic، ينتج حقائق جديدة للمتحاورَيْن معاً، والمتحاورين جميعاً، لأن الحقيقة قسمة مشتركة بينهم جميعاً، مثلما العقل أعدل الأشياء قسمةً بينهم جميعاً. فلا أحد يرغب في / أو يعمد إلى أن يكون على خطأ أو على ضلال، باستثناء المعاندين، وذوي الأفكار والتصورات المعنَّدة من الدعاة والمبشرين والمجاهدين، أو "المناضلين"، ذوي "الروح الرسالية" أو الرسولية، الذين يعتقدون أنهم مختارون لتغيير العالم، وأن هذه المهمة الجليلة تقع على عواتقهم وحدهم دون سواهم، وأنهم مفوضون، لذلك، بإخضاع الآخر المختلف واستتباعه أو استعباده، وقتله، إذا لزم الأمر، من أجل "إنقاذ الإنسانية"، أو من أجل "إنقاذ الوطن" والحفاظ على "الوحدة الوطنية" النقية من أية شائبة اختلاف أو شبهة معارضة، أو "لكي يكون الأمر (الحكم) لله وحده" ووزرائه المفوضين. وكذلك المجرمون عن سابق قصد وتصميم ممن تسيِّرهم غرائزهم وأهواؤهم.

ولكن الحوار مع الآخر (ديالوغ) يظل ناقصاً، ولا يحقق النتائج المرجوة منه، ما لم يتعاشق مع المونولوغ (monolog) الداخلي، أو الحوار مع الذات مناجاةً واعترافاً أو نقداً ومساءلة؛ إذ لا يخلو أن يلجأ المنخرطون في الحوار إلى تعليق قناعاتهم، ريثما يراجعون أنفسهم فيها، ويراجعونها على الحقائق الواقعية التي عرضت على مسامعهم. ولذلك هو معركة روحية ووجودية ومدنية، ونشاط تواصلي يتغيَّا حياة اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية سليمة، قوامها الحرية والمساواة والعدالة. ولا تقل المكاسب المعرفية والثقافية للحوار عن المكاسب العملية، التي يمكن أن يجنيها المجتمع منه؛ فهو تداول للمعاني والقيم، يؤدي إلى تجديدها باطِّراد، وإعادة إنتاج للثقافة والمجتمع والشخص.


[1] - محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت، ، 1998، ص 189

[2] - أفاية، ص 190

[3] - طه عبد الرحمن، الحوار أفقاً للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ص 28

[4] - عبد الرحمن، ص ص 29 – 30