قراءة تحليلية في جواب كانط عن سؤال "ماهي الأنوار؟"


فئة :  مقالات

قراءة تحليلية في جواب كانط عن سؤال "ماهي الأنوار؟"

قراءة تحليلية في جواب كانط عن سؤال

"ماهي الأنوار؟"

تقديم

لقد كان تاريخ الإنسانية مليئا بالثورات الفكرية الهادفة إلى قلب موازين القوى، ولكنها لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به الثورة الأنوارية في القرن الثامن عشر لكونها أعادت الاعتبار للإنسان في كليته وشموليته بعد أن كان خاضعا لسلطة غيره. لقد تم إعادة الاعتبار للعقل الإنساني الذي ظل متوقفا زمنا طويلا بالاستناد على منهجية النقد التي كُرّست لتشمل كل شيء كان محظورا أن يفكّر فيه أو يُنتقد، أخصّ هذه المجالات "الدين" و"السياسة". وفي هذا السياق، تأتي مساهمة العديد من الفلاسفة والمفكرين الذي كرّسوا حياتهم الفكرية لتنوير الناس ونشر قيم الأنوار، أبرز هذه المساهمات نجد مساهمة (إيمانويل كانط) في مقالته الشهيرة "ماهي الأنوار؟" فماهي مكانة كل من العقل والنقد في الفكر الأنواري؟ وكيف تم توظيفهما لنقد الدين والسياسة؟ وما هي أبرز ملامح عصر الأنوار وخصائصه؟ وكيف أجاب (كانط) عن سؤال "ماهي الأنوار؟"؟ وما أبرز القيم الأنوارية من منظوره؟

1- مكانة العقل والنقد في الفكر الأنواري:

لقد وقع اتفاق من قبل المؤرخين على تسمية الفترة ما بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر بعصر الأنوار، وهو العصر الوحيد الذي سُمي من قبل فلاسفته ومفكريه على غرار العصور السابقة التي كانت تسمى من قبل المؤرخين الذين يؤتون بعد تلك المرحلة؛ أي بعبارة أخرى أن فلاسفة هذا القرن ومفكريه كانوا على وعي تام بأنهم يؤسسون لعصر ولمرحلة جديدة متجاوزين بذلك مرحلة العصر الوسيط والمرحلة الحديثة في بداياتها، حيث بلوروا لأنفسهم برنامج عمل واضح، والتي تظهر معالمه من خلال كتابات فلاسفته ومعاركهم الفكرية، فهو أول عصر كان يشعر بذاتيته وكيانيته ووحدته كما شعر أنه مكلّف بتأدية رسالة مهمة للبشرية، وهي "التنوير".[1] إنها مرحلة مهمة من المراحل التي مرّت منها البلدان الغربية في مخاضها العسيرة[2] للعبور إلى الأزمنة الحديثة. وكان شعار العقل والعقلانية يرفرف عاليا من قبل فلاسفته المتنورين، بل أصبح كل شيء خاضع للعقل حتى اعتبر هذا الأخير مرادفا للنقد ويقول الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) (1724-1804) عن القرن الثامن عشر أي عصر الأنوار في هذا السياق ما يلي: "إن قرننا هو بشكل خاص قرن الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء. وحده الدين محتجا بقداسته، والتشريع القانوني متذرعا بجلالته، يريدان أن ينفذا منه. ولكنهما يثيران عندئذ الظنون والشكوك الحقّة حولهما. ولا يمكنهما أن يحوذا على تقديرنا الصادق؛ لأن العقل لا يقدم هذا التقدير إلا للأشياء التي تقبل بأن يطبّق عليها التفحص الحر والنقدي".[3]

إن عصر الأنوار كان عصرا نقديا بامتياز، فلم يسلم من هذا النقد أي شيء حتى السلطة السياسية والدين خضعا معا لمطرقة النقد بعدما كانا يحتميان بالقداسة والرمزية، فلم يعد أي شيء مع التنوير متعال عن النقد، بل الجميع خاضع للمنطق النقدي، وبذلك يكون فلاسفة التنوير قد وضعوا السياسة والدين في موقف محرج، فإما أن يقبلا الخضوع لمطرقة النقد، وإما أنهما غير بريئين باعتبار التهرب من النقد والفحص علامة واضحة على أنهما يحتكمان لمنطق القوة لا لمنطق البرهان وقوة الحق. لقد حظي النقد بمكانة كبيرة في القرن الثامن عشر واعتبر "الفكرة الأكثر أهمية من بين كل الأفكار الجديدة التي ساهمت في بروز حداثتنا، بل اعتبر أكثر أهمية من السعادة ذاتها"[4] فقد كرّس الناس حياتهم من أجل الدفاع عن العقل وممارسة النقد، وبذلك اعتبر بعض الباحثين مثل الباحثة (جوزيان بولاد أيود Josiane Boulad-Ayoub) أن الفكر النقدي هو نتاج اختراع القرن الثامن عشر، ولم يكن إعادة اكتشاف[5] ذلك لأنه ابن زمانه.

راهن فلاسفة القرن الثامن عشر على النقد، باعتباره وسيلة للوصول إلى الحقيقة وبذلك تجرّؤوا على استبدال معايير العقل بمعايير الإيمان، وهذا النقد هو تتويج للكوجيطو الديكارتي، ولكنه قائم على أسس ومبادئ مختلفة باعتبار فلاسفة التنوير لم يكونوا مهتمين بتلك التأملات المجرّدة عن واقعهم اليومي، (حتى أصبح البعض يشبّه ديكارت بفيلسوف المدفئة)، بل مزجوا بين فكرهم والمشروع الكبير الذي يجمعهم وهو الإصلاح، والذي سيعتبر مدخلا للثورة ورفض كل ما هو قديم، حيث ستتمثل بشكل واضح في الثورة الفرنسية، ليكون بذلك النقد فكرا مزعجا ومستفزا خاصة وأن الفلاسفة أصبحوا موحَّدين وغير متفرقين، مؤمنين بفكرة المستقبل أفضل من الماضي وأن الحاضر رهان للمستقبل وهو ما عبّر عليه (غريم) الذي كان صاحب مجلة "المراسلات الأدبية" وكان صديقا لديدرو وروسو فيما معناه "نحن أفضل من آبائنا، وأبناؤنا سوف يكونون حقا أفضل منا من حيث التنوير والابتعاد عن التعصب"[6] ولذا سيعتبر بعض الباحثين أن الإرهاصات الأولى للأنوار وملامحها شيّدت مع (رونيه ديكارت) (1596-1650) بعقلانية منهجه الشكي، لكن فلاسفة الأنوار لم يكونوا مثل (ديكارت) فقد تمكّنوا من تحويل "اللامفكر فيه" و"المستحيل التفكير فيه" إلى "ممكن التفكير فيه"[7] ذلك أن عصر (ديكارت) كان يستحيل فيه توجيه سلاح النقد مباشرة للنصوص المقدسة، ولكن مع عصر الأنوار وجهوا هذا السلاح للدين بشكل مباشر وأرغموه على الخضوع بالمنطق القائل "لا شيء يعلو على النقد".

إذن، إذا كانت بعض المسائل في العصر الوسيط غير خاضعة للمساءلة النقدية لكونها محتمية بقدسية إلهية فإنها في عصر الأنوار خضعت للفحص بقوة العقل الفلسفي، يعبر (دالمبير) الذي كان أحد فلاسفة التنوير وصديق ديدرو وفولتير عن ذلك فيما معناه "أصبح كل شيء عرضة للمناقشة، والتحليل، والحلحلة على الأقل. فمبادئ العلوم الدنيوية وأسس الوحي الإلهي راحت تتعرض لذلك ...[فقد] حصل غليان عام للروح في عصرنا وأُلقيت أضواء كاشفة عن بعض الأشياء، وبقيت أشياء أخرى مغلقة بالظلام."[8]

2- في جواب كانط عن سؤال "ماهي الأنوار؟":

لقد عرّف (إيمانويل كانط) الأنوار؛ وذلك ردًّا على سؤال القسيس (جوهان فريدريك)[9] بأنها "خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه"[10] ويتمثل هذا القصور أساسا في عجزه عن استعمال عقله واستخدامه بمعزل عن توجيهات الأخرين. والسبب هنا يكمن في عدم امتلاك الشجاعة والجرأة الكافية لاستعماله وليس في عدم وجوده، وبذلك يكون (كانط) قد رفع شعار الأنوار "تجرأ على استعمال عقلك."[11] وبالتالي يكون التنوير بهذا المعنى أن الفرد يجب أن يتمتع باستقلالية تامة دون أن يُفرض عليه الخضوع لسلطة غير سلطة عقله هو؛ أي إن قاعدة التنوير تؤكد أن "لا سلطان على العقل إلا العقل."[12] ولا يمكن فهم هذا التصور إلا في ظل الرقابة السلطوية التي كانت تمارسها السلطة الكنسية بمباركة واضحة من طرف السلطة السياسية على الفكر وممارسة الشعائر الدينية.

إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، ما الذي يجعل الإنسان يرفض استعمال عقله ويسمح للآخرين بالتفكير مكانه؟

إن الجواب ببساطة يتجلى في الجبن والكسل، باعتبار الإنسان قد اعتاد منذ أمد طويل على الاستنجاد بالغير في سبيل التفكير مكانه؛ ذلك أن التفكير في اعتقادهم مهمة في غاية الصعوبة والإرهاق من جهة، وغاية في الخطورة من جهة أخرى، وهي فكرة كرّسها [ولا يزالون] من يسميهم (كانط) "الأوصياء". فالإنسان وفق هذا المنطق لا يحتاج لتعلم الطب مثلا مادام أن هناك طبيب عبارة عن وصي يمكن أن ينصحه بالنظام الغذائي السليم ويعالجه في مرضه، ولا يحتاج أيضا إلى بذل الجهد في التفكير بالتعرف أكثر على الدين الذي يعتنقه مادام أن هناك رجل الدين أو القسيس أو الفقيه … الذي باستطاعته كوصي أن يعرّفه على دينه. طبعا، يكون مقابل ذلك الطاعة العمياء إلى جانب مقابل مادي لهذا العمل الذي يعتبرونه عملا "مملا" وفي غاية الإرهاق. ولنا في التاريخ شهادات تشهد على سطوة السلطة الكنسية والسياسية على الفكر وتحريمه على سبيل المثال العالم الفلكي (نيكولاس كوبرنيكوس) (1473-1543) الذي استطاع تغيير النظرة للعالم والخروج من ذلك البراديغم الأرسطي المتبني من قبل الكنيسة الذي يعتبر أن الأرض في مركز الكون وكل الكواكب تدور عليها، حيث ستثور عليه الكنيسة وتحاول منع الفكر الكوبرنيكي من الانتشار، ولكن هيهات وهيهات فالفكر الثوري فكر لا يقبل الخضوع حتى وإن تمت ممارسته بذكاء لتجنب المخاطر مثلما فعل (ديكارت) الذي لا يمكن فهم تصوره إلا في ظل المقاربة الكوبرنيكية للعالم فهو الذي يعترف في إحدى رسائله لأصدقائه الذين درسوا معه في مدرسة "لافليش" بأنه إذا كانت حركة دوران الأرض خاطئة فإن فلسفته باطلة، ولكن لذكائه ودهائه نجده يهدي كتابه "التأملات" إلى عمداء كلية اللاهوت[13]، كما قام بإخفاء كتابه "العالم" الذي كانت فيه لمسة كوبرنيكية واضحة حينما علم أن (غاليليو غاليلي) (1564-1642) يحاكم بسبب تبنّيه للنظرية الكوبرنيكية، إضافة إلى أن (ديكارت) كان يكرر القول لأصدقائه: "أنا رجل ذو قناع، اقرؤوا ما تحت السطور". فهي كلها شهادات وأخرى كثيرة سجلها التاريخ لتؤكد فعلا أن الواقع الفكري قبل عصر الأنوار كان مضطربا إلى حد كبير وكان يعيش رقابة رهيبة من طرف السلطة الكنسية وهو ما دفع (كانط) للدعوة بالخروج من هذا المأزق من خلال العودة إلى الذات ومراجعتها للتخلص من ذلك القصور الذي تسبب فيه الإنسان لنفسه جرّاء عدم استعمال عقله.

إن استعمال العقل بمعزل عن أي توجيه من الأوصياء ممكن مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه لا مناص ولا مهرب من التعثر في البداية؛ لأنه إن لم يتعثر في البداية سيبقى حبيسا لقصوره، ويعطي (كانط) في هذا السياق مثالا يشبّه من خلاله مهمة الأوصياء "بالعجلة" التي هي عبارة عن جهاز مزّود بعجلات صغيرة يشد إليه الطفل واقفا لمساعدته على المشي وتجنيبه خطر الوقوع والإصابة بجروح[14]، حيث كانت تستعمل في القرن الثامن عشر، ولكن عند سحب هذه الأداة المساعدة يقع الطفل مباشرة وبهذه الطريقة لن يتعلم المشي أبدا إذ لابد عليه من المحاولة والتدرب حتى وإن تعثر في بداياته الأولى، فإن ذلك سيمكّنه من الوقوف والمشي بنفسه[15]، وهو نفس الأمر الحاصل في مجال الفكر الذي لا يمكن ممارسته إلا عن طريق التعلّم عبر التكرار حتى وإن وقعت أخطاء في هذه المحاولات. فالوصي يُنَبِّه الشخص مثلما يُنَبَّه الطفل بالخطر الذي يهدده إن حاول المشي بمفرده، وبالتالي يجعله خائفا وغير مستعد لمحاولة أخرى في المستقبل.

إن محاولة التخلص من ذلك القصور الذي تسبب فيه الإنسان لنفسه ليس أمرا سهلا وبسيطا كما يبدو، بل إنه صعب لكونه يقترب من أن يكون حالة طبيعية فقد أصبح يحبه الإنسان ويرتاح إليه، والأكثر من ذلك أنه -حسب (كانط)- حتى من تمكّن وتوفّق من التخلص منها "لن يقفز على أضيق خندق إلا غير واثق لأنه لم يتعوّد مثل هذه الحرية في الحركة"[16] ولهذا لابد من إعمال النشاط الذهني لعقلهم والمشي بخطى ثابتة.

كما اعتبر (كانط) أن الحرية هي شرط التنوير التي من خلالها يمكن أن تتم هذه العملية، وهو ما سيساهم في ظهور من داخل الأوصياء أنفسهم متنورين تمكنوا من القضاء على ذلك القصور الذي تسببوا فيه لأنفسهم، وهذا مكسب كبير لكونهم سيساهمون في عملية التنوير عبر نشرهم لقيم الأنوار والإحساس بالتحرر والقيمة الخاصة بكل إنسان وإمكانيته للتفكير بنفسه رغم أن هذه الخطوة ستتعرض في البداية إلى رفض من الأوصياء الآخرين الذين لم يتمكّنوا وعجزوا عن بلوغ الأنوار، ولكن بالرغم من ذلك فإنه من اللازم التأني خلال عملية التنوير مثلما قال (كانط) "لا يبلغ الأنوار إلاّ ببطء"[17]؛ وذلك لا يتم إلا عبر عملية إصلاح الفكر وليس التعطش لدماء المستبدين والمتسلطين، فإصلاح الفكر هو إصلاح دائم الفعالية أما القضاء على إنسان فهو حل مرحلي لن يؤثر على المستقبل البعيد على اعتبار الإنسان يعوّض، وبالتالي فإنه من الحمق أن تدرك العلة فتلتجأ للقضاء على المعلول دون العلة، ومن الشواهد التي تزكي ذلك نجد الفكر الأنواري نفسه الذي انتشر ببطء وصعوبة متعثرة حيث بدأ في بدايته في إنجلترا وهولاندا ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وبعدها إلى ألمانيا وباقي دول أوروبا.[18]

إن شرط التنوير بين عامة الناس هو -كما أشرنا سابقا- الحرية في استعمال العقل ذلك الاستعمال العمومي الذي يكون فيه العقل دائما حرا في كل المجالات وييسّر السبيل أمام عملية الأنوار ولا يكون عائقا أمامها. أما الاستعمال الخاص، فقد يكون محدودا غير حر بشكل مطلق بسبب خضوعه الصارم، ولكنه رغم ذلك قد لا يعوق عملية تقدم الأنوار ونشرها، ولكن كيف ذلك؟

بداية يقصد (كانط) بالاستعمال العمومي للعقل ذلك الاستعمال الذي يمارسه الفرد، باعتباره شخصا تمكّن من التحرر من قصوره وموجّها خطابه الفكري إلى عامة الناس. أما الاستعمال الخاص للعقل، فهو الاستعمال الذي يمارسه الفرد المتقلّد لمنصب أو وظيفة مدنية، فهذا الأخير يكون مرغما وملزما عليه ألا يمارس تفكيرَه بحرية مطلقة، وإنما تكون ملكته الفكرية خاضعة لحدود معينة لا يتجاوزها، فهو منقاد يطيع ويطبّق فقط ما يملى عليه دون إخضاعه للملكة الفكرية- النقدية. ولكن هذا العقل لا يعوق عملية تقدم الأنوار في حالة التزام الفرد بهذا الاستعمال فقط خلال أدائه لواجبه أو وظيفته، وبوصفه عضوا في المجتمع يحق له أن يغربل تلك الخطابات التي تلقاها أو ألقاها خلال فترة أدائه لوظيفته أو لواجبه وتمريرها على ملكة التفكير ومشاركتها مع عامة الناس ليتمكّنوا من الاطلاع عليها ولن تتضرر الأعمال الموكلة إليه بصفته عضوا منقادا، ومن الأمثلة التي يعطيها (كانط) نجد[19] الضابط الذي يطيع رئيسه والذي لا يمكن منعه من إبداء ملاحظاته وأفكاره وحتى انتقاداته حول الأخطاء التي ترتكب في الحرب مثلا ومشاركتها مع العامة، وكذلك هو الحال بالنسبة للمواطن الذي يكون مدينا بالضرائب والكاهن الذي يؤدي وظيفة التعليم وفق شعار الكنيسة التي يخدمها.

إن هؤلاء ملزمون بالطاعة، وبالتالي هم غير أحرار بل لا يسمح لهم أن يكونوا كذلك لكونهم يؤدون مهمة مُمْلاة عليهم من خارج ذاتهم وبذلك يكون استعمال عقلهم أثناء ممارستهم لوظائفهم استعمالا خصوصيا، ولكنه يتحول إلى الاستعمال العمومي لعقله مباشرة حينما يخلص من واجبه ويتوجه إلى العامة بتصوراته وقراءاته الشخصية، حتى وإن تناقضت مع أقواله أو أفعاله أثناء الاستعمال الخصوصي لعقله.

ليصل (كانط) بعد ذلك إلى التساؤل حول أحقية هيئة رجال الدين القَسم على الالتزام بعدم تغيير رمز/ شعار لفترة طويلة، ليمارس على الأعضاء الوصاية وعبرهم إلى باقي الشعب ليجيب بالرفض؛ ذلك لأن عقدا كهذا سيحرّم على الجنس البشري أي محاولة للتنوير وتوسيع معارفها وتخليص نفسها من الأخطاء، وبالتالي فهو عقد باطل وغير صالح حتى وإن نال موافقة السلطة العليا لكونه -بتعبير (كانط)- جريمة ضد الطبيعة البشرية التي غايتها الأولى تحقيق التقدم في الأنوار، وانطلاقا من ذلك إذا عُقد هذا العقد يحق للأجيال القادمة رفضه. كما يحق للأفراد أن يغيروا الدستور الديني بعد عرضه على السلطة حتى وإن لم يحصل إجماعا على التغيير؛ فمن واجب هذه السلطة حمايتهم والاستماع إليهم من دون فرض هذا الرأي على الأفراد الآخرين الرافضين لهذا المطلب، مع تأكيد (كانط) بالرفض المطلق الاتفاق على دستور ديني دائم لا يحق لأي أحد وضعه موضع شك ونقد. وإذا كان (كانط) يرفض فرض عقيدة معينة من طرف هيئة رجال الدين، فما قوله بالملك إذا قام بنفس الأمر؟

يجيب (كانط) بأنه إذا كان الشعب نفسه لا يحق له فرض عقيدة معينة، فلا يحق أيضا للملك فعل ذلك، فإرادة الملك هي من إرادة رعاياه/ شعبه لذلك لا يحق له أن يتدخل في هذه الأمور العقدية الشخصية مادام كل شخص يختار طريق خلاصه وحده، كما لا يجب عليه أن ينحاز أو يدافع عن معتقد دون آخر فذلك يسيء لجلالته بتعبير (كانط)، إذ عليه أن يحرص أشد الحرص على أن يتمتع جميع رعاياه بالحرية الفردية لاختيار خلاصهم دون أن يفرض عليهم أحد أي شيء بالقوة والعنف والإجبار، كما لا يحق له تضييق الخناق على حرية التعبير عبر توظيف مراقبين لكتابات رعاياه التي تعبّر عن وجهات نظرهم من خلال الخروج من حالة قصورهم عبر تمكّنهم من استعمال عقلهم حتى في الأمور العقدية، كما يجب أن يسمح لرجال الدين التعبير بحرية عن آرائهم في كل ما يتعلق بالعقيدة ولن يؤثر ذلك على واجباتهم الوظيفية. (باعتبارنا أشرنا سابقا إلى كلا الاستعمالين للعقل العمومي والخصوصي). إنها توجيهات قدمها (كانط) للملك، والذي إذا التزم بها لن يكون مهانا، بل على العكس سيكون أميرا مستنيرا؛ ذلك أن طريقة تفكير الأمير تساعد على نشر الفكر الأنواري بين عامة الناس من خلال قبوله النظر في المقترحات التجديدية للتشريعات التي يسنّها، حتى وإن كان سيفتح بابا للنقد الصريح والمباشر له؛ وذلك اقتداء بالملك "فريدريك الثاني" (1712-1786) الذي يصفه مفكرو القرن الثامن عشر بالمستبد المستنير، حيث رفع شعار "فكّروا قدر ما تشاؤون وفي كل ما تشاؤون، ولكن أطيعوا".

ولأن الدين قد أخذ مكانة متميزة في الفكر التنويري، فقد ركزت مقالة "ماهي الأنوار؟" (لكانط) في نهايتها على أن القصور في مجال الدين لها مضرة أكثر من أي مجال آخر، كما لا توجد أي مصلحة للحاكم في ممارسة دور الوصي على رعاياه. لنصل في الأخير إلى التساؤل حول ما إذا كان القرن الثامن عشر قرنا متنورا بالاستناد إلى كل ما سبق وفي ارتباط بجواب كانط نفسه؟

يجيبنا (كانط) عن سؤالنا هذا بالنفي ليعبّر بأن عصره ليس عصر الأنوار، ولكنه عصر يسير نحو الأنوار لأن الناس لايزال ينقصهم الكثير لاستعمال عقولهم دون توجيهات من غيرهم خاصة في مجال الدين. ولكن رغم ذلك فإن (كانط) متفائلا بتعميم الأنوار والخروج من حالة القصور التي يعيش فيها الإنسان -وهو المسؤول عنها- والتي تتقلص بشكل تدريجي باعتبارها عوائق أمام المسيرة العامة للتنوير ولهذا السبب قال بأنه عصر يسير نحو الأنوار.

خاتمة

وعلى سبيل الختام، فإن غايتي من هذه المقالة ورهاني الأكبر عليها يتجلى في السؤال الآتي، والذي أريد أن يجيب عنه القارئ مع ذاته أولا ثم يتدبّر معانيه، "متى وكيف يمكن أن نصنع تنويرنا وحداثتنا في العالم الإسلامي؟" خاصة وأن واقعنا لايزال ينظر إلى التنوير والحداثة وكأنه خلفنا والحال أنه أمامنا، أما المجتمعات الغربية، فقد تجاوزتها بعد أن تحصلت على مكاسبها المرغوبة وأصبحت تلتفت إليه إلى الوراء، كما أن تراثنا تراث متشعب يحتاج للدراسة والاستكشاف بالاعتماد على المناهج الحديثة التي آتت أكلها مع من سبقونا إليها، يقول المفكر الراحل (محمد أركون) في هذا السياق أن "تراثنا غير مخدوم علميا، أقصد غير مدروس وغير مستكشف ولا مضاء على عكس التراث الغربي."[20]

 

قائمة المصادر والمراجع

أ- الكتب

*- باللغة العربية

1- إيمانويل كانط، "ماهي الأنوار؟"، ضمن كتاب: ثلاث نصوص، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، (ط1)، دار محمد علي للنشر، سلسلة أضواء، تونس، 2005

2- إيمانويل كانط، تأملات في التربية، ضمن كتاب: ثلاثة نصوص، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، (ط1)، دار محمد علي للنشر، سلسلة أضواء، تونس، 2005

3- هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب، (ط1)، بيروت، لبنان، 2005

4- رونيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أحمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009

5- محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ترجمة وتقديم هاشم صالح، (ط1)، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 2009

6- محمد سبيلا، مخاضات الحداثة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، (ط1)، 2007

ب- مجلات علمية محكمة

1- جوزيان بولاد أيود، العقل والنقد في عصر الأنوار، ترجمة محمد الهلالي، مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 8، مطابع الرباط نت، الرباط، المغرب، 2014

ت- أبحاث محكمة

1- عدنان زقوري، التنوير: في المفهوم وظروف التشكل، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 05 مايو 2022

*- باللغة الأجنبية

1- Kant, Gritique de la Raison Pure, Aubier, 1997

2- Ernst Cassirer, la philosophie des lumières, Fayard, Paris, 1970

[1] هي فكرة وتصور الباحث البلجيكي (رولان مورتييه Roland Mortier) وردت في: هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب، (ط1)، بيروت، لبنان، 2005، ص 138

[2] مفهوم "المخاض" استعرته من مؤلف المفكر الراحل (محمد سبيلا)

انظر: محمد سبيلا، مخاضات الحداثة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، (ط1)، 2007

[3] Kant, Gritique de la Raison Pure, Aubier, 1997, p.65

وردت في: هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، (م.س)، ص 152

[4] جوزيان بولاد أيود، العقل والنقد في عصر الأنوار، ترجمة محمد الهلالي، مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 8، مطابع الرباط نت، الرباط، المغرب، 2014، ص 184

[5] نفسه، ص ص 184-185

[6] هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، (م.س)، ص 144

[7] هذه المفاهيم أخذتها من المشروع الحداثي للراحل (محمد أركون) واستعملتها بنفس معانيها دون تحريفها، انظر على سبيل المثال: محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ترجمة وتقديم هاشم صالح، (ط1)، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 2009، 37

[8] وردت في:

Ernst Cassirer, la philosophie des lumières, Fayard, Paris, 1970, pp. 39-40

[9] كان قد كتب مقالة في "مجلة برلين الشهرية" ردا على مقالة سبق أن نشرتها نفس المجلة حول موضوع الزواج المدني، وخلال معرض نقده لما جاء في هذه المقالة المجهولة كاتبها سيرفقها بهامش مستفز يتساءل فيه حول "ما هو الأنوار؟" حيث اعتبر بأنه لم يعثر على اجابة عن سؤاله. لينشر بعد ذلك (موسى مَنْدَلْسُونْ) في نفس المجلة مقالا بعنوان "حول السؤال: ما معنى التنوير؟" ليقوم بعد ذلك (كانط) بكتابة مقالته "ما هي الأنوار؟" ونشرها في نفس المجلة أيضا رغم عدم اطلاعه على مقالة (مندلسون) كما أشار هو في نهاية مقالته، ولكنه قرأ إعلان المجلة بنشر تلك المقالة. [أي مقالة (مندلسون)]

[10] إيمانويل كانط، "ماهي الأنوار؟"، ضمن كتاب: ثلاث نصوص، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، (ط1)، دار محمد علي للنشر، سلسلة أضواء، تونس، 2005، ص 85

[11] عبّر عنها كانط بالحرف الواحد بالقول "تجرأ على أن تعرف! كن جريئا في استعمال عقلك أنت! ذاك شعار الأنوار." انظر: إيمانويل كانط، "ماهي الأنوار؟"، (م.س)، ص 85

[12] عدنان زقوري، التنوير: في المفهوم وظروف التشكل، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 05 مايو 2022

[13] انظر إهداء: رونيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أحمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009، ص 37

[14] انظر هامش المترجم: إيمانويل كانط، ماهي الأنوار، (م.س)، ص85

ويمكن أيضا تشبيهها "بالماسكات" وهي حواش من النسيج تعلق بثوب الطفل لتمسكه حتى لا يقع عند المشي.

انظر هامش المترجم: إيمانويل كانط، تأملات في الترية، ضمن كتاب: ثلاثة نصوص، (م.س)، ص35

[15] يمكن الإشارة في الهامش إلى النقد الذي وجّهه (كانط) إلى هذه الأدوات الصناعية (العجلات والماسكات) بقوله "مثل هذه العكاكيز، لا يتعلم الأطفال المشي بنفس القدر من الوثوق الذي يتعلّمون معه المشي بأنفسهم. فالأفضل أن نتركهم يحْبُون على الأرض إلى أن يبدؤوا شيئا فشيئا في المشي بأنفسهم. على أنّه يمكن الاحتياط بفرْش زربية من الصوف في كامل الغرفة حتى لا تنغرز فيهم بعض الشظايا وحتى يكون السقوط أقل إيلاما" إيمانويل كانط، تأملات في التربية، (م.س)، ص 36

[16] إيمانويل كانط، "ماهي الأنوار؟"، (م.س)، ص 87

[17] نفسه.

[18] هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، (م.س)، ص 150

[19] للتوسع أكثر في هذه الأمثلة انظر: إيمانويل كانط، "ماهي الأنوار؟"، (م.س)، ص 89

[20] محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، (م. س)، ص 24