قراءة في كتاب العنف والفينومينولوجيا


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب العنف والفينومينولوجيا

قراءة في كتاب العنف والفينومينولوجيا([1])([2])

قد لا يكون هذا العنوان الذي وضعه جيمس دود (أستاذ الفلسفة في المعهد الجديد للبحث الاجتماعي) لكتابه مألوفاً عند القارئ، ولا مقبولاً عند الباحثين من العارفين بالفلسفة الفينومينولوجية بوجه خاص، وأكثر من ذلك غربته عن المشتغلين بمسائل الفلسفة السياسية وأغراضها؛ فلا هؤلاء يجدون في مسألة العنف غرضاً لتأملاتهم وتوصيفاتهم، وهم الأقرب إلى إلف الأشياء ومسالمتها، دون مفاعيل النزاع والصراع والحرب، ولا أولئك يقبلون أن تدخل السياسة ومشكلاتها، ومن بينها العنف بأشكاله، تحت طائلة الوصف الفينومينولوجي والتحليل الفلسفي الخالص. في كل الأحوال نجد مراهنةً طريفةً في هذا الكتاب محرجة للمجالين المذكورين حيث لم يجرؤ الباحثون على هذا الجمع إلا قليلاً.

ليس هذا العمل إذاً معقوداً لتاريخ مفهوم العنف، ولا للفلسفات التي جعلته من بين أغراضها، ولا لأشكاله التجريبية المباشرة، وإنما هو من جنس «التأملات في العنف» (عنوان المقدمة، ص 1-19)، استئنافاً وإحياءً لعنوان كتاب جورج سوريل الشهير، التي منطلقها سؤالٌ بسيطٌ ولكنه مُلح وعاجلٌ: ألسنا من الذين عميت بصائرهم عن العنف بمقادير ونسب متفاوتة؟ سؤالٌ يستمد معناه من «حاجتنا إلى فهم الحرب» (ص1)، وإن كان العنف لا يقتصر على الحرب قطعاً، هي حاجةٌ إلى المعنى (meaning) تفرضها خطورة الحرب نفسها، وإمكان الانخداع بها في كل حين، فإن ما بين الحرب والعنف شيءٌ من تواطؤ يدق عن الأنظار، أقل الأمارات عنه أن الحرب تجعل العنف أمراً معتاداً. على أن العنف لا يتقدر بحدود وسطى ومقادير موزونة بالعقل وهو الذي تتجاذبه حدود الإفراط والتفريط، ويلتبس أمره بين الأكثر والأقل، ليبقى، كما ردد سوريل ومن بعده حنة آرنت، مشكلاً غامضاً شديد الغموض (ص2): ألا يجعل ذلك من المعالجة الفلسفية للعنف أمراً غير ممكن؟ ذلك أن المؤلف يتردد منذ المقدمة بين ردّ العنف إلى واقعة الحرب واستنطاق دلالته منها، بوصفها «نقطة انطلاق مستغربة» (ص2)، وبين السعي إلى مساءلة دلالته الفلسفية التي تجاوز كوارث الحروب وويلاتها، ولاسيما أن ما سماه «مشكلة» الحرب إنّما هي من جنس المشكلات التقنية للعلم العسكري، أكثر منها مشكلة تخص العلم السياسي في ظاهر الأمر. يشير دود بوضوح إلى أن «مشكلات العنف»، بما فيها من التعلق بمشكلة الحرب، إنّما هي مشكلاتٌ يتعين تقييدها بالمسألة السياسية، بما تتضمنه من أبعاد تاريخية واجتماعية. ولكن التردّد يشتد حينما يتعلق الأمر بالوجاهة الفلسفية لمشكلة العنف، أو باستحقاقه للمساءلة الفلسفية، فلا شيء يشهد لذلك أصلاً، وليس من البديهي أن تدّعي الفلسفة لنفسها تدبير العنف الملازم للحرب وفهمه؛ وسط هذا الغموض يطرح المؤلف غرضه من كتابه هذا: «في هذا المقام، أودّ أن أؤكّد أنّ الفلسفة، من أجل أن تكون قادرةً على الحديث بمسؤولية وعلى الوقوف على هذه القضايا، ينبغي عليها أيضاً أن تبرهن على أن الحرب والعنف يجوز بطريق شرعي أن يُحسبا من بين مسائلها الأساسية، أو أن التزاماً مستلهماً من الفلسفة بالحرب والعنف من شأنه أن يساهم إيجاباً في اهتمام بالأمر الذي يجد ترتيبه الأقصى في غير مجال الحياة السياسية» (ص4).

بناءً على هذا الافتراض، انتظم القول في العنف منذ مقدمة الكتاب على أنحاء من النظر ثلاثة: «الحرب والفلسفة» (ص4-10)، «اعتراضٌ محتملٌ: في تهافت مبدأ العنف» (ص10-14)، وأخيراً «الفلسفة الفينومينولوجية ومسألة العنف» (ص14-16).

فأما صلة الفلسفة بالحرب، فإنها تطرح مسألة العلاقة بالعنف وفهمه خارج نطاق دلالته التقنية والأداتية الخالصة، لترتبط بدلالة أعمق مكونة للتجربة البشرية ولتجربة الذات بالأخص؛ فضلاً عن الارتباط الممكن بين فلسفات بعينها -مثل فلسفتي أفلاطون وهوبز- وبين حروب كانوا من معاصريها -كحرب البيلوبونيز والحروب الأهلية الإنجليزية، أو أن جيلاً من الفلاسفة الأمريكيين، مثل ويليام جيمس، وشارل ساندرس بيرس، وجون ديوي، لم يكن لهم أن يكتبوا ما كتبوا دون الحرب الأهلية في الولايات المتحدة؛ وأن ديكارت مثلاً، والديكارتية عموماً، إنما هي حاصل الأزمة اللاهوتية العميقة التي عرفها القرنان السادس عشر والسابع عشر، وما نجم عنها من حروب دينية طاحنة (ص6). ولعل الأمر أبعد مدى من مجرد التفاعل أو الانعكاس بين الأفكار الفلسفية وبين الوقائع التاريخية الطارئة؛ إذ يستنجد المؤلف بتحليلات المؤرخ العسكري هانسُن (V.D. Hanson) ليبين أن صلة الحرب بالفلسفة إنما هي سمة مميزة للثقافة الغربية من أصولها الإغريقية الرومانية، وأنها تتصل بمسألة الهوية، والإنية بالأخص (selfhood)، وبالنحن التي تتحدّد في جوهرها بالنزاع والنزال ومواجهة الخطر من حيث هي أقصى المحن والتجارب التي تشهد على الحرية (ص7-10). أما السؤال عن الحرب من حيث تسويغه من عدمه، أعني عما يُعرف بعدالة الحرب، فأمرٌ يرجع به المؤلف إلى ما سمّاه «تهافت مبدأ العنف» بوصفه اعتراضاً محتملاً على طرح العلاقة بين الفلسفة والحرب طرحاً بمقتضاه يمكن التساؤل عن الحرب والعنف المنجرّ عنها بوصفهما «حدثاً تكوينيّاً»؛ أي أن تكون الحرب «أصلاً للمعنى». ذلك هو المبدأ الذي ينهض لنقده جيمس دود في عمله هذا، «مبدأ العنف» الذي لا يخفى تهافته وهوانه عند أدنى تأمل: «إن غرضي ليس الاستدلال على بطلان هذا المبدأ؛ فإني أظن أنه ليس مقنعاً من الناحية الفكرية، وإنما هو أيضاً معبّرٌ عن شعور إنساني أساسي، ولعله القوة الحقيقية وراء القبول العام به». (ص11). ثم يوضح هذا الغرض بعبارات أخرى بعد بسط مقالة وولزر (Walzer) في (الحرب العادلة والحرب غير العادلة): «إن الغرض من التأملات الموالية ليس تحدياً لما في تهافت مبدأ العنف من الإقناع، وللنحو الذي بمقتضاه صارت الحرب والعنف من موضوعات المعرفة في العلوم الاجتماعية وفي الفلسفة الأخلاقية. بل إن القصد بالأحرى هو الفحص عن سبيل آخر، من أجل التساؤل عما بقي غير مفكَّر فيه على نحو يصير به التقاطع بين الحياة والعنف مفهوماً» (ص14). وليس كالفينومينولوجيا من فلسفة لتدبير هذا التقاطع وتحقيق هذا الفهم، لا لأن طائفة الفلاسفة المنتسبين إلى هذا التيار، أمثال المؤسس إدموند هوسرل، وماكس شيلر، ومارتن هايدغر، وجان بول سارتر، وموريس مرلوبونتي، قد فكروا في مقادير متفاوتة انطلاقاً من «الدلالة الروحية للحربين العالميتين للقرن العشرين وتبعاتهما» (ص14) فحسب، وإنّما أيضاً لأنّ هذه الفلسفة؛ إذ تنظر في الدلالة الروحية للحرب، تأخذها على جهة الهوية التي تتصل، كالأمر عند هوسرل أو باتوشكا، بفكرة أوربا نفسها أفقاً ومصيراً تاريخياً حاسماً؛ ذلك أنّ البحث في التراث الفينومينولوجي عن مَسَانِدَ قوية للتفكير في العنف لا يعني الاقتصار، كما هو سائد، على مجرد التعاليم المنهجية لهذه الفلسفة؛ فالحديث عن إمكان «فينومينولوجيا للعنف»، إنما يرجع إلى مدى كون العنف من مرتبة المسائل الفلسفية أصلاً، «(...) ولو أُخذت الفينومينولوجيا فحسب على أنها منهج للتحليل، لا على أنها محاولة لتكوين منظور فلسفي مخصوص، سيكون من العسير أن نغنم شيئاً ذا بال بشأن الأهمية الفلسفية للعنف» (ص14-15). وجاهة الفينومينولوجيا، في تقدير دود، إنّما ترجع إلى أنها تأخذ المشكلات الفلسفية على أنها «مشكلات معنى»، بحيث يصير المطلوب في هذا المقام الفحص عن «معنى العنف» (ص15)، وأن هذا المعنى، متى تم أخذه بغير مبدأ العنف المشار إليه، كانت له بالضرورة «هيئةٌ إشكاليةٌ» لا تفسَّر بالأسباب ولا بالآثار، وإنما تكشف عن حضوره في مقام وضع أو عالم بشري.

ولا يعني ذلك، كما يتبين للناظر في هذا الكتاب، أنّ تحليلات فصوله كلها مقيدةٌ بنطاق التراث الفينومينولوجي دون غيره؛ فالمقصود أن تكون للتأملات الفلسفية في العنف صلةٌ مباشرةٌ بمطالب المعنى والوصف والتحليل كما زاولها كبار الفلاسفة من هذه المدرسة، حيث يُصار إلى بناء ضرب من «فينومينولوجيا العنف» تكشف عن طبقات المعنى التي تتشكّل منها هذه الظاهرة الغامضة والمعقدة. ذلك ما نتبينه من خلال فصول الكتاب المعقودة تباعاً لكلاوسفيتش وشميت، لسارتر وآرنت، ليونغر وهايدغر، وأخيراً لباتوشكا؛ فإن لم يكن هؤلاء جميعاً من الفينومينولوجيين بالمعنى المشهور عند المعاصرين، فإنّهم، بفعل وجودهم في معترك الأفكار في القرن العشرين، بل في خضم صراعاته السياسية الحادة، من ذوي الإسهام الأكبر في تحليل هذه الظاهرة على مقربة من المجال الفينومينولوجي وفي داخل حدوده أحياناً. أليس القرن العشرون هو «قرن الحرب» كما سماه باتوشكا؟ ألا يجعل ذلك من أكثر الفلسفات تجرّداً منخرطةً في سياق من المناظرة مع هذه الواقعة الكبرى؟

فلذلك تخيّر المؤلف ألّا يبتدئ كتابه بعرض مبادئ المنهج الفينومينولوجي، ولا ببسط آراء أحد أصحاب هذا المنهج، وإنما باشر مسألة العنف من حيث ينبغي أن يباشرها من خلال التفكير في مسألة الحرب في أعمال كارل فون كلاوسفيتش وكارل شميت في فصل افتتاحي بعنوان «تحدي شميت» (ص20-45). فالمؤلفان الكلاسيكيان في مجال الفلسفة السياسية يوفران لصاحب هذا الكتاب مادة فكرية دسمة تسمح له بتأكيد فرضيته حول بطلان مبدأ العنف؛ أي طابعه الأداتي المحض. فالأمر عند الأول، كما هو معروفٌ، «أن الحرب هي مواصلةُ السياسة بوسائل أخرى»، كما صرح في كتابه الشهير (في الحرب) (Vom Kriege) المنشور سنة (1832م)؛ والعنف بهذا المعنى لا يجد معناه إلا فيما يتجاوزه، أو فيما هو مجعولٌ لأجله من الغايات، ولذلك يلاحظ دود أن تحليلات كلاوسفيتش تتردد بين اعتبار العنف مجرد تعبير أداتي يُستخدم في المجال السياسي، وبين اعتباره من المكوّنات الوجودية للمعنى، فالدلالتان تجتمعان عنده (ص31). هذا البعد الوجودي هو الذي يجده المؤلف في أعمال كارل شميت، ولاسيما (مفهوم السياسي) (Der Begriff des Politischen) المنشور سنة (1932م)؛ حيث لا معنى للحرب خارج دلالتها الوجودية الشاملة التي تجعلها وكأنّها «القرار الذي يدفع بالكيان السياسي إلى الوجود (...) قرارٌ لا شكل له غير الانخراط في إمكان حالة الاستثناء» (ص38).

بين العملين فاصلة زمانية هي قرنٌ بالتمام، ولكن الفاصلة الفكرية بينهما تتقلص إذا ما تبينا أولاً استمرار عين التردد الذي عبر عنه كلاوسفيتش عند شميت بخصوص التأرجح بين الدلالة الأداتية والدلالة الوجودية للعنف مجسداً في الحرب، ولعله تأرجحٌ أو تعارض مشتركٌ بين أصحاب الفلسفات التي يبسطها هذا الكتاب: من آرنت وسارتر، إلى فانون ويونغر وهايدغر وباتوشكا. فضلاً عن ذلك، يتبين العنصر الحاسم عند كليهما في ربط العنف، والحرب بالأخص، بالسياسة أو بماهية الوجود السياسي بوجه عام، ولو أن الأمر عند كلاوسفيتش يبقى محدوداً بمجرد الإشارة إلى دور العنف، في الحرب بوجه خاص، في تشكيل الوعي السياسي دون ترتيب العلاقة بين الطرفين ترتيباً واضحاً متيناً، وإلى إمكان توسيع دلالته من المستوى الأداتي الصرف إلى المستوى الوجودي (ص21).

ولعل ذلك هو ما ينهض له الأثر الكبير لكارل شميت (1888-1985م)، العَلَم الأشهر للاهوت السياسي المعاصر، والمحاط بشبهات كثيرة في زمن الحكم النازي لألمانيا، بتنزيل العنف، الحربي وغير الحربي، منزله من السياسي. ولذلك يبتدئ دود، في القسم الثاني من الفصل الأول، ببسط تصور شميت للسياسي (ص32 وما يليها) الذي له السبق في تشكيل مفهوم الدولة، مع ما يقتضيه من دلالة مخصوصة للاجتماع البشري تتشكل منه القوة/السلطة السياسية، وتتركز الماهية السياسية للدولة، وتتشكل بالخصوص من خلال الثنائية الشهيرة للعدو والصديق، ومن خلال التفرقة بين «السياسة» بالمعنى الكلاسيكي، مجالاً لصراع الأحزاب، وبين «السياسي»، الذي هو شرط وحدة الدولة وكيانها، وكذلك من خلال تقديرها لمخاطر العنف وتحولها إلى حرب ممكنة، حيث يتخذ العنف، في مواجهة العدو، المعنى النموذجي «للكفاح» (combat): «إن مفاهيم الصديق والعدو والكفاح إنما تستمد دلالتها الموضوعية من علاقتها الدائمة بهذا الواقع الفعلي، نعني إمكانية إحداث الموت الفيزيائي لبشر مّا. فالحرب تتولد عن العداوة. الحرب هي السلب الوجودي للعدو» (مفهوم السياسي، ص 33؛ ذكره دود، ص 34؛ انظر ترجمة فتحي المسكيني لمقاطع من هذا النص في هذا الملف)، الأمر الذي يفضي إلى مشكلة السيادة وعلاقتها بالسياسي كما طرحها في كتابه الشهير (اللاهوت السياسي)، مع ما يتبعها من العناصر والشروط كحالة الاستثناء، والحقّ في إعلان الحرب (jus belli).. وإلى تخصيص السياسي بنمط وجود يتأكد به ويطابق به المجتمع بالجملة (ص39-41)، والانتصار لنمط من الحكم السياسي بعينه معادٍ للنظام الليبرالي في مجادلة طريفة مع هوبز (ص41-45). أما «تحدي شميت»، الذي يختم به المؤلف فصله الثاني (ص45) فهو مكوّنٌ، في تقدير دود وفي حدود تحليله، من عنصرين: أولهما محاولة فهم الكيفية التي تكون بها «حالة الاستثناء» -قتل الآخر والتعرض لقتل النفس من جانبه- داخلةً في التدبير الفلسفي للوجود البشري؛ وثانيهما يتجاوز دلالة الحرب في تشكيل التجربة الإنسانية، كدلالة استثنائية قطعاً، ليتعلق بنمط العنف الصادر منها ووظيفته التكوينية الأساسية في قيام هذه التجربة.

وقد يكون الجمع بين وجهين من وجوه الفكر السياسي المعاصر، لا صلة مباشرة تربطهما بكارل شميت وبسلفه الشهير وتأملاتهما في الحرب والعنف، وإن بدا غريباً، خطوةً نحو فض معضلة التردّد والتوتر بين دلالتي العنف المشار إليهما: الدلالة الأداتية الخالصة، والدلالة التكوينية الوجودية. فاللقاء بحنة آرنت (1906-1975م)، وبجان بول سارتر (1905-1980م) في الفصل الثاني إنما هو انتقالٌ إلى مستوى للنظر الفلسفي أقلّ تعلقاً بهيمنة مثال الحرب، وأوسع أفقاً في تدبير السياسي، وفي العنف بذاته، ومواجهته عياناً. ولذلك افتتح المؤلف فصله الثاني «في العنف (آرنت، سارتر)» بمسألة الذاتية في العنف (ص46-48) بوصفها سياقاً جامعاً بين الأثرين المقصودين بالتحليل: (في العنف) (On Violence, 1969) لحنة آرنت، و(دفاتر من أجل أخلاق) (Cahiers pour une morale, 1947-1948) لسارتر، الذي نُشر بعد وفاته (الترجمة الإنجليزية Notebooks for an Ethics، 1992م). وحتى لو لم يجد القارئ تسويغاً مقنعاً لهذا الجمع بين نصين ينتميان إلى عالمين ذهنيين متباينين نسبياً، فإنه يجد بينهما روابط مشتركة تتعلق في المقام الأول بمقاربة العنف من أصوله لا من تجلياته المادية فحسب، أو من خدمته لنظام من الوسائل بعينه: «إن ما أود اقتراحه هاهنا هو أن تحليلاً للعنف يلزم أن يتم على المستوى الأكثر أصلانية للوقوف على عيانية وضع بحيث يمكن للمدى الحقيقي للمنطلق وللمنتهى أن يظهر للعيان. الأمر الذي يعني في المقابل أهمية المنظور الفينومينولوجي في هذا المقام: أنه من أجل فهم العنف، يتعين علينا أن ننظر فيه على جهة الوصف من خلال مظهره المعيش - الأمر الذي يعني، من حيث النحو الذي يكون به ظهور العنف مستحوذاً على الأفعال والأوضاع، على جهة التحويل الذي يطرأ على خاصيتها الذاتية» (ص47-48). بهذا التقدير تنتقل مقاربة العنف إلى سياق فينومينولوجي صريح، هو سياق التحليل الوصفي المباشر الذي يجد في العنف وتجلياته هذه الصبغة الذاتية التي تجعله مفهوماً كتجربة معيشة وكخبرة يمكن الإفصاح عن آلياتها وانتظاماتها الأساسية. فكتاب آرنت (وقد ظهرت النشرة العربية لدى دار الساقي، لندن، 1992م، ترجمة إبراهيم العريس)، وهو رسالة موجزة ذات طابع جدالي موجه ضد المدافعين عن العنف، ينبغي إيضاحه بالتحليلات السابقة في كتاب (الوضع البشري) (ترجمة عربية صدرت عن مؤمنون بلا حدود 2016م أنجزتها هادية العرقي)؛ وكذا دفاتر سارتر، التي ليست لها بنية الكتاب، وإن كانت مكملة للوعود التي أطلقها في ختام كتاب (الوجود والعدم) (1943م) حول ضرورة نظرية في الأخلاق لتكميل الأنطولوجيا الفينومينولوجية، والتي تتناثر فيها ملحوظات حول العنف، لها صدى في سائر أعماله، حيث تبلغ بعض الإشارات درجة الاستفزاز، مثلما استشعرت ذلك آرنت لدى قراءتها للتصدير الذي كتبه لنص فرانز فانون الشهير: (المعذبون في الأرض)؛ ففي الحالتين يتعلق الأمر بتحليلات ظرفية وجزئية وإن كانت لها دلالة مهمة في التدبيرات المعاصرة لمسألة العنف. فأما عند آرنت، فالأمر يدور على التمييز بين المفاهيم الأساسية المشكلة للفضاء السياسي، كمفهوم السلطة في المقام الأول، وما يدور في فلكه من المفهومات كالقوة والنفوذ والعنف (ص48-53)، حيث يتحدد العنف في تقديرها بصفته الأداتية أساساً (ص53)؛ أي بما هو توسّلٌ للجبروت (strength) مع ما ينجم عن ذلك من التبعات والنتائج... إن هذه السمة الأداتية تزداد غموضاً وتعقيداً مع ظاهرة إرهاب الدولة كتعبير أقصى من تعبيرات العنف: فهي تحطيم للسلطة من وجه أول، وهي إعادة إنشاء لها على شاكلة أخرى من وجه ثانٍ؛ الإرهاب غير العنف من حيث يحل محل السلطة التي دمرها العنف (ص55)، وهو ما نجد أصداء له في كتاب آرنت الشهير: (أصول الاستبداد)- إن إرهاب النظم الحاكمة، كحد أعلى للعنف، لا يعمد فحسب إلى الاستحواذ على ما تسميه «فضاء الظهور» (space of appearance) الذي من شأن السياسي، لكونه يختص بمجال بعينه لا محالة، بل إلى القضاء عليه وإلغائه.

ذلك أن الإرهاب (Terror) يجعل العنف جزءاً من صناعة العلاقات البشرية، وواقعاً متخللاً لمناحي الحياة كافةً، بل مقبولاً بقواعد معلومة (normalized)، وهو بذلك يتجاوز مجرد الدلالة الأداتية، بل نظام الوسائل والغايات برمته، ويصير مكوناً للفضاء السياسي بعينه. هاهنا، يلاحظ دود، يكون اللقاء بتحليلات سارتر في مستوى التفرقة الدقيقة بين العنف والقوة: فالقوة متصلة بالفعل والحركة وفق أحكام الوجود الطبيعي، وأما العنف فلا يكترث لجريان الأمور الطبيعية، بل يعمد إلى خرق الإكراهات الناجمة عنها، حتى يبلغ هدفه مباشرةً، دونما توسّطٍ من سيرورة مّا (ص56).

بين آرنت وسارتر إذاً افتراقٌ جوهري في تقدير دلالة العنف التكوينية خاصة؛ فمؤلفة (الوضع البشري) لا تنظر بعين الرضا إلى الذين يرفعون من شأن هذه الدلالة بتمجيد العنف (سوريل، وماو، وفرانز فانون، وسارتر نفسه)؛ بل إن هذه الخاصية التكوينية تظهر أكثر ما تظهر فيما يصطنع الإنسان ويفصل عن الطبيعة من الأمور المصطنعة جزافاً (artifice)، بحيث يكون الفعل مأخوذاً بإطلاق على هذا المعنى الجزافي الذي يجعل الوجود البشري بمنأى عن الوجود الطبيعي؛ حتى يُصار بذلك إلى إفراد العنف نفسه بكينونة قائمة بذاتها، كالتي نجدها لدى كبار الساسة (ماو) أو المكافحين من أجل حقوق المستضعفين (فانون)... وهو موقفٌ لعله لا يراعي ما في طبيعة الكيان البشري، والعالم نفسه، إذ نشأ من عنف أصلي، من الضعف والهشاشة، ومن خطر الوقوع في كل حين تحت طائلة الحالة الطبيعية للوجود وأحكامها. وأما الموقف الذي يعبر عنه صاحب (الدفاتر) فمفاده أن العنف عند فاعله هو رغبة في تحطيم العالم وإلغائه، فالعنف يتجاوز الوسائل ليتعلق بنمط وجودها نفسه، ويحول العلاقة بين الوسائل والغايات، فلا يكون مساوقاً لمسار الأشياء، وإنما يفرض نفسه متى تعطل بلوغ الغاية؛ فكأن العنف يعيد ترتيب هذه العلاقة بين الوسائل والغايات بحسب كل موقف ومقام، من أبسط الغايات اليومية المباشرة في أفعال الناس إلى الغاية القصوى التي تجعل للعنف دلالة تعسفية تحكمية تنطق باسم نظام أعلى أو حقيقة تتعالى على الناس ويهون عندها كل شيء؛ وأخطر من ذلك، عند سارتر، ما يكون من وضع لغايات مطلقة يكون السعي إلى بلوغها بسبيل العنف المطلق الذي يسميه في أطواره القصوى «عالم العنف» (ص60)، أو كذلك ما يتحدث عنه في أحد كتبه الأخيرة (نقد العقل الجدلي) من عنف ليس مقتصراً على القائم به، ولا على فعل من الأفعال ونتائجه، وإنما هو بُعدٌ موضوعيٌّ يتشكل منه وضع من الأوضاع، بحيث يكون العنف محايثاً للواقع الفعلي غير منفصل عنه بأي وجه في ضرب من العطالة العملية التي تقوم عليها رؤية سارتر الجدلية للتاريخ ولمعناه الكلي (ص72).

أما الانتقال إلى النظر في تصور العنف عند يونغر (1895-1998م) وهايدغر (1889-1976م) في الفصل الثالث -«في خط الجبهة»- فيقلب حركة التفكير في الكتاب قلباً درامياً نحو مسألة صارت هي أفق المعاصرين وختام تأملاتهم في النهايات والكوارث التي عرفها قرنهم: العدمية (nihilism)، التي أنبأ بها سارتر في (الدفاتر) حينما قال إنّ «العنف يستلزم العدمية» على معنى تكون فيه العدمية هي هوانُ الأشياء ولاجوهريتها، ضعف قوامها واستلاب وجودها... إن غرض المؤلف هو استيفاء دلالات هذا التصريح، واستخراج مفهوم العدمية الذي هو حاصل التعميم الأقصى للعنف حدثاً وواقعاً ومصيراً؛ ذلك ما وجده دود في المناظرة بين هايدغر ويونغر في خمسينيات القرن الماضي بخصوص مسألة العدمية بالذات وصلتها بالميتافيزيقا، ومادتها تتألف من نص كتبه يونغر بعنوان: «في خط الجبهة» (Uber die Linie) (1950م)، نشر في مجموع تذكاري بمناسبة الذكرى الستين لمولد هايدغر، وآخر لهايدغر يحمل العنوان نفسه (1955م) هو عبارة عن رسالة أرسلها إلى يونغر بمناسبة الذكرى الستين لمولده أيضاً (لتفصيل المعطيات، راجع الهامش 3، ص164). فالانقلاب المقصود الذي يستشعره قارئ الكتاب في هذا الطور من التحليل إنما يتعلق بضرورة استئناف الأمر؛ أي دلالات العنف الجديرة بالاعتبار، من أصوله، أي: من حيث صار مطابقاً للعدمية أو يكاد، وذلك بسبيل أبعد مدى من مجرد الجدل بين الوسائل والغايات، وبين الدلالة الأداتية والدلالة الوجودية وغيرها من الترددات التي ميزت الفكر السياسي المعاصر. تلك هي علامة الإشكال الكبرى التي ميزت المناظرة بين الرجلين في مقام غير مريح، لا يزال الجميع يحمل فيه آثار الحرب الكونية وآلامها، ولم تتبيّن فيه بعدُ المسؤوليات الأخلاقية والسياسية عن الطامة الكبرى التي جعلت للعنف المعمم والغاشم معنى جديداً لا قبل للبشرية به، وللحرب دلالة غير معهودة من قبلُ. صارت آيات العدمية باديةً للعيان أكثر من أي وقت مضى: أبلغ وأخطر مما عرفته البشرية في الحرب العالمية الأولى، إذ صار «خط الجبهة» تجربةً قصوى، أو تجربة تخوم، نقطةً للاعودة، ومفصلاً حاسماً، في تأملات يونغر المستلهمة من نيتشه ودستويفسكي، أساساً للتفكير في العدمية الأوربية من حيث اكتمالها ونهايتها واستيفاء ممكناتها، ومن حيث إعلانها عن بدء جديد أو عن حياة جديدة (ص79). والأمر لا يخلو من مفارقة كيفما نظرْتَ إليه: فالعدمية من وجهٍ سلبٌ للحياة ولوجود تنتظمه القيم، ومن وجهٍ ثانٍ إنباءٌ عن جديدٍ يعتمل أو يتشكل من رحم هذا السلب وهذا النكران. بهذا المعنى يجوز أن يكون يونغر يقصد في عنوانه بالحرف (über) ما يكون 'عن' الخط، وما يكون في الوقت نفسه من شأن مجاوزته وتعديه... مجاوزة تمام العدمية وانغلاقها، ماوراء العدمية (ص79 و90). أليس هذا التردد بين تمام العدمية استلهاماً للحدس النيتشوي الشهير وبين إمكان مجاوزتها هو عينُ المفارقة (paradox)؟ ألا يفضي بنا هذا التجاوز إلى غير الكارثة النووية الوشيكة؟ أيها أوْلى: أن نعود إلى نيتشه وتأملاته في العدمية الحديثة (ص90-96) أم أن نبحث عن الجواب عند هايدغر، الوارث الأكبر لنيتشه؟ إن موقع هايدغر في هذا الجدل يطرح أكثر من سؤال. فما العلاقة بين مسألة الوجود، وما يتعلق بها من بنية أنطولوجية للفكر ومن بنية أنطو-ثيولوجية لتاريخ الميتافيزيقا بأسره، وبين العنف؟ أليست العدمية الأوربية واكتمالها هي الآية الكبرى على بلوغ العنف أقصى تجلياته؛ أعني الوقْع الكوني للكارثة التي صارت تندّ عن الوصف والقول؟ من البيّن أن المناظرة مع يونغر جعلت من مسألة العدمية عند هايدغر جواباً على هذا الضرب من التساؤلات: فإذا كان العنف الكارثي عند الأول هو المحنة التي تسمح بتجاوز العدمية، واجتياز «الخط» -خط الجبهة- نحو قرار مّا، نحو توكيد وإثبات وإيجاب، فإن ذلك عند فيلسوف تودناوبرغ لا يفي بماهية العدمية نفسها، أي بنمط مساءلتها من جهة علاقتها بالعدم بوجه خاص ونمط اضطلاعها به كما جاء في الدروس حول نيتشه (ص98). إن موقف هايدغر من هذه المسألة لا يمكن رده إلى تشخيصات الأزمة وما يحيق بالحضارة من انحطاط وسقوط (كما في الأدبيات الكلاسيكية لأمثال هوسرل وزيمل وشبنغلر...)، كما شاعت في ذلك الزمان في أدبيات مشهورة، وإنما إلى جوهر العدمية نفسها من حيث هي التعبير الميتافيزيقي الأوفى عن ماهية الحداثة وما أنشأت من صور للعالم تهيمن عليها التقنية بما تحمل من وعود بالنهايات ومن نُذر الشؤم المتوالية... لذلك يميل المؤلف إلى ترجيح ميل هادغر إلى الدلالة الأداتية للعنف أكثر من الدلالة التكوينية، في سياق المجادلة بخصوص العدمية، بحيث يكون العنف «مجرد نمط آخر للاستيعاب الكلي للموجود البشري في العدمية» (ص107). وذلك على الرغم من تنبيه دود، في نهاية هذا الفصل، على أن هايدغر، من حيث يقيم معنى الوجود على تجربة العدم كتجربة أنطولوجية أساسية، إنما يفترض دلالةً للعنف «أصليّةً» (بالمعنى الذي أشارت إليه حنة آرنت)؛ أي دلالةً تكوينيّةً ووجوديّةً لا محالة، وأن هذه الأصلانية هي بوجه من الوجوه تعبير عن «حاجتنا إلى الكوارث من أجل أن ترج فيها غيبتنا عما يعتري تدمير الذات من اعتياد (normalcy)» (ص108).

فإن أتينا إلى الفصل الرابع والأخير من هذا الكتاب، المعقود للفيلسوف التشيكي يان باتوشكا (1907-1977م)، وجدنا أن المناظرة حول العدمية مفضية -لامحالة- إلى تأملات في العنف لا يمكن أن تنفصل عن المعاني التي انتهى إليها هايدغر في الطور الثاني من فكره، وعن دلالتها بالنظر إلى فلسفة التاريخ وبنياتها الفينومينولوجية. ذلك ما نجده في كتاب (المقالات المارقة في فلسفة التاريخ)، الذي حرره صاحبه بين (1973-1975م)، والذي انكب دود على قراءته في هذا الطور الأخير من عمله؛ كتابٌ يسكنه هاجس العدمية من أوله إلى آخره، وهواجس أخرى حاقة بفكر استشعر النهايات بحس مرهف، واستأنف تدبيرها من أصولها عند أوائل اليونانيين إلى غايتها في فينومينولوجيا هوسرل. لذلك يعمد باتوشكا إلى استئناف تجربة الخط/الجبهة المستلهمة من يونغر (والراجعة أصلاً إلى أدبيات الحرب الأولى في الوعي الغربي الذي اصطدم بويلاتها إلى حد كبير)، وتجديد التفكير في الدلالة الميتافيزيقية لحضارة التقنية الحديثة على خطا معلمه هايدغر، وتطعيم ذلك بتجربة «الفداء» (sacrifice)، التي تشكّل ردّاً على هيمنة العدمية، وتنشيطاً أقصى لمعنى «التعالي» (transcendence)وإحياءً للمعنى، حيث يصير العنف في تجربة الجبهة أفقاً حقيقيّاً للوجود، ويكون بتوسط الفداء مكوناً لمعناه (ص110).

في نص باتوشكا المشار إليه (المنقول عن التشيكية إلى الإنجليزية سنة 1996م، وإلى الفرنسية سنة 1999م مع مقدمة لبول ريكور) مزيجٌ من اعتبارات فينومينولوجية بخصوص مسائل العالم الطبيعي والعالم التاريخي، وتكوين التاريخ البشري ومعناه، والإرث الأوربي ومشكلات الحضارة التقنية... ولكن الفصل الأخير: «حروب القرن العشرين، والقرن العشرون بما هو حرب» ذو أهمية خاصة في تقدير دود من حيث هو «مقالة متوعرة ومعقدة في الشرعية الروحية والميتافيزيقية للقرن العشرين». (ص110)؛ فالظاهر إذاً أن تأملات باتوشكا في مسألة العنف ينبغي أن يُبحث عنها في تصوره للحرب، ولاسيما محاولته تفسير أصول الحرب العالمية الأولى ودلالاتها، وكأننا بذلك نرتد إلى منطلق الكتاب حيث ابتدأنا مع كلاوسفيتش وشميت بحثاً عن معنى الحرب؛ فالأطروحة التي تنهض لبيانها محاولة باتوشكا هي أنه «في القرن العشرين، تتخذ الحرب دلالةً وحيدةً لم تتخذها من قبلُ أبداً، أو على الأقل لم يكن لها أن تبلغ المدى نفسه (...) وأن الحرب قد صارت ذروة اللحظة الروحية في تاريخ البشرية». (ص111)، وإن كان موافقاً ليونغر ولهايدغر في ربط الحرب بالعدمية، فإنه يخالفهما في اعتبار الحرب أنموذجاً رئيساً للعلائق البشرية إلى الحدّ الذي صار فيه قرنٌ بأكمله، لا مسرحاً لحروب دامية كونية، وإنما هو الحرب عينها، وصارت الحرب تستجمع خلاصة الوضع البشري وذروته، وأقصى تحقيق لممكناته. لا يقف باتوشكا عند الدلالات الفلسفية المجردة للعدمية ولنتائجها، وإنما يدفع بها إلى حدودها القصوى، إلى انحطاط الحضارة الأوربية وما تبعه من سرديات جنائزية مأتمية ورّطت العالم بأسره في أزماتها السياسية المستفحلة وصدّرتها إلى أصقاع الدنيا (انظر الفصل الخامس). إن ما أتاه باتوشكا، الفيلسوف الفذ، صاحب الطبع السقراطي الأصيل، المعبر عن التراث الروحي لأوربا الوسطى، العارف المرموق بفلاسفة الإغريق، التلميذ اللامع في مدرسة هوسرل وهايدغر، المناضل من أجل حرية بلده، والذي دفع حياته ثمناً لذلك موتاً تحت التعذيب، هو خلاصة التأملات الفلسفية المعاصرة في العنف، ولاسيما العنف الحربي، وفي العدمية الناشئة عنه، دون أن يقاسم هذه النظرة العدمية مواقفها، ودون أن ينشر التشاؤم في نفوس الناس. لعله من بين قلة من الفلاسفة المعاصرين من الذين أمكن لهم أن ينجزوا فينومينولوجيا للعنف بالمعنى الحق: وصفٌ لنشأته في مساق العالم الطبيعي وانتقاله إلى العالم البشري والتاريخي في بنيات وهيئات وجودية أصلية منها تتشكل الرؤية الإنسانية للعالم، وخصوصاً على جهة «البوليموس» (polemos) الإغريقي الهيراقليطي -النزاع أو الصراع - ودوره في تشكيل «المدينة» (polis) وفي تأسيس الوجود السياسي على تقديرات عقلية متناسقة متناسبة مع نظام النفس والكون؛ ثم ربط تلك القاعدة الفينومينولوجية (المتقدمة على التشكيلات النظرية والتاريخية المتعارفة) بحال البشرية المعاصرة في الغرب وما أحاط بها من ويلات وكوارث انسدت معها السبل والآفاق. هذا الجمع، الذي توسل له باتوشكا تمييزات بين مفاهيم «المقدس» و«المدنس» و«الأصيل» و«الزائف»... (ص114-120) ليضفي على تجربة العيش في العالم معاني تضمن الألفة والأنس للناس وتقيهم وحشة الغربة، إنما يجد تعبيراً عنه في استئناف التفكير في التعالي وإعادة تأهيله كتجربةٍ مُشَكِّلةٍ للحياة في يوميتها من خلال ما سماه «الأفلاطونية السالبة»، عنوان فصل من كتاب باتوشكا (أفلاطون وأوربا)، وما لحقها من تحولات بفعل التجارب الكبرى للمسيحية وأثرها في الوعي الغربي، أي من خلال إعادة ترتيب العلاقة بالنفس قبل كل شيء: «العناية بالنفس» وتعلقها بمثال الخير كأفق أعلى.

وأما ما عده دود أكثر المقالات «مروقاً» أو «هرطقةً» في هذه (المقالات المارقة)، فهو علامةٌ على ميل باتوشكا في نصه هذا إلى الأخذ بالدلالة التكوينية للعنف، وأن الحرب لها قدرة تفسيرية فائقة، ووظيفة تشكيلية للمعنى، من دون أن يفضي ذلك إلى وضعه في خانة المنضوين تحت لواء ما سماه المؤلف في فاتحة كتابه (تهافت مبدأ العنف)، ولا من المداحين لمظاهره وآفاته. وإن عودة الفيلسوف إلى تجارب قصوى -كالجبهة والفداء...- ما هي إلا تعبيرٌ عن بدائل ممكنة من العنف والحرب، لا إعلاءً لها بأي وجه، وتهويناً من الحاجة إلى السلم والوفاق والأوبة إلى الحياة وإلى اليوم... قد يكون ذلك هو ما انتهى إليه المؤلف في مرافقته لهذا الفيلسوف من حديث عن «تحدي باتوشكا» (ص131-133) لعلنا لا نجد فيه شيئاً من جواب حاسم عن الأسئلة الكبرى للحرب والسلام، بل الحيرة تلو الحيرة من شأنٍ يقف المرء دونه عجزاً.

***

وأخيراً، صاغ دود نتائج عمله، بعد جملة المطارحات والمناظرات التي عبرنا من خلالها هذا الكتاب، على شاكلة «مشكلات ستة للعنف» (الخاتمة): خمسة منها تشكلت منها مادة التفكير في هذا الكتاب، والسادسة بقيت قيد النظر، وإن كانت لا تقل خطراً عن سابقاتها، وهي العلاقة بين العنف والشر. إنّ التحديات التي اضطلع بها هذا الكتاب، ومسايرته لأعلام ونصوص وتأملات في مسألة العنف والحرب، وفحصه لما بينها من الفوارق والتشابهات، ينتهي بها المؤلف إلى ضرب من الاختصار في أمهات قضايا أو مشكلات تعكس أطواراً مرّ بها التحليل: أولها العنف والإمكان (possibility) (ص135-137)، الذي هو خلاصة موقف شميت، حيث يتشكل الوجود السياسي على حافة الخطر، ويستمد العنف دلالته الوجودية من هذا الإمكان عينه كأفق محيط أو حاق بالإنسان، وحيث يقوم أساس هذا الوجود -أي السيادة- على افتراض إمكان العنف، والقدرة على القرار في حالة الاستثناء. أما ثانيها فيتعلق بثنائية العنف والإنية (selfhood) (ص137-140)، حيث يقع الانتقال من الأنثروبولوجيا اللاهوتية (شميت) إلى الأنثروبولوجيا الجدلية والتاريخية، بفضل ما نبهت عليه الأولى من ربط الوجود البشري بالقدرة على البُعد والتماسف (بتأثير من تحليلات بلسنر (Plessner) أحد أعلام مدرسة الأنثروبولوجيا الفلسفية) وما ينجم عن ذلك من إدراك للذات على جهة الإنية تمّ استثماره استثماراً حسناً في فلسفة سارتر من خلال مسألة «الخاصية التشويهية للعنف» (ص138)؛ فالعنف شأنه أن يرفع مسألة الذات ووعيها بذاتها، ومن ثَمّ مسألة النحن والسؤال «من نحن؟»، إلى رتبة عليا، وأن يسبغ عليها صفة الجذرية التي تتفوق بها أهمية ومكانة على كل المسائل الأخرى؛ فإن للعنف أيضاً من الوعود ما يفتن الناس ويأخذ بعقولهم. ولكن سحر الوعد والإمكان سرعان ما يصطدم بأمر الواقع والعيان، فالعنف ليس إمكاناً فحسب، وإنما هو واقعٌ أيضاً: الموت والقتل والتعذيب تدل كلها على هذه «الشرعية العيانية» (concrete legacy) التي تسم العنف الذي يقع على أفراد وجماعات بعينها، والذي يتشكل منه نسيج الواقع والحياة حتى لا نكاد نبصر به إلا قليلاً (أمرٌ شبيهٌ بحضور السلطة في أدق مفاصل الحياة عند فوكو الغائب الأكبر عن هذا الكتاب)، ولا تشير إليه السّرديات ولا الأذكار أو لا تحيط به من حيث هو متصل بالعطالة والندرة اللتين في بنية البراكسيس بحسب سارتر في (نقد العقل الجدلي). ذلك هو الغرض من الحديث عن «شرعية العنف» (ص140-144)، أو بالأحرى عن ماديته وكثافته العيانية التي صارت من سمات العصر الحديث؛ إذ هو العصر الذي بات فيه الإنسان قادراً للمرة الأولى على تنظيم أوركسترا العنف (to «orchestrate» violence) بتحكّم تقني تام (ص142). وأمّا محور «العنف والمسؤولية» (ص144-147) فمشتقٌّ مباشرةً من صلة العنف بالإنية ونمط الشعور بالذات مفرداً كانت أم جمعاً، وإذا كانت مقولة «الإمكان» مؤسسة للسياسي بما هو كذلك، فإن مقولة «المسؤولية» تحيل رأساً على «ذاتية مسؤولة»، في كنف أوركسترا العنف المشهدية وحدث الفداء المتصل بها، شبيهة بتلك التي نادى بها باتوشكا في نصه المشار إليه بعبارة «وحدة المرتجّين»[3] (solidarity of the shaken) كآية على معنى رفيع للمسؤولية جامع بين سقراطية سياسية أصيلة وبين بصر فينومينولوجي حاد بما يحيق بالبشرية من الويلات والنوازل.

إن تحصيل المعنى هو المحك الحقيقي لكل فحص فينومينولوجي، ولذلك فإن الحديث عن «معنى العنف» (ص148-149)، بوصفه آخر المشكلات المطروقة في هذا الكتاب، هو تنبيهٌ على الرهان الفلسفي الرئيس له: أنه «إن كان العنف مشكلاً فلسفيّاً حقيقيّاً، فإنه يمكن مقاربته حينئذٍ بوصفه مشكلاً متعلقاً بكيفية انتظام معناه في الخبرة المعيشة» (ص148). على أن هذا الانتظام غير يسير ولا متيسر للوصف والتحليل مادام العنف كسراً للترابط الموضوعي لنظام الأشياء وخرقاً لترتيباته ونواميسه، فكأنه يفلت من قبضة الوعي الموضوعي وأعماله التأسيسية، وكأن الإقبال عليه لا يكون إلا بمداورات وتقليبات لا نهاية لها، ولا يتيسر مباشرةً وحدساً بأيّ وجهٍ.

يبقى ما سكت عنه هذا الكتاب -«العنف والشر» (ص150-153)- وما أرجأ التفكير فيه خانةً فارغةً قد تكون قابلةً من صور العنف التي رأينا ما تيسر وأمكن، وقد لا تكون لها بهذه الصور علاقة أصلاً، بل لعل مسألة الشر (evil) من المسائل التي لا نجد لها مساغاً في الفينومينولوجيات المعاصرة، التي لا تحفل بالمأثورات والسرديات الدينية، ولا بالرمزيات عموماً، وقد لا تكون مهتمة بالمعاني الأخلاقية لتجربة الشر وما يرافقها من منظومة تجريبية فاعلة في الذاكرة البشرية، وذلك لمجرد الاقتصار على بنية المعنى التي تلازم العنف في عموميتها. وقد لا يكون الفلاسفة في نهاية المطاف قادرين، بتأويلاتهم وتحليلاتهم الألطف والأدق، على الأخذ بناصية الأمر نفسه في حدث العنف، وفي الواقعة الكبرى التي تنطق عنه؛ أي الحرب، شأن غيرهم ممن عاينوا بأنفسهم غمارها كذلك المراسل الحربي كريس هادغس (Chris Hedges) الذي يقتبس منه دود نصّاً جميلاً في ختام كتابه، نصٌّ فيه الكثير من عجائبية الحرب وفتنتها، من أهوالها وويلاتها، من مضارها ومنافعها، من سيئات آثارها على الذاكرة وعلى اللغة... لكل ذلك، يستنتج هذا المراسل، يكون الحديث عن الحرب صعباً بعد انتهائها.


[1]- نشر هذا المقال في كتاب "تأويليات العنف"، إشراف فتحي إنقزو، مؤمنون بلا حدود، 2019

[2]- James Dodd, Violence and Phenomenology, New York -Routledge- «Studies in Philosophy», 2009, pp.179.

[3]- حول هذه المعاني راجع مقالنا: «من الطبيعة إلى التاريخ: ملاحظات حول حدوث المدينة عند باتوشكا»، الكراسات التونسية، العدد 186-187 (2003م)، ص 37-62.