قراءة في كتاب "تعلم الحياة" للفيلسوف الفرنسي لوك فيري


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "تعلم الحياة" للفيلسوف الفرنسي لوك فيري

قراءة في كتاب "تعلم الحياة" للفيلسوف الفرنسي لوك فيري

عبد الله أخصاصي

يعرض لوك فيري في كتابه الموسوم بـ "تعلم الحياة" تاريخ الفلسفة على نحو مغاير لما هو مألوف في هذا الاتجاه؛ فتأريخ الفلسفة عادة ما ينحو نحو سرد للمحطات والمذاهب الفلسفية بطريقة تعاقبية دياكرونية Diachrony، دون تأطير فعل التأريخ هذا بإشكال فلسفي يكون بمثابة الدافع أو الخيط الناظم بين مختلف التصورات الفلسفية المُؤرَّخة، خصوصا إذا ما اعتبرنا تاريخ الفلسفة تاريخ حوار وسجال لا يتقادم؛ أي إنه سجال حول قضايا فلسفية عابرة للتاريخ، فسؤال ما أصل العالم؟ وكيف يمكن أن نعيش ونتصرف؟ هي أسئلة بين أسئلة أخرى أرَّقت الفلاسفة القدماء كما المحدثين والمعاصرين، والعمل الذي اضطلع به الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في هذا الكتاب، هو عمل شارك به في هذا النقاش الفلسفي، حيث طرح إشكالا فلسفيا حاول الإجابة عنه عبر عرض تصورات الفلاسفة منذ المرحلة اليونانية مرورا بالمرحلة الوسيطية والحديثة إلى المعاصرة التي سيستحضر ضمنها تصوره الشخصي، وهو إشكال أخلاقي أساسا يرتبط بتعلم الحياة أو لنقل تعلم العيش. فأمام حقيقة الموت أو كما يسميها هو محدودية الإنسان، يطرح السؤال التالي: كيف نتصرف إزاء هذه الحقيقة، حقيقة أننا كائنات فانية؟ واستحضاره للأجوبة التي قدمها الفلاسفة عبر التاريخ ليس استحضارا يحكمه منطق الخطأ والصواب، فالأجوبة أو التصورات التي قدمها الفلاسفة القدماء بخصوص هذا الإشكال لها قيمتها ورهاناتها إلى اليوم، وتعيدنا هذه المسألة إلى المقارنة التي أقامها لوك فيري في مستهل هذا الكتاب بين تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة، حيث إن الأول نُحاكِمه بمقولة التطور من حالة إلى أخرى، من نظرية إلى نظرية أخرى أبطلت الأولى علميا (من نظرية بطليموس إلى نظرية كوبرنيك، ومن نيوتن إلى أينشتاين...)، بينما تاريخ الفلسفة فيمكن تشبيهه بتاريخ الفنون؛ ذلك "أن أعمال براك وكندنسكي ليس أكثر جمالا من أعمال فيرمير أو مانيه، فإن أفكار كانط ونيتشه حول معنى الحياة أو لا معنى الحياة ليست أسمى -أو أدنى- من مثيلاتها لدى أبيكتات، أبيقور أو بوذا."[1]

الفصل الأول من الكتاب معنون بـ "ماهي الفلسفة"، وفيه راجع لوك الطرح الذي يحصُر الفلسفة في النقد والمَحاجَّة، فرغم إقراره بأهميتهما إلا أنه اقترح بابا آخر للتفكير للإجابة عن سؤال: ماهي الفلسفة؟ وذلك عبر استشكال وجود الإنسان، حيث اعتبره الكائن الذي يعرف أنه سيموت، وسيفقد أحبابه والمقربين منه يوما ما، وأن كل وقت يمر هو وقت مُنتهٍ؛ أي إنه وقت ميت إن صح التعبير. وأمام هذه الحقيقة يحتاج الإنسان إلى خلاص.[2] وهنا يضع فيري الدين مقابل الفلسفة، حيث إن الأول يعد الناس بالخلاص عبر وساطة الإيمان بالله، لكن هناك غير المقتنعين بهذا الخلاص وتُراودهم الشكوك حوله، وهنا تبدأ الفلسفة باقتراح خلاص خاص بها، [3] خلاص يتم التوصل إليه عبر "قوانا الذاتية وبنعمة العقل وحده."[4] فالفلسفة هنا على عكس الدين تسعى للخلاص عبر القدرات الذاتية للإنسان، وليس عبر وساطةِ الإله.

بعد هذا التمييز بين الخلاص عبر الإله والخلاص عبر قوانا الذاتية (العقل)، يبدأ لوك فيري بشرح الأبعاد الثلاثة للفلسفة التي من خلالها يبني الفيلسوف تصوره حول الخلاص؛ إذ إنه للوصول إلى هذا الأخير يلزم بداية "فهم ما هو موجود"[5] (النظرية)، بعدها تحديد ما يجب فعله (الأخلاق)، وأخيرا اكتشاف الخلاص. ويمكن ترجمة هذه الأبعاد الثلاثة إلى ثلاثة أسئلة، فيما يخص النظرية الفيلسوف يطرح السؤال التالي: كيف هو هذا العالم، متناسق، فوضوي، مُعادٍ، صديق...؟ في هذا البعد يسعى الفيلسوف إلى معرفة العالم وإيجاد تفسير له، فيستعين بالعلوم الطبيعية من علم الفلك والفيزياء...إلخ. أما بالنسبة للبعد الثاني المتعلق بالأخلاق، فالسؤال الذي يُطرح هنا هو: ما هي قواعد اللعبة الواجب اتباعها في علاقاتنا مع الآخرين؟ أو بصيغة أخرى، كيف نعيش مع الآخرين؟ ذلك أن هذا العالم لا نوجد فيه لوحدنا، بل هناك أشخاص آخرين بدءا من أفراد الأسرة إلى الجيران والأصدقاء، والذين لا نعرفهم يتوجب علينا التعامل معهم، وهو الأمر الذي يعني ابتِداع قواعد أخلاقية يتم التصرف وفقا لها. بعدها يعيد لوك فيري مسألة جدوى معرفة العالم (النظرية)[6] والتعايش مع الآخرين وفق قيم ما (الأخلاق)، لغاية تعبيد الطريق نحو مسألة الخلاص أو الحكمة التي تعني التغلب على المخاوف الناتجة عن إدراكنا لحقيقة محدودية الإنسان أو نهائيته.

في الفصل الثاني، يبدأ لوك فيري بتأريخ الفلسفة مسترشدا بهذا الإشكال الفلسفي بخصوص الخلاص، فيعرض الأجوبة أو لنقل التصورات الفلسفية التي توصل إليها الفلاسفة عبر المرور من تلك الأبعاد الثلاثة بالترتيب. وأول هذه التصورات التي استهل بها الفيلسوف الفرنسي عرضه لتاريخ الفلسفة المؤطَّر بالإشكال الفلسفي المذكور آنفا، هو التصور الرواقي، فعلى المستوى النظري لهذا التصور؛ أي فهم الرواقية للعالم فالمبدأ الذي توصلوا إليه هو مبدأ التناسق/التناغم، أو الكوسموس/الكون. ومفادُ هذا المبدأ هو أن العالم هو بُنيان منظم وكل جزء فيه يؤدي مهمته بانسجام وبتكامل تام مع بقية الأجزاء الأخرى، وهذا البنيان المنظم هو ما يعتبره اليونانيون الإله؛ أي إنه كامن في هذا العالم ذاته. على عكس ما نجده في الأديان السماوية التي ترى الإله كائناً قائماً خارج الكون، "الموجود قبله والذي أوجده".[7] بمعنى أنه إلهٌ سامٍ عن هذا العالم. ويتأتى إدراك هذا البنيان العقلاني (اللوغوس) للعالم عبر حسن التأمل وإمعان للنظر في الموجودات، وكونه بنيانا عقلانيا فذلك ما يجعل عقولنا قادرة على فهمه، بغض النظر عن الكوارث والفوضى الظاهرة أول الأمر للمُتأمل.

بعد التوصل إلى مبدأ تناغم العالم وانسجامه (الكوسموس)، ما هي الأخلاق التي يمكن استنباطها من هذا التناغم؟ وقبل تقديم إجابة الرواقيين نسجل الملاحظة التالية، وهي أن الأخلاق عندهم (الرواقيون) تُبنى استنادا إلى معرفتنا بالعالم (النظرية). يقول شيشرون مشيرا إلى هذا الترابط في كتابه "في غايات المباهج والمتاعب": يجب على من يريد العيش بتوافق مع الطبيعة أن ينطلق من رؤية شمولية للعالم وللعناية الإلهية، إذ لا يمكننا أن نطلق أحكاما صحيحة على المباهج والمتاعب دون معرفة النسق الكامل للطبيعة ولحياة الآلهة أو دون التأكد من أن الطبيعة البشرية متوافقة أم لا مع الطبيعة الكونية..."[8] ويضيف كريزيب Chrysippe "ليس هناك من وسيلة أخرى أو أكثر ملائمة للوصول إلى تحديد الأشياء الطيبة أو السيئة أو إلى الفضيلة أو إلى السعادة من الانطلاق من الطبيعة المشتركة ومن النظام الذي يحكم العالم."[9]

بناء على هذا الترابط بين معرفتنا بالعالم (النظرية) وكيفية تصرفنا مع الآخرين (الأخلاق)، توصلت الرواقية إلى مبدأ التلاؤم مع الكون كقاعدة أساسية لكل تصرف نقوم به، وما ينبغي القيام به هو السعي إلى إيجاد مكانا لنا في هذا النظام المتناسق لبلوغ السعادة، ويستحضر لوك فيري في هذا السياق قصة الكلبي كراتاس Crates الذي كان مُعلما للرواقي زينون، وتفيد القصة أن كراتاس كان يضاجع زوجته أمام الملأ؛ وذلك لاقتناعه بأننا يجب أن نتصرف وفق التناسق الكوني، وهذا ما كان يعلمه لطلابه من خلال تمارين عملية تقودهم إلى عدم الاكتراث لنظرة الآخرين إليهم، وهم يقومون بتلك التمارين، فالهدف منها هو تعلم التصرف وفق الطبيعة الكونية "التي يجب أن لا يبعدنا عنها أبدا الجنون الإنساني."[10]

إذا كان العالم عبارة عن تناغم وتناسق منظم (النظرية)، ووجب التصرف وفقا لهذا التناغم الطبيعي من خلال إيجاد المكان المناسب لنا ضمنه (الأخلاق)، فما هو الخلاص الذي تعد به الرواقية لتجاوز القلاقل الناتجة عن إدراكنا لحقيقة أننا كائنات فانية؟

يقول الرواقي ماركوس أوريليوس الذي كان إمبراطوريا لروما: "أنت موجود كجزء وستختفي في الكل الذي أنتجك، أو بالأحرى، وعن طريق التحول، سوف يستقبلك في كنهه الخلاق."[11] فبما أن العالم عبارة عن بنيان متناسق ومنظم، فنحن لسنا سوى جزء من هذا البنيان، والموت "ليس إلا عبورٌ من حال إلى أُخرى، ليس إلى الزوال، بل إلى نوع مختلف من الوجود."[12] إذا كيف يمكن أن يكون الموت مصدرا للقلق بالنسبة لمن أوصله التأمل إلى إدراك التناغم والتناسق الذي ينطوي عليه العالم؟ بهذا يكون الموت مصدر قلق فقط بالنسبة لهؤلاء الذين لم يندروا حياتهم للتأمل الذي سيكون وسيلتهم لبلوغ الكوسموس، فليس الموت أمام من بلغوا درجة التأمل هاته سوى حالة عبور من حالة وجود إلى أخرى. ومن هنا يبدأ الخلاص الرواقي.

ليس هناك ما هو أهم أكثر من اللحظة التي يعيشها المرء هنا والآن، وما يجعل الناس يغفلون عن هذا الأمر هو الحنين والرجاء/الأمل، الحنين إلى الماضي، من ذكريات مرت، والشعور بالندم إزاء أحداث لا يمكنك إعادة الزمن إلى الوراء لتتصرف بالشكل الذي سيشعرك بالرضى والراحة. أما الرجاء، فهو الذي يجعل الإنسان لاهثاً وراء رغبات ومشاريع مستقبلية غير مضمونة التحقق، وكذلك الخوف من الموت، من المصير الذي لا مهرب منه. يقول الرواقي سنيكا في "رسائل إلى لوسيوس": يجب التخلص من هذين الشيئين: الخوف من المستقبل وذكرى المتاعب القديمة؛ لأن هذه لم تعد تعنيني بينما لا يعنيني المستقبل بعد."[13] لا يمكن تأجيل السعادة إلى حين تحقيق رغبة من المستقبل، ولا يمكن كذلك أن نأتي بها من ماضٍ وَلَّى. فالمستقبل والماضي هي أبعاد زمنية غير موجودة فِعليّاً، والكائنُ حقيقةً هو الحاضر لا غير، لذلك علينا أن نحب الواقع، ونُوفِّق "بين إرادتنا وبين الأحداث بطريقة لا يمكن معها لأي حدث أن يحصل رغما عنا أو عندما لا نريده."[14] أن نتصالح مع ما هو موجود، تصالحا مصدره إدراكنا لتناغم العالم.

يشترط التخلص من الحنين والرجاء اللذين يجعلان المرء يفقد الصلة بحاضره، تعلم عدم التعلق، ويبدأ هذا التعلم من إدراك خاصِّية التغير وعدم الثبات الذي يتميز به الوجود، فإذا ما أشحْنا وجوهنا عن هذه الحقيقة كان مصيرنا هو الألم من ذكريات مضت جراء التعلق بها، ومن التشبث برغبات مستقبلية غير مُحققَةٍ، وينسحب الأمر حتى على آواصرنا مع المقربين منا، فمن طبيعة الإنسان أنه كائن فانٍ، فكيف نسمح لأنفسنا بالتعلق بهم، يقول أبيكتات: "إن التمرين الأول والأساسي الذي يقود مباشرة إلى أبواب الخير، هو عندما يجذبنا شيء ما، أن نعتبر أنه ليس من الأشياء التي لا يمكن انتزاعها منا؛ أي إنه من ذات الصنف لطنجرة أو لكوب من الكريستال لا يسبب تحطمه أي اضطراب لدينا، لأننا نتذكر دائما طبيعته. الأمر ذاته يحدث هنا: إذا قَبَّلْتَ ولدك أو أخاك أو صديقك لا تترك الحرية اللامحدودة لخيالك. تذكر أنك إنما تحب فانيا، أو كائنا مختلفا عنك. لقد أعطيت إياه حاليا، ولكن ليس إلى الأبد أي بدون إمكانية انتزاعه منك... ما السيئ في أن يقول أحدنا بصوت منخفض عند تقبيل ولده: "غدا سيموت."[15] وتكتمل صورة الخلاص الرواقي، عندما نتمكن من تهيئة أنفسنا للكوارث، من قبيل موت أحد أحبتنا أو حينما نَمرض أو نُسجن...إلخ. يلزمنا توقع حدوث الأسوأ ونتقبل حدوثه، باعتباره حدثا خارجا عن إرادتنا؛ أي إنه غير خاضع لها، وفي المقابل ننظر إليه باعتباره حدثا مُرسَلا من الطبيعة، من الكوسموس، بالتالي فهو حدث عادل.

هذه هي مجمل تعاليم الخلاص الرواقي كما قدمها لوك فيري في هذا الفصل، [16] والملاحظ أن هذه التعاليم تشترك في نقاط عدة مع التعاليم البوذية، وهذا ما لم يتوانَ لوك فيري عن الإشارة إليه خلال تقديمه للتصور الرواقي. وأنهى الفصل بتقديم ملاحظة حول هذا الخلاص، مفادها أنه رغم رصانة هذا التصور وقيمته الفلسفية، إلا أنه خلاص موضوعي، غير شخصي. فمسألة العبور (الموت) من حالة فردية إلى حالة موضوعية في نظام الكوسموس لا تضمن خلاصا يُلاقينا كأشخاص مع أحبتنا بعد هذا العبور. واعتبر هذا الأمر نقطة ضعف ستنطلق منها المسيحية للإتيان بعقيدة خلاص تضمن هذا الذي افتقدت إليه الرواقية.

ففي الفصل الثالث الذي عنونه ب “انتصار المسيحية على الفلسفة اليونانية"[17]، استهله بتقديم أربعة مبررات لحديثه عن عقيدة الخلاص المسيحية؛ ذلك أن العمل مخصص لتأريخ الفلسفة فكيف يمكن تخصيص حيز للدين فيه؟ ثم لماذا يستحضر لوك فيري الخلاص المسيحي ما دام أنه قد أقام تمييزا بينه وبين الخلاص الفلسفي منذ الفصل الأول؟

السبب الأول الذي يقدمه لوك هو كون المسيحية على علمٍ بضعف التصور الرواقي للخلاص ومن ثمة اجتهدت لتبني على ذلك الضعف خلاصا مغايرا متفوقا على الخلاص الأول، وهذا ما يجعل الوقوف عندها أمرا مهما. السبب الثاني حسب زعم لوك فيري هو كون المسيحية قد سمحت بالعقل بالعمل رغم ارتكازها على الإيمان. السبب الثالث يرى فيه صاحبه أن تحديد ماهية الفلسفة سيكون أسهل حينما نقارنها مع ما تتعارض معه؛ أي الدين، رغم اشتراكهما في الغاية، فالخلاص الفلسفي يتوسل الذات والعقل، بينما الخلاص الديني يقتضي الله والإيمان به. والسبب الرابع والأخير يُرجعه لوك فيري إلى الأفكار الأخلاقية المسيحية التي ما تزال ذات أهمية لحدود اليوم كما يقول، فمن بين هذه الأفكار الأخلاقية نجد أن قيمة الإنسان لا تتحدد في مواهبه الطبيعية، وإنما في طريقته لاستخدام هذه المواهب.

ويتبع لوك فيري من جديد الترتيب نفسه للأبعاد الثلاثة للحديث عن المسيحية، النظرية والأخلاق ثم الخلاص، وسيسهل علينا فهم التصور المسيحي للخلاص إذا ما كان لنا إلمام جيد بالتصور الرواقي، ففي البعد المتعلق بالنظرية، كانت الرواقية ترى أن العالم عبارة عن بنيان منظم ومتناغم وجميل، وتسميه باللوغوس؛ أي التنظيم العاقل للعالم، في المسيحية فقد تجسد هذا اللوغوس في المسيح (كلمة الله المُجسدة)، بالتالي تغير الإلهي من كونه تناغما موضوعيا لا شخصيا للعالم إلى جسد شخصي (المسيح)، وهذا ما رفضته الرواقية، أن يتجسد الإلهي في الإنسان، ويتجلى هذا الرفض في الأمر الذي أصدره الإمبراطور ماركوس أوريليوس - وهو فيلسوف رواقي - بقتل القديس جوستان، الذي كان هو نفسه رواقيا قديما وصار فيما بعد الأب الأول للكنيسة.

إضافة إلى تجسد اللوغوس في المسيح، فقد تغير أيضا النظر "أورايو Ory"[18]، ففي التصور الرواقي كان العقل هو وسيلة النظر إلى التناغم الكوني، بينما الآن مع المسيحية أصبح الإيمان هو الوسيلة للنظر. وهذا تحول عميق أدى إلى تنحي العقل لصالح الإيمان في مسألة الوصول إلى الحقيقة، لم يعد النظر إلى الإلهي يتم عبر الذكاء كما يقول لوك فيري، وإنما عبر الثقة المرادفة للإيمان، الثقة في بشارة المسيح وفي وعده. ولا يثقُ في المسيح إلا البسطاء وليس من اعتمد على عقله كما يفعل الفلاسفة الذين وصفهم القديس أوغسطين بالتعجرف والرعونة؛ إذ نجده يقول في كتابه "مدينة الله" ما يلي: "تعالى المتكبرون عن اعتبار هذا الإله معلما؛ لأن الكلمة صار جسدا وحل فينا وهم لا يستطيعون القبول بهذا. لماذا؟ لأنه يتوجب عليهم التخلي عن ذكائهم وعن عقلهم لصالح الثقة والإيمان."[19] والتواضع كذلك، كما تواضع اللوغوس ليتجسد في جسد إنسان (المسيح)، وكما تواضع البسطاء في تخليهم عن العقل لصالح الإيمان. ونتيجة لذلك أصبحت الفلسفة خادمة للدين.[20] إذ انحصر دور العقل في تفكيك شيفرات الطبيعة للبرهنة على وجود الله، وهو ما فعله القديس توما الإكويني في كتابه "براهين وجود الله".[21]

ننتقل الآن إلى البعد الثاني المرتبط بالأخلاق، فإذا كانت الرواقية تعطي أهمية للنظام الطبيعي، وتعتبره عادلا ومصدرا للأخلاق، حيث إن كل فرد عليه أن يجد عبر التأمل العقلاني مكانه في هذا النظام استنادا إلى المواهب التي منحتها إياه الطبيعة، وهو ما يؤسس لتراتبية مبنية على التفاوت في هذه المواهب الطبيعية، فإن المسيحية وانطلاقا من تواضع اللوغوس (النظام الكوني المنظم) ليتجسد في جسد إنسان (المسيح)، لا تقر بأهمية هذه المواهب الطبيعية بحد ذاتها، بقدر ما تهتم بطريقة استخدامها. وبناء عليه فما هو مهم هو حرية الاختيار، نحن نتساوى في حرية اختيار ما سنستخدم فيه هذه المواهب، وهذا ما تشير إليه تحديدا حكمة الوزنات، أشهر حكم الإنجيل كما يدعي لوك فيري، بالتالي فالفضيلة لا تكمن في هذه المواهب الطبيعية، بل في نتائج استخدامك لها؛ إذ يمكن أن تستخدم ذكاءك في القيام بجريمة ما، أو في حل مشكل معين يعود حله بالنفع على الآخرين.

حكاية المرأة الزانية التي دافع عنها المسيح وأنقذها من الرجم، تشير إلى إحدى أهم سمات المسيحية في ميدان الأخلاق، وهي العودة إلى الضمير الشخصي، وليس إلى التطبيق الحرفي للقانون في محاكمة الآخرين. فالزانية قد تكون ارتكبت الجرم بسبب الحب أو لسبب آخر، ثم هل من بين المـتأهبين لرجمها شخص دون خطيئة؟[22] من منظور المسيحية علينا أن نعود إلى ضميرنا الشخصي القابع في ذواتنا لتحديد ما إذا كان ما سنقوم به صائبا أو غير صائب، على عكس الديانة اليهودية والإسلامية التي تحدد ما يجب القيام به. بالتالي، فمسألة الأخلاق في المسيحية هي مسألة داخلية، وليس ثمة أي تقنين أو تقييد للحياة اليومية ما دامت لا تسيء لروح المسيحية.[23] ويُستخلص من كل هذا أن المسيحية أسَّست لمفهوم الإنسانية انطلاقا من المساواة في الكرامة، التي بدورها انبثقت من حرية استخدامنا لمواهبنا الطبيعية.

أما في مسألة الخلاص المسيحي، فيحدد لوك فيري ثلاث سمات له؛ السمة الأولى هي أن عبورنا (الموت) لن يكون من حالة شخصية إلى حالة موضوعية في الكوسموس كما يتصور الرواقيين، بل سيكون عبورا من حالة شخصية إلى حالة شخصية، حيث سنُبعث كأشخاص بميزاتنا وتفردنا إن صح التعبير؛ ذلك أن المسيح سيضطلع برعايتنا كرعاية أب لأولاده.[24] أي حب المسيح لنا، وهنا يتحدث لوك فيري عن السمة الثانية للخلاص المسيحي، وهي الحب الذي يميز فيه بين الحب الذي أساسه التعلق، ويتفق المسيحيون والرواقيون والبوذيون في كون هذا الحب هو الأقل حكمة؛ لأنه يسبب الألم لصاحبه الذي لا يؤمن بحتمية الموت، بمعنى حتمية فقدان الأشخاص الذين تعلقنا بهم عاجلا أم آجلا. وهناك الحب المرادف للرأفة، وهو الذي يجعلنا نهتم لأمور جميع الناس، سواء المقربين منا والغرباء عنا. أما النوع الثالث للحب، وسيلتنا للخلاص حسب ما يذكر لوك فيري فهو الحب في الله[25]، وهو حب أقوى من الموت، لماذا؟ لأن الذي سيحب في الله أحبته والغرباء عنه سيلتقي بهم بعد الموت العضوي. واللقاء لن يكون لقاء أرواح فقط، بل لقاء أجساد أيضا، وهذه هي السمة الثالثة للخلاص المسيحي، فالجسد محور الخلاص، وأساسه هو الحب في الله. وهو الأمر الذي يعني زوال القلق النابع من إدراك محدودية الإنسان.

الفصل الرابع يخصصه لوك فيري للحديث عن ولادة الفلسفة الحديثة، ويستهل حديثه فيه بذكر أهم الكتب التي قلبت التصور الديني المسيحي والرواقي/اليوناني رأسا على عقب، وهي كتاب كوبرنيك "تحولات المدارات السماوية" (1543)، وأطروحات غاليليو حول "علاقات الأرض والشمس" (1632)، ثم كتاب ديكارت الموسوم بـ "مبادئ الفلسفة" (1644)، وكتاب نيوتن المعنون بـ "مبادئ الرياضيات" (1687). فمع هذه الاكتشافات خصوصا الاكتشافات الفلكية انهار التصور المسيحي حول العالم ومعه التصور الرواقي، إذ لم يعد العالم متناغما تراتبيا، بل هو فوضى لا متناهية. ولم تعد الأرض مركز الكون، وتم تهشيم ثنائية فوق وتحت. وبانهيار هذا التصور عاش الأوربيون حالة تيهان وحيرة.[26] ما يعني الحاجة إلى تصور جديد للعالم، يشمل الأبعاد الفلسفية الثلاثة، النظرية والأخلاق ثم الخلاص.

بخصوص النظرية لم يعد هناك "شيء إلهي يمكن أن يسعى الإنسان إلى رؤيته وتأمله"[27] أي ذلك التناغم للطبيعة، لذلك يتوجب بناء هذا النظام من خلال إقامة علاقات منطقية بين الظواهر الطبيعية، هناك مثلا مبدأ السببية القاضي بأن لكل ظاهرة أسباب قبلية أو مصاحبة لها. وعليه لم يعد الفيلسوف يتأمل عبر العقل بنيانا متناغما موجود مسبقا، بل يلزمه القيام بفعل تنظيم الطبيعة استنادا إلى تلك العلاقات المنطقية.

إذا كان الإنسان على المستوى النظري هو الذي يقوم بإضفاء التماسك على الطبيعة من خلال ربط ظواهرها بعلاقات منطقية، فعلى المستوى الأخلاقي أصبح هو القاعدة الأساس، هو مركز العالم، وبالتالي هو الكائن الجدير بالاحترام كما يذكر لوك فيري، والتمايز الذي أتى به جون جاك روسو بين الإنسان والحيوان وشرحه في كتابه "خطاب حول أصل اللامساواة بين البشر" (1755)، يؤسس من خلاله لتصور أخلاقي يضع الإنسان في قلب العالم، فبِما أن الحيوان هو الأقرب للإنسان بيولوجيا فهناك ميزتان يفتقد إليهما الحيوان وتتوفران لدى الإنسان، وهما الحرية والقابلية للتحسين. ويسوق لوك فيري العديد من الأمثلة لتوضيح هذا التمايز مستعينا بنص لروسو مقتطف من الكتاب السالف الذكر، وأبرز هذه الأمثلة مسألة الشر لدى الإنسان، فالحيوان أحيانا يعذب فريسته ليس لغرض التعذيب ذاته كما يفعل الإنسان، بل لأنه مُبرمج على ذلك، وهو ما يعني أن الإنسان يعذب إنسانا آخر وهو على وعي بذلك، وله الحرية في أن يحجم عن فعل ذلك. ويصير إنسانا غير ممارس للشر إشارة إلى قابليته إلى التحسين.

ونتيجة لذلك يوصف الإنسان بأنه كائن تاريخي؛ فمن خلال تميزه بالحرية والقابلية للتحسين فهو يصنع تاريخا يتميز بسمة التغير، فالنمط المعيشي للإنسان قبل قرنين ليس هو النمط المعيشي القائم اليوم، بينما النمل الأبيض والنحل كما يقول لوك فيري: "بقيت كما هي تماما، منذ آلاف السنين: فسكنها لم يتغير بفاصلة، ولا طريقة جمعها للغذاء أو تغذيتها للملكة أو توزيع الأدوار فيما بينها"[28]، الحيوان مسير ببرنامج الغريزة، حينما تولد السلحفاة فهي مسبقا ستتصرف وفق برنامج الغريزة الخاص بها، ولكن الإنسان حينما يولد فهو يتمتع بالحرية فيما بعد ليختار، فهو الذي يصنع وجوده، قد يولد المرء فرنسيا لكن بإمكانه أن يتعلم اللغات الأخرى، ويغير جنسيته ويعيش في بلد آخر...إلخ. ويستحضر هنا لوك فيري مقولة الفرنسي جون بول سارتر: "الوجود يسبق الجوهر"، بالتالي ليست هناك طبيعة إنسانية يبقى الإنسان أسيرا لها، فهو يتمتع بالحرية والقابلية للتحسين إلى ما لا نهاية. وهو ما يعني أن الإنسان مسؤول عن اختياراته وأفعاله، لا يمكن محاسبة هِرٍّ افترس فأراً، ولكن شاحنة تتسبب في حادثٍ فإننا نحاسب سائقها وليس الشاحنة. ويستخلص من هذا أن هناك بين الإنسان والطبيعة مسافة، فهو ابن لهذه الطبيعة، ولكنه غير خاضع لها، لذلك نحاسبه على أفعاله، ولا نفعل ذلك مع الحيوان. ومن هذه المسافة انبثق ما يسمى بالثقافة بمدلولها الأنثربولوجي.

وبناء على ما أتـى به جون جاك روسو بنى الألماني إيمانويل كانط تصورا أخلاقيا يتسم بسمتين اثنيتن؛ الأولى هي التجرد والثانية الكونية، بالنسبة للأولى فتشير إلى قدرة الإنسان على التجرد من الأنانية التي تعود أصولها إلى الميولات الطبيعية، وهذه القدرة هي التي يسميها كانط الإرادة الطيبة، تلك التي تسمح لنا بأن نتصرف بغيرية وليس بأنانية، ذلك أن فعل التجرد من الميولات الطبيعية يتوقف على الحرية التي يقابلها عند الحيوان الخضوع للغريزة الطبيعية. والواجبات المُلزمة التي يتحدث عنها كانط تنبع إلزاميتها من ضرورة مقاومة الجانب الحيواني فينا لتحقيق الخير والمصلحة العامة. ويعني ذلك كونية الأخلاق، فهي لا ترتبط "بمصلحتي الخاصة أو بمصلحة عائلتي أو قبيلتي"[29] بقدر ما تتوجه إلى تحقيق مصلحة عامة كونية. استنادا إلى ذلك فالفضيلة تتحقق "كنضال الحرية ضد الطبيعة فينا."[30] وليس عبر إيجاد مكان لنا في التناغم الكوني كما كان الأمر في التصور الرواقي. ويجد مبدأ الاستحقاق تأسيسه في هذا المعنى الجديد للفضيلة.

سيكون لهذا التصور الأخلاقي نتائجه في الميدان السياسي والحقوقي، فلو اتبع كل واحد منا ميولاته الطبيعية، لما أمكن لنا أن نعيش معا، لذلك سنتنازل عن أنانيتنا لصالح العيش المشترك، أما على المستوى الحقوقي فليس إعلان حقوق الإنسان سوى تجلٍّ لهذا التصور الأخلاقي. وهو التصور الذي يتم فيه التعامل مع الإنسان باعتباره غاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة.

يعود لوك فيري - استدراكا - للحديث عن رونيه ديكارت الذي أسس للقطيعة مع النظام القديم، [31] فقد كان هاجس ديكارت هو تأسيس تصور فلسفي جديد على أنقاض التصور القديم الذي انهار مع الاكتشافات الفلكية والتحولات الاقتصادية التي شهدتها أوروبا، ويمكن القول إن المقولة الشهيرة التالية: "أنا أفكر إذن أنا موجود" تحمل بين طياتها اختصارا لهذا التصور الفلسفي الذي بناه ديكارت. هناك ثلاث أفكار أساسية مستخلصة من هذه المقولة، يمكن إجمالها في القول التالي: وهو أن الحقيقة هي ما يصمد أمام الشك، وهي حقيقة تبنى عبر تفكيرنا الذاتي، وبالتالي فالذات هي التي تتوصل إلى الحقيقة. ولم تعد هذه الأخيرة تحدد بكونها تطابق الرأي مع الواقع كما كان عليه الحال لدى اليونان. على هذا الأساس يعد مفهوم الذاتية إحدى أهم ركائز الفلسفة الحديثة. وينبني هذا التفكير الذاتي على "الرفض المطلق لكل الأحكام المسبقة ولكل المعتقدات الموروثة من التقاليد ومن الماضي."[32] بمعنى الشك في كل شيء بما فيها الحجج المرجعية التي فرضتها مؤسسات تتمتع بسلطة على الأفراد، من قبيل الأسرة والمدرسة والكنيسة.

هل يضمن لنا تحقق الأخلاق التي تحدثنا عنها زوال القلق الناتج عن وعينا بأننا كائنة فانية؟ الثورة، الوطن، العلم، هذه هي المثل العليا للخلاص التي ابتكرتها الحداثة، الثورة التي تنادي بها الماركسية، والموت دفاعا لأجل الوطن، ثم الإيمان بالعلم الذي نزع السحر عن العالم بتعبير ماكس فيبر، وهي عقائد خلاصٍ يصفها فيري بالسيئة، [33] ويُورِد مثالا ساخرا عن الشيوعية (الثورة)، إذ يستحضر نصّاً منشورا في مجلة "فرنسا الجديدة" كتبه الحزب الشيوعي الفرنسي بمناسبة وفاة ستالين بابا الشيوعية على حد تعبيره، ويوضح النص درجة القداسة التي وصلت إليها الشيوعية، إلى حد قدرتها على تبرير الموت والتضحية من أجل زعيمها.[34] ويستشهد بالنشيد الوطني الكوبي لتبيان كيف أصبح الوطن عقيدة خلاص تبرر الموت وتؤدي إلى الأبدية.[35] وعلى نفس النهج يعتقد العلماء أنهم بِتوَصُّلهم إلى قوانين علمية جديدة، فإن ذلك يشفع لهم أن ينعموا بالخلود عبر تدوين أسمائهم في تاريخ العلم. ويُرجِّح على هذه العقائد الثلاث عقيدة يسميها بـ "الفكر الموسع" التي تضفي معنى على حياة الإنسان، وهي عقيدة كانطية تقتضي الخروج من المجال الخاص أو من الفكر المحدود إلى مرتبة تخول لك فهم الآخرين، ويضرب لوك فيري مثالا على ذلك بتعلم لغة جديدة، ذلك أنه "عندما تتعلم لغة أجنبية، عليك، وبذات الوقت، الابتعاد عن نفسك وعن الوضع الخاص الذي انطلقت منه، لكي تدخل في دائرة أوسع وأكثر كونية، حيث تعيش ثقافة أخرى... فعند تعلمك لغة أخرى تستطيع ليس فقط التواصل مع عدد أكبر من الكائنات البشرية، بل تكتشف أيضا، عبر اللغة، أفكارا أخرى وأشكالا أخرى من المزاح أو من العلاقات بالآخرين وبالعالم."[36]

الفصل الخامس يخصصه لوك فيري للحديث عن فترة ما بعد الحداثة post modernity التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر، ويسهب فيه بالشرح حول التصور الفلسفي لنيتشه دون غيره، وذلك لاعتباره أبرز وجوه التيار الما بعد حداثي. ينطلق هذا التيار من نقد مرتكزين أساسيين للحداثة، الأول يتمثل في معتقد مركزية الإنسان (الانسية)، والثاني في معتقد قوة العقل. لقد تم تفكيك هذين المُرتكزين اللذان يضعان الإنسان أساسا لكل شيء نظرا لتفوقه على باقي الكائنات بحريته من الطبيعة وقابليته للتحسين، وبالعقل أيضا الذي اتخذه ديكارت أساس فلسفته، العقل الذي تم تَصورُه كما لو أنه أداة سحرية ستفتح لنا أبواب السعادة، ولكن لماذا يتوجب تفكيك الفلسفة الحديثة؟ ببساطة لأنها قامت بتهديم كل من تمثال الدين والكوسموس، وأرست مكانهما وثنيْ الإنسان والعقل، لذلك بقيت الحداثة "أسيرة التراكيب الأساسية للدين الذي أكملته دون دراية منها، في الوقت الذي كانت تعتقد إنها تجاوزت تلك التركيب."[37] لذلك لزُم تفكيكها ونقدها كما فعلت هي مع فكرتيْ الدين والكوسموس.[38]

في البُعد الخاص بالنظرية من التصور الفلسفي لنيتشه لم نعد نتحدث عن تأمل للعالم كما كان عليه الحال مع الرواقيين، ولا عن إقامة ترابط بين الظواهر الطبيعية كما حصل مع المحدثين، بل التأمل بالمعنى النيتشوي هو عملية تفكيك التي تبحث في "الأصل الخفي للقيم وللأفكار التي لا تُمس، المقدسة المنزلة من السماء... لتنزلها إلى الأرض ولتكشف طريق ولادتها الحقيقية التي هي غالبا أرضية."[39] وهي عملية يسميها نيتشه بعلم الأنساب. فكما أن هذا الأخير يضطلع بتقصي "سلالة عائلة ما من خلال رسم شجرة هذه العائلة بجذرها وجذعها وأغصانها"[40]، فإن مهمة الفلسفة حسبه هي تتبع أصول الأفكار والقيم، وعلى هذا الأساس يعتبر نيتشه أن "كل أحكامنا وكل ما نتفوه به وكل الجُمل التي نلفظها أو الأفكار التي نُصدرها هي تعبيرات عن حالاتنا الحياتية وتعبيرات الحياة فينا، وليس أبدا كيانات مجردة ومستقلة عن القوى الحياتية الموجودة فينا."[41] ونتيجة لذلك تنهار كل القيم والأفكار التي أُريدَ لها أن تكون مُثلا عليا، بل أكثر من ذلك، فالإنسان استنادا إلى هذا المنظور ليس مستقلا عن الواقع أو متفوقا عليه لكي يصدر بحقه أحكاما ووجهات نظر؛ ذلك أن الإنسان نفسه ما هو إلا مُنتَج تاريخي، لهذا فحينما نقول بالحقيقة الموضوعية فذلك لا يغدو أن يكون سوى وجهة نظر تمت صياغتها وفقا لِلَحظتها التاريخية وللقوى القائمة حينها، الأمر الذي يعني أنه ما من حقيقة مطلقة التي كان الرواقيون يتمثلونها، باعتبارها الكوسموس، وليست كذلك نتيجةَ ذلك الربط بين الظواهر الطبيعية كما يتصور المحدثين. ولكي تكتمل الصورة أمامنا فنيتشه ينظر إلى العالم باعتباره عالما فوضويا، ويقول تعبيرا عن هذه النظرة: "هل تعلمون جيدا ما هو العالم بالنسبة لي؟ وهل تودون أن أُريكم إياه في مرآتي؟ إن هذا العالم وحش من قوى، لا بداية ولا نهاية، إنه مجموع ثابت من القوى صلب كالبرونز... إنه بحر عاصف من القوى مدٌ لا يتوقف."[42]

ويميز فريديريك نيتشه ضمن هذا العالم الفوضوي بين ضربين من القوى، القوى المتفاعلة التي يقصد بها إرادة الحقيقة في ميدان العلم والفلسفة الكلاسيكية وفي ميدان السياسة يتحدد هاجسها في تحقيق المثال الديمقراطي، وهذه القوى تشتغل بشكل سلبي، ذلك أنها تبدأ برفض ما هو قائم من أوهام وآراء خاطئة.[43] وتضع العالم المعقول (الفلسفة، العلم، الدين) مقابلا للعالم المحسوس الذي تحط من شأنه لصالح الأول، ووراء ردة الفعل هاته تُجاه العالم المحسوس "يختبئ بعد آخر غير البحث عن الحقيقة، قد يكون خيارا أخلاقيا لم يفصح عنه، أو اختيار قيم معينة مقابل أخرى، أو تحيز خفي لِ الما وراء ضد ال هنا فوق الأرض."[44]

ثم هناك القوى الفاعلة التي تحيل إلى الفن، وهي قوى "تستطيع أن تثبت نفسها في العالم وأن تظهر فيه كل مفاعيلها دون الحاجة إلى عرقلة أو قمع قوى أخرى"[45]؛ على نقيض القوى المتفاعلة، وتعبر عن نفسها عبر الفن. والفنان بهذا المعنى هو الذي يختلق عوالماً جديدةً ويُطْلِعُنا على آفاق أرحب دون تقديم تبرير وإثبات لشرعية ما يدعو إليه، ودون دحض لأعمال فنان آخر سابقة، ويعبر نيتشه عن هذا الأمر بقوله: "ما هو بحاجة لإثبات لكي يمكن تصديقه، لا قيمة له."[46] إشارة إلى القوى المتفاعلة التي تسعى وراء للحقيقة. ويقدم لوك فيري تمييزا دقيقا بينهما، ففي القوى المتفاعلة اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الحقيقة، بينما في القوى الفاعلة اللغة هي غاية بحد ذاتها لكونها ذات تأثير جمالي (الانفعالات الحساسة). ولا يُرجِّحُ نيتشه كفَّة القوى الفاعلة (القمعية) على القوى المتفاعلة (المُحرِّرة) كما يعتقد الكثيرون، بل يدعو إلى إقامة توازن بينهما، وهو الأمر الذي يسميه هو بالأسلوب العظيم.

في البُعد الخاص بالأخلاق، يحضر هذا الأسلوب العظيم، باعتباره السبيل المؤدي إلى عيش حياة لا ترفض أيّاً من هذه القوى، وهو أسلوب لا يتواجد خارج الحياة بمعنى أنه غير رافض لأي قوى من القوى المشكلة للحياة، وإنما يدعو إلى قبولها وإقامة تصالح بينها، وبهذا نحقق نوعا من التناغم عوض الصراع، فنعيش بذلك حياةً طيبة. وفي هذا السياق، يحضر مفهوم إرادة القوة الذي يحيل إلى تجنب التمزقات والصراع الداخلي بين تلك القوى؛ لأن أحدها يلغي الآخر مما يجعل الحياة تذبل وتضعف، وإرادة القوة هي هذه الإرادة التي ترفض الضعف والذبول بسبب التمزق والصراع الداخلي، لذلك علينا التخلص من المخاوف والندم والتأسف وكل ما يقف حجر عثرة أمام حياة طيبة. وفي هذا يُفضل نيتشه الفن الكلاسيكي الذي يتحكم فيه الفنان على انفعالاته على الفن الرومانتيكي الذي بالعكس من ذلك، يطلق فيه الفنان العِنان لتمزقاته الداخلية لتسيطر عليه.

في مسألة الخلاص وبناء على ما جاء في بعديْ النظرية والأخلاق اللذين وقفنا عندهما، يرى نيتشه أن الخلاص يجب أن يكون "أرضيّا"؛ أي أن يكون من صميم القوى التي تشكل الحياة، وليس عبر خلْقِ مثل أخرى جديدة مفارقة للواقع. يقول نيتشه تعبيرا عن ذلك: "أتوسل إليكم، يا اخوتي، أن تبقوا مخلصين للأرض وأن لا تصدقوا أولئك الذين يحدثونكم عن رجاء خارج الأرض. إنهم مسمِّمون، قصدوا ذلك أم لا."[47] والإخلاص للأرض بهذا المعنى هو الانطلاق من الكائن لصياغة خلاص ينقذنا من محدودية الإنسان، وفي ذلك يقول نيتشه: "عش كأن عليك أن تتمنى أن تُبعث من جديد - إنه واجب - لأنك ستُبعث في كل الأحوال! من يكون الجهد بالنسبة له هو الفرح الأسمى فليجتهد! من يحب الراحة قبل كل شيء فليرتح!. من يحب قبل كل شيء أن يخضع ويطيع وأن يتبع فليطع! ولكن، ليعرف جيدا ما هو مفضل لديه، وعليه أن لا يتراجع أمام أية وسيلة! فالأمر يتعلق بالخلود..."[48] والسبيل إلى ذلك هو العيش في الحاضر وليس في الماضي أو المستقبل، قبول هذا الحاضر وحُبِّه كما هو Amor Fati، وفي هذا السياق يشير لوك فيري إلى تناقض في هذا التصور، إذ كيف يمكن أن نجمع بين مبدأ انتقاء اللحظات التي تستحق أن تعاش دون غيرها (العود الأزلي)، وبين مبدأ القبول بالواقع كما هو؟ والحق أن حب القدر Amor Fati يأتي بعد العود الأزلي، أي بعد انتقاء اللحظات التي تُستحق أن تُعاش، وهي اللحظات الخالية من التمزقات الناتجة عن التفكير في ما مضى (الماضي) وفي ما هو آتٍ (المستقبل). وحينما يصبح المرء مُمارِسا للأسلوب العظيم الذي من خلاله يقيم توازنا بين القوى المتفاعلة والقوى الفاعلة ولمبادئ العود الأبدي في نفس الآن، يكون قد حصَّل الطمأنينة الحقة، وهو الأمر الذي يسميه نيتشه ببراءة الصيرورة. وفي براءة الصيرورة هاته يعلن المرء فيها عدم مسؤوليته عما يحدث للآخرين ولا ينسب وجوده إلى وجودهم، [49] الأمر الذي يقود إلى الارتياح والطمأنينة.[50]

ويسوق لوك فيري بعض الاعتراضات على تصور نيتشه، فيستحضر حجة الجلاد التي قدمها كليمون روسي لنقد عقيدة Amor Fati، ومفاد هذه الحجة هو أن الأرض التي نعيش فيها يوجد فوقها جلاّدون ومعذِّبون، ويعيشون بيننا، فهل يتوجب علينا واستنادا إلى تلك العقيدة أن نحبهم بحكم أنهم جزء من الواقع الذي يجب القبول به وحبِّه. ويتساءل أيضا تيودر أدورنو ما إذا كان علينا حب العالم كما هو بعد كل ما قام به هتلر؟ بهذا المعنى تصبح عقيدة Amor Fati عقيدة قذرة أحيانا، حيث يمكن اعتبارها متواطئة مع الشر، إضافة إلى ذلك فقد اعترف أبيكتات بكونه لم يلتقِ طوال حياته حكيما رواقيا أحب العالم كما هو في كل المناسبات.[51] مما حدا ب لوك فيري إلى القول بعَدمِية هذه العقيدة بالنظر إلى صعوبة ممارستها، بالتالي عدم اختلافها عن المثل التي تمَّ ابتداعها مُسبقا.

في الفصل السادس المُخصّص للفلسفة المعاصرة اسْتشكَل لوك فيري ما توصلت إليه الفلسفة مع تفكيكية نيتشه، حيث لم يعد بالإمكان التفكير كما قبل التفكيكية (الايمان بالمثل الحداثية)، ولا الاستمرار في التفكير بالأفُق التفكيكي نفسه الذي انتهى إلى السجود للواقع والقبول به كما هو، كما تعبر عن ذلك عقيدة Amor Fati، ويقترح لتجاوز هذه العقبة النظر إلى العالم بعيون الألماني مارتن هيدغر، وهو عالَمٌ لم نستطع صنع تاريخنا فيه كما وعدتنا الديمقراطية بذلك، عبر المشاركة فيه فرديا وجماعيا لغاية توجيه قدرِنا نحو الأفضل، بل أكثر من ذلك هو عالمٌ انفلتَ من أيدينا وفاقدٌ للمعنى بالنظر إلى وِجهتِه. ويطرح لوك فيري مثال المنافسة الخارجة عن إرادة البشر، والتي لا تنضوي على أي معنى ما، إنها حركة لأجل الحركة، كالدرّاجة التي يلزم أن تتقدم كي لا تقع.

يعرض لوك فيري مراحل هذا المسار الذي انتهى بفقدان عالمنا للمعنى، المرحلة الأولى دشنتها الفترة الحديثة التي كانت فيها المعرفة العلمية بمثابة الوسيلة للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها للإنسان، إذ لم تعد الطبيعة مسكونة بروح ما، بل هي مجموعة من الظواهر التي تحدث وفق قوانين سببية يلزم اكتشافها للهيمنة عليها. وقد كان الهدف من وراء تلك الرغبة على السيطرة على الطبيعة هدفا تحرُّرياً، فهم العالم وتفسير الطبيعة بُغية استغلالها لفائدة الإنسان، بالتالي تحقيق الحرية والسعادة، كان ذلك هو الهدف، ولم يكن لأجل السيطرة في حد ذاتها. على عكس ما آلت إليه الأوضاع في المرحلة المعاصرة، حيث لم تعد هناك أهداف سامية أو مشروع يصبو إلى تحقيق الحرية والسعادة للإنسان، [52] بل كل ما هنالك هو سيادة للتقنية؛ أي سيادة للأدوات وليس لإرادة البشر التي من المفترض أن توجه استخدام تلك الأدوات، فعازف البيانو أداته هي البيانو نفسه، وبواسطتها يمكن أن يعزف مقطوعات موسيقية مختلفة حسب إرادته أو الغاية التي حددها من استخدامه لأداة البيانو، بحيث يمكن أن يعزف موسيقى حديثة أو كلاسيكية أو أي نوع آخر يريده، وأداة البيانو لا تفرض الغاية، بل مُستخدِمها هو الذي يحددها. كان هذا هو المثال الذي استحضره لوك فيري ليفرق بين الفترة الحديثة التي كانت فيها للعقلانية أهداف سامية، والفترة المعاصرة التي انفلتت فيها هذه العقلانية من إرادة الإنسان ولم تعد موجَّهة من قِبله، بل على النقيض من ذلك أصبح هو الخاضع لها عبر الاستهلاك المفرط والمنافسة العمياء، وقد توقّف لوك فيري عند تكنولوجيا الهواتف النقالة لتوضيح ذلك، إذ اعتبر أن التطورات الحاصلة في الهاتف النقال على سبيل المثال ليست غاياتها تحقيق السعادة للإنسان، وإنما لديمومة المنافسة ولأجل المنافسة فقط. ففي حالة لم تستطع شركة معينة مواكبة هذا الهوَس تصبح في عِداد الموتى. فالغاية إذن هي التنافس في حد ذاته. ويُرجِع مارتن هيدغر مسألة هيمنة هذا الطابع التقني على العالم إلى عملية تحطيم المثل العليا الحداثية التي اضطلع بها فريدريك نيتشه. وبذلك، أصبح التقدم سيرورة ميكانيكية لا غاية لها، لم يعد الإنسان يتحكم فيها. وانتفاء الغايات الإنسانية التي من خلالها يتم توجيه التقنية يعني انتصار هذه الأخيرة.

هيمنة التقنية جعل العديدين يُعيدون النظر في مسألة ما إذا كنا حقّا نسير نحو الأفضل وفق مشروع مشترك، ونتج أيضا عن تلك الهيمنة امتلاك الإنسان لوسائل إنهاء الحياة على هذا الكوكب بكامله. لذلك يدعو لوك فيري إلى بناء مُثُلٍ عُليا جديدة نستعيد من خلالها السيطرة على التقنية، وبالتالي استعادة السيطرة على مسار العالم. بالنسبة لهيدغر فهو يشك في أن تكون الديمقراطية السبيل نحو استعادة السيطرة على التقنية، وهو الأمر الذي جعله حسب ما يذكره لوك فيري يرتمي في أحضان النظام النازي.[53] النظام الذي اعتقد أنه عبره يمكن استعادة السيطرة على التقنية، على عكس الأنظمة الديمقراطية التي يرى أنها تبنَّت تركيبة عالم التقنية. ويذكر لوك فيري أن هيدغر تراجع عن تصوره هذا فيما بعد. وفي ذلك يقول فيري إن بإمكان المرء أن يكون "عبقريا في التحليل ومُفجعا عند استخلاص النتائج الصحيحة."[54]

في ظل سيادة التقنية سارت الفلسفة المعاصرة في اتجاهين: الأول هو أنها أصبحت مادة تدريس على نحوٍ تقني في الثانوية والجامعة، الثاني هو سلْكُ مسار التفكير في الإنسية بعد التفكيك الذي دشنه فريدريك نيتشه. بالنسبة للاتجاه الأول، فقد تجلى في نزعة التخصص التي طالت الفلسفة، حيث أصبح هنالك ما يسمى بفلسفة القانون وفلسفة المنطق، ثم فلسفة اللغة وفلسفة الأفكار الشرقية أو الغربية... إلى غير ذلك من التخصصات. ويتوجب على الطلاب ليكونوا - على حد تعبير لوك فيري - مؤهلين تقنيا وجِدِّيِين اختيار إحدى هذه التخصصات والتفرغ له. وعلى هذا الأساس، فإن الفيلسوف الذي يصبح وفق هذا المنظور التخصصي خبيرا، حينما يقدم رأيه في مسألة تدخل ضمن تخصصه، إنما يقدمه وفق منظور نقدي وأخلاقي يحاول من خلاله توجيه النقاش العام، ونشر الفكر النقدي لغاية الدفع بالأمور نحو الاتجاه الصحيح. ولا يرى لوك فيري في ذلك أي عيب، ولكن تقزيم الفلسفة إلى هذا الحد يجعلها بعيدة عن التساؤلات الفلسفية الكبرى، وهنا تحديدا تكمن أهمية الاتجاه الثاني، في ضرورة تجاوز الدور النقدي للفلسفة بالرغم من أهميته، عبر البحث عن المعنى والسعي وراء الحكمة والخلاص والحياة الطيبة؛ إذ لا بد من تجاوز عقيدة Amor Fati التي توصل إليها نيتشه عبر تفكيك المثل العليا الحداثية. تلك العقيدة المادية الداعية إلى القبول بالواقع كما هو دون الإيمان بِمُثلٍ عليا.

في نقده لهذه المادية المعاصرة، يُشِيدُ لوك فيري بمبدأ عيش الحاضر والتصالح معه carpe diem والابتعاد عن الأمل والحنين المُنغِّصان لوجود الفرد، وهو مبدأ مشترك بين الرواقية والبوذية، المبدأ الذي تتأسس عليه عقيدة Amor Fati في نهاية المطاف. وبموجبه نعيش لحظات "النعمة" التي لا نرى فيها العالم فوضويا وعدائيا. "تلك اللحظات السعيدة حيث نشعر أن الواقع ليس بحاجة للتغيير أو للتحسن عبر بذل الجهد والعمل."[55] ولكن حينما تسوء الأوضاع هل نستسلم للواقع ونقبله كما هو؟ يجيب لو فيري بالنفي انطلاقا من اعتبار هذه العقيدة وقِحة وغير معقولة، إذ لا بد حسبه من تحمُّل مسؤولية حريتنا أمام الواقع، أمام الطبيعة والتاريخ. تجاوزا للحتمية التي تؤمن بها المادية المعاصرة. ويستحضر لوك فيري في هذا السياق أمثلة لتوضيح هذه الفكرة القائلة بحريتنا أمام الواقع، من بينها المجزرة البُوسْنِية التي تم فيها التسلية بالبُوسْنِيين عبر إخافتهم بإطلاق الرصاص لإجبارهم على الركض، وتعذيبهم عبر قطع آذانهم ومن ثمة قتلهم. والمرء لا يسعه سوى أن يصِف هؤلاء العسكريين الذين اضطلعوا بهذا الفعل بالقذرين والمتوحشين، وهذه الإدانات من وجهة نظر لوك فيري تبين أنه كان بالإمكان لهؤلاء العسكريين التصرف على نحو آخر غير ذاك، وإلا فما الجدوى من التصريح بها؟ إننا نُدِين فعلا لأنه كان بالإمكان التصرف على نحو مغايِر لذلك الفعل. ما يعني وجود احتمالات أخرى للتصرف (الحرية)، ومن وجهة نظر المادية وعلم الأنساب يمكن تحديد مصدر هذه الإدانات (البنية الأخلاقية، الثقافية...)، والمعضلة بالنسبة للفيلسوف الفرنسي لوك فيري لا تتحدد في هذا الأمر، وإنما في كونه لم يجد إنسانا ماديا استعاض عن هذه الإدانات، بدءا من ماركس ونيتشه، علما أن فلسفتهم المادية لا تقبل إطلاق الإدانات التي تحيل في نهاية الأمر إلى إمكانية أن يتصرف الإنسان وفق اختيارات عِدّة؛ ذلك أن أساس الفلسفة المادية بخصوص الفعالية الإنسانية محكومة بقوانين تتجاوز الإنسان، وبالتالي خضوعه لها. وكما ذكرنا آنفا، فَلُوك فيري يتبنى تصور إيمانويل كانط وجون جاك روسو في الحرية، تلك الحرية التي تضعنا على مسافة أمام الواقع، وهو تصور يناقض تصور الفلسفة المادية للحرية.

ويُسهِب لوك فيري في شرح هذه المسألة، إذ نجده يقول إن الفيلسوف المادي يخبرنا أننا لسنا أحرارا، وهو متأكد أنه يخبرنا بذلك وهو حر؛ أي لا أحد يلزمه بقول ذلك، سواء أكان ذلك وسطه الاجتماعي أو طبيعته العضوية إشارةً إلى التفسيرات العلمية التي يمكن أن تفسر هذه الإدانات. وحينما يتجرأ على إخبارنا على أننا مُسيَّرون من قبل تاريخنا، فهو لا يكف في ذات الآن عن دعوتنا للتحرر منه والاضطلاع بالثورة في سبيل ذلك. كما يدعونا المادي إلى القبول بالواقع ونحب العالم كما هو والهروب من المستقبل والماضي لعيش الحاضر، لكنه سرعان ما يسعى لمحاولة تغيير هذا الحاضر والعالم إلى الأفضل متى كان ذلك أمرا مُلحّاً بالنسبة إليه. إن ذلك الهامش من الحرية الذي ينطِق من حدوده الفيلسوف المادي وينكره على الآخرين حينما يعتقدهم رازِحين تحت الضرورة، هو الهامش الذي يجعلنا نتسامى عن الواقع.[56]

ومن هنا تحديدا يؤسس لوك فيري لتصوره الفلسفي، من التخلص أولا من الأوهام الحداثية التي اضطلع نيتشه وغيره فيما بعد بتفكيكها، ومن هذا التفكيك نفسه الذي طال كل شيء، وانتهى إلى القبول بالواقع كما هو، فيصبح السؤال هنا هو: "كيف التفكير بالسمو بشكليه، أي في داخلنا (شكل الحرية) وخارجنا (شكل القيم)، دون الوقوع مباشرة تحت ضربات علم الأنساب والتفكيك المادي؟"[57] بصيغة أخرى إذا كانت نقطة ضعف الحداثة تكمن في كونها أنتجت مثُلا ذات طابع وهمي من قبيل الإيمان بالديمقراطية والتقدم وبالعلم، وإذا كان التفكيك قد قوَّض هذه المثُل وكشف عن غاياتها المرتبطة بمصالح قد يعيها أو لا يعيها أصحابها. واعتقدنا مع المادية أن الإنسان محكوم بقوانين مادية (ثقافيا، اقتصاديا، بيولوجيا...)، بالتالي انتفاء حرية الإنسان؛ لأن كل ما يقوم به هو نتيجة قوانين مادية تتجاوزه كما ذكرنا سالفا، فكيف السبيل إلى تشكيل مثُلٍ غير وهمية كالمثل الحداثية لا يمكن أن يطالها التفكيك؟ لأن الرهان هنا لدى لوك فيري هو التأسيس لتصور فلسفي استفاد من نتائج التفكيك وبالتالي الانفلات منه وتجاوز عقيدة القبول بالواقع كما هو Amor Fati التي انتهى إليها.

وفي سعيه للإجابة عن هذا السؤال، انطلق لوك فيري على مستوى النظرية؛ أي البعد الأول من الأبعاد الثلاثة التي أرَّخ من خلالها لفلسفات سابقيه، من مناقشة مفهوم السمو من خلال استحضار ثلاثة تصورات؛ التصور الأول هو التصور اليوناني للسمو الذي يحدده في الكوسموس؛ أي ذلك التناغم الطبيعي الذي على الإنسان أن يجد مكانا له فيه، بناءً على المؤهلات التي منحتها إياه الطبيعة. وهذا النظام لم يكن بالنسبة لليونانيين اختراعا اخترعوه، بل نظاما خارجيا اكتشفوه، وهو نظام سامٍ بالمعنى اليوناني؛ أي إنه ليس خارج العالم. وعلى النقيض من ذلك، ففي التصور المسيحي وهو التصور الثاني للسمو، فالكائن الأسمى أي الإله المسيحي إله يتجاوز الإنسان والعالم معا، إن السمو هنا سموٌّ مفارق تماما على عكس الإلهي عند اليونانيين الذي يتجسد في التناغم الكوني. أما فيما يخص التصور الثالث للسمو، فقد أسست له الفلسفة الكانطية وطوره إدموند هوسرل، هذا الأخير الذي كان يشرحه لطلابه عبر أخذ مكعب مثل علبة كبريت، ويقول لهم: "كيفما كانت طريقة تناولنا للمكعب أو نظرتنا إليه فإننا لن نرى أبدا أكثر من ثلاثة من وجوهه في ذات الوقت مع أن له ستة وجوه."[58] ويعني إدموند هوسرل بذلك حسب لوك فيري أنه ما من علم كلي أو معرفة مطلقة، "لأن كل مَرئي (وهنا يُرمز إلى المرئي بالوجوه الثلاثة الظاهرة للمكعب) يُقدَّم دائما على خلفية غير المرئي (الوجوه الثلاثة الخلفية). بعبار أخرى، أن كل وجود يفترض غيابا، وكل ملازمة ظاهرة تستلزم سموا مخفياً، وكل عطاء من شيء يفترض أخذاً لشيء آخر."[59] والسموُّ بهذا المعنى ليس مثالاً بين مثُلٍ أخرى، مُثُلٍ مفارقة للواقع، "بل إنه فعلٌ وإثبات فعل وبُعدٌ لا شك فيه من الوجود الإنساني المدوَّن في قلب الواقع نفسه"[60]، ولأنه كذلك، أي بُعداً من أبعاد الوجود الإنساني وليس سموّاً ما ورائيا، فلن يجد التفكيك سبيلا إلى انتقاده ونسفه إن صح التعبير كما فعل مع المُثل الحداثية.

ولتوضيح المسألة أكثر، يقترح لوك فيري النظر إلى مفهوم الأفق الذي أتى به إدموند هوسرل، ويقصد بذلك أن نظرتنا إلى العالم محدودة، إذ إن ما يتبدى أمامنا له خلفية لا تصل إليها أبصارنا، تماما كما يحصل حينما ننظر إلى المكعب، لا نبصره كُلِّيَةً، ويتحرك هذا الأفق كلما أحرزت تقدما مثلما يحصل مع البحار الذي يبقى الأفق مُلازما لتنقلاته في عرض البحر، إذ ينتقل من أفق إلى آخر، ويظل مُلاحقا له باستمرار. ويعبر إدموند هوسرل بذلك بقوله إن "كل وعيٍ هو وعي لشيء ما"[61]، لذلك فما نعيه من العالم ليس سوى واجهة (وعي لشيء ما) لها خلفية لا يصل إليه وعينا. ننتقل من أفق إلى آخر دون التمكن من الوصول إلى أفق نهائي، وهذه حال الإنسان مع المعرفة العلمية، من نظرية إلى أخرى ومن نسق إلى آخر دون التوصل إلى نظرية أو نسق نهائيين. بهذا يصعب القول بكائن سامٍ ضامن لهذا الواقع الذي نعيش فيه.

والسمو وفقا لهذا المنظور هو سمو يكمن داخل الذات وفي نفس الوقت خارجها، وفي ذلك يقول لوك فيري: "إن سمو القيم يظهر في داخلي، في فكري وفي إحساسي. وبرغم تموضعها في ذاتي (ملازَمة)، كل شيء يحدث وكأنها تفرض نفسها (سمو) على ذاتيتي أو كأنها قادمة من مكان آخر."[62] ويستحضر مثال الحب توضيحا لذلك، فعادة ما نقول وقعنا في الحب؛ أي إن الحب هنا قيمة آتية من خارج الذات، ولكنها في ذات الوقت تجد مكانا لها داخل الذات، فهي بالتالي قيمة سامية لكنها ليست على شكل القيم الماورائية المفارقة للواقع، أو على شكل معبودات الجمهورية، والاشتراكية، والله، والجنة. المستنتجة من خرافة ما أو المفروضة بواسطة حجج سلطوية. فحينما أقول بحقوق الإنسان (العدالة) أو جمال المحيط (الجمال) فلأنها قيم تجد مكانا لها في داخلي، رغم أنها آتية من خارج ذاتي. ولم أعد بحاجة إلى الإيمان بإلهٍ ما للقبول بهذه القيم التي تتجاوزني، ولكنها مرئية في أعماق وعيي الذاتي على حد تعبير لوك فيري. وهذا ما يتأسس عليه مبدأ التفكير في الذات الذي يميز الفلسفة المعاصرة، فإذا كانت نقطة ضعف المادية تكمن في أنها تسعى إلى تفكيك وتفسير كل شيء ماديا دون أن تضع نفسها - بالتوازي لذلك - للتمحيص والنقد. إنها تخبرنا بأننا خاضعين لقوانين موضوعية دون أن تفكر في الزاوية التي منها تحكم علينا بهذا الخضوع، وكأنها تنطق من خارج سطوة هذه القوانين، أو كأنها "لا تستطيع التفكير بفكرها."[63] وعلى العكس من ذلك، فالإنسية المعاصرة "تقوم بكل ما يلزم لمحاولة التفكير في دلالة تأكيداتها الخاصة من أجل وعيها وانتقادها وتقييمها"[64]، فالنقد الذي كان قد ميّز الفلسفة الحديثة منذ رونيه ديكارت كان نقدا موجها للآخرين ولموضوعات خارجية، لكنه مع الفلسفة المعاصرة أصبح يطبق أيضا على نفسه.

رأينا مع الرواقية أن النظرية منها تستنتج القيم الأخلاقية؛ بمعنى أن المعرفة التي نتوصل إليها عبر تأمل العالم تقودنا إلى تحديد الغايات الأخلاقية التي ستؤطر الوجود الإنساني، ولكن في الحقبة الحديثة أصبحت المعرفة غير ذي صلة بالقيم، إذ أصبح العلم محايدا ينزع اللبس عما هو قائم دون أن يتجرأ على القول بما يجب أن يكون؛ أي ما يُفترض أن يتصرف الناس وفقا له، ويستحضر لوك فيري التدخين مثالا لتبيان أن العلم يؤكد لك أن التدخين مضر بالصحة ويؤدي إلى هلاكها، ولكن القيام بفعل التدخين من عدمه والحكم عليه أخلاقيا ليس من شأنه، إنه شأن الفرد. أما في الحقبة المعاصرة، فالعلم أصبح يفكر في ذاته؛ أي في نتائج التي يتوصل إليها والمناهج المستخدمة لبلوغها، ويذكرنا لوك فيري هنا بالحرب العالمية الثانية وكارثة القنبلتين النوويتين اللتين تم إلقاؤهما على هيروشيما وناغازاكي، وفي حقل الأيكولوجيا (الاحتباس الحراري...) والطب (التعديل الجيني...) والفيزياء (أخطار الذرة) ليبين أن للعلم مسؤوليات أخلاقية وسياسية، بالتالي ضرورة التفكير في ذاته؛ أي فيما يقوم به وفي مآلاتِه.

بخصوص البعد الثاني المتعلق بالأخلاق، يضع لوك فيري الإنسان مَرْكزاً للقواعد الأخلاقية، حيث إنه لم يعد هنالك – اللهم عدد قليل من الناس - من يقبل التضحية دفاعا عن الله أو الوطن، أو لأجل القيام بثورة ضد البورجوازية. وفي مقابل ذلك، لن يتردد معظم الناس للتضحية لإنقاذ الآخرين، خصوصا من يدخل منهم دائرة المقربين، وهكذا بدل أن تتوجه التضحية نحو قيم مفارقة، أصبحت تسعى نحو "كائنات موجود على ذات المستوى بالنسبة، وليس في كيانات قائمة فوق رؤوسنا."[65] ويوضح لوك فيري ذلك بالحديث عن إعلان حقوق الإنسان، وهي حقوق تجد أصولها في المسيحية، لكنها أصبحت مُعلمنة، أي إننا لم نعد بحاجة إلى الإيمان بالله لإقرار هذه الحقوق والدَّود عنها. ويستحضر كذلك منظمة الصليب الأحمر التي أنشأها هنري دونان، هذا الأخير الذي يروي في كتابه "ذكرى من سولفيرينو" قصة ولادة الالتزام لديه تُجاه الآخرين المحتاجين، والذين يعيشون أوضاعا صعبة؛ وذلك بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والثقافية والدينية، بل أيضا مساعدة أعدائنا حينما يصبحون غير مؤذين لنا.

وفي البعد الأخير الخاص بالخلاص، يقترح لوك فيري ثلاثة جوانب للخلاص، وهي الفكر المُوسَّع وحكمة الحب وتجربة الحداد، في مسألة الفكر الموسع المُستقى من إيمانويل كانط، يربطها لوك فيري بقضية التساؤل عن معنى الحياة، ما يعطي لحياة المرء معنىً هو الخروج من دائرة التفكير المحدود المرتبط بالطائفة أو الجماعة التي ينتمي إليها هذا الفرد، فيضع نفسه مكان الآخرين "ليس فقط من أجل فهمهم بشكل أفضل، بل أيضا من أجل النظر إلى أحكامه الشخصية، في عودة إلى ذاته، من وجهة نظر يمكنها أن تكون لآخرين."[66] على هذا المنوال يتمكن الفرد من النظر إلى العالم ليس فقط من وجهة نظر الخاصة بالمجتمع الذي ينتمي إليه، بل أيضا من وجهة نظر آخرين، ولن يتم ذلك إلا عبر إجادة هذا النمط من التفكير الذي يسميه لوك فيري بالفكر المُوسَّع، ويربطه بفكرة إمكانية التحسين التي أتى بها جون جاك روسو، ويعني ذلك أن الفكر المُوسَّع يفترض في ممارسته حرية الخروج مما هو خاص، سواء أكان فرديا أو جماعيا إلى الكونية. وتتجسد هذه الممارسة في الأعمال الأدبية للهندي-الإنكليزي فيديادر نايبول الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2001، إذ استطاع الخروج من الأنوية عبر إبداعاته إلى الكونية، لقد قام بتوسيع الأفق كما يذكر لوك فيري، لترتقي نتيجة لذلك أعماله إلى مصاف الأدب العالمي. وما يستنتجه فيري من قصة نايبول هو أن فهم الذات يستدعي الآخرين، النظر إلى العالم من وجهات نظرهم بغية إغناء وجهة النظر الشخصية.

فيما يتعلق بالجانب الثاني من هذا الخلاص الذي يقترحه لوك فيري، وهو الذي يسميه بحكمة الحب، نجده يفسر هذا الحب من خلال توضيح تلك الفرادة التي تنبثق من المسافة القائمة بين ما هو خاص وما هو كوني؛ أي كيف انتقل هذا الخاص المرتبط بمنظور جماعة ما إلى منزلة العالمية التي تلامس كل البشر باختلافاتهم المتعددة، يقول لوك فيري توضيحا لذلك: "كوننا ما زلنا نقرأ أفلاطون أو هوميروس أو موليير أو شكسبير أو نسمع باخ أو شوبان، فهذا يعود بالمعنى الدقيق، إلى أنهم مؤلفون لأعمال فريدة ومتجذرة، في آنٍ معا، في ثقافتهم الأصلية وفي زمانهم، لكنها أيضا قادرة على التوجه لكل البشر وفي كل الحقبات."[67] ويمكن تحقيق هذه الفرادة على مستوى الذات، عندما ننزعها الأنوية الخاصة بها فنوجهها إلى العالمية، فحينما نقوم على سبيل المثال بتعلم لغة أجنبية أو حينما نسكن في بلد أجنبي، فآنذاك نكون في عملية توسيع أُفقِنا، إذ نكتشف ثقافات جديدة وطرق تفكير مختلفة ترتبط بهذه الثقافة التي أتعلم لغتها أو أسكن بين أصحابها، فأكون بذلك في عملية إغناء للذات وتحقيق فرادة خاصة بي.

ويكمن الحب الذي يتحدث عنه لوك فيري في الفرادة التي تميزنا، وهي فرادة لا تتحدد فيما هو خاص وفيما هو خارجي على المستوى الفردي؛ أي في جمالنا أو أصواتنا أو روح الدعابة التي قد تميز أحدنا، أو للألقاب التي نحوزها وإنجازاتنا والمناصب التي نتقلدها؛ لأن كل ذلك قابل للزوال، وما يبقى أمام زوال هذا الصفات الخاصة والعامة هي الفرادة، الفرادة الخاصة بنا والمُميِّزة لكل واحد منا، يقول لوك فيري: "إننا نستطيع القول، مثل مونتاني، لمن نحبه (أو نحبها) وبكل عاطفة، لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا، وليس لأنه كان جميلا أو قويا أو ذكيا..."[68] ويضيف فيري بخصوص هذه الفرادة: "وهذه الفرادة ليست مُعطاة منذ الولادة. إنها تُصنع بألف طريقة، بدون وعي دائم منا، بالضرورة، لا بل بالعكس، إنها تُصاغ طوال الوجود والتجربة ولهذا السبب بالضبط، لا يمكن استبداله، بالمعنى الحقيقي. إن الرُضَّع يتشابهون كلهم، مثل صغار القطط. إننا نحبهم كثيرا بالتأكيد، ولكن فقط عند بلوغه الشهر الأول ومع ظهور أول ابتسامة له، يصبح صغير الإنسان محبوبا إنسانيا؛ وذلك لأنه منذ تلك اللحظة يدخل في قصة إنسانية حقيقية، ألا وهي قصة العلاقة بالغير."[69]

وفيما يخص مبدأ عيش الحاضر دون السماح بالماضي (الحنين) أو المستقبل (الرجاء)، يزكي لوك فيري هذا المبدأ اليوناني والبوذي من خلال اعتبار هذا الحاضر يمتاز بفرادة تعود إلى عدم القابلية إلى استبداله أو الغائه، وبالتالي التحرر من مخاوف الناتجة عن حتمية الموت والزمن.

بالنسبة إلى الجانب الثالث من هذا الخلاص، المتمثل في تجربة الحداد فلوك فيري غير مقتنع بالمنظورين الرواقي والبوذي القائلين بعدم التعلق؛ أي إن للتخلص من آلام الفراق يتوجب علينا عدم التعلق بكائنات نعرف أنها كائنات فانية، وغير مقتنع أيضا بالمنظور المسيحي الذي يرى أن التعلق ممكن حينما يمارس استنادا إلى مبدأ حب الآخرين في الله، والمؤدي في نهاية المطاف إلى لقائهم من جديد بعد الموت من خلال بعثهم، وهذا هو جواب الديانات الكبرى على كل حال، كما يشير إلى ذلك لوك فيري. وبدلا من كل ذلك يرى هذا الفيلسوف الفرنسي أنه على المرء وانطلاقا من إدراكه لحتمية الفناء (الموت) أن ينمي حكمة الحب عبر التصالح مع أهله والمقربين، وفعل ما يمكن فعله معهم بحب وفرح قبل فقدانهم. ويصرح لوك فيري بأنه "بعيد كل البعد عن امتلاك هذه الحكمة"[70]، ولكنه متأكد من أنها موجودة وتعبر عن أنسية تخلصت من أوهام المثل الماورائية ومن الدين.

وفي ختام كتابه، يصرح لوك فيري بتعويله على فكرة "الفكر المُوسَّع" لتكون الأساس الذي ترتكن إليه الأنسية المعاصرة، لكونها تولي أهمية لمبدأ التفكير في الذات، وتؤسس لأخلاق منفتحة على عالم مُعَوْلم، وفي حديثه عن التعدد الذي يميز الفلسفة من حيث التصورات، ينتقد لوك فيري الاتجاه التشكيكي القائل بأن اختلاف منظورات الفلاسفة يجعل الفلسفة عاجزة عن التوصل إلى الحقيقة، وينأى بها هذا التعدد عن الدقة والوضوح، وبالتالي عدم جدوى الفلسفة. وينتقد كذلك الاتجاه الثاني الذي يصفه بالدوغمائية، وهو على نقيض الاتجاه الأول، يرى أصحابه أن نظرتهم الفلسفية أكثر صوابا من الأخريات لدى نظرائهم الفلاسفة، وهو ما يحدث حينما يصف الكانطيين أو السبينوزيين بعضهم البعض بالهذيان والعبثية كما يذكر فيري. وفي هذه الخصومات وسوء الفهم إن صح التعبير سواء في الاتجاه الأول أو الثاني يجد الفكر المُوسَّع تبريرا لوجوده، إذ يتجاوز هذه الوضعيات عبر تبني موقف الآخر لفهمه وللنظر إلى العالم من خلاله بُغية إغناء المنظور الشخصي. ويستحضر لوك فيري تجربة عمله مع صديقه أندري كونت سبونفيل في تأليف كتاب مشترك، فعلى الرغم من اختلافهما سياسيا وفلسفيا، إلا أنهما نجحا في هذا التمرين الفلسفي؛ أي في القدرة على تبني وجهة نظر الآخر لفهمه والنظر إلى العالم من خلالها، وهو ما أدى بلوك فيري لإغناء منظوره الخاص؛ أي توسيع أفقه في نهاية المطاف، إذ إنه بفضل صديقه سبونفيل استطاع أن يتعرف على عظمة الفلسفة الرواقية والبوذية والسبينوزية والنتشوية التي كانت مرجعية سبونفيل الفلسفية.

[1] لوك فيري، تعلم الحياة، ص 18

[2] ما حاجة الإنسان إلى خلاص أمام هذه الجبرية الطبيعية؟ في كل الأحوال ومهما كان نوع هذا الخلاص - دينيا أو فلسفيا - فلن يفيد ذلك شيئا أمام حقيقة أننا كائنات فانية. اللهم إن كان هذا الخلاص بمثابة مُسكن أمام القلق والألم الناتجين عن إدراكنا لحقيقة أننا كائنات منتهية لا محالة. أما مسألة كيفية العيش التي من خلالها نسعى لتدبير رصيدنا الزمني كي لا يضيع في الندم والقلق والحنين والرجاء، فهي مسألة ذات أهمية في نظري، وتستحق منا كل الاهتمام. إذ أعتبر أن ما يملكه الإنسان حقيقة هو رصيده الزمني، وتحديدا اللحظة التي يعيشها والآن، لذلك سيكون من الغباء تضييعها في الندم والقلق والحنين لذكريات ميتة.

[3] أتساءل في هذا السياق هل يعني هذا أن الدين ليس نتاجا للعقل؟ هل نصدق أن الأديان السماوية التي تقترح خلاصا خاص بها هي أديان منزلة حقا من السماء إلى الأرض، وأن الإنسان كان لحظتها الكائن المتلقي؟ لماذا لا نقول إن الإنسان هو الذي أنتج هذه الأديان كما أنتج الفلسفة، وأن كل ما في الأمر هو أن الدين نوع من التفكير الذي أطلق العنان لنفسه عبر ملكة الخيال، في حين أن الفلسفة نوع آخر من التفكير المنظم الصارم والذي يستخدم أحيانا ملكة الخيال في حدود معقولة وصارمة.

[4] لوك فيري، تعلم الحياة، ص 27

[5] الصفحة 37

[6] يقدم لوك فيري شرحا لمفهوم النظرية، بحيث يقسمها إلى قسمين "تيو" theo الذي يعني الإلهي، ثم "أورايو" ory ايمعنى أرى، أي أن مفهوم النظرية يعني أرى الإلهي أو الأمور الإلهية.

[7] الصفحة 50

[8] الصفحة 64

[9] الصفحة 66

[10] الصفحة 63

[11] الصفحة 72

[12] الصفحة 73

[13] الصفحة 79 80

[14] الصفحة 84

[15] الصفحة 86

[16] استنادا إلى مبدأ ترتيب الأبعاد الثلاثة (النظرية، الأخلاق، الخلاص) التي اقترح اتباعها للإجابة عن إشكال محدودية الإنسان، فالملاحظ أن ما توقف عنده في البعد الثالث (الخلاص) يرتبط جزء منه ببعد الأخلاق، تحديدا في جزئية "تعلم عدم التعلق".

[17] لماذا لا يحدد الفلسفة اليونانية هنا في الفلسفة الرواقية على اعتبار أنه تحدث سابقا عن الفلسفة الرواقية فقط، وليس على كل المدارس الفلسفية اليونانية الأخرى.

[18] التقسيم الذي قام به لوك فيري للنظرية، والتي تعني إجمالا النظر في الإلهي حسب التحديد الرواقي.

[19] الصفحة 109

[20] صاحب هذه العبارة كما يذكر لوك فيري هو القديس بطرس داميان وهو لاهوتي مسيحي.

[21] يشير لوك فيري في هذا السياق إلى فكرة في غاية الأهمية، وهي تحول الفلسفة إلى فلسفة مدرسية بعدما "انتصرت" عليها المسيحية، فبعدما كانت الفلسفة ممارسة حياتية أصبحت مادة مدرسية وليس حكمة أو مادة حياة. وهذا ما استمر إلى حدود اليوم حسب ادعاء فيري، إذ يقول الفلسفة في الثانوية والجامعة عبارة عن استعراض لتاريخ الأفكار وخطاب نقدي واستدلالي (الخطابة). الصفحة 115 116

[22] الصفحة 123

[23] الصفحة 125

[24] الصفحة 128

[25] لنفهم ماذا يُقصد بالحب في الله، استشهد لوك فيري بالقول التالي الذي يعود لأوغيسطين: "ربي، طوبى للذي يحبك ويحب صديقه فيك وعدوه من أجل حبك. فوحده لن يفقد أيا من أصدقائه، من لا يحب أحدا منهم إلا في الذي لا يمكن فقدانه. ومن يكون هذا غير ربنا... ربي لا يفقدك إلا الذي يتخلى عنك." الصفحة 140

[26] وهي الحالة التي تعبر عنها أبيات جون دون (1611) التي استحضرها لوك فيري في الصفحة 154

[27] الصفحة 158

[28] الصفحة 178

[29] الصفحة 192

[30] الصفحة 201

[31] الملاحظ أنه كان من الأفضل الحديث عن رونيه ديكارت في البعد المتعلق بالنظرية، وذلك لأن ما قدمه لوك فيري عن ديكارت في بعد الأخلاق يمس بشكل أكبر الجانب النظري بالمعنى الذي حدده فيري وليس الجانب الأخلاقي.

[32] الصفحة 209

[33] الصفحة 216

[34] الصفحة 219

[35] الصفحة 220

[36] الصفحة 222 223

[37] الصفحة 228

[38] يقول نيتشه ممثل هذا التيار الما بعد حداثي في كتابه "المسيح المكلل بالشوك": "تحسين الإنسانية؟ هذا آخر شيء قد اعِد به. لا تتوقعوا مني أن أرفع معبودات جديدة؟ لا بل على المعبودات القديمة أن تعلم كم هي كلفة أن تكون أقدامها من صلصال؟ إن قلب المعبودات - هكذا أسمي كل - هو مهنتي الحقيقية. إن اختراع كذبة العالم المثالي هو الذي سبب فقدان الواقع لقيمته، لمعناه وحقيقته... لقد شكلت كذبة المثال حتى وقتنا الحاضر اللعنة الثقيلة على الواقع وصارت الإنسانية نفسها كذابة وخاطئة حتى غرائزها الأكثر عمقا – أي حتى عبادة القيم المضادة التي كانت بمقدورها أن تضمن لها نموا ومستقبلا أفضل..." الصفحة 229

[39] الصفحة 239

[40] الصفحة 238، 239

[41] الصفحة 240

[42] الصفحة 243

[43] يطرح لوك فيري الحوار السقراطي كمثال لشرح طبيعة القوى المتفاعلة وكيفية اشتغالها.

[44] الصفحة 252

[45] الصفحة 256

[46] الصفحة 257

[47] الصفحة 286

[48] الصفحة 288

[49] يقول نيتشه تعبيرا عن ذلك: "منذ زمن طويل وأنا أبذل قصارى جهدي لأبرهن لنفسي براءة الصيرورة الكاملة! (...) وهذا كله من أجل ماذا؟ الم يكن من أجل أن أوفر لنفسي الشعور، بعدم مسؤوليتي الكاملة، حتى أفلت من أي مديح أو أي لوم...؟" الصفحة 295

[50] الصفحة 295

[51] الصفحة 299

[52] "لم يعد الموضوع هو السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع لكي يكونا أكثر حرية وسعادة، بل السيطرة من أجل السيطرة. لماذا؟ لا لشيء بالضبط، أو بالأحرى، لأن من غير الممكن، وبكل بساطة، القيام بغير ذلك، نظرا لطبيعة المجتمعات المسيَّرة بكاملها من قِبَل المنافسة والضرورة القصوى لِ التقدم أو الموت"، الصفحة 322

[53] هو النظام الذي وصفه لوك فيري بأسوأ نظام مستبد عرفته الإنسانية الصفحة 328

[54] الصفحة 329

[55] الصفحة 339

[56] في مسألة التسامي يقول لوك فيري توضيحا لمنظوره بخصوصها: "إني لا أقول إطلاقا إننا بحاجة لتسامي الحرية أو لتسامي القيم. إني أقول، وهذا مختلف، إنه لا يمكننا تجنبها وإنه لا يمكننا التفكير بأنفسنا أو بعلاقتنا بالقيم دون افتراض التسامي، إنها ضرورة منطقية، واضطرار عقلاني وليس توقا أو رغبة." الصفحة 344

[57] الصفحة 346

[58] الصفحة 349

[59] الصفحة 349

[60] الصفحة 350

[61] الصفحة 351

[62] الصفحة 351

[63] الصفحة 354

[64] الصفحة 354

[65] الصفحة 363

[66] الصفحة 367

[67] الصفحة 376

[68] الصفحة 381

[69] الصفحة 382

[70] الصفحة 387