قراءة في كتاب: ما المواطنة؟


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب: ما المواطنة؟

قراءة في كتاب: ما المواطنة؟

سفيان البراق

 

إنّ هذا الكتاب الذي بصدد إعداد ملخصٍ له، والموسوم بعنوان: ما المواطنة؟*، يبيّن مدى الجهد الجهيد الذي بذله صاحبا الكتاب للإحاطة بمفهوم المواطنة والعناية به عبر مختلف الحقب الزمنية، ومع أعلام كبيرة تسعد بمكانةٍ مرموقة في تاريخ الفكر السياسي والقانوني. نستشفُّ من خلال الوقوف عند إشكالية المواطنة في كلّ حقبة تاريخية أنّ مؤلِّفيّ الكتاب ارتأيا تحليل مفهوم المواطنة كممارسة وتفكيكها بعيداً عن القيام بنظرة بانورامية للمفهوم الذي بدأ مع اليونان وصولاً إلى العصر الرّاهن.

تمّ تقسيم الكتاب الذي بين أيدينا، إلى خمسة فصول أساسية مرفقة بفروع وملحقات، وقد جاء تقسيمه على النّحو التالي:

- الفصل الأوّل: الحداثة السياسية؛

- الفصل الثّاني: الانتقادات (النقّاد)؛

- الفصل الثالث: المُؤسسات؛

- الفصل الرابع: الفردانية الديمقراطية؛

- الفصل الخامس: المواطنة والأمّة.

في الصفحات الأولى من الكتاب، كان هناك نوع من الإسهاب في شرح لفظة المواطن الذي رادفه كل ما هو اجتماعي وغير احترافي، ولا يعتبر المواطن، في نفس المضمار، فرداً حقيقياً ذا كيانٍ ملموس، ولكنه يحظى بحقوقٍ مدنية وسياسية (المُشاركة في الحياة السياسية) داخل رقعة جغرافية لها سيادة وشعب ومجال ترابي، ويتمتع أيضاً بالعديد من الحريات؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حرية الاعتقاد، حرية التعبير، ...إلخ، كما يسعدُ أيضاً بجزءٍ من السيادة السياسية.

قُدّم في بداية الكتاب، تعريف جوهري للمواطنة: "هي مجموع المواطنين الذين يملكون السيادة هو ما يفسّر العبارات والتراكيب المتداولة، مثل: المواطن ملك والمواطن هو السيّد، ويمكن أن نضيف تعريفاً لا يقل أهميّةً وشأناً عن التعريف المذكور: "تعدّ المواطنة أساس الرابط الاجتماعي". إنّ المقصود من التعريف الأخير أنّ الذي يجمع الأفراد لم يعد هو الرابط الديني أو العقدي أو العرقي، وإنّما الرّابط الذي يربط فيما بينهم هو رابط سياسي بالدرجة الأولى. بزغت فكرة المواطنة للمرة الأولى في بلاد اليونان من خلال استيعاب الفرد اليوناني بوجود مجتمعٍ سياسي مجرد يمكنُ تمييزه عن المجتمع الحقيقي الذي يتكون من أفراد ملموسين. ولهذا، فإنّ أرسطو يرى أنّ المدينة تتكوّن من جماعة من المواطنين السياسيين.

المدينة الإغريقية هي التي منحتنا المواطن، باعتباره عضواً في جماعة المواطنين الأحرار المتساوين. وبما أن أرسطو يحتلّ جزءاً مهمّا من هذا الكتاب، فإنّه قد أسهب في الكتابة عن المواطن وعن فكرة المواطنة. يَعْتَبِرُ أرسطو المواطن هو صفةٌ قانونيّة مُرتبِطة بالإنسان، هذا المواطن مُنخرط في مُجتمعٍ ما، يتمتّع بحقوقٍ مُخوّلة له، ويؤدي واجبات، تأديتُها ليس أمراً اختيارياً، بل يُؤدِّيها بالضرورة، ويحترمُ تلك القوانين المُتّفقِ عليها سلفاً. اعتبر أرسطو الإنسان حيواناً سياسياً، وبالتالي فهو يدخلُ في السياسة بشكلٍ قسري، ليصبح مواطناً. يقول أرسطو في كتابه السياسات: "المواطنُ هو المساهم في إقرار القوانين. من مجموع هؤلاء المُساهمين تتكون المدينة City أي الهيئة السياسية". من مُقوِّمات المواطنة عند أرسطو هي أنْ يحتاز الإنسانُ لنفسهِ شيئاً من نِعَمٍ وثروات المَدينة، فلا مُواطنة من غير تملُّك؛ والحقُّ أنّ هذا الاحتياز يُرسِّخُ في الإنسانِ حُسْنَ الانتماء، فأنْ تنتمي لمدينةٍ معناها أنْ تُشارِكَ أهلها ليس في الأرض فقط، بل أنْ يكونَ لكَ شيءٌ من تلك الأرض وشيءٌ من خيراتها. ويلحُّ أرسطو على الاشتراك، كركن من أركان المواطنة، ليس الاشتراك بالمعنى الأفلاطوني، بل الاشتراك بمعنى أوّلي هو الاشتراكُ في البلَد، أو قُلْ الانتماء للوطن، ثم الاشتراك بمعنى أنْ يكون لك موطن ومسكن في البلَد ونصيبٌ من أرضها وتُرابها.

في بداية الفصل الأوّل: الحداثة السياسية، قام الكاتبان بتمييز مهم بين ثورتين تعتبران التواءً حقيقياً في التاريخ هما: الثورة الأمريكية (1765م) والثورة الفرنسية سنة (1789م). الثورة الأمريكية أنجبت الديمقراطية التمثيلية معلنةً نهاية الديمقراطية المباشرة التي سادت وتفشّت في بلاد اليونان. أما الثورة الفرنسية، التي تعدُّ فصماً سياسياً، رغم الاستمرارية الاجتماعية التي حدثت بين النظام القديم والثورة، إلّا أنّها تعتبرُ اللحظة الحاسمة التي أدّت إلى انبثاق الحداثة السياسية في الوجود بشكلٍ فعلي. طُرح في هذا السياق سؤال أكثر تأريقاً: ما الحداثة السياسية إذا لم تكوّن مجتمعاً تُشكِّلُ فيه المُواطنة أساس الشّرعية السياسية؟ إنّ هذا السؤال الذي بدأ بـ: "ما" يبين أن الغوص سيكون في ماهية مفهوم الحداثة السياسية، والسعي سيكون هو تحديد سماتها الجوهرية.

تقوم المادة الثالثة من حقوق الإنسان على منح السلطة وصلاحية الشّرعية للأمّة، بعدما كانت في يد الملك أو الحاكم، وهنا بالضبط تأسست الحداثة السياسية التي تتمركز بالأساس على انتقال الشّرعية السياسية من شرعية الحاكم والمتربع على كرسيّ السلطة إلى شرعية الأمة التي منحتها الحداثة السياسية حقّ التحكم في شؤونها. وقد لعب هذا لانتقال دوراً مهمّاً في التخلّي عن تعريف الفرد أو مجموعة من الأفراد، انطلاقاً من معتقداتهم الدينية، وخلفياتهم الإيديولوجية، والروابط الاجتماعية والثقافية، بل وأصبحوا متساويين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن أصولهم واختلاف أفكارهم ومرجعياتهم.

ضمن هذا الفصل أثيرت فكرة في غاية الأهمية أثارت حمأةَ وضجيجاً في مختلف الحقب التاريخية، وهي فكرة: الفصل بين الكنيسة والدولة بمختلف مؤسساتها. هذه الفكرة جعلتها الشرعية الجديدة التي انتقلت من يد الحاكم إلى يد الأمة تطفو كما تطفو الشّوائب في البِرك الآسنة. يرتكزُ هذا الفصل على استبعاد الكنائس كمصدر للسلطة. جون لوك راقب المأساة والدمار الّذي خلفتهُ الحروب الدينية، ليكتشف أنّ الحياد الديني هو الوسيلة الأنجح لتنظيم التسامح الديني. تفترض الحداثة السياسية إذن مبدأ الفصل النهائي والتام بين النظامين السياسي والديني.

لم تعرف العصور القديمة إلّا فكرة الديمقراطية المُباشرة التي تمكِّنُ المواطن من ممارسة حقوقه ووظائفه بشكلٍ مباشر ويضطلع على التوالي بدوري الحاكم والمحكوم، بيد أنّ الحداثة السياسية ابتكرت بشكلٍ محسوس الأشكال السياسية المُرتكزة على فكرة التفويض أو بمُصطلحات أكثر معاصرة على التمثيل، وفي هذا الصدد أيضاً ابتدع المحدثون المؤسسات السياسية الضامنة لهذا التمثيل، كالانتخابات والبرلمان. يمكن القول، إذا جاز لنا التعبير، أنّ الديمقراطية التمثيلية ظهرت بشكل فعلي في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1776م و1787م. تفرض هذه الديمقراطية (= التمثيلية) عدم تخلي النوّاب عن الشعب لأنّ هذا الأخير هو مصدر الشّرعية، ولأنّ نيابتهم ملزمة وتجبرهم على البقاء على مقربة من ناخبيهم.

تحدث الكاتبان في جزء خصصاه لمسألة المواطنة بين النموذجين الفرنسي (روسو) والإنجليزي (مونتسكيو). المواطن بناءً على الطريقة الفرنسية هو وريث الاستبدادية والحكم الملكي المُطلق اللذين كانا قد أقاما علاقة مباشرة بين الملك ورعاياه. أما المواطن بناءً على الطريقة الإنجليزية، فهو ليبرالي، ومن مُتطلّباته أمان الأشخاص وحريات التفكير والتعبير والتصرُّف.

وسم الكاتبان الفصل الثاني بـ: الانتقادات، وقد عرضا في مجمله النقد الذي وُجّه لسيادة المُواطن ولإعلان حقوق الإنسان؛ الإعلان الذي نادى به الثوار الفرنسيون، وقد واجهه إدموند بيرك بشدة، إذ اعتبر هذه الحقوق أنّها تتسمُ بذات الطابع المُطلق، وعلى قدر صدقها من الناحية الميتافيزيقية على قدر زيفها من الناحيتين المعنوية والسياسية. وعرف النقد الموجه إلى الطابع المجرّد انطلاقة جديدة مع ظهور فكر الفلاسفة الجماعيين المعاصرين على رأسهم: مايكل والزر، وشارلز تايلور. بالنسبة إلى هؤلاء لم يعد الفصل بين ما هو عام وخاص كافياً لضمان حضور ديمقراطية حقيقية؛ لأنّ البشر يستشعرون الحاجة إلى اعتراف المواطنة ليس فقط بكرامتهم، وإنّما أيضاً بأصالتهم وشرعيتهم.

في هذا المضمار أيضاً، تطرق الكاتبان للنقد الماركسي لحقوق المواطن في المجتمع البورجوازي، واستنكار ماركس الكبير والواضح للمواطنة البرجوازية (الصورية) داعياً إلى السعي إلى تحقيق مواطنةٍ حقيقية في المستقبل. تمخّض نقد ماركس للمواطنة في المجتمع البورجوازي بعد الثورة الصناعية الأولى التي جعلت البشر يعيشون فقراً مدقعاً واضطراباً حاداً في حياتهم اليومية، الأمر الذي جعل مهمّة المساواة القانونية والسياسية صعبة في تعويض حالات عدم المساواة العنيفة في النّظام الاقتصاديّ القائم. تحدث ماركس في هذا الصدد عن التمييز الذي حصل بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، واعتبره تمييزاً لا يمكنُ أن يحدث إلّا داخل المُجتمع البرجوازي، إذ إن "حقوق الإنسان التي نفصلها ونميّزها عن حقوق المواطن ليست إلّا حقوق عضو المجتمع البرجوازي أي الإنسان الأناني، حقوق الإنسان المنفصل عن الإنسان وعن الجماعة".

لم يُبدِ ماركس تشكيكاً تجاه المواطنة، بل إنه ينقد بشكلٍ جذري الشكل الذي اتخذته حتى الآن داخل المجتمع البورجوازي. ويشير كذلك إلى أنّ تحقُّق الديمقراطية الحقيقية رهين في الأساس بتحقيق الإنسان لذاته، وباتّحاد العامل والمواطن وأن يضعا يداً في يد، هذا ما لم تسمح به الثورة السياسية الخالصة التي اندلعت سنة 1789م في فرنسا. لقد دعا ماركس إلى ديمقراطية حقيقية كما سبق وأن أشرت، وكان يطمح إلى إعادة استكمال الأهداف التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية، ونبّه إلى أنّ الديمقراطية لا يجب اختصارها في التصويت فقط، كما أنّها (= الديمقراطية) لا تكتسِبُ معنًى طالما لم تعطِ الظّروف الماديّة للأفراد القدرة الحقيقية على الاستمتاع بالحريات.

لقد أفضى نقد ماركس للمواطنة البورجوازية إلى نشوء الدولة الحامية عقب الحرب العالمية الثانية التي تأسست لإعطاء محتوى محسوس للحقوق – الحريات. ويمكن تعريف هذه الدولة بإيجاز أنها دولة: "الحقوق غير الماديّة"، وهي كذلك طريقة للمواءمة بين تساوي النّظام السياسيّ وحقائق عدم التساوي الاقتصادي. للدّولة الحامية مبدأ أساسي ترتكز عليه، هو: لكلّ مواطن الحقّ في أنْ تتيسر له سُبل إطعام نفسه والسكن وتربية أبنائه بشكلٍ لائق، حتى يتمكّن من ممارسة حقوقه بشكلٍ فعليّ محسوس. ويجب أن يحظى بظروفٍ ماديّة لائقة، حتى ينعم فعلياً بحقوقه السياسيّة. يجب على الدولة إذن أن تعتني بالمواطنين، سواء بشكلٍ مباشر أو بشكل غير مباشر، وأن تعوّض الآثار الاجتماعية الفاسدة للمنطق الاقتصاديّ الصارم التي لحقت بهم.

ألحق هذا الفصل بعدة ملحقات ارتأيتُ أن أذكرها نظراً لثقلها القانوني والسياسي، وأخذاً كذلك بعين الاعتبار المكانة التي تبوّأتها في التاريخ:

- إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789م): كان عبارة عن مجموعة من المواد التي تضمنت نصّ مجموعة من الحقوق والاعترافِ بها.

- مرسوم الجمعية الوطنية المنظم للمساعدات والإعانات العامّة (1793م).

- روبيسبيير مشروع إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1793م).

- خطاب النّائب هارمون (1793م).

- بيانات الحكومة المُؤقّتة للجمهورية الفرنسية (1848م).

- دستور الجمهورية الثانية (1848م).

- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م).

عنون الكاتبان الفصل الثالث بـ: المُؤسّسات، وقد عرضا في مجمله أفكاراً تتعلّق بالمواطنة، حيث أكّدا أنها (= المُواطنة) ليست كياناً أو ذاتاً أو جوهراً يمن به، أو يمكن المحافظة عليه طوال تعاقب الأجيال، وقد عرّفاها بأنّها بنيان تاريخي، أو بالأحرى، تراكم تاريخي. وجديرٌ بالذّكر، انطلاقاً ممّا ورد في الكتاب، أنّ المواطنة تنظّمُ المجتمع في حالة ما إذا تجسّدت في مجموعة من المؤسسات والممارسات الاجتماعية. تتسمُ المواطنة الحديثة بميلها إلى العمومية، وقد سعت جاهداً إلى إلغاء ذلك التمييز الشّنيع الذي حصل في المدينة القديمة عندما مُيِّز الحرّ عن العبد، وهذا الإلغاء هو الذي سيؤدّي حتماً إلى كونية المواطنة.

يعدُّ التصويت جزءاً لا يتجزّأ من المواطنة الحديثة، وهو حقّ كل مواطن، وهو السبيل أيضاً لاختيار المواطنين لممثليهم ولتنظيم حياتهم السياسية، كما يعتبر التصويت، بناءً على ما جاء في الكتاب، رمزاً يتمتع بنوعٍ من القداسة، وهو أيضا رمز المُجتمع السياسيّ نفسه الذي يضمن الروابط الاجتماعية ويرسم مصير الجماعة. تضمن الكتاب أيضاً جزءاً مركزاً تحدث فيه المؤلفان عن حقوق المواطن والأجنبي في ظلّ المواطنة الحديثة التي تسير في اتجاه الكونية، والحقوق بينهما لا تختلف.

يرى الكاتبان أن التعليم هو أساس المشروع الديمقراطي، والمدرسة هي بلا شكٍّ النّموذج الأمثل لمؤسسة مواطنة بصرف النّظر هل هي مُنظّمة من طرف الدولة بشكلٍ مباشر أو مُراقبةٍ لها. وقد أدرجا الكاتبان مثالاً مهمّاً عن قصور الديمقراطية اليونانية القديمة، إذْ إنّ غياب المدرسة الأهلية وضع حدوداً للمُشاركة السياسية. قدّم صاحبا الكتاب مثالاً في غاية الأهمية حول مدى أهمية المدرسة والتعليم في بناء مواطن صالح، حيث إنّ المدرسة في فرنسا يطلقُ عليها: مدرسة المواطن. وجب التأكيد في هذا المضمار على وظيفتين مسندتين إلى المدرسة؛ فهي تقدّم للتلاميذ لغة وثقافة وإيديولوجية قوميّة وذاكرة تاريخية مُشتركة في مُحتوى التعليم، ومن ناحيةٍ أخرى، وبشكلٍ ربّما أعمق، تُشكّلُ المدرسة مساحة خيالية لصورة المُجتمع السياسيّ ذاته.

أشار الكاتبان في نهاية هذا الفصل، إلى التطور الذي شهِدتهُ الديمقراطية، التي مرّت من الليبرالية التي تقودها النّخبة، وعرفنا كذلك ديمقراطية الأحزاب التي ارتبطت أساساً بالتوسّع في استخدام الاستفتاءات العامّة. أما في العصر الرّاهن، فقد اكتشفنا ما يسمّى بـ ديمقراطية الجُمهور التي تتميّزُ بشخصنة السلطة وقابلية النّاخب للتبخر الّذي أصبح أكثر تأثراً بالأشخاص منه بالبرامج السياسية وأكثر استقلالاً في تفضيلاته السياسية. تساهم ديمقراطية الجمهور في القطع والفصل اللذين يستشعرهما المواطنون العاديون بين العالم الاجتماعي الذي يخبرونهُ وعالم النخبة والصفوة السياسية والصحفية التي تربط بينها علاقاتها المتشابكة ومجموعة من الخدمات المتبادلة.

جاء الفصل الرابع معنوناً بـ: الفردانية الديمُقراطية. الفردانية هي عبارة حديثة، وهي إحساسٌ هادئ ومتعقّل يهيئ كلّ مواطن للانعزال عن جموع أمثاله والانزواء مع أسرته وأصدقائه، على خلاف الأنانية التي عرفها الأجداد، وهي حبٌّ جارف ومبالغ فيه يدفعُ الإنسان إلى الانغلاق على نفسه. لقد أدى هذا المفهوم (= الفردانية الديمقراطية) إلى انتشار الحقوق الذاتية في الدول الديمقراطية على حساب الحقوق الموضوعية، المرتبطة بمتطلبات الحياة الجماعية، وقد ساهمت فلسفة الحق في إعادة اكتشاف وتنمية الحقوق الذاتية. بيد أنّ هذه الحقوق الذاتية قد عرّضت القانون الموضوعي لنوعٍ من الضعف والهشاشة؛ لأن أُسسها غير مؤكدة، كما أفرغت القانون الموضوعي من مُحتواه ولم تحل محله، إذ هي لا تماثل قواعد القانون في قوّتها الفورية.

لقد أدى تضخم الحق والحقوق الذّاتية، حسب الكاتبان، إلى تضاعف وتنامي القوانين الخاصّة التي يستحيلُ معرفتها، الأمر الذي قد يؤدي إلى غرق سير الحياة الاجتماعية في المزيد من الضبابية. الفردانية لها دور سلبي أيضا، حيث تقومُ بإضعاف المؤسسات الوطنية التي بواسطتها كان الدمج في المجتمع تقليدياً مضموناً. تحدث الكاتبان عن الحياة الجماعية التي تعرفُ بالحركة الاجتماعية التي تقرّب إلى ذات المستوى الابن والأب، الخادم والسيد، وبشكلٍ عام المنخفض والمرتفع وترفع المرأة مجتهدة شيئاً فشيئاً في جعلها مساوية للرجل. ولم يغفلا القانون المدني الذي تكفل بتنظيم الأسرة بوصفها مجتمعاً طبيعياً، كما عرف قانون الأسرة، الذي لم يعد يتمحور حول الزواج فقط، وإنّما حول التناسل، تعديلات هائلة خلال القرن المنصرِم، الشيء الذي أدى إلى حدوث مساواة بين الرجل والمرأة ومنح الأطفال حقوقاً متساوية، واكتسبت النساء حقوقهنّ عبر استقلالهن الذاتي.

عرض الكاتبان في نهاية هذا الفصل صورة العلاقات بين البشر في خضم السلطة الديمقراطية، وقد أكّدا أنّ العلاقات الوحيدة المرضية للأفراد هي المرتكزة على تساوي الكرامة وهذه الرّغبة في المساواة بين الأفراد تتجلى في بعض التصرفات التلقائية، كحذف بعض المفردات من القاموس التواصلي اليومي، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: حذف كلمة السيد والسيدة... إلخ، الشيء الذي يجعل الجميع على قدم المساواة.

بدأ الفصل الخامس الموسوم بعنوان: المواطنة والأمة بتبيان الصلة التاريخية التي تجمعُ بين المُواطنة والأمّة؛ ففي كنف هذه الأخيرة نشأت وتكوّنت الشّرعية والمُمارسات الديمقراطية. والرابط بين المواطنة والأمّة ليس رابطاً منطقياً، بل هو رابط تاريخي كما أسلفت الذكر، بيد أنّه حدثٌ تاريخي لا يُمكننا القول بانعدام أهميّته ومعناه. تحدّث الكاتبان أيضاً عن إشكالية التعددية الثقافية معتبرين إيّاها حقاً، آخذين في الحسبان الفصل بين المجالين العام والخاص، فهذا الفصل يعدُّ منشئاً للنظام السياسي وفق مبادئ المُواطنة. ذكر الكاتبان فكرة مهمّة تتعلّق بفرع من الحقوق الفردية، وهي الحقوق الثقافية التي تضمنُها الحداثة السياسية، ومعنى هذه الحقوق الثقافية أنّ لكلّ فردٍ الحقّ في أن تكون له حياة ثقافية خاصة، وأن ينميها عند الاقتضاء بالمُشاركة مع آخرين في داخل مجموعة واضحة القيّم والتقاليد المُتقاسمة بينهم.

أثار الكاتبان نقطة جوهرية، وهي الحقوق الخاصّة (الجماعانية) التي تتمتع بها قلّة من الأفراد، وقد سلّطا الضوء على تبعاتها. تكمن خطورة هذه الحقوق في تناقضها مع حرية الأفراد، كما أنّها تحصر الأفراد في تفرُّدهم، وهناك مخاطرة أخرى تتعلّق بالتداخل والاندماج، وهذا يتناقض مع الخاصية التي يتّصف بها المجتمع الحديث بوصفه مجتمعاً يتكوّن من أشخاص لهم أدوار متباينة ومتعددة.

ذكر الكاتبان موقف المفكر ويل كاميلشكا تجاه التعدديّة الثقافية التي يعترض عليها، إذا لم تكُن لها ضوابط ديمقراطية؛ لأنّها تُفضي حتماً إلى التجزئة الاجتماعية وإلى أثننة الجماعات. وقد قدّم كاميلشكا في هذا السياق الشروط الموضوعية لتأسيس وإقامة المواطنة المُختلفة والمميزة، ومن أوّل هذه الشّروط ألّا تفرض السيادة كيفما كانت على الأفراد، وأن يتمتّعوا بحرية الانضمام إلى أيّة جماعة أو الانسحاب منها، ثم قصر الاعتراف على الثقافات التي لا تضم سِمات غير متجانسة مع حقوق الإنسان. ينبّه أيضاً إلى ضرورة الاعتراف بحُقوق الأقلّيات، لكن لا يجب أن نتغاضى عن حقوق الجماعات الأخرى، وأن نتبنّى موقفاً نقصي به بقيّة الجماعات. طرح الكاتبان أيضا مسألة اللغة، إذ كلّ إنسان له الحق في أن يتكلّم باللغة التي يراها مناسبة، سواء في بيته أو مع أقرانه، ليُطرح سؤال شائك في هذا المضمار: ولكن هل من حقه (= الإنسان) التحدّث بها في المدرسة وفي المستشفى وأمام العدالة وفي الدعاوى السياسية؟ أو بصيغة أخرى، هل نفس حرية التحدث باللغة التي يختارها هي نفس الحرية التحدث بنفس اللغة في أماكن عمومية؟ إنّ اللغة التي يجب تعليمها للأطفال في المدارس هي لغة مشتركة، لغة المواطنة، بالإضافة إلى الرياضيات لغة الحداثة التقنية المشتركة.

وصفوة القول: لا توجدُ ترجمة لمبدأ المواطنة على مستوى الدولة – الأمّة؛ لأنّ قوميات القرون المنصرمة، ولا سيما قوميات القرن التاسع عشر، والفلسفة الاجتماعية التي واكبتها وضعت المبدأ القائل إنّ القومية والمواطنة يجب أن تختلطا. أكّد الكاتبان في آخر صفحات هذا الفصل بأنّ المواطنة الأوروبية المُستقلّة عن المواطنة القومية غير موجودة، ومردّ ذلك هو أنّ ما يمنح حق المواطنة الأوروبية لا يتأتى إلّا إذا كان المواطن منحدراً من فرنسا أو ألمانيا. والإعداد لمواطنةٍ أوروبية حقيقيّة، يتطلّبُ تأسيس وتهيئة مساحة أوروبية عامّة؛ أي حيّز عام يتعرّفُ فيه أعضاء المجتمعات الأوروبية على أنفسهم باعتبارهم مواطنين.

بعد تنامي ظاهرة الهجرة إلى البلدان الأوروبية، بُعثت إشكالية كبيرة حول المواطنة بدل الإقامة، وقد عرفت هذه الإشكالية تيارين؛ تيار مؤيد وتيار مُندد. هذه الإشكالية في مجملها تقول بأن الأفراد الذين يعيشون في وسطٍ معين يجب أن يحظوا بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الأصلي، إذ لا معنى في استبعاد فردٍ أجنبي وتجريده من المواطنة، وبالتالي يجب تطبيق مبادئ المساواة والحرية على الجميع دون استثناء، ومن هنا وجب الفصل بين الجنسية والمواطنة. الفرد الذي ينشأ في وسطٍ معيّن أو ترعرع فيه يجبُ أن يكون له بشكلٍ تلقائيٍّ الحقّ في المواطنة، نفس الشيء يجب أن يحدث مع الأجانب الذين أقاموا في بلدٍ معين لما ينيف عن خمس سنوات، حتى ولو كانت إقامتهم غير نظامية، إلّا أنهم قد شاركوا فعلياً في المُجتمع. فكل مجتمع مؤسس على المواطنة هو مشروع مدني في الحقيقة؛ أي إنه ذو ميل شمولي عام كما رأينا من قبل.

في الجزء المعنون بـ: المواطنة بعد القومية نجد أن يورغن هابرماس يرى أنّ المواطنة يجب أن تحتفظ بكامل معناها السياسي، وعليها في نفس الوقت ترجمة القيم المُشتركة بين الديمقراطيات الأوروبية كما تعبر عن ذاتها من خلال تأييدها وتوافقها مع حقوق الإنسان. ويلحُّ على فصل فكرة القوميّة عن تطبيق المواطنة من أجل بناء وتشييد أوروبا، كما يجب عزل الوطنيّة القومية، في نظره، عن مُمارسة المواطنة. يؤكد هابرماس أن كل مجتمع ديمقراطي منظم يتكونُ من مجموعة عناصر إثنية غير قابلة للانصهار والتفتت مثل: اللغة، التاريخ المشترك، الثقافة، والوعي بالتشارك في هذه الثقافة وهذه الذاكرة، ومبدأ مدني وفقاً له يكون الأفراد أيضاً مواطنين متساميين فوق تنوّعاتهم وعدم تساويهم.

اختتم الكِتاب، الذي ينمُّ عن جهدٍ جاد ومضنٍ بذله الكاتبان في البحث والتقصي محاولين سرد تاريخ وتجليات المواطنة، عبر إدخالهم للمفهوم في آلة تفكيكية لشرحه ومعرفة أصوله وتبيان المراحل التي مرّ منها للوصول إلى ما هو عليه اليوم، بطرح سؤال مركزي يستحقُّ وقفة تأمل وتفكير: لماذا أصبحت كلمتا مواطن ومواطنة منذ ما يقرب من عشر سنوات من أوسع الكلمات انتشاراً (...)؟ يبدو لي أنّ التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين هي التي أشعلت فتيل التأكيد على مفهوم المواطن، حتى أصبح هذا اللفظ يتردد على ألسنتنا باستمرار، سواء أكان عن وعي أم عن غير وعي، وكأن الفرد يودّ التأكيد على جوهره كمواطن له حقوق. والكلمتان (= المواطن، المواطنة) تثيران مشكلة قدرنا الفردي والجمعي. أضحت المواطنة محل نقدٍ باسم المستقبل واسم القيّم الخاصة بالتعدد الثقافي وبالانفتاح على الآخرين، وهي قيمة أقرّتها الفردانية الحديثة، وقد رؤى أنّها على ضوء ذلك قد عفا عليها الزمن. المواطن لا يكون إنساناً عادياً، بل ينخرط في المجال العمومي ويتبنّى قضايا محيطه، ويكون فاعلاً ومتفاعلاً في المجتمع المدني، ويمتلك حاسّة نقديّة.

كل مجتمع، حسب الكاتبان، مؤسس على الشرعية والقيّم ومؤسسات المواطنة هو مجتمع هش، ومستبعد الحدوث للتنظيم. ولا يمكنه القيام بمهمته إلا بعد إيجاد مساحة عامة تعلي وتعظم المجتمع الحقيقي المحسوس بأقسامه وحالات عدم التساوي به. وترجع هشاشة هذا المجتمع لكونه مؤسساً على مبدأ قلب العالم الاجتماعي. اعتبر صاحبا الكتاب أن المواطنة يوتوبيا خلاقة تحاول جاهدة تجاوز الأحاسيس الإثنية والعرقية المشبوبة، أو بالأحرى الإثنية – الدينية. وتستدعي مفهوم اللغة والتاريخ المشتركين، فهي لا يمكنها أن تكون عقلانية خالصة، وتحاول جاهدة الحفاظ على عقلانية تنظيم سياسي مؤسس على الحق وفكرة الحرية والمساواة.

دومينيك شنابر – كريستيان باشولييه، ما المواطنة؟، ترجمة: سونيا محمود نجا، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016*