قراءة نقدية في كتاب: "السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات "الدّعوة" إلى تفجير العقول"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة نقدية في كتاب:  "السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات "الدّعوة" إلى تفجير العقول"

قراءة نقدية في كتاب:

"السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات "الدّعوة" إلى تفجير العقوللعبد اللطيف الحناشي

محرز الدريسي

 

 

مقدمة:

يعد صدور كتاب "السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات "الدّعوة" إلى تفجير العقول" إضافة مهمة للمكتبة العربية والتونسية في تناول التنظيمات التكفيرية العنيفة في أبعادها المحلية، مساهمة في فهم الظاهرة وتفكيكها؛ إذ لا تقتصر مقاومة الإرهاب على المعالجة الأمنية والقضائية فحسب، وإنما تحتاج إلى قراءات معرفية وتحاليل علمية وجهد توثيقي يشمل مستنداتها النظرية والمفاهيمية وجغرافيتها التنظيمية، ورصد دقيق لخلفياتها وطبيعة تحركها وخصوصية امتداداتها ومواصفات "أنصارها" (قيادات وقواعد). هذا المؤلف يستجيب لهذا المشغل، ويجيب عن عدد من الأسئلة والإشكالات، ويعد من بين لبنات عديدة -على محدوديتها- "كتاب مقاومة" بالقلم والعمق التحليلي يسهم معرفيا في بتر جذور الإرهاب عبر كشف خفاياه وزواريبه الدفينة ورموزه وخطابه، هذا "الفضح" الأكاديمي السلس هو ما يقدمه الدكتور الحناشي تحديدا.

قبل الولوج إلى دفة الكتاب، من الصورة التي توشح الغلاف مربع أسود تتوسطه "رمانة يدوية" في شكل دماغ إنسان، تبعث برسالة أولية لفهم أسلوب العنف/التفجير ليس سلوكا فرديا ظرفيا، أو فعلا جماعيا عابرا، وإنما يُمثل أسلوب حياة وجهاز تفكير، ودماغ لا يفكر إلا في التدمير والقتل؛ فالإرهاب ليس عنفا فقط، وإنما يجسد قناعات فكرية وطريقة اعتقاد وسلوك منمط يشتغل داخل منظومة الشر المحض. هذا الشر العقائدي الخاطئ والفهم المنحرف للإسلام والتعبير المزيف عن الإيمان والتربية الضالة توزع البغضاء والتفرقة بين المواطنين، وتزرع الانغلاق والمغالاة والتطرف داخل فئات المجتمع في أبشع أشكاله.

تبرز أهمية تقديم الكتاب من ثلاثة مستويات أساسية؛ أولا أنه كتاب علمي يتناول ظاهرة السلفية التكفيرية بطريقة تحليلية وتوثيقية متميزة ونسقية، تعتمد البناء العلمي والتمشي المنهجي الوصفي المقارن والتاريخي مع إحالات مقتضبة لبعض الملامح النظرية. ثانيا أنه يستجيب إلى سياقات تحتاج معرفة تاريخية وواقعية بالتنظيمات التكفيرية العنيفة للتصدي لها والتوقي من "إرهابها"، وكشف أرضيتها الفكرية والشخصية وأنشطتها وكيفيات تحركها وتسللها الأخطبوطي في جموع المواطنين. ثالثا وثيقة / توثيقية دقيقة بنظرة "مؤرخ" تتقصى تفاصيل هذه الظاهرة وتفتش عن جزئياتها لبناء الصورة من قطع فسيفسائية الوقائع والأحداث لصياغة الصورة موضوعيا بكل خفاياها وتقديم المشهد بتفاصيله وحيثياته.

كيف قارب الحناشي ظواهر التطرف العنيف؟ ما الإضافة المعرفية والمنهجية التي خلص إليها؟ ما حدود بحثه في رصد ظاهرة التطرف العنيف وتعبيراتها الميدانية والتنظيمية ومواصفات أنصارها؟ أليس من شروط البحث المنهجي تجاوز التوثيق والترتيب وعدم الاكتفاء بنقل المعطيات، واقتحام التحليل بتنويع مداخلها ومقاربتها والحفر في "اللحم الحي" للإرهاب؟

التقديم المادي للكتاب:

صدر كتاب "السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات "الدّعوة" إلى تفجير العقول" في طبعته الأولى سنة 2020 عن الدار التونسية للكتاب (تونس) لعبد اللطيف الحناشي، وهو أستاذ تعليم عال وباحث في التاريخ الراهن بالجامعة التونسية، له عديد المنشورات والمؤلفات، منها كتاب موضوع قراءتنا، يقع في ثلاثمائة وتسعة وثمانين صفحة موزعة على توطئة ومقدمة عامة ومدخل نظري وثلاثة عشر (13) فصلا مع خاتمة عامة و(8) ثمانية ملاحق وخمسة (5) فهارس، وينضوي على اثنين وعشرين (22) جدولا.

العرض التأليفي الموجز لمضمون الكتاب:

يبدو توزيع المادة البحثية بين فصول الكتاب غير متوازية؛ فالفضل الثالث يتكون من (68 صفحة) والفصل التاسع (22 صفحة) في حين أن الفصل السابع يقتصر على (5 صفحات) ويحوز الفصل الثامن (3 صفحات) فقط. ما تجدر الإشارة إليه أن الكتاب يمكن أن يقرأ وفق مدخلين؛ مدخل أفقي قراءة معتادة بتوالي الفصول والصفحات، ومدخل منكسر في قراءة الهوامش الدسمة والثرية بالمعلومات والإحالات.

يتناول المؤلف منذ التوطئة مسوغات انتشار التطرف العنيف و"ازدهاره" الإقليمي والعالمي، بكشف جاذبية خطابه الديني "المبسط"، تسوده القراءة النصية والحرفية دون وعي تاريخي مع هيمنة ثنائيات تقليدية (دار الحرب/ دار السلام - المؤمن/ الكافر - الحلال/ الحرام...) يغيب فيها العقل والتأويل والعقلنة، وتحضر فيها العاطفة المشوهة. لهذا انتشرت لدى أصحاب العقول المنغلقة والفئات الجاهلة بقيم الدين السمحاء والمعتدلة ومقاصده الإنسانية المتسامحة. ما عزز انتشار التطرف التكفيري العنيف -حسب الحناشي- تراجع الإيديولوجيات اللادينية وعجزها عن إحداث التغييرات المجتمعية المأمولة، وتنامي القنوات الفضائية وتكنولوجيات الاتصال الجديدة والحضور المكثف للشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية التي يسرت التواصل الافتراضي وصناعة رموز وأقنومات تجييش ديني. دون أن يغفل عن بعدها العالمي وحواضنها الإقليمية والدولية التي وظفتها في الصراعات الجغراسياسية والطائفية ومزيد ضخ منسوب الاقتتال والتحارب داخل البلدان العربية وتعميق زخم التنابذ. على الرغم من أن مقصد الكتاب تناول الظاهرة المحلية/ في تونس إلا أنه أكد تفطنه إلى الأبعاد الدولية للتنظيمات الإرهابية، وأفق تحركها وفعلها ما فوق وطني وعابر للبلدان والقارات، للإقرار بتعقد تناول ظاهرة التكفيريين من منظار علمي خالص.

أشارت المقدمة العامة إلى الجدل السائد في الفضاء العمومي، وتباين المقاربات في "تفسير" نشأة التيارات السلفية العنيفة، لم تعتمد المباشرة الموضوعية، بل وظفت في شحن التنافس السياسي والانتخابي، بين من يرى أن الدكتاتورية بممارساتها القمعية وإجراءاته الاستبدادية المتوحشة وفرت مناخا ملائما لنمو التطرف العنيف وانتعاشه شعبيا، ووجهة نظر مغايرة، تعتبر أن هذا التيار وليد تنظيمات الإسلام السياسي بتجاذباتها وانشقاقاتها، وموقف آخر للاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبر أن الفكر التكفيري العنيف "دخيل" على البلاد التونسية. يعتقد الكاتب أن هذا المواقف "مجانبة للحقيقة والواقع" (ص14) مبرزا أن العنف "ظاهرة إنسانية واجتماعية" (ص16) غير مستجدة، مُحيلا إلى حالات العنف التي عاشها الشعب التونسي خلال الاستعمار الفرنسي وصولا إلى "العنف الداخلي" في الفترتين البورقيبية والنوفمبرية، ليطرح فرضية مدى صدقية إذا كان الشعب التونسي مسالما، في حين أنه شكل خزان كمي ونوعي لألاف المقاتلين في بؤر توتر عديدة، فضلا عن آلاف الشباب من الذين منعوا من السفر والالتحاق بجهات الاحتراب في سوريا والعراق، وقوائم المفتش عنهم دوليا مع وصم "المقاتل" التونسي "بالسلوك الوحشي". ويتساءل حول مفارقة بين خصائص تمدد ظاهرة العنف وانتشارها الفكري والجغرافي، بصفة مناقضة لصورة تونس البلد "المنفتح" والرائد في مجال حرية المرأة، وانتشار التعليم والتنظم النقابي والسياسي والحقوقي، ليشكك في مسلمة "طهرية" المجتمع التونسي التي تحتاج إلى إعادة النظر في واقعيتها.

أثار صاحب الكتاب في المدخل النظري التباسات المفاهيم التي سيشتغل عليها وعسر تحديدها، تطرق إلى التعريف اللغوي لمفهوم التطرف ومواصفات المتطرف الذي يتسم "بانعدام القدرة على التأمل والتفكير وإعمال العقل بطريقة بنّاءة، كما يتسم المتطرف على المستوى الوجداني بالاندفاعية، وعلى المستوى السلوكي بممارسة العنف بأشكاله المختلفة" (ص20)، ليؤكد غموض مصطلح الإرهاب الذي "لا هدف له إلا التدمير الأعمى لفرض قيمه بالقوة" (ص22). وحتى مفهوم السلفية لغة واصطلاحا، رغم تنوع مصادرها وفقهها توصف "بالغموض" وتتميز "بتشظيها وعدم تجانسها كحركة" (ص23)، لينتقل إلى تشخيص التيار "الجهادي المعاصر" حسب عبارات الكاتب. يصل السلفية بمؤسس الإخوان المسلمين (حسن البنا)، مبينا أن الانشقاقات التي حصلت داخل تنظيمات الإسلام السياسي شكلت سياقا تنظيميا وفكريا أساسا مع سيد قطب (ص23) لتشكل الحلقات/ المجموعات التكفيرية الداعية لتغيير أنظمة الحكم عن طريق استعمال العنف. مقدما جردا عاما ومختصرا لعينة من هذه المجموعات المقاتلة شأن "تنظيم الجهاد" و"جماعة التكفير والهجرة" و"تنظيم الكلية الفنية العسكرية" بمصر، إضافة إلى مجموعات مقاتلة تكونت في السعودية.

مع مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان و"عولمة الجهاد"، تعددت روافد وتشكلات التيارات العنيفة والتكفيرية وتمددت بكثافة غير مسبوقة، ووجدت الدعم اللوجستي من أجهزة بعض الدّول والإسناد "الديني" بالفتاوي والخطب المسجدية والوسائل السمعية والبصرية. وتوالت الأجيال الإرهابية وطورت أنشطتها ووسائلها الدعائية وطرائق الاستقطاب، وتنامت في صفوفها الداخلية نقاشات حول الأفق الاستراتيجي لممارستها القتالية، بين داع إلى مواجهة العدوّ الخارجي ممثلا في "العدوّ الأمريكي" بتنفيذ عمليات استعراضية، وبين مقاتلة العدو القريب/ داخل البعد الوطني، ونفذت عددا من عمليات الاغتيال باستهداف مؤسسات الدولة ورموزها. لتنبثق مع احتلال العراق تنظيمات أشرس من القاعدة وأكثر دموية شأن "داعش" ورموز إرهابية جديدة من الشباب ما بعد ابن لادن والظواهري تغذت بلا شك من فكر القاعدة، مثل أبي مصعب الزرقاوي والبغدادي مع استثمار المنصات الرقمية الجديدة، واستقطاب واسع للشباب من مختلف الجنسيات لممارسة أشكال وحشية من العنف.

بعد الإحاطة العامة بظاهرة العنف التكفيري، توقف المؤلف في الفصل الأول عند "السلفية في تونس"، مشيرا إلى الخلاف التاريخي بين الدعوة الوهابية ومشايخ جامع الزيتونة، ورفضهم إرساء "العقيدة" الوهابية في تونس، عملوا على محاصرتها ووصمها بالبدعة والفتنة والضلالة، ترفض كل ما يختلف عن "عقيدتها وتصوفها السني الأشعري" (ص30) وهيمنة الطرق الصوفية لدى ساكنة تونس؛ بمعنى تم التصدي لتيار السلفية الوهابية منذ القرن التاسع عشر، في المقابل تأثرت النخب التونسية بالمدرسة السلفية الإصلاحية ممثلة في أفكار الأفغاني ومحمد عبده، وبروز تيار سلفي إصلاحي يبحث عن التحديث دون الانفصال عن مقاصد الديانة الإسلامية أو التوليف بين الأصالة والمعاصرة، لينتقل مباشرة إلى فترة السبعينيات التي شهدت ميلاد الجماعة الإسلامية أو الاتجاه الإسلامي الذي يتبنى المنهجية السلفية، وانتشر التنظيم السلفي منذ السبعينيات مع انتشار أفكاره عبر ترويج الكتب السلفية (والوسائل السمعية - الكاسات)، إلا أنه عاش انشقاقات متعددة؛ الأول تيار تربوي اعتبر أن هذه الجماعة أفرطت في الانخراط في الفعل السياسي على حساب التربية الروحية، الثاني تيار حركي متشدد معارض للنظام السياسي ممثلا في "الجبهة الإسلامية" وملهمها محمد الأزرق دون أن يتشكل فعليا في هياكل ممتدة. تغذى هذا التيار من خبرات الشبان الذين تمرسوا في صفوف "المجاهدين الأفغان"، لتتطور أشكاله وتتفرع إلى مجموعات إرهابية عاملة في الميدان، نفذت أولى عملياتها سنة 1995، ودخلت في مواجهات مسلحة مع قوات الأمن في عدّة موجات، أبرزها عملية سليمان سنة 2006.

تبعا لذلك، تعرضت العناصر التكفيرية إلى الملاحقات والسجن ليتم اعتقال وسجن المئات ضمن قانون "مكافحة الإرهاب". حدد الحناشي مواصفات سجناء السلفية العنيفة قبل 2011، بتصنيفهم حسب الولايات، حيث تحوز تونس العاصمة قرابة ¼ ربع التكفيريين مع انتشار في 24 ولاية، والفئة العمرية الأبرز من (25 سنة إلى 30 سنة) والمواصفات المهنية من العمال والتلاميذ والطلبة بنسبة 70 %. وأدرج جدولا مطولا بالأحكام القضائية لإرهابيي (سليمان) مع ذكر أسمائهم وتاريخ ميلادهم وأمكنتهم وأنشطتهم المهنية وانتماءاتهم الجغرافية، وهي مواصفات توثيقية وتاريخية مهمة، لرسم ملامح دقيقة للمتطرف العنيف. أما التنظيم الذي سينبثق مجددا بعد أن مارس أنشطة خارج تونس، وتكون من النواتات والشخصيات التي تدربت في أفغانستان، فهي "الجماعة التونسية المقاتلة" التي أسسها سيف الله بن حسين (أبو عياض) سنة 2000، وكانت لها خلايا عديدة في أوروبا، سيلمع اسمه بعد 2011، باعتباره مؤسس "أنصار الشريعة"، وستكون لهذه التعبيرة التنظيمية وقع كبير في انتشار الفكر المتطرف العنيف بتونس وخارجها. والإشارة الذكية أن "أغلبية المحكوم عليهم تنحدر من المناطق الساحلية، وليس من المناطق المهمشة والمحرومة من التنمية" (ص38).

في الفصل (2) اهتم المؤلف بأنشطة السلفية التكفيرية العنيفة بعد 2011، ورصد حضورها المكثف باستثمار أجواء الحريات وانحصار أداء الأجهزة الاجتماعية للدولة، انخرطت في استقطاب الشباب، وسرعت نسق أنشطتها واختراقها للنسيج المجتمعي ومحاولة التأثير على الناس والاستحواذ على عقولهم وضمائرهم عبر تقديم الخدمات الاجتماعية مباشرة، أو بالاستناد إلى الجمعيات الخيرية التي استفادت من قانون الجمعيات، وأنجزت حملات نظافة في عدد من الأحياء الشعبية، ووزعت "قفة رمضان" للأسر المعوزة، ونظمت قوافل طبية في عدد من الجهات. وأدت دورا أمنيا في تيسير دوريات رقابية في الأحياء الشعبية بالعاصمة، ونصبت أمام المؤسسات التعليمية خيمات دعوية لحث الفتيات على ارتداء الحجاب والنقاب، وسيطرت على أكثر من 400 مسجدا (ص45)، بل وخزنت في البعض منها الأسلحة، وحولتها إلى شبه مقرات تعقد فيها اللقاءات. وبدلت بعض الأئمة الخطباء بالقوة، ونشرت خطابا تكفيريا. سعت إلى اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية (ص46)، واستقطبت عناصر من الأمنيين والعسكريين بغية الحصول على المعلومات، وتسهيل تهريب القيادات وتزييف الوثائق الرسمية ووثائق السفر، وتنفيذ عمليات إرهابية (ثكنة بوشوشة مثالا).

انصب اهتمام الحناشي في الفصل (3) على تشريح التنظيمات والكتائب والخلايا، نعده "قلب" الكتاب لثراء المعطيات والمعلومات المضمنة فيه، رتبها منهجيا، وكأنه يقدم صورة فوتوغرافية تقريبا عن تنظيم "أنصار الشريعة" أساسا. بحث في استراتيجية التسمية وغايتها تطبيق الشريعة في المجتمع، ورسم خط التمايز عن السلفية المناصرة "للطواغيت" ومنظمات وأحزاب الإسلام السياسي (ص56)، مثل العفو التشريعي العام -حسب المؤلف- بعد الثورة فرصة لتيار السلفية العنيفة لترميم صفوفها وإعادة بناء هياكلها التنظيمية، معلنة عن حضورها في المشهد العام من خلال مدونة "مؤسسة القيروان الإعلامية" في أبريل 2011، وأن ليس من أهدافها المشاركة في العمل السياسي أو تأسيس حزب، وإنما ستعمل سيسعى على عقد سلسلة من الملتقيات الشعبية مع أنصارها، بهدف تحقيق مقصدها الاستراتيجي، ألا وهو تحكيم "شرع الله" وإنشاء إمارة إسلامية. قدم عرضا لهيكلة "أنصار الشريعة"، بأنها تتكون من ثلاثة أجنحة، أولا جناح عسكري وأمني مهمته جمع المعلومات وترويج الإشاعات وتخزين الأسلحة، ثانيا جناح دعوي وظيفته استقطاب الفئات الشبابية، ثالثا جناح التمويل عبر الاحتطاب وغيرها (سيتعرض لها في الفصل السادس). بعد ذلك بسط مواقف أنصار الشريعة لعدد من القضايا شأن الديمقراطية، حيث ترى بكل وضوح أن المجالس النيابية والتشريعية باطلة شرعا "فعمل النواب مناقض للشرع" (ص60)، فالشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع وتنظيم حياة الناس وإدارة شؤونهم، وكل من يرفض ذلك تعتبره من "أعداء الله". وتتهم حكومة "الترويكا" بأنها لا تمثل الإسلام، متهما حكومة النهضة (2013) بأنها "حكومة طاغوتية" (ص62)، ورفض التنظيم تصنيفه منظمة إرهابية بما أنه يؤكد أن تونس ليست أرض جهاد، وإنما أرض دعوة.

تنوعت مسارات العلاقة بين التيار السلفي العنيف وحركة النهضة حسب الباحث؛ فقبل الثورة اتهمته النهضة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، في حين راوحت العلاقة بعد 2011 بين مواقف مختلفة من الوئام إلى الاختلاف، ثمّ إلى الصراع المفتوح، حيث تعاطت حركة النهضة مع "أنصار الشريعة" بأنه من الممكن "ترويض" هذا التيار و"قلم أظافره" بإدماجه في منظومة العمل السياسي والحزبي والاستفادة من خزانه الانتخابي. يتميز التيار التكفيري لأنصار الشريعة بارتباطاته الخارجية، وسعيه الحثيث إلى توحيد المجموعات التنظيمية القريبة منه في البلدان العربية والإفريقية، ولديهم صلات في كل من اليمن وسوريا وغيرها، وعلى الرغم من التقارب العقائدى والفكري مع القاعدة، إلا أن قيادات التنظيم تؤكد تمايزها عن التنظيم "الأم". بعد ذلك، تم استعراض قوائم الكتائب بشكل دقيق وتتبع نشأتها ومواقعها الجغرافية، وتحليل عناصرها وارتباطاتها ونوعية إعلامها وطبيعة اعتمادها على المواقع والمنصات، وتصنيف أعدائها وعملياتها الإرهابية وجرد تفصيلي دقيق بالكمائن. وقدم مساهمة توثيقية مفيدة للباحث العلمي وربما الأمني جردا بخصائص ومواصفات تسع عشر (19) كتيبة، شأن كتيبة أسد بن الفرات وكتيبة عقبة بن نافع كتيبة أبي أنس وأبي بكر الصديق وكتيبة الموقعين بالدم وكتيبة جنود التوحيد بتونس وكتيبة الخطاب بصفاقس وكتيبة الفرقان بسوسة وكتيبة كمال القضقاضي وكتيبة جند الخلافة وكتيبة حركة الشباب وكتيبة طارق ابن زياد وكتيبة "المتبايعون على الموت"، وهي أول من استخدم الأحزمة الناسفة في تونس، كتيبة البتار وهي أخطر التنظيمات وتشكل من أجنحة عديدة شعارها "بالذبح جئناكم" (ص 82).

وتطرق لخارطة الخلايا، مبرزا وظائفها المتنوعة، وهي متخصصة في نشاط محدد دون تداخل الاختصاصات، وهي مختلطة (ذكور وإناث) ومستقلة تنظيميا، وتنتشر في الجبال وفي معظم الجهات وفي معتمديات الولايات، وفي المدن مثل تونس الكبرى وأحيائها الشعبية (حي التضامن ودوار هيشر والبحر الأزرق). وبذل الحناشي جهدا في ضبط عينة منها ومن جغرافيتها، حيث تطور حجمها، وتمكنت أجهزة الأمن سنة 2015 من الكشف عن أكثر من 1300 خلية، وإلقاء القبض على 4912 من أعضائها. وأشار إلى معسكرات ومناطق التدريب، أكبرها معسكر الكاف القريبة من جبل ورغة، كما شكلت ليبيا ملاذا آمنا للسلفية التكفيرية العنيفة بإقامة المعسكرات ورحلات التدريب على السلاح في عدد من مناطقها، واستغلال حالة الاضطراب الشامل والأوضاع الأمنية المتردية.

اعتنى الكاتب في الفصل (4) بتدرج الجماعات السلفية نحو العنف والإرهاب، عبر الاختفاء وراء عنوان "سلميتها" وممارسة "خطاب الخديعة" (ص125)، حيث نفى أنصار الشريعة اعتمادهم العنف أسلوبا في التغيير ونشر عقائدهم، في حين كشف الواقع أن التيار السلفي العنيف سعى إلى بسط هيمنته وإغلاق الفضاء العام منذ أكتوبر 2011، مع هجوماته المكثفة على قناة نسمة والسفارة الأمريكية، وإلقاء الزجاجات الحارقة على المقار الحزبية ومقرات الاتحاد، ولم تسلم مؤسسات التعليم العالي من الاعتداء بدعاوى "متهافتة". وشكل المجتمع المدني والمهرجانات الفنية مسرحا لتهجماتهم، ولم يسلم من اعتداءاتهم لا النشطاء ولا الفنانون ولا رجال الفكر ولا السياسيون، مع إفساد الاجتماعات السياسية وبيوت العبادة وتدنيس وحرق الزوايا، واختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية. في الفصل (5) نظر الحناشي في طرائق الاستهداف والوسائل المعتمدة من قبل تيار السلفية التكفيرية في فرض أفكاره وإرساء مناخ العنف والإرهاب، وممارسة التصفية الجسدية؛ منها اغتيال قياديين بارزين ونائبين في المجلس التأسيسي شكري بلعيد، ومحمد البراهمي. وتوسلت أيضا بعمليات انتحارية ومواجهات مباشرة مع القوات الأمنية والعسكرية، ونصبت الحواجز الأمنية الوهمية والكمائن وتقنيات المباغتة واستعمال الألغام والعبوات الناسفة والذبح وقطع الرؤوس. تضمن الفصل جردا لسلسلة الكمائن والوقائع وجدولة بضحايا الألغام، وعرض نماذج من الهجمات الإرهابية شأن مهاجمة متحف باردو وحافلة الأمن الرئاسي، التي أدت إلى استشهاد عشرات الأمنيين والعسكريين.

خصص الفصل (6) للموارد المالية، فهذه الأنشطة الإرهابية والسلوكيات المتوحشة، وتجنيد مئات الشباب وامتدادها في جهات عديدة، تتطلب التمويلات، صنفها المؤلف أولا تمويلات ذاتية "بالتحايل" على أموال الزكاة والتبرعات "تلك الأموال تذهب لخدمة مشاريعهم غير الإنسانية" (ص146)، واستعمال غطاء العمل الخيري والدعوي لسلب الأموال والعطايا والصداقات. ثانيا الاحتطاب يعرفه بأنه مصطلح "ديني" مرادف للسلب الحلال، باستهداف البنوك والسطو وسرقة المنازل لتوفير السيولة المالية، لتنفيذ أنشطتهم الإرهابية وتمويل تسفير الشباب إلى بؤر الصراع. ثالثا التمويلات الخارجية، حيث تحصلت أكثر من (300) جمعية قريبة من التيار التكفيري على تمويلات أجنبية، من تنظيم "داعش" و"القاعدة" كشفتها (اللجنة التونسية للتحاليل المالية) (ص151). رابعا، يمثل التهريب أحد أهم مصادر تمويل الأنشطة الإرهابية والارتباط مع شبكات الجريمة المنظمة "متينة جدا" (ص152)، ويتنوع من تهريب البضائع إلى تهريب الأفراد والأموال وتهريب السلاح والأزياء الأمنية، ولم يعد خافيا الآن علاقاتها مع عالم المخدرات.

توقف الفصل (7) عند العمليات الإرهابية "النوعية"، وقام الحناشي بجرد ستة (6) نماذج من هذه العمليات، لتشريح العقل العملياتي الإرهابي، وكيف وأين يمارس عنفه، وثق هذه العمليات البشعة والدموية حتى تظل في الذاكرة الحية للناس، وتترك الضوء الأحمر يشتعل بأن مقاومة التطرف ممارسة يومية ويقظة مستمرة؛ ففي تاريخ المجتمعات أحداث مؤلمة ومحن وعذابات قدّت من جمرات اليومي، لا ينبغي أن تُنسى وأن يشتغل عليها، حتى لا تذوب وتنسحب من مسرح التفكير أو يلفها النسيان. حدد المؤلف في الفصل (8) تداعيات العمليات الإرهابية على الاقتصاد والسكان، متناولا باقتضاب شديد التداعيات على قطاع السياحة الذي يعد أحد ركائز الاقتصاد التونسي بما أنه يسهم بنسبة 7 % في الناتج الداخلي الخام، تراجعت العائدات المالية للخدمات الفندقية، وشملت التداعيات سكان القرى الجبلية وانحصار كبير للرعي والزرع وفرض عليهم النزوح من أراضيهم بعد تحويل آلاف الهكتارات منها إلى مناطق عسكرية.

اهتم الفصل (9) بحجم أنصار التنظيمات التكفيرية العنيفة وانتشارها الجغرافي، أولا الأفراد، وأورد أرقاما حول إيقاف وإيداع بالسجن والقضاء على الإرهابيين، ثانيا تفكيك عشرات الخلايا سنويا؛ فسنة 2015 تم الكشف عن 90 خلية تقريبا، وفي سنة 2016 160 خلية، وهي أرقام مزعجة تبين ضخامة تسلل الفكر التكفيري داخل جهات عديد وفئات اجتماعية مختلفة. ثالثا، ضبط المواصفات العامة للمتطرف العنيف أو ملامح الإرهابي بتقديم ثلاث عينات (ص172)، وهو عمل -على أهميته- يحتاج إلى مجموعات بحثية كبرى ومخابر، لهذا اقتصر اشتغال الباحث على المواصفات البيوغرافية لعينة من قيادات المتطرفين، حيث يمثل الكهول نسبة 38,88 %، والمستوى التعليمي يتركز في المرحلة الثانوية بنسبة 47,22 % ومتغير المهنة يتمحور حول العاطلين عن العمل بنسبة 19,44%، وتعد تونس العاصمة الانتماء الجغرافي الرئيس بنسبة 19,45 %.

اشتغل على ضبط مواصفات الإرهابيين في عينة (36) من قتلى عملية بنقردان، من خلال تحليل عام لمتغيرات الانتماء الجغرافي والسن، على الرغم من طبيعة العينة المحدودة، فإنها تشي ببعض المواصفات لمعرفة المقاتلين وهي معارف مفيدة لتحديد الهوية العامة كمعطيات تسهم في ضبط استراتيجيات تطويق الظاهرة وروادها؛ لأن هذه المعارف ليست مجرد معارف، وإنما هي معارف وظيفية لإدماجها في أية خطط وقائية مستقبلية. بينت أن التطرف العنيف تمكن من "التسلل إلى أغلب فئات المجتمع الميسورة والفقيرة، مثلما انتشر في أغلب مدن وقرى البلاد التونسية" (ص191)، وهي إشارة ذكية في أن التلازم السببي بين التطرف والهشاشة الاجتماعية غير دقيق أو أنه ترابط غير سببي، فالتطرف مس كافة الفئات الاجتماعية دون استثناء، وهو استنتاج يحتاج إلى اثباتات علمية وبمنهجية متعددة الاختصاصات حتى يتم الإقرار بأن هذه الظاهرة لا علاقة لها فعلا بالجذور الاجتماعية. ومع ذلك، مما لا شك فيه أن الدوافع الشخصية متباينة، والغايات مختلفة، فالمتطرف التكفيري من أصول ميسورة يبحث عن المغامرة والمجازفة وعن الاعتراف. أما المتطرف التكفيري من أصول اجتماعية هشة ومعوزة، فهو يبحث عن تجاوز حالة التهميش، وإثبات الذات وإيجاد دور اجتماعي وتحقيق منزلته.

عالج المؤلف في الفصل (10) ظاهرة المقاتلين التونسيين في سوريا ومسألة "تصدير" الإرهاب إلى بقاع جغرافية أو مناطق "مغناطيس الإرهاب"، يصفها بالظاهرة المعقدة نظرا للكثافة العددية والنوعية، إذ تولى العديد من الشباب التونسي التكفيري مسؤوليات قيادية في الكتائب القتالية أو أجهزة "الدولة الداعشية" وصعود نجمهم عند الحديث عن "شراستهم في القتال" (ص194). لا يمكن حصر العدد الحقيقي للمقاتلين لتناقض التقارير، وهي "الحقيقة الغائبة"، لكن الأكيد أنهم بضع آلاف، ممن التحقوا بجبهات الصراع تحت تأثير الدعاية الدينية المكثفة والزيارات المكوكية لعدد من "الدعاة" العرب وسيل الفتاوى المكتوبة والرقمية وتوظيف وسائل الاتصال والتواصل، ودور أئمة المنابر المسجدية والدعاة المحليين، وتكييف الوضع السوري باستغلال التعاطف الشعبي على أن "الحرب في سوريا ضد الإسلام" (ص 200). فضلا عن الفضائيات المحرضة على الالتحاق "بالجهاد" وتدعيم شبكات التسفير في مجمل حلقاتها وتبييض الأموال وضخ أموال للجمعيات (ص207).

من دون التغافل عن والأوضاع النفسية وحالات الاحباط والخيبات لدى الشباب بعد إزاحتهم من الحراك السياسي في تونس، وتحويل وجهة استحقاقات الثورة إلى مصالح حزبية وفئوية، مع حضور الأبعاد الدينية ومعاني التضحية والفداء. إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعوامل "التهميش الاجتماعي" في تعزيز التشدد والمغالاة، وتتالي الأزمات السياسية التي عاشتها تونس وتم تمثلها وكأنها إخفاق للثورة. عرض مجموعة جداول جزئية لعينتين من المقاتلين والمعتقلين، بالإشارة إلى الولاية ومنطقة الانتماء وتناول متغيرات السن والمستويات التعليمية، ليستنتج مجددا بأن الإرهاب في تونس تمدد في بيئات تتمتع بقدر كبير من الرخاء الاقتصادي وحتى "في عائلات ميسورة" (ص213). وخصص عنصرا كاملا للانتحاريين، وجدولة قائمة بالتونسيين الانتحاريين تضم الأسماء وطبيعة العمليات وتاريخها في العراق وسوريا وليبيا، وبين مواصفاتهم المشتركة بالاستناد إلى متغيرات السن والمستوى التعليمي والحالة الاجتماعية.

أشار الحناشي في الفصل (11) إلى دور المرأة التونسية في التنظيمات السلفية التكفيرية المقاتلة، أو ما أطلق عليه "تأنيث الجهاد"، تكثفت أعداد الفتيات الملتحقات بالتيار السلفي نتاج مسوغات "شرعية"، وأنه في سياقات انتشار "الكفر" والدفاع عن "الدين" صار "الجهاد فرض عين وليس فرض كفاية" بالإحالة إلى كتاب "يوسف العييري"، وهو أحد منظري تنظيم القاعدة، ولا توجد إحصائيات دقيقة حول التونسيات، لكن حسب تقدير الحناشي بالاستناد إلى تصريحات رسمية بأنهن بضع مئات. لم تقتصر أنشطة الفتيات على الخدمات العامة وإنما شاركن في القتال وفي العملية الإرهابية بمنطقة بولعابة وولاية المنستير، وشكلت عدة خلايا تابعة لكتيبة عقبة بن نافع وكتيبة الفرقان وغيرها. حلل العوامل المشجعة على الاستقطاب النسائي، وحددها في ثلاثة عشر عاملا (13) تراوح بين المحيط الأسري والفضاءات العامة والخيمات الدعوية والشبكات الاجتماعية والفضائيات وصولا إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية. وضبط المواصفات العامة لعينة من عشر (10) منخرطات في الأنشطة التكفيرية العنيفة، يذكرهن بالاسم والسن والمهنة ومناطق الانتماء. وأنهن مارسن مختلف الأنشطة الاجتماعية والقتالية والتحريضية والإعلامية، وتحملن مسؤوليات متقدمة في تنظيم "أنصار الشريعة" شأن "فاطمة الزواغي" المسؤولة عن الجناح الإعلامي، أو "أم المهاجر" التي تولت الإشراف عن كتيبة الخنساء بدولة داعش. ليثير قضيتين دون الجزم بحقيقتها أو تبعاتها، وهي وضعية الأرامل والسجينات التونسيات في بؤر التوتر وحوادث "جهاد النكاح".

طرح الفصل (12) ظاهرة المهاجرين المغاربة في التنظيمات السلفية التكفيرية المقاتلة، حيث بايع مهاجرون مغاربة في بلجيكيا تنظيم "القاعدة" وابن لادن عبر رسالة منذ سنة 1996، ونفذوا عمليات إرهابية عديدة منها تفجيرات قطارات مدريد سنة 2004، كما أن المغاربة الحاملين للجنسية الفرنسية هم الأكثر حضورا في حروب البوسنة. قدم الحناشي عرضا عاما حول عدد المقاتلين الذين التحقوا بالصراع في سوريا بالأرقام والنسب في (فرنسا - هولاندا - بلجيكيا - إسبانيا)، ثم سعى إلى تصنيف العوامل الميسرة لانخراط شبان مهاجرين في التنظيمات الإرهابية، وأنها ردود فعل على الإجراءات "المسيئة للمسلمين" ونشر الصور المشينة للرسول (ص251)، والإحساس بالتهميش وتنامي مشاعر الإسلاموفوبيا، وازدياد نزوعات العنصرية والتمييز في الشغل، فضلا عن العوامل الذاتية والثقافية، وتنامي سؤال الهوية خاصة لدى الجيل الثاني والجيل الثالث. وأشار إلى دور وسائل الاتصال الحديثة ودورها في عمليات استقطاب الشباب و"التجنيد الإلكتروني" (ص254)، والمساجد والأئمة والمدارس، ذاكرا أن (98) مسجدا يسيطر عليها المتشددين (ص254)، إضافة إلى دور المؤسسة السجنية في استقطاب النزلاء والجمعيات ومنظمات الإغاثة الإسلامية، والسرديات والصور الجاذبة التي انتشرت في الشبكات الاجتماعية، وأن المعركة في سوريا من أجل إعادة بناء دولة الخلافة. استعرض مواصفات عينة من المقاتلين والمعتقلين من التنظيمات التكفيرية العنيفة، مميزا بين ثلاثة أصناف، الشباب المتحمس غير مؤدلج، وشباب تأثر في السجن والاعتقال، وصنف ثالث مؤمن بالعنف المسلح، من حيث السّن أغلبهم من الشباب المراهق، وأن متغير النوع مهم؛ فهناك قرابة 15% من النساء، نفذن هجمات إرهابية عديدة، ولمح إلى ظاهرة الأشقاء وجرد لقائمة، مثل الأخوين كواشي والأخوين أباعود، حيث تسهم الروابط الأسرية في نسج الخلايا.

تناول الفصل (13) عناصر السلفية العنيفة العائدين من بؤر الصراعات، التي يضبطها ما بين (2014-2018) قرابة 5600 ينتمون إلى 33 بلدا، لهذا أثارت حوارات كبرى وفي وسائل الإعلام والخطاب السياسي، وتباينت الآراء في طرق التعاطي معهم، وهو الأمر الذي حصل في تونس كغيرها من البلدان. تم إيداع قرابة (900) من العائدين في السجون (ص269)، صنفهم حسب أنماط الالتحاق بساحات الحرب، وطبيعة الانخراط وأشكاله ما بين "الماضي القنالي" (ص270) وممارسة العنف أو تقديم خدمات. أثيرت قضية العودة من بؤر التوتر في مناسبتين، عند تقديم مقترح قانون التوبة من قبل رئيس الدولة، وتحدث رئيس حركة النهضة عن قانون الرحمة، والمناسبة الثانية قبول العودة مع أخذ الإجراءات الأمنية والسياسية. وبين أن معرفة أسباب العودة ومساءلتها مهمة في التعامل مع العائدين، هل كانت "نتيجة خيبة أم مراجعة أم إحباط أو التخلي عن الأهداف التي قادتهم للانخراط أم نتيجة الهزيمة؟" (ص 270)، دار جدل كبير بين موقفين، موقف القبول الذي يجعل العودة مشروطة بالاحترازات والاحتياطات الأمنية والقضائية وإحداث مؤسسات تأهيل وإصلاح. أما الموقف الرافض متخوف من نقل العنف والإرهاب إلى داخل البلاد وضرورة الحفاظ على "النقاء الفكري والمجتمعي" (ص272). وعرض بصفة اجمالية برنامج الحكومة التونسية المتمحور حول أربعة مرتكزات، وهي الوقاية والحماية والتتبع والرد، وأشار إلى أزمة النساء والأطفال الموجودين في سجون عربية عديدة، والذي لم يول الاهتمام اللازم حتى من المنظمات الحقوقية، مقترحا توفير مراكز تأهيل ورعاية تسهم في استيعابهم وإدماجهم، ويختتم الفصل بتوقع تصاعد موجات العنف بعد عودة الإرهابيين وصعود اليمين المتطرف.

انتهى المؤلف في الخاتمة العامة إلى تأكيد أن الظاهرة عالمية، لهذا يبدو جليا دور التوجهات الدولية، ويرسم صورة مغايرة تماما على أن الظاهرة التكفيرية في تونس، تختلف عن بقية المجموعات السلفية العنيفة، بعدم وجود منظرين أو "مشرعين" حسب عبارته (ص280) ووجود كمي ونوعي للمرأة السلفية الناشطة، وعدم استهداف المحلات والفضاءات التجارية الكبرى ولم يستعمل السيارات المفخخة. ويختم بفرضية غير دقيقة من أن السلفية العنيفة انتشرت سريعا في أغلب المدن والقرى التونسية، وكأنه يبدو أن المجتمع له قابلية للتطرف أو "ذهنية قابلة للتطرف" (ص282).

أدرج الحناشي (9) ملاحق تتوزع بين جدولين؛ جدول (1) خُصص إلى أبرز العمليات الإرهابية (2011-2020)، وجدول (2) للأسلحة المحجوزة (2012-2016)، و(7) وثائق أهمها نص للشيخ أبي جعفر الحطاب حول أحكام الهجرة والجهاد عند المرأة، وبيان شيوخ السلفية دفاعا عن "أنصار الشريعة"، ووثيقة مسار إرهابي ووثيقة كيف تم استقطاب تلميذ، وهي ليست مجرد وثائق توضيحية، بل هي إشارات "مؤرخ" يشتغل كما بينا على تفاصيل الحدث وجزئيات الوقائع وهوامش الدالة في المايحدث. وتضمنت الفهارس (5) عناوين حول الأعلام والجماعات/ البلدان والأماكن/ أحزاب وهيئات ومنظمات/ القوانين والمواثيق/ الوظائف.

القسم النقدي لمضمون ومنهجية الكتاب:

هذا المؤلف كما ذكرنا "كتاب مقاوم" يسهم الباحث عبر تصنيف فصوله في إزاحة غموض التيار التكفيري العنيف في تونس، و"يفضح" ممارساته الإرهابية وموارده الخطابية والهيكلية، بالاعتماد أساسا على المعطيات المعلنة في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية والبيانات الرسمية. أضفى على المادة المتوفرة والمتناثرة قالبا منظما وممنهجا عبر جهد "توثيقي" في الترتيب والجدولة والإحالة إلى الهوامش المكثفة. إلا أننا نورد بعض المآخذ العامة، نشير إلى الفرضية التي طرحها الحناشي "هل الشعب التونسي مسالم أو عنيف؟"، وهي فرضية غير دقيقة بما أن العنف ظاهرة اجتماعية لا ترتبط بالشعوب أو بشخصيتها القاعدية، وإنما يتأثر بالسياقات الاجتماعية والسياسية ويتخذ أشكالا مؤدلجة أو مقدسة أو طائفية أو اجتماعية، وكل مرحلة تاريخية تفرز "عنفها" و"حروبها"، وهو ما بينته الدراسات الأنثربولوجية[1] والمقاربات السوسيولوجية من أن العنف ظاهرة إنسانية عامة لا يختص بها بلد دون آخر، وأكدت عليه حنا آرندت من أن المنعرجات التاريخية تتسم بانبثاق الحروب وتنامي العنف في أشكال متعددة.

وهو ما ينسحب أيضا على وسم/ وصم سلوك السباب التونسي المقاتل في سوريا "بالتوحش"، فبأي معيار أو قاعدة تم هذا التصنيف؟ فهل "التوحش" طبع خاص مرتبط بالانتماءات الجغرافية، وهو ما فندته البحوث الأنثربولوجية، حيث حُيدت هذه الفرضيات مع تجاوز الفرضيات النظرية لكل من روسو وهوبز، فالإنسان لا طيب بطبعه ولا متوحش / شرير بطبعه، وإنما ابن سياقه التاريخي والاجتماعي. وهو ما لاحظنا تكراره في خاتمة الكتاب من أن المجتمع التونسي لديه "ذهنية قابلية التطرف"، وهي أيضا من بين "الفرضيات" غير المؤسسة، تعود إلى افتقار الإطار النظري إلى التنوع والتعدد. اقتصر على بعض التعريفات اللغوية والاصطلاحية لمفاهيم التطرف والإرهاب والسلفية، كان بالإمكان النظر في العديد من التعريفات بما يمنح المتن عمقا نظريا مقارنا، ويعزز ثراء التمييز المفهومي بين العنف والتطرف، وبين التطرف والتطرف العنف، وبين التكفيرية والتكفيرية العنيفة.

اعتمد الكاتب منهجية توصيفية ومعلوماتية في الدرجة الأولى من التحليل، بينما عديد النقاط النظرية في حاجة إلى توضيح، مثل صلات السلفية التكفيرية العنيفة بمفهوم "الجهاد" فقهيا وتاريخيا، والدراسات عديدة في مجال "التطرف" في الحقل الإسلامي (جيل كيبال - أوليفييه لوروا - المدارس الأنغلوسكسونية - دراسات الهيئات الدولية..) كان من الممكن أن يثري المبحث المفاهيمي والنظري ولا يقتصر على شذرات تعريفية. أشار باقتضاب إلى الانشقاقات التي تمت داخل الإسلام السياسي، وكان من المفيد التعرض إلى مبرراتها الفكرية والتنظيمية، وعدم اختزال التيارات السلفية العنيفة وفق تصنيفات عامة، بينما تنضوي تحتها مدارس واتجاهات مختلفة، وحتى تناوله لتطور الظاهرة السلفية في تونس كان مجتزأ، سادتها فراغات تاريخية كبيرة، أفقدها تسلسها الزمني. لئن وضح العلاقة المترنحة بين النهضة وأنصار الشريعة في مستوى القيادات، كان من الممكن تحليل صلات القواعد والأنصار في "نزوحهم" من هذا الطرف إلى الطرف الآخر، وفهم هذه الهجرات الفردية التي تعبر عن تمايز "فكري" عميق بين القيادات وتسلف القاعدة حسب عبارات حسام تمام، وهي نقاط بسيطة لكنها مساعدة على الفهم الدقيق للمعابر والأنفاق التي تربط بين هذه التنظيمات، فهل هي فكرية أم تنظيمية أم شخصية؟

شخص أنشطة التيار السلفي التكفيري وطبيعة تسللهم إلى الحياة الاجتماعية بتقديم الخدمات واكتساحهم المساحات الفارغة، هذا الانتشار الأفقي، يتطلب تحليل مسوغاته السوسيولوجية ومبرراته السياسية والقيمية والثقافية. على الرغم من الجهد المبذول في كشف تشكيلات التنظيمات العنيفة وخفاياها، ورصد قوائم الكتائب وخارطة الخلايا، لم يتطرق المؤلف إلى خلفياتها النظرية وطبيعة عقائدها وآرائها الفقهية ورؤيتها للعالم والمقدس والقيم، وطرائق تعاطيها مع الموروث نصوصا وسلوكيات. كان من المجدي تحليل دلالات أو استراتيجيات تسمية الكتائب والخلايا، وكشف صلاتها بتنظيم "أنصار الشريعة" أو غيره من التنظيمات، وخاصة تأكيد البعد المغاربي بين التنظيمات التكفيرية. انساق في اختزال مهامها في "بث الفوضى في البلاد" (ص59)، وهو توصيف يجب استنطاقه؛ لأن عدم تدقيق أهداف الإرهاب/ العدو يحول دون ضبط خطط دقيقة في مواجهته.

وهو ما يظهر في تصنيفها الهيكلي إلى أجنحة ثلاثة فحسب، والاعتقاد السائد أن هذه التنظيمات أكثر تعقيدا، فبقدر أفكارها البسيطة تتعقد هياكلها مستفيدة من خبرات عقود في العمل السري والتنظيمي لتحصين مؤسساتها وتأمين استمراريتها. خلال عرض قائمة المواجهات المسلحة والعمليات الإرهابية التي تصدت لها الأجهزة الأمنية، كان من الوجيه إبراز أن الخيار الأمني -على أهميته- يحتاج إلى مرافقة ثقافية تشمل الحث على المراجعات والنقد الذاتي مع تنوير ديني يقطع الروافد النظرية التي تغذي ظاهرة التطرف العنيف وتقطع جذور نموها وانتشارها، وأن التصدي للإرهاب ينفذ بالتوازي مع هجوم مضاد/ فكري وقيمي، يظهر تهافت خطابه وهشاشة قاعدته العقائدية والإيمانية.

أكد الكاتب في مجال التمويلات أفكار متداولة، وهي فرضيات تحتاج إلى إثباتات من جهات مالية (الفصل 6). ولم يتعمق في تحليل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف العنيف (الفصل 8)، تم ذكر أن من بين أسباب انتشار التنظيمات التكفيرية العنيفة التقنيات الاتصالية الجديدة والشبكات الاجتماعية، ونظرا لأهمية "التجنيد الإلكتروني" وأثره، كان من الوجيه تخصيصه بفصل مستقل.

نسوق في الختام ملاحظة منهجية حول العينات والإحصائيات التي تضمنها الكتاب بأنها عينات تقريبية تقدم صورة عامة، لا يمكن اعتبارها مقاربة علمية دقيقة؛ لأن الباحث لم يوضح لنا سبب اختيار هذه العينات دون غيرها، لا ننكر أن الجداول ومواصفات العينات على محدوديتها مفيدة في منحى التدقيق، إلا أنه لا يمكن تعميم استنتاجاتها، فهي لا تقدم صورة علمية متكاملة تتسم بالصدقية والاتساق. فضلا على أن كثافة الاحصائيات والنسب ربما تفيد في صياغة تقرير حول حالة التطرف العنيف، بينما كتاب في "تاريخية" الظاهرة وبنيتها وخطابها وتداعياتها وآثارها المباشرة وغير المباشرة. وعلى الرغم من موضوعية الوقائع والمعطيات التي ذكرها كان من المجدي استغلال مقابلات فردية أو التاريخ الفردي (السرديات) لفهم التنظيمات التكفيرية من داخلها أو من كان من أنصارهم وقام بمراجعات ونقد ذاتي، حتى تكون المعلومة ليست وقائع فحسب، بل معاني ودلالات ذاتية من داخل التجربة. قد تكون للحناشي "خصوصية" في تحليل الراهن وتعلق بالحدث الخام والأحداث في زخمها الوقائعي، لكن المؤرخ يغوص عميقا في الحدث والوقائع، ولا يقتصر على الطابع الإخباري، بل ينزل مقاربته وتحليله في إطار المدرسة الخلدونية، حيث علمنا ابن خلدون أن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق.

[1] Yves, Michaud, La violence, PUF, Paris, 2012