قراءة نقدية في كتاب "التأويل الحداثي للتراث" لإبراهيم بن عمر السكران


فئة :  قراءات في كتب

قراءة نقدية في كتاب "التأويل الحداثي للتراث" لإبراهيم بن عمر السكران

قراءة نقدية في كتاب "التأويل الحداثي للتراث" لإبراهيم بن عمر السكران

عتبة

إن للتراث أهمية كبرى ستجعله في تقديرنا، قابلا لتعدد القراءات واسترسالها؛ وذلك لأنه حافل بالدقائق والمعاني وأمهات النصوص الغنية بقدرتها على تفجير قرائح القارئين والمجتهدين والمؤولين. ورغم هذا، فقد تجد بين عموم الدارسين ممن يتوهم أنه في التراث قد قيل كل شيء، وأن أمره أضحى مشاعا مكشوفا بدليل مئات الدراسات المتراكمة، بل تجد أيضا من تحذوه الرغبة في أن يقول جهرا أو رمزا أنه آخر القارئين، ليقطع الطريق على متابعة القراءة والنقد والتأويل، وهذا لعمري تنطع وغياب امتلاك طول نفس في القراءة، وتقزيم لحاسة النقد والسجال التي هي السماد الذي تتغذى منه الثقافة عموما.

هذا وتعتبر محاولة إبراهيم بن عمر السكران من خلال مؤلفه "التأويل الحداثي للتراث"، محاولة شاهقة؛ لأنها وقفت عند ركام من الدراسات التراثية يعتبرها صاحبنا عائبة ومجرد تراكم سلبي تجاه تراث نافع سيئ فهمه وسيئت قراءته، بناء على تصورات استشراقية مغالية في التمركز حول الذات ومغالية أيضا في النظر للآخر على أنه مجرد منتج للثقافة من الدرجة الثانية. وبالطبع نثمن ما أشار إليه السكران، فبناء على نقد آليتي التوفيد والتسييس التي استند عليها الحداثيون، تمكن من كشف جزء لابأس به من الفجوات والثغرات ومجمل البياضات التي تحملها.

بعد الاطلاع على الكتاب، ومن باب أن المعرفة هي نتاج العقل السجالي وليس المعماري، سجلنا بعض نقط الاختلاف مع صاحبنا استنادا على ما اعتبره قطب الرحى في مؤلفه هو نقد التوفيد والتسييس متبعين النهج الآتي:

ـ نقد تعميم القول في الاستشراق

ـ نقد نقـد القول في التوفـيد

ـ نقد نقـد القول في التسـييـس

ـ متفرقات

ـ حتى لا نختم

*- نقد تعميم القول في الاستشراق

من المخاطر التي تصيب البحث العلمي في مقتل هو تعميم القول في الأشياء وعدم ترك مساحات للاستثناء أو المرونة؛ لأن كل إنتاج إنساني هو في الأصل إنتاج موسوم بالنسبية وبالمنطق القرآني يمكن أن نستحضر الآية الكريمة "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (سورة النساء الآية). والتعميم هو خطأ منهجي وعيب في القراءة يفضي بصاحبه إلى التهافت وعنف التلفيق، وربما بحث السكران أصابه جزء من هذا الخلل، فعندما يتحدث صاحبنا عن المستشرقين يضعهم جميعا في سلة واحدة، دون أدنى تمييز أو تفاضل وكأن كل أبحاثهم من نفس الوادي أو الذهنية. فالأكيد أن منهم من كانت مؤلفاته أم الفواحش وبضاعته مزجاة، لكن هناك من كانت له أفضال في إضاءة التراث وجعله يحظى بالقبول والاعتراف، وعلى سبيل المثال لا الحصر يكفي أن نورد الأسماء الآتية:

- لوي ماسينيون، هو مستشرق ارتبط اسمه بالحلاج وتراثه الصوفي طيلة خمسة عشرة عاما، وترجم هذا الاهتمام بكتاب مهم هو "آلام الحلاج"، يقول عنه عبد الرحمان بدوي: "ميزة ماسينيون سعة الاطلاع وعمق النظر وإلمام كبير باللغة إلى جانب رحلاته المتعددة وصلاته المتصلة بالمؤسسات العلمية الاسلامية..". هذا وقد توفي ماسينون في ستينيات القرن الماضي وفي فمه آيات قرآنية هي نفسها الآيات التي تلفظ بها الحلاج منها: "قل لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا" (سورة الجن الآية 22).

- ماكسيم رودنسون، لم يمارس الاستشراق بمعانيه التقليدية، ولم يهتم بالشرق من أجل اختزاله في تفاصيل دونية، بل اهتم بالشرق كشعوب وثقافات تقوم في التاريخ وتحيا فيه. يقول ماكسيم: "ممارسة الاستشراق يجب أن تكون تكريسا لتقليد تعارف الثقافات بين الشعوب كما فعل المسلمون كالمسعودي والبيروني وابن بطوطة"[1]. هذا وقد توج رودنسون مساره العلمي بكتب أهمها: جاذبية الإسلام ـ محمد ـ الاسلام سياسة وعقيدة ...

- سلفستر دي ساسي، ارتبط اسمه بابن خلدون، فبعد ان بقي هذا الاخير شبه منسي قرابة ستة قرون كمؤرخ وفقيه مالكي، "انتشله شيخ المستشرقين الفرنسيين سنة 1806 من نسيان مديد وقربه للقارئ، وهذا كله سيراكم الدراسات الغربية حول ابن خلدون كباحث فذ واستثنائي وراسم لأول فلسفة التاريخ عرفها الفكر الانساني حسب شهادة بروكلمان"[2].

*- نقد نقـد القول بالتوفيد

الثابت أن الحديث عن التراث يتم بصيغة الجمع لا بصيغة التجزئ، والتراث كما يضم العلوم الشرعية يضم أيضا ما يسمى بالعلوم العقلية من فيزياء وفلك وطب وكيمياء ورياضيات وفلسفة وغيرها ..، لكن إبراهيم بن عمر السكران يختزل التراث في جزء العلوم الشرعية، ويدافع ضد فكرة كونها وافدة من حضارات أخرى ..قد نتفق مع السكران في هذا المعطى، لكن بماذا نفسر تأسيس المأمون لبيت الحكمة سنة 215 هجرية؟ ألم تكن مهمته الإشراف على ترجمة كل ما يصل إلى أيدي المسلمين من تراث الأمم السابقة خاصة إنتاجات بلاد اليونان الفكرية؟ فعن طريق الترجمة استدمج المسلمون بقية العلوم وطوروها حتى صارت جزءا من تراثهم.

*- نقد نقـد القول بالتسييس

من يضع يده في العجين التاريخي ويستقرئ تاريخ الأمم والشعوب، يدرك أنه ما من دولة تأسست إلا عبر وجود مجموعة من المؤسسات منها الجيش والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وغيرها، لكن الجهاز الأكثر تأثيرا هو ما يمكن أن نسميه الجهاز الإيديولوجي، الذي يرسم للدولة خريطة طريقها وهو المسؤول عن نشر نوع الإيديولوجية وطبيعة الثقافة والدين الذي تريده الدولة أن يسري داخل أوصالها. لذا فمن الطبيعي جدا أن تربط الدولة قنوات الدفء والحميمية مع نخب معينة تعينها في حمل ثقل مسؤولياتها، مقابل أن ينتعش فكر وتوجه تلك النخب، وهذا ما حدث مع زمن بني أمية أو زمن بني العباس، سواء زمن المأمون والمعتصم أو الواثق أو حتى زمن المتوكل. فإذا كان السكران اعتبر أن إنتاجات أهل السلف لم تخضع لتوجيه سياسي، فهذه رؤية عائبة لبنيوية إنتاج الخطاب الثقافي. والشاهد عندنا أنه في زمن المتوكل (232ـــ247)، لما وعى الخليفة بعودة تأييد أهل السنة وانتشار قوتهم، قلب موازين القوى السياسية وأقدم على هدم ضريح الإمام الحسين بكربلاء، وأصدر مرسوما بتحريم علم الكلام، إذ يقول المسعودي: "فأمر بترك النظر ومباحثه في الجدال، وترك ما كان عليه الناس أيام المعتصم والواثق والمأمون وأمر الناس بالتسليم والتقليد، كما أمر الشيوخ بإظهار السنة والجماعة ''[3]. وهذا يظهر أن أجواء السياسة مليئة بالدسائس والانقلابات والتآمر، وأهل الحكم التشريعي والروحي يتواطؤون مع السلطة السياسية المركزية..

*- متــــفـــرقــــات

ـ التراكم السلبي

إن الكتاب الذي قدمه السكران هو كتاب حول انحصار القول في التراث وتكريس للتراكم السلبي، على اعتبار أن ما أشار إليه من نقد هو متواجد سلفا منذ الغزالي وابن تيمية وصولا إلى مالك بن نبي وأبي يعروب المرزوقي وطه عبد الرحمان وحتى جورج طرابيشي المختص في نقد الجابري..؛ بمعنى أن السكران تنافس مع سابقيه في نقاد الحداثة دون أن يقدم لنا بدائل لكيفية قراءة هذا التراث، بل أبعد من ذلك وصل معه النقد إلى درجة من السخف يخجل منها حتى المهرج نفسه، خاصة عندما يقحم كاتبا كعبد المجيد الشرفي ويعتبره حداثيا وناقدا للتراث، فهل كل من تنطع خطوة أو خطوتين داخل التراث نسميه باحثا ونسحبه نحو بوتقة النقد؟

ـ تضخيم محنة أحمد ابن حنبل

خصص السكران في مؤلفه "التأويل الحداثي للتراث" حيزا كبيرا لمحنة ابن حنبل، حتى يخيل إليك أن المقصود في الكتاب هو سيرة أحمد، وليس الوقوف عند تأويلات الحداثيين، فتارة يتحدث عن ظروف الاعتقال وتارة يتحدث عن عدد الضربات بالسوط التي تلقاها، وتارة أخرى يقف عند حادثة سقوط السروال وتارة يسهم بحماس في نقاش هل أغمي عليه رحمه الله أثناء التعذيب أم لا وهكذا....، السكران يورد هذه الأشياء بعد أن انتهى من تفصيل الكلام حول الشيعة وتهويلهم لمأساة الحسين، ليخلص أن كلامهم فيه مبالغة؛ فشهيد كربلاء لم يكن نبيا، بل هو حفيد نبي وكفى. لكن لم يلبت السكران أن تبنى منهجهم وتسلح بلغتهم الجنائزية في الدفاع عن ابن حنبل والتعريف بقضيته، علما أن كتب التاريخ لم تسجل أنه رحمه الله، قد وافته المنية أثناء التعذيب أو قطعت أطرافه أو صلب أو مس جسده الشريف النار أثناء التعذيب. لكن هل ما تعرض له ابن حنبل هو نفسه ما تعرض له المعبد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي زمن الخلافة الأموية في مسألة ما اشتهر "بالحرية والإرادة"، حين قتل الحجاج بن يوسف الثقافي الأول وتكلف هشام بن مروان بقتل الثاني وقطع جثته وحرقها؟ ولغرابة الصدفة، فقد كان حينها الإطار الإيديولوجي للدولة الأموية هو لإسلام السني ..هذا دون أن ننسى حادثة قتل الخليفة أبو جعفر المنصور لعبد الله ابن المقفع بشكل رهيب سنة 756 أو قتل الحلاج في زمن المقتدر بالله سنة 920 م، ثم السهروردي قتيل صلاح الدين الأيوبي.....وسنوقف الحديث عن القتلى، رحمهم الله، حتى لا نتهم بالسادية ولكن هنا نشير لهذه الأحداث المؤلمة لنؤكد أن السكران بالغ في تضخيم محنة ابن حنبل..

ـ النـزعة المشـرقية والعـداء المغاربي

المهتم بالثقافة والباحث في التاريخ سواء القريب أو البعيد منه، يدرك تعالي أهل الشرق على المغاربيين ومحاولة إثبات في كل مناسبة أن كعبهم في الثقافة عال عن سواهم، والشاهد عندنا قصة طريفة للصاحب ابن عباد الوزير البويهي، عندما رأى نسخة من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه واندهش من عمق الكتاب قال: هده بضاعتنا ردت إلينا. وبنفس الطريقة تحدث طه حسين ومحمود إسماعيل عن ابن خلدون، ليقرا أن ما كتبه هذا الأخير إنما هو مقتبس من عند إخوان الصفا ويضيفان أن قريحة العلامة الفكرية لم تتفتق إلا بعد الإقامة في مصر. بنفس النهج جيش السكران معول نقده ووجهه نحو فهمي جدعان فقط؛ لأنه نوه بأبحاث محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وبعد ذلك خصص ناقدنا مساحة من عمله للجابري بلغة تقريرية لا تتوخى أدنى درجات الحذر الإبستمولوجي، حيث:

* اعتبر الجابري علمانيا، في حين أن الجابري يطرح العقلانية والديمقراطية عوض العلمانية، وهنا يكفي العودة لمؤلفه "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" للتدليل على ذلك.

* يصف الجابري بالماركسي، دون أن يكلف نفسه عناء وصف أي ماركسية ينتمي إليها فيلسوفنا، هل

هي الماركسية الثورية أم الماركسية العلمية أم تيار ما بعد الماركسية؟ ثم يقول عن الجابري الشيء

ونقيضه "صعوبة تخلصه من نزعته الماركسية" (...) "الجابري ليس ماركسيا متخشبا"[4].

* يقول عن الجابري أنه كان ماركسيا في قراءة التراث، في حين أن عدة باحثنا كانت متعددة واستنادا على مقاربات متنوعة، منها ما هو إبستمولوجي إذ استقطب مفاهيمه من عند غاستون باشلار كمفهومي القطيعة والعائق الإبستمولوجيين، إضافة إلى المنهج البنيوي. لذا فغالبية المهتمين بأعمال الجابري يصفون منهجه بالمنهج النسقي ذي النزعة التركيبية (البعد التاريخي /البعد التأويلي..)

* ينفي عن الجابري تحيزه الإيديولوجي وكأن الكتابة يمكن أن تتم دون تحيز أو كأن السكران نفسه كتب بحياد موضوعي ودون أن تنكشف سلفيته، وفي هذا الباب يكفي العودة لدعوة عبد الوهاب المسيري لندرك أن عدم التحيز مجرد وهم.

* يعيب عن الجابري انفتاحه على كتابات المستشرقين من خلال وسائط وترجمات لعبد الرحمان بدوي، رغم أن الثابت عند الجابري إتقانه لأكثر من لغة، لكن الثابت الحقيقي عندنا نحن، هو أن السكران لم يقرأ حتى محمد أركون ولا غيره من الفرنكفونيين العرب، إلا عبر ترجمات هاشم صالح.

حتى لا نخـــتم

ليس سهلا الانتهاء من كتاب إبراهيم بن عمر السكران فهو مليء بالتفاصيل التي يصعب الحسم فيها، وما سقناه إن هو إلا من باب ما قل ودل، توخينا من خلالها الانفتاح على مؤلفه وإثراء الحوار حول التراث وحول قرائه وحول الأمور التي لم يفصح عنها المؤلف، وأيضا حول الأمور التي بالغ في الكشف عنها، ومؤكدين على أهمية ما أشار إليه السكران، حتى تزال الحواجز بين التراث والاستشراق والتاريخ والعلوم الإنسانية والفلسفة، من أجل الإقلاع بالتراث نحو الوجهة العلمية المطلوبة.

[1]- سالم حميش، معهم حيث هم، بيت الحكمة الدار البيضاء 1988، ص 182

[2]- سالم حميش، التراكم السلبي، إفريقيا الشرق، 2001، ص 17

[3]- المسعودي، مروج الذهب، دار الكتاب اللبناني بيروت 1982، المجلد الثاني، ص 46

[4]- ص 79