قيم النظرية السياسية: العدالة في الإسلام عند جمال الدين الأفغاني أنموذجًا


فئة :  مقالات

قيم النظرية السياسية: العدالة في الإسلام عند جمال الدين الأفغاني أنموذجًا

مقدمة:

لا يوجد شعب عبر التاريخ، إلا اجتاحته في وقت من الزمن موجة عنف، وفي هذه الظروف تختلط الموازين، فيصبح كل واحد من أطراف الصراع يدافع عن طرحه معتقدًا أنه صاحب الحق، و يحاول الطرف الآخر أن يدافع عن طرحه هو الآخر، و كلهم رافع شعار العدل و راية العدالة الاجتماعية.

ولا تطرح مسألة العدل والعدالة في عالم الحيوان الذي تسوده شريعة الغاب مطلقًا. أما المجتمع الإنساني والإنسان، فإنه يطرح مسألة العدالة ويطالب بالعدل والإنصاف، وقد أقدم على وضع قوانين للعدالة منذ القدم وقبل نزول الرسالات السماوية. أما الأديان، فقد وضعت قواعد للعدالة وأقامت الحدود، والإسلام باعتباره آخر الرسائل السماوية، فقد أتى بتشريعات مفصلة وقوانين شاملة لتنظيم الإنسان على أساس العدل.إذ إن أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل اكثر مما تستقيم مع الظلم، وذلك لأن العدل كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة؛ فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له والتعدي عليه في حقه، وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث، فهي قد تظلم من لا يظلمها وتؤثر هذه الشهوات وإن لم يفعلها غيرها".[1]

المجتمع الإنساني والإنسان، فإنه يطرح مسألة العدالة ويطالب بالعدل والإنصاف، وقد أقدم على وضع قوانين للعدالة منذ القدم وقبل نزول الرسالات السماوية

هذا العدل أو هذه العدالة، تهتم بحقوق الناس وبالمساواة بينهم وإنصافهم. وقد بين الدين الإسلامي ذلك في أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من عالم، وسنعالج هنا العدالة في الدين الإسلامي، ثم عند جمال الدين الأفغاني؛ فهذا الأخير تحدث عن العدالة أكثر من الحرية، وهذه مسألة تقليدية في الإسلام، فيقول في هذا الصدد: "العدل قوام المجتمع الإنساني وبه حياة الأمم، و كل قوة لا للعدل تخضع فمصيرها إلى الزوال".[2]

وعليه، سيدور البحث حول الإشكالية التالية:

كيف عالج الإسلام مسألة العدالة؟ وكيف تناولها الأفغاني؟

محاور البحث:

أولاً: أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام.

ثانيًا: وسائل العدالة الاجتماعية في الإسلام.

ثالثًا: العدالة عند جمال الدين الأفغاني.

أولاً: أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام

1-معنى العدالة:

لا معنى للعدالة خارج إطار المجتمع الإنساني والتجمعات البشرية، من هنا تسميتها بالعدالة الاجتماعية، و هي ضمن هذا الإطار ووفق قوانينه المرعية، تعني: الاحترام الدقيق لحقوق الإنسان، وإعطاء كل ذي حق من الناس حقه.[3]

فعندما تكون حقوق الجميع محفوظة، وتكون العدالة قائمة، وعندما يقوم كل إنسان بواجباته تجاه الآخرين، فتصير جميع الحقوق محفوظة. ولا يرتفع صوت العدالة إلا عندما تضيع الحقوق أو تغتصب، فيكون ذلك الصوت مطلبًا مرفوعًا في وجه الظلم والتعدي والاستغلال الناتج عن الميول الأنانية، فتظهر العدالة صارخة، لتضع حدًا لتلك الميول ولتعطي لكل إنسان حقه.

تهتم هذه العدالة بحقوق الناس، وبالمساواة بينهم وإنصافهم، وترتكز على أساس رياضي وتنبني بمصطلحات رياضية قوامها التساوي والاستقامة. وهذه المصطلحات هي نفسها التي تستعمل للتدليل على سلوك الإنسان الفاضل، الذي يحكم بالتساوي؛ أي العدل.[4]

تهتم هذه العدالة بحقوق الناس، وبالمساواة بينهم وإنصافهم

2-ضرورة العدل:

العدل قيمة يقتضيها العقل في جميع التصرفات، لهذا حضت الشريعة الإسلامية على اتباعه واعتبرته من أهدافها، وقد سمى الله نفسه به ليلفت إلى أهميته في معاملاتهم وتصرفاتهم.[5] قال تعالى: "اعدلوا هو أقرب للتقوى"[6]، وفي هذه الآية يدعو الله إلى إقامة العدل، رافعًا درجة من أقامه. وقال: "هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم"[7]؛ فالعدل دعوة للوسطية والتوازن المدرك بالبصيرة، لهذا كان العدل ضرورة من ضرورات الحياة، إذ الحياة لا تستقيم مع الظلم والجور، لأن العدل فريضة، وتجاوز الحق ظلم وجور، والظلم غير مقبول سواء فيما يتعلق بعلاقة الأفراد فيما بينهما، أو فيما يتعلق بالعقيدة، وذلك لأن الظلم في العقيدة يعد كفرًا وشركًا بالله، قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم".[8]

أما الظلم في علاقات الناس بعضهم ببعض، فهو تجاوز للحق، قال تعالى: "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم"[9]؛ فالعدل ضرورة للفرد في نفسه وذاته وفي ربه، كما أنه ضرورة ثابتة في علاقات الناس فيما بينهم، من هذا المنطلق كان العدل فريضة واجبة، ومن هذا يتبين لنا ضرورته إذ فرضه الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأمره باتباعه والحض عليه، قال تعالى: "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم "[10]، هذا والعدل بمقتضى شموله قد فرضه اللهعلى أولياء الأمور من الحكام والولاة، قاعدة واجبة الاتباع تجاه المتحاكمين وتجاه الناس عامة، قال تعالى: "و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".[11]

مثلت تعاليم الإسلام وثبة بالإنسانية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، ولا تزال إلى هذه اللحظة قمة لم يرتفع إليها البشر أبدًا

3-أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام:

لقد أقام الإسلام بناء العدالة الاجتماعية على أسس عامة، هي:

-التحرر الوجداني المطلق.

-المساواة الإنسانية الكاملة.

-التكامل الاجتماعي الوثيق.

وسنعالج كل منها على حدة وبشكل مختصر.

-التحرر الوجداني المطلق:

لن تتحقق عدالة اجتماعية كاملة، ولن يضمن لها التنفيذ والبقاء، ما لم تستند إلى شعور نفسي باطن باستحقاق الفرد لها، وبحاجة الجماعة إليها، وبعقيدة أنها تؤدي إلى طاعة الله وإلى واقع إنساني أسمى. وما لم تستند كذلك الى واقع مادي يهيئ للفرد أن يتمسك بها ويدافع عنها، ولن يستحقها الفرد بالتشريع قبل أن يستحقها بالشعور، وبالقدرة العملية على استدامة هذا الشعور. ولن تحافظ الجماعة على التشريع إن وجد، إلا وهناك عقيدة تؤيده من الداخل وإمكانيات عملية تؤيده من الخارج... وهذا ما نظر إليه الإسلام في توجيهاته وتشريعاته جميعًا.[12]

وكذلك يكفل الإسلام التحرر الوجداني تحررًا مطلقًا، لا يقوم على المعنويات وحدها، ولا على الاقتصاديات وحدها، ولكن يقوم عليها جميعًا. فيعرف للحياة واقعها، وللنفس طاقتها، ويدفع بها إلى التحرر الوجداني كاملاً صريحًا، فبغير التحرر الكامل لن تقوى على عوامل الضعف والخضوع والعبودية، ولن تتطلب نصيبها من العدالة الاجتماعية، ولن تصبر على تكاليف العدالة حين تتعاطاها. وهذا التحرر هو أحد الأسس الركينة لبناء العدالة الاجتماعية في الإسلام، بل هو الركن الأول الذي تقوم عليه الأركان.[13]

-المساواة الإنسانية:

لقد جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير، وفي المحيا والممات، وفي الحقوق والواجبات، وفي الدنيا وفي الآخرة، لا فضل إلا للعمل الصالح، ولا كرامة إلا للأتقى. لقد مثلت تعاليم الإسلام وثبة بالإنسانية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، ولا تزال إلى هذه اللحظة قمة لم يرتفع إليها البشر أبدًا، بل كانت نشأة أخرى للبشرية يولد فيها الإنسان الأسمى، الأمر الذي تراجعت عنه البشرية ولم تبلغ له أبدًا إلا في ظل هذا المنهج الرباني.[14]

ويمضي القرآن يذكر آيات تؤكد بأن الإنسان أصله تراب، قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين".[15]

ثم كفل الإسلام للمرأة مساواة تامة مع الرجل من حيث الجنس والحقوق الإنسانية، ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات، قال تعالى: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا"[16]، ويتساويان في الأهلية للتملك والتصرف الاقتصادي، قال تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون"[17]. وقد كفل الإسلام للإنسان كرامته التي لا يجوز أن تذل، قال تعالى: "و لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر و رزقناهم من الطيبات...".[18]

وهكذا يتتبع الإسلام كل ناحية من حياة الناس الوجدانية والاجتماعية، ليؤكد فيها معنى المساواة، وما كان في حاجة، كما قلنا، لأن يتحدث عن المساواة لفظًا بعدما حققها روحًا بالتحرر الوجداني الكامل من جميع القيم، ولكنه يحرص على المساواة حرصًا شديدًا ويريدها إنسانية كاملة غير محدودة بعنصر ولا قبيلة ولا بيت ولا أي ٍكان.

-التكافل الاجتماعي:

لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حد ولا مدى، يغذيها شعوره بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط، وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط، فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع كما يحطم الفرد ذاته. فيجب أن تقف حرية الفرد عند أمام صراعات ونزاعات لا تنتهي. وقد منح الإسلام الحرية في أحلى صورها والمساواة الإنسانية في أدق معانيها، لكنه لو يتركهما فوضى؛ فللمجتمع حسابه وللإنسانية اعتباراتها، وللأهداف العليا للدين قيمتها. لذلك يقر الحرية الفردية وإلى جانبها التبعة الجماعية التي تشمل الفرد بتكاليفها، وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي.[19]

يفرض الإسلام التكافل الاجتماعي في كل صوره وأشكاله، تمشيًا مع نظرته الأساسية إلى وحدة الأهداف الكلية للفرد والجماعة

ويقرر الإسلام مبدأ التكافل في كل صوره وأشكاله، فهناك التكافل بين الفرد وذاته، فهو مكلف أن ينهى النفس عن شهواتها وأن يسلك بها طريق النجاح، قال تعالى: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"[20]. وهناك تكافل الفرد مع أسرته، قال تعالى: "وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا"[21]. ثم تكافل الفرد والجماعة، حيث يوجب على كل منهما تبعات ويرتب لكل منهما حقوقًا. قال تعالى: "و تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"[22]. وأخيرًا التكافل بين أفراد الأمة الإسلامية، فتكون الأمة مسؤولة عن فقرائها ومعوزيها، فتتقاضى أموال الزكاة وتنفقها في مصارفها، قال تعالى: "كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين .. فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد".[23]

وهكذا يفرض الإسلام التكافل الاجتماعي في كل صوره وأشكاله، تمشيًا مع نظرته الأساسية إلى وحدة الأهداف الكلية للفرد والجماعة، وفي تناسق الحياة وتكاملها. وعلى تلك الأسس الثلاثة تقوم العدالة الاجتماعية.

ثانيًا: وسائل العدالة الاجتماعية في الإسلام

حاول الإسلام أن يحقق العدالة الاجتماعية، وارتفع بها عن أن تكون عدالة اقتصادية محدودة، وأن يكون التكليف وحده هو الذي يكفلها، فجعلها عدالة إنسانية شاملة، وأقامها على ركنين قويين: الضمير البشري من داخل النفس، والتكليف القانوني في محيط المجتمع، وزاوج بين هذه القوة وتلك، مثيرًا في الوجدان الإنساني أعمق انفعالاته غير غافل عن ضعف الإنسان وحاجته إلى الوازع الخارجي[24]. وكل من ينظر في هذا الدين نظرة فاحصة يدرك الجهد الضخم الذي بذله لتهذيب النفس البشرية من جميع جوانبها وفي جميع اتجاهاتها وملابساتها، قال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم".[25]

وعلى هذا الضمير الذي رباه الإسلام، وعلى التشريع الذي جاءت به شريعته، اعتمد في إرساء قواعد العدالة الاجتماعية. وبهذه الوسيلة المزدوجة نجح في إنشاء مجتمع إنساني متوازن متناسق، وسنستعرض نموذجًا من تلك الطريقة في التشريع والتوجيه، ونختار موضوع الزكاة والصدقة. ففرض الإسلام الزكاة حقًا في أموال القادرين للمحرومين، حقًا تتقاضاه الدولة المسلمة بحكم الشريعة وبقوة السلطان. فالزكاة ركن من أركان الإسلام وضرورة من ضرورات الإيمان، قال تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون".[26]

وأداة الزكاة وسيلة من وسائل الحصول على رحمة الله، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون"[27]. والامتناع عن أداء الزكاة وعن الإنفاق في سبيل الله يؤدي للتهلكة، قال تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".[28]

ويقدر الإسلام غريزة حب الذات وحب المال، ويقر أن الشح حاضر في النفس البشرية، خطوة أولى لمعالجة هاته النفس لتجود وتعطي، فيرفع الإنسان على نفسه ويغلب جانب التسامي فيه على جانب الضرورة، فيزرع في ذاته هدفًا إنسانيًا رفيعًا، بل هدفًا اجتماعيًا لإيجاد التوازن وتحقيق التكافل بين القادرين والعاجزين، وتكوين مجتمع متناسق متعاون سليم.

فكرة جمال الدين عن تلك العدالة لا تقل فقرًا عن تصور النظرية السياسية التي أخذ بها حكام المسلمين في هذا الجانب

على هذا النهج يسير الإسلام فيهتم بالجانب الوجداني كلما شرّع تكليفًا، ويقف بالتكاليف عند الحد الضروري لسلامة المجتمع، وفي حدود الطاقة العامة لجماهير الناس، ثم يخاطب الوجدان للإقناع بالتكليف، وللسمو فوقه ما استطاع؛ ليرتفع بالحياة الإنسانية ويجذبها دائمًا بخيط الصعود.

وعلى هذا النهج سار الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد تناول العديد من العلماء والمفكرين الإسلاميين مسألة العدالة، وقد اختار البحث المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني أنموذجًا ليتناول مسألة العدالة عنده.

ثالثًا: العدالة عند جمال الدين الأفغاني

من السهل أن يدرك القارئ لمؤلفات الأفغاني أنه يتحدث عن العدالة أكثر من الحرية، وليس في هذا ما يدعو للعجب؛ فموضوع العدل من الموضوعات الإسلامية التقليدية. ويتكلم الأفغاني عن ضرورة أن يكون هدف السلطة الزمنية تحقيق العدل المطلق، وذلك لأن السلطة الزمنية بملكها أو سلطانها، إنما استمدت قوتها من الأمة لأجل قمع أهل الشر وصيانة حقوق العامة والخاصة. والدافع للسلطة الزمنية نحو تحقيق العدل هو في المحل الأول طاعة الشريعة الإسلامية، ويقول الأفغاني: "كل فخار تكسبه الأنساب وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة؛ فهي ممقوتة على لسان الشارع والمعتمد عليها مذموم والمغتصب لها ملوم".[29]

وإذا تفحصنا النصوص الأفغانية عن قرب، وجدنا أن فكرة جمال الدين عن تلك العدالة لا تقل فقرًا عن تصور النظرية السياسية التي أخذ بها حكام المسلمين في هذا الجانب؛ فالعدل المطلوب ما هو في النهاية إلا نسف العدوان الظاهر ورفع الظلم البين. والواقع أنه من المستحيل بالفعل، أو يكاد يكون مستحيلاً، أن تجد عند جمال الدين الأفغاني فكرة واضحة المعالم ومفصلة عن مضمون العدالة، وذلك اكتفاء بتكرار الكلمة ذاتها، وكأن محتواها ومعناها واضحان وضوح الشمس، فلا حاجة بها إلى تحديد. وهو يشير مرات عديدة إلى ميزان عدل الله، وإلى القاعدة المشهورة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وإلى المساواة التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية، باعتبارها صوناللعدل، وإلى أنموذج العدالة الشرعية كم تجسد في سيرة الخلفاء الراشدين، نعم تجد عند الأفغاني كل هذه الإشارات، ولكنك إذا تمعنت فيها لتضع يدك على شيء صلد فلن تجد إلا تعبيرات.[30]

 الحاكم العادل ينبغي أن يكون خاضعًا للشريعة، وألا يتبع هواه، وألا تكون بينه وبين المؤمنين فروق

ويبدو أنه يحدد القول على نحو أكبر حين يحاول تفسير الآية القرآنية الرئيسة في هذا الصدد، وهي "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، فيذهب إلى أن معنى هذه الآية هو إعطاء كل ذي حق حقه ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض أعمال الملك للقادرين على أدائها، مما يوجب صيانة الملك وقوة السلطان ويشيد بناء السلطة، ويحكم دعائم السلطة، ويحفظ نظام الداخل من الخلل ويشفي نفوس الأمة من العلل.

ولكن مضمون هذا كله مضمون فقير، فضلاً عن طابعه الخطابي، حتى إن الأفغاني وجد يومًا أنه يستطيع أن يضع تصوره عن العدالة الذي يتجلى في العبارة التالية: "حفظ الحق و دفع الشر". أما إذا اتجهنا الى مفهوم الأفغاني عن شروط الحاكم العادل وواجباته، فسنجده أكثر غنى من مفهومه عن العدالة ذاتها وأكثر تفصيلاً؛ فالحاكم العادل ينبغي أن يكون خاضعًا للشريعة، وألا يتبع هواه، وألا تكون بينه وبين المؤمنين فروق، وألا تكون له ميزات خاصة عنهم، وأن يتبع رأي العلماء العارفين بالشريعة.[31]

وقد رأى فيه أتباعه حكيمًا اجتماعيًا من أعظم حكماء هذا العصر، والحق أن الأفغاني كان شديد الاهتمام بما يسمى بالمشكلات الاجتماعية بوجه عام، وله مواقف بشأن التربية والمرأة وطبيعة العلاقات الاجتماعية، ولن نفصل القول في هذا، لأن الذي يهمنا هنا هو أن العدالة ليست ضرورة سياسية وحسب، بل هي فضيلة أخلاقية أولاً وقبل كل شيء. ومن أظهر المواقف التي اتخذها جمال الدين الأفغاني باعتباره حكيمًا اجتماعيًا، الهجوم على استغلال الحكام في شتى الممالك الإسلامية للضعفاء من الأهالي وظلمهم إياهم، والهجوم على عدم قيام الأغنياء بواجباتهم.

 الحل الحقيقي لمقاومة الاستغلال وإقامة قواعد العدل المطلق، إنما هو الحل الأخلاقي القائم على الانقياد لأحكام الشريعة

ويكفي هنا أن يطلع القارئ على نص يروي عن خطبة للأفغاني في المصريين كانت لا شك جديدة على مسامعهم لجرأتها البالغة: "إنكم معشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور وتنزل بكم الخسف والذل...". وقد خطب جمال الدين مرة في الإسكندرية، و كان مما قال: "أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟ ولماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة تعبك؟"[32]

يدعو الأفغاني فيما سبق للثورة ضد الظلم والعدوان، ويدعو لتحقيق العدالة بين الناس. ويرى أن الحل الحقيقي لمقاومة الاستغلال وإقامة قواعد العدلالمطلق، إنما هو الحل الأخلاقي القائم على الانقياد لأحكام الشريعة. ويبدو للناظر في مجمل أقوال الأفغاني أنه يرى العلة الكبرى لشرور الأمة، إنما هي رذيلة الأنانية، والمهم قيام رجال تتوفر فيهم الفضيلة لمقابلة هذه الرذيلة.

خاتمـة:

نخلص في بحثنا إلى القول إن الشريعة الإسلامية بمبادئها السامية تهدف إلى تقويم الإنسان وتهذيبه، بحضه على الأخلاق والفضيلة لتحقيق سعادته، حيث حددت سلوكه الروحي مع ربه في العبادات، كما رسمت أسس سلوكه المادي مع الغير في المعاملات، لهذا حددت الحقوق والحدود وأبانت الحلال والحرام والحق والباطل لتمييز الخبيث من الطيب، كل هذا في ضوء شريعة سمحة تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر بغية تحقيق الحاجات واستمرار الحياة. وقد بين لنا التشريع الإسلامي أحكامًا في نطاق مؤسسات العدالة، وبعض الأسس التي اعتمدتها هذه المؤسسات. ثم كيف تناول جمال الدين الأفغاني قضية العدالة، حيث يختصر مفهوم العدل لديه إلى السير على الطريق المستقيم بغير العدول عن أوامر الشريعة، مع إضفائه الطابع الاجتماعي على هذا المضمون الطابع.

المراجع:

-د.عزت قرني, العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديث, سلسلة عالم المعرفة, عدد 30, الكويت, يونيو 1980.

-د.رضا سعادة, الفلسفة ومشكلات الإنسان, دار الفكر اللبناني, بيروت, الطبعة الأولى 1990.

-عبد السلام التونجي, مؤسسة العدالة في الشريعة الإسلامية, سلسلة الفكر الإسلامي, عدد 1, طرابلس, 1993

-سيد قطب, العدالة الاجتماعية في الإسلام, دار الشروق, القاهرة, 1995.

-مصطفى أحمد صقر، فلسفة العدالة عند الإغريق وأثرها على فقهاء الرومان وفلاسفة الإسلام، مكتبة الجلاء الجديدة، المنصورة، مصر، سنة 1989.

-عبد اللطيف محمد خليفة، ارتقاء القيم، سلسلة عالم المعرفة، عدد 160، الكويت، 1992.


[1]- مصطفى أحمد صقر، فلسفة العدالة عند الإغريق وأثرها على فقهاء الرومان وفلاسفة الإسلام، مكتبة الجلاء الجديدة، المنصورة، مصر، سنة 1989، ص 5

[2]- عزت قرني، العدالة و الحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 30، الكويت، يونيو 1980، ص 219

[3]- د.رضا سعادة, الفلسفة ومشكلات الإنسان, دار الفكر اللبناني , بيروت , الطبعة الاولى 1990، ص 96

[4]- د.رضا سعادة، مرجع سابق، ص97

[5]- عبد السلام التونجي, مؤسسة العدالة في الشريعة الإسلامية, سلسلة الفكر الاسلامي, عدد 1, طرابلس, 1993، ص 21

[6]- سورة المائدة، الآية 8

[7]- سورة النحل، الآية 76

[8]- سورة لقمان، الآية 13

[9]- سورة الشورى، الآية 42

[10]- سورة الشورى، الآية 15

[11]- سورة النساء، الآية 58

[12]- سيد قطب , العدالة الاجتماعية في الإسلام , دار الشروق, القاهرة ,1995، ص 32

[13]- سيد قطب، مرجع سابق، ص 43

[14]- سيد قطب، مرجع سابق، ص 45

[15]- سورة المؤمنين، الآية 12

[16]- سورة النساء، الآية 124

[17]- سورة النساء، الآية 7

[18]- سورة الإسراء، الآية 70

[19]- سيد قطب، مرجع سابق، ص 55

[20]- سورة الشمس، الآية 7-10

[21]- سورة الإسراء، الآية 23-24

[22]- سورة المائدة الآية 2

[23]- سورة الفجر، الآية 17-26

[24]- سيد قطب، مرجع سابق، ص 63

[25]- سورة القلم، الآية 4

[26]- سورة المؤمنون، الآية 1-4

[27]- سورة النور، الآية 56

[28]- سورة البقرة، الآية 195

[29]- د.عزت قرني، ص 220

[30]- د. عزت قرني، مرجع سابق، ص 221

[31]- د. عزت قرني، مرجع سابق، ص 222

[32]- د. عزت قرني، مرجع سابق، ص 225