الشرط الإجرائي والتأسيس الأخلاقي


فئة :  مقالات

الشرط الإجرائي والتأسيس الأخلاقي

تصوُّر العدالة:

الشرط الإجرائي والتأسيس الأخلاقي[1]

منوبي غباش*

مُقدّمة

لعلَّ ما يحفِّز الفكر لتناول مسألة العدالة هو نقيضها المتحقّق عمليَّاً؛ أي كلّ أشكال الظلم والحيف والاستغلال والعدوان الملازمة لواقع البشر. إنَّ التفكير في شروط إمكان تحقُّق العدالة يجد ما يُسوِّغه في انعدام العدالة. لا توجد عدالة على الأرض ولا يمكن أن توجد، فالعدالة الوحيدة الممكنة هي عدالة السماء، وهي لا تتحقق إلا في عالم آخر كما يرى اللَّاهوتيُّون، ولا شكَّ أنَّ هذا الموقف لا قيمة له في الواقع؛ لأنَّه ينكر فاعليَّة التاريخ، ويلغي الفكر، ويعطِّل كلَّ محاولة لتحسين واقع الإنسان.

إنَّ أيّة محاولة لتحديد معنى دقيق ومقبول للعدالة تقتضي مواجهة بعض المفارقات وحلَّها، لعلّ أهمَّها تلك التي تتعلَّق بالمرجعيَّة التي انطلاقاً منها أو في إطارها يمكن تعريف العدالة؛ هل تتحدَّد العدالة بالواقع أم بالحقّ؟ هل تدلُّ وتتطابق مع الشرعيَّة (القانون) أم مع المشروعيَّة (الحقّ)؟ إذا افترضنا أنَّ العدالة تتحدَّد بقاعدة قانونيَّة، فكيف يمكن التمييز بين العادل وغير العادل في حالة انعدام تلك القاعدة؟ قد يكون مفيداً هنا استعمال مفهوم آخر لا يقلُّ أهميَّة عن مفهوم العدالة، وهو الإنصاف[2]. إذا افترضنا أنَّ العدالة في المستوى العملي هي إنصاف، فهل يعني ذلك أنَّها مفهوم إجرائي خالص؟ هل يمكن فصل العدالة عن الخير باعتباره غاية الفعل الإنساني؟

يمكن فهم العدالة، بحسب تصوُّر إجرائي، أي كبرنامج أو كمشروع لتنظيم الوجود الاجتماعي اعتماداً على مؤسسات وأجهزة مُعَدَّة للغرض. بحسب مثل هذا التصور تكون العدالة كإنصاف ضرباً من ضروب الممارسة تحكمها ضرورات الواقع، وأمَّا إذا أدرجنا العدالة كإنصاف ضمن تصوُّر أخلاقي، أي إذا ربطناها بالخير كغاية، فإنَّنا بذلك سنعتبرها قيمة مُحدِّدة لما يجب أن يكون. يتعلق الأمر بالبحث في المعنى الحقيقي للعدالة. هل تُعتبر العدالة مجرَّد إجراء يتعلَّق بتنظيم المجتمع؟ وهل بالإمكان فصلها عن الخير وعن السعادة؟ وهل يجوز أن ننفي عنها الطابع المعياري فلا نرى فيها قيمة كونيَّة؟

تُحيـل العدالة، حسب الاشتقاق اللَّاتيني إلى الحق (jus، juris)، وهي تدلُّ على ما يتطابق مع الحـق، كما تعني إعطاء كلِّ ذي حق حقَّه، ولهذا يمكن اعتبارها فضيلة أو مبدأ للفضيلة. وأمَّا في استعمالها الحديث، فقد اقترنت العدالة بتوزيع الثروات والمنافع الاقتصادية والخيرات الاجتماعية. قد تكون العودة إلى أرسطو مفيدة في هذا السياق. يميِّز أرسطو بين العدالة الكُليَّة والعدالة الجزئيَّة: الأولى تعني المساواة وطاعة القوانين، والثانية تنقسم إلى نوعين: عدالة توزيعيَّة تظهر «على مستوى قسمة الشرف أو الثروات أو على مستوى الامتيازات الأخرى التي تخصُّ أفراد المجموعة السياسيَّة، وهي امتيازات قد تكون متساوية أو غير متساوية[3]». وعدالة تعويضيّة ترتبط بالمعاملات والعقود. تتعلَّق العدالة التعويضيَّة بالمعاملات الخاصَّة، وهي في جزء منها إراديَّة وفي جزء آخر غير إراديَّة. الإراديَّة مثل البيع والشراء والقرض والضمان والإيداع والاكتراء. وأمَّا المعاملات اللَّاإرادية، فبعضها ِسرِّي مثل السرقة والخيانة والبغاء والقتل غيلة، وبعضها عنيف مثل الجريمة والقتل والاحتجاز[4]. إنَّ العدالة، حسب التصوُّر الأرسطي، فضيلة خاصَّة[5]، وهي تستمدُّ معناها، كما هو الشأن بالنسبة إلى الفضائل الأخرى، من السياق التليولوجي[6]، بمعنى أنَّها فضيلة من أجل الخير الذي هو كمال الإنسان. تقال العدالة عن الفرد العادل الذي يأتي أعمالاً معتدلة، وذلك لأنَّ الفضيلة هي وسطيَّة [7]واعتدال في كلِّ شيء.

لا يختلف أفلاطون عن أرسطو في حدِّ العدالة بالانسجام والاعتدال، وتحديده هذا يتمُّ على مستوى الفرد وعلى مستوى المدينة[8]. العدالة في الفرد تتمثَّل في الانسجام بين قوى النفس، حيث تخضع القوَّة الشهوانيَّة للقوَّة الغضبيَّة، كما تخضع هاتان القوَّتان معاً للقوَّة الناطقة. وأمَّا بالنسبة إلى العدالة في الدولة، فهي تتمثَّل في الانسجام والتوافق بين الطبقات المختلفة، حيث تُـناط بكلِّ طبقة الوظيفة الملائمة لطبيعتها. مهمَّة طبقة العمَّال (تجسِّد القوَّة الشهوانيَّة) هي العمل والإنتاج، ومهمَّة طبقة الحرَّاس (تجسِّد القوَّة الغضبيَّة) هي حماية المدينة والدفاع عنها. ووظيفة طبقة الحكَّام (تجسِّد القوَّة الناطقة) هي الحكم وإدارة شؤون الدولة. تتطابق العدالة حسب التصوُّر الأفلاطوني مع الالتزام بالقانون الطبيعي في مستوى الحياة الخاصَّة وفي مستوى الوجود الاجتماعي، وهي بالتالي ليست اتِّفاقاً واصطناعاً. ثمَّة عدالة طبيعيَّة يتوجَّب على الإنسان التقيُّد بمبادئها. العدالة في التقليد الفلسفي هي إذن مفهوم أخلاقي وقيمة كونيَّة تتطابق مع الحقّ، وتتماهى مع قانون طبيعي يتعالى على كُلِّ اصطناع بشري، ولكنَّ الدلالة الأخلاقيَّة للعدالة لا تنفي إمكانيَّة تحقُّقها في الواقع العملي.

يعني الإنصاف (aequitas) الشعور العفوي، في إطار حالة جزئيَّة وعينيَّة، بما هو عادل أو غير عادل. كما يدلُّ على «صحَّة الحُكم فيما يتعلَّق بما هو من حقِّ كلِّ واحد»[9]. إذا كانت العدالة، في أحد معانيها، هي التقيُّد والالتزام بالقوانين، فإنَّ الإنصاف لا يتحدَّد بشكل أو بمضمون قانون معيَّن، بل يتحدَّد بشعور أو بحدس عفوي يميّز بين العادل وغير العادل. وهكذا، فإنَّ الإنصاف[10] لا يقتضي المساواة القانونيَّة، ولكنَّه يقتضي سَدَاد الحكم وصدْق الشعور فيما يتعلّق بإسناد الحقِّ لصاحبه. ليست القوانين هي التي تحدِّد معنى الإنصاف، بل معطيات الوضعيَّة الخاصَّة التي ينبغي التعامل معها حسب مبادئ معيَّنة للعدالة. هل يعني هذا أنَّه لا يمكن أن توجد قواعد تحكم الإنصاف؟ وهل الإنصاف هو مجرَّد تقويم شخصي للعدل والظلم؟ لتجنُّب النسبيَّة الأخلاقيَّة المقترنة بالإنصاف قد يكون من الضروري ربط الإنصاف بالعدالة باعتبارها معياراً كونيَّاً وقيمة كُليَّة.

للتفكير في مشكل العدالة من جهة مضمونها الأخلاقي ومن جهة قابليَّتها للتطبيق نقترح الخطَّة التالية: سنبيِّن، في لحظة أولى، ملامح التصوُّر الإجرائي للعدالة من خلال «نظرية العدالة» لدى رولز. وسنحاول، في لحظة ثانية، وانطلاقاً من حدود التصوُّر الإجرائي، إبراز أهميَّة الأطروحة التي تقول إنَّ العدالة لا تنفصل عن الخير كقيمة كُليَّة، لنخلص بعد ذلك إلى النظر في قيمة مفهوم «العدالة الاجتماعية» كمفهوم معياري وإجرائي في الوقت نفسه.

تصوُّر العدالة الإجرائي:

لا يمكن التفكير في العدالة دون أن نأخذ في الاعتبار إشكاليَّة المساواة. ولعلَّ السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا هو التالي: هل توجد مساواة بين البشر أصلاً؟ هل ثمَّة مساواة أصليَّة أم لا مساواة أصليَّة؟ هناك اتجاهان بخصوص هذه المسألة: اتجاه يثبت أنَّ اللَّامساواة هي معطى طبيعي لا يمكن إنكاره عندما نعاين الاختلاف والتنوُّع المميّز للوجود البشري، واتجاه يقرُّ بأنَّ البشر متساوون من حيث هم بشر، انطلاقاً من فكرة وجود إنسانيَّة واحدة جامعة أو هويَّة إنسانيَّة مشتركة سابقة على ظهور التفاوتات والاختلافات بين الأفراد. يرى المدافعون عن اللَّامساواة أنَّ الأفراد مختلفون طبيعيَّاً في القوى والقدرات والاستعدادات الذهنيَّة والجسديَّة، كما يختلفون اجتماعيَّاً من حيث الانتماء والثقافة والثروة والسلطة. ولذلك فإنَّ المساواة الوحيدة الممكنة هي مساواة قانونيَّة أي اتفاقية من شأنها أن توجِدَ مساواة في الفرص ضمن المؤسَّسات الاجتماعية. يُؤكِّد هذا الاتجاه، إذن، على المساواة في الحقوق المدنيَّة والسياسيَّة، وبالتَّالي يرفض العدالة التوزيعيَّة، ولا يقبل بالمساواة إلا في مستوى الحريَّات السياسيَّة الأساسيَّة (التصور الليبرالي). «في هذا الاتجاه مع دووركن (Dworkin) الحق عندما يذهب الى اعتبار أنَّ كلَّ نظرية معاصرة في العدالة ترى أنَّ على المجتمع أن يعامل أعضاءه بطريقة متساوية على الأقل في نقاط معينة. وهكذا تتطلب المساواة المدنية والديمقراطية المشتركة بين كلِّ الوضعيات أن يضمَن كلُّ فرد في المجتمع السياسي حريَّة التعبير والاجتماع والتنقل وحق الاقتراع والحماية القانونية المتساوية من الاحتجاز التعسفي والحق في محاكمة عادلة»[11].

وفي المقابل، فإنَّ المدافعين عن المساواة الأصليَّة يؤكِّدون أنَّ التفاوتات هي اختلالات وانحرافات في النظام الطبيعي للأشياء وبالإمكان إلغاؤها بالعودة إلى مبدأ المساواة الطبيعيَّة. إذا كان البشر متساوين من حيث هم بشر فكلُّ أشكال اللَّامساواة غير قابلة للتبرير؛ أي غير مشروعة.

يبيِّن رولز في كتابه «نظرية العدالة»[12] أنَّه لا يستخدم مفهوم العدالة في دلالاته الأخلاقيَّة والفلسفيَّة التقليديَّة، بل إنَّه يستعمله من جهة دلالته على تنظيم معيَّن للوجود الاجتماعي، فهو يقول مثلاً: «بالنسبة إلينا، الموضوع الأول للعدالة هو البنية الأساسيَّة للمجتمع أو، بدقَّة أكثر، الطريقة التي بها توزّع المؤسَّسات الاجتماعية الهامَّة الحقوق والواجبات، وتحدِّد توزيع المنافع المحصَّلة بالتعاون الاجتماعي».[13]

يستند رولز إلى الإطار المفهومي لنظريَّات القرار (Théories de decision) التي بمقتضاها يتحدَّد القرار العقلاني بتأويج الفائدة والمصلحة الخاصَّة اعتماداً على الحساب والاستعلام وفي التحرُّر من كلِّ انفعال. القرارات العقلانيّة هي حسابات واختيارات مُتروّية توجِّهــــها المصالح الخاصَّة بكلِّ فرد. إنَّها قرارات براغماتيَّة يحكمها، حسب التصوُّر الكانطي، المبدأ الذاتي للفعل ويوجِّهها الأمر الشرطي. ولكنَّ القرارات التي تؤدِّي، في نظريِّة رولز، إلى استنباط مبادئ العدالة هي قرارات عقلانيَّة، ويمكن أن تكون قطعيَّة بالمعنى الكانطي. إنَّ اختيار مبادئ العدالة يتمُّ من وراء «حجاب الجهل»؛ ذلك أنَّ الأفراد في «الوضعيَّة الأصليَّة» لا يعرفون خصائص وضعيَّاتهم ولا يدرون، مثلاً، ما المصلحة الخاصَّة التي يمكن أن يختاروا المبادئ المناسبة لها. يمكن القول، في هذا السِّياق، إنَّ الذي يختار مبادئ العدالة في «الوضعيَّة الأصليَّة» ومن وراء «حجاب الجهل» ليس فرداً مُتَعيَّناً، بل هو «ذات كونيَّة (universel sujet) لا تبالي بالتحديدات الكُليَّة الفرديَّة والخاصَّة، وهو ما يُسمَّى لدى كانط كائن العقل العمليّ الخالص»[14].

إنَّ مبادئ العدالة عند رولز هي حصيلة عقد اجتماعي افتراضي[15]. في مقدّمة «نظريَّة العدالة» يعلن رولز عن أنَّ نظريَّة العقد الاجتماعي تبدو له متضمِّنة لتحليل للعدالة أهمّ من ذلك الذي يوجد في التقليد النفعي. فهذه النظريَّة تحتوي على عناصر المداولة الأخلاقيَّة التي تتماشى تماماً مع المجتمع الديمقراطي. إنَّ نظريَّته في العدالة تندرج ضمن التصوُّر التعاقدي للمجتمع وتبتعد عن التصوُّر النفعي. فإذا كانت النفعيَّة تنطلق من خاصيَّة إحساس الفرد باللذة والألم، فإنَّ التعاقديَّة تركِّز على قدرة الفرد على التقييم والتروِّي والحساب العقلاني. إنَّ النفعيَّة لا تعطي قيمة للقيم والمُثُل العليا كالحريَّة والخير والمساواة إلا بمقدار ما تسمح بتأويج المنفعة. ينبني التصوُّر التعاقدي على مبادئ قَبْليَّة للعدالة كالحريَّة والمساواة بين الجميع، أمَّا النفعيَّة فهي مذهب يركِّز على النتائج والمحصِّلات. ومعنى ذلك أنَّ السياسات والمؤسَّسات الاجتماعيَّة لا تُقيَّم بالنظر إلى مبادئ وقواعد موضوعة مسبَّقاً، بل بالنظر إلى نتائجـها (تأويج حاصل المنافع).

ليست العدالة في تصوُّر رولز إذن فضيلة شخصيَّة، وإنَّما هي عدالة سياسيَّة تؤوَّل كإنصاف[16] (fairness). إنَّها تتعلَّق بتوزيع الخيرات الأوليَّة، وهي تقوم على مبدأين أساسيَّين:

أوَّلاً: ينبغي أن يتمتَّع كلُّ شخص بحقٍّ متساوٍ في النسق الكلِّي للحريَّات الأساسيَّة المتاحة للجميع.

ثانياً: ينبغي أن تُنظَّم اللَّامساواة الاجتماعية والاقتصاديَّة، حــيث:

1. تضمن، في حدود مبدأ توفير عادل، أكبر فائدة ممكنة للمحرومين.

2. تكون اللامساواة مرتبطة بالمراتب والوظائف التي يفترض أن تكون في متناول الجميع انطلاقاً من تكافؤ الفرص.

المبدأ الأوَّل هو مبدأ الحريَّة، وهو يقضي بالمساواة التامَّة في الحريَّات الأساسيَّة، وأمّا المبدأ الثاني فهو يتعلّق بالمساواة، ولكن ليس بمعنى المساواة التامَّة، بل بمعنى التكافؤ في الفرص في إطار المؤسَّسات الاجتماعية. لجأ رولز إلى نحت مجموعة من المفاهيم لإسناد نظريَّته في العدالة بما هي إنصاف مثل «حجاب الجهل» و«الوضعيَّة الأصليَّة» و«البُنية القاعديَّة للمجتمع». تُعادِل الوضعيَّة الأصليَّة فرَضيَّة الحالة الطبيعيَّة في التقليد التعاقدي، وهي، كما هو معروف، عبارة عن صورة خياليَّة لمجتمعٍ بلا دولة، الهدف من ورائها هو تبرير طرح السؤال المتعلِّق بشكل الدولة المناسب الذي يكون في الوقت نفسه مشروعاً وعادلاً. يكون الأفراد، في الوضعيَّة الأصليَّة[17]، جاهلين بملابسات وضعيَّتهم بحيث إنَّهم لا يستطيعون أن يختاروا المبادئ التي من شأنها أن تُفضي إلى تحقيق العدالة. هذه الحالة عبَّر عنها رولز بمفهوم «حجاب الجهل». تتميَّز مبادئ العدالة التي يتمُّ الاتفاق عليها من خلال المداولة والحوار في إطار الوضعيَّة الأصليَّة بكونها عامَّة، من حيث صياغتها، فهي لا تُصاغ ولا يتمُّ التعبير عنها بأسماء الأعلام (مثل: على كلِّ الناس أن يطيعوا السيِّد زيد)، وهي كُليَّة من حيث تطبيقها، بمعنى أنَّها صالحة للجميع، فلا تُميِّز بين الأشخاص على أساس الجنس أو الخصائص الثقافيَّة أو الاجتماعيَّة. يجهل كلُّ فرد في الوضعيَّة الأصليَّة ظروف وملابسات وجوده الخاص، ومع ذلك فإنَّ لديه معرفة بالخيرات الضروريَّة لتحقيق أهدافه بغضِّ النظر عن ذَوْقِه وقناعاته. هذه الخيرات ترتبط بمؤسَّسات اجتماعيَّة قاعديَّة لازمة لتحقُّقها. يستعمل رولز مفهوم «البنية القاعديَّة» للدلالة على المؤسَّسات الأساسيَّة، وعلى الطريقة التي بها تُوزِّع تلك المؤسَّسات الحقوق والواجبات الأساسيَّة والمنافع الاجتماعيَّة. هذه البنية القاعديَّة هي النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. تنقسم مؤسَّسات البنية القاعديَّة للمجتمع إلى صنفين: مؤسَّسات تخصُّ النسق الاجتماعي الذي يُحدِّد الحريَّات الأساسيَّة، ومؤسَّسات تَخْتصُّ بتوزيع الخيرات الاجتماعية والاقتصادية. يقول رولز: «تَعتبرُ نظرية العدالة بما هي إنصاف المجتمعَ بمثابة شركة تعاونية رهانها تحقيق المنافع المشتركة. إنَّ البنية القاعديَّة هي نسق عمومي من القواعد التي تُحدِّد أشكال النشاط الذي يقود الناس إلى التعاون من أجل إنتاج أكبر حصيلة من المنافع، وهي تعترف بحقوق كلِّ واحد في جزء ممَّا تمَّ إنتاجه. إنَّ ما يقوم به شخص ما يرتبط بحقوقه المحدَّدَة بالقواعد العمومية، وهذه الحقوق نفسها ترتبط بما يقوم به. وينتج التوزيع عن تحقيق المطالب التي تمَّ تحديدها بفضل ما يقوم به الأشخاص على ضوء الانتظارات المشروعة. تقتضي هذه الاعتبارات اعتبار التوزيع مسألة عدالة إجرائية محضة»[18]. العدالة كإنصاف هي إذن إجراء يتعلَّق بتوزيع المنافع والخيرات الاجتماعية بطريقة منصفة. ورولز نفسه يطلق عليها اسم «عدالة إجرائيَّة»[19]. إنَّها لا تعني المساواة، كما لا يمكننا أن نقول عنها إنَّها شكل من أشكال المساواة الاجتماعية.

إنَّ تصوُّر رولز للعدالة لا يمثِّل نموذجاً اجتماعيَّاً مكتملاً، وإن كان مشتقَّاً من تصوُّر أوسع للتعاون الاجتماعي المثالي، إنَّه تصوُّر محدود بالبُنية القاعديَّة للمجتمع[20]. إنَّه تصوُّر[21] ديونطولوجي (déontologique) وليس تليولوجيَّاً (téléologique)[22]؛ بمعنى أنَّه لا يحدِّد العدالة انطلاقاً من تعريف قَبْليٍّ للخير، بل إنَّ مبادئ العدالة ناتجة عن اختيار ذات حرَّة ومستقلَّة، وبالتالي قادرة على تصوُّر الغـايات. «ما هو أساسي في تصوُّر «أدبيَّات الواجب الأخلاقي» (la conception déontologique) ليست الغايات التي نختارها، بل قُدرتنا على اختيارها، وهذه القدرة السَّابقة على كلِّ غاية خاصَّة تكمُن في الذات»[23]. يرى رولز أنَّ مفهوم العادل سابق على مفهوم الخير. فحسب «نظريَّة العدالة» تُحَدُّ رغبات وتطلُّعات الأفراد، منذ البداية، بمبادئ العدالة التي تُحدِّد أنساق غاياتهم[24]. في هذا السياق يرفض رولز التصوُّر النفعي للعدالة، كما يرفض التصوُّر الأفلاطوني والأرسطي[25] الذي يربط العدالة بالفضيلة وبالكمال الأخلاقي. إنَّ مقياس عدالة المؤسَّسات الاجتماعية عنده يتحدَّد بمصير المحرومين فيه، أي بمقدار ما يوفِّر من منافع وخيرات لمن هم أقلُّ حظَّاً. يكون نظام ما غير عادل عندما لا يستفيد المحرومون فيه من التفاوُتات. إنَّ المبدأ الأوَّل للعدالة هو مبدأ الحريَّة (لكلِّ شخص حقٌّ متساوٍ في مجموعة متكاملة من الحريَّات الأساسيَّة المتساوية بين الجميع، وهي حريَّة الفكر والوعي وحريَّة التجمُّع والتنظِّيم، إلخ). ولكنَّ العدالة لا تتطابق مع المساواة، ولا تتناقض مع الاختلافات. إنَّ التفاوُتات ينبغي أن تكون مفيدة للجميع، أي أن تَنتُج عنها فوائد ومزايا لمن هم أقلُّ حظَّاً، وذلك بـ: (أ) أن ترتبط اللَّامساواة بوظائف ومراتب تكون في متناول الجميع. ب) أنّ تُحقِّق أكبر قدر من الفائدة للأعضاء الأكثر حرماناً في المجتمع. المبدأ الأول هو مبدأ المساواة بمعنى الإنصاف وتكافؤ الفرص، والثاني هو مبدأ الاختلاف. يهدف مبدأ الاختلاف إلى إثبات أنَّ التفاوتات الطبيعيَّة والاجتماعيَّة غير مُستَحقّة، وبالتالي يجب الحدُّ منها، وذلك لفائدة الأقلّ حظَّاً[26]. إنَّ هذا المبدأ لا يُميّز بين التفاوتات اللَّاإراديَّة والتفاوتات الاختيارية. وقد ينتج عن تطبيق هذا المبدأ أنَّ بعض الأشخاص سيتحمَّلون عبء من هم أقلُّ حظَّاً في مستوى الدخل بسبب اختيارهم لنمط حياة مُعيَّن[27].

يرى روبرت نوزيك(Nozick) أنَّ العدالة التوزيعية التي يدافع عنها رولز استناداً إلى مبدأ الاختلاف لا تقوم على رؤية تاريخيَّة بموجبها يتمُّ الاعتراف بالحقوق التاريخيَّة للأفراد: حقوق ملكيَّة الذات وملكيَّة الجسد والخيرات. وهكذا يكون توزيع الخيرات بطريقة يستفيد منها الأقلُّ حظَّاً انتهاكاً لحقوق الكثيرين. تهدف العدالة التوزيعية، حسب نوزيك، إلى إصلاح التفاوتات الناتجة عن الحظوظ (Loterie) والظروف الطبيعيَّة والاجتماعيَّة العارضة، وهذا في نظره أمر يتماثل مع توزيع شبكيَّات عيون المبصرين على غير المبصرين. العدالة التوزيعيَّة تتعارض إذن مع مبدأ الحريَّة، ولهذا فإنَّ نوزيك يرى أنَّ ثمَّة تعارضاً بين المبدأين اللذين بنى عليهما رولز نظريَّته.

يضع نوزيك[28] مبدأين للعدالة بديلين عن مبدأي رولز من حيث إنَّهما يتَّفقان مع مبدأ الحريَّة الفرديَّة. المبدأ الأول هو مبدأ التملُّك الأصلي (appropriation originelle)، ويقضي بأن يتملَّك كلُّ واحد ما لا ينتمي لأحد، ولكن بشرط أن يبقى ما يكفي للآخرين، وهو الشرط نفسه الذي وضعه جون لوك (John Locke) لكي تكون الملكيَّة الفرديَّة مشروعة. المبدأ الثاني هو مبدأ نقل الملكيَّة الذي يجعل الملكيَّة الفرديَّة مشروعةً انطلاقاً من تحصيلها بواسطة تبادل إرادي بين الفاعلين. يضيف نوزيك مبدأ ثالثاً يتمثَّل في الإصلاح أو التعديل: إصلاح الخروقات التي يمكن أن تلحق بالمبدأين السابقين. ينقد نوزيك مبدأ الاختلاف لدى رولز، انطلاقاً من فردانيَّة جذريَّة تسمح له بتوجيه اتهام رولز للنفعيَّة إلى رولز نفسه. يرى رولز أنَّ النفعيّة تبدو نزعة فرديَّة (فردانيَّة)، ولكنَّها لا تأخذ في الاعتبار، بصورة جديَّة، الخصائص المميِّزة للأفراد، لأنَّها تطبِّق على المجتمع مبدأ الاختيار الذي ينطبق على الفرد فقط (يختار الفرد دائماً ما يتوافق مع مصلحته الخاصَّة). تمثِّل الموارد الطبيعيَّة والماديَّة، في نظر رولز، رصيداً مشتركاً وقابلاً للتوزيع، وهو التصوُّر الذي لا يقبل به نوزيك، لأنَّه يتجاهل حقيقة كون الموارد الماديَّة تنتمي حصريَّاً إلى الأفراد، وبالتالي ليس من المشروع سلبهم ملكيَّاتهم وخيراتهم بحجَّة تحقيق العدالة الاجتماعية.

على الرغم من أهميَّة نظريَّة رولز في العدالة، الأهميَّة التي تجلَّت في النقاش الفكري والسجال النظري المتعدِّد المشارب والمتنوّع التوجُّهات، فإنَّها لم تكن في منأى عن النقد، وما نقد روبرت نوزيك سوى جانبٍ من ذلك النقاش. لعلَّ بإمكاننا هنا أن نبرز النقاط الأساسيَّة في ذلك النقد:

1. ليس بإمكان الأفراد في الوضعيَّة الأصليَّة أن يتصوَّروا مبادئ العدالة. فإذا كانوا لا يعلمون شيئاً عن خصائصهم الشخصيَّة ولا عن وضعيَّتهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة، فلن يكون بإمكانهم أن يعطوا قيمة لأيِّ شيء، ولن يكون بإمكانهم تصوُّر مبادئ محدَّدة للعدالة. كيف يمكن القول إذن إنَّ الأفراد في «الوضعيَّة الأصليَّة» ومن وراء «حجاب الجهل» يستنبطون مبادئ العدالة؟ لا يمكن للإنسان أن يفكِّر، وأن يضع مبادئ للممارسة خارج السياق الاجتماعي والتاريخي.

2. إنَّ الوضعيَّة الأصليَّة، وبالرغم من أنَّها تبدو مُستبعِدة كلَّ تصوُّر جزئي أو خاص للحياة الجيِّدة، لا يمكن أن تُقبل إلا في أفق ليبرالي يتناغم مع فكرة حِيَاد الدولة[29]، وتلك الفكرة تفترض ضرورةً استبعاد العدالة التوزيعيَّة.

3. من الممكن أن تكون للفردانيَّة الموجِّهة ضمنيَّاً لاستنباط مبادئ العدالة آثار سلبيَّة، كأن تؤدِّي إلى رفض علاقات التعاون أو إنكار كلِّ مبدأ أخلاقي أساسي. يعني استنباط مبادئ العدالة من وراء حجاب الجهل وبصورة فرديَّة أنَّه ليس هناك افتراض لأفق معياري موضوعي يمكن أن يكون أرضيَّة مشتركة بين الأفراد لاستنباط مبادئ العدالة. يرى كوهن (G. A. Cohen) في هذا السياق أنَّ نظريَّة رولز لا تتطابق تماماً مع فكرة المساواة، لأنَّ مبدأ الاختلاف الذي يقضي بأن تكون التفاوتات مفيدة لمن هم أقلُّ حظّاً يستند إلى دوافع نفعيَّة فردانيَّة. لا بدَّ حسب كوهن من وجود «إيتيقا اجتماعيَّة مساواتيَّة» توجِّه أعمال الأفراد وتحدِّد اختياراتهم. يجب أن تُـتَرجم العدالة في إتيقا اجتماعيَّة مُساواتيَّة تتطابق معها الممارسات الفرديَّة[30]، بمعنى أن يكون الوعي الأخلاقي بضرورة تحسين أوضاع المحرومين هو الموجِّه لأعمال الأفراد لا الدافع النفعي الشخصي.

هل يصحُّ اعتبار العدالة إنصافاً، بالمعنى الذي يعطيه رولز لهذا المفهوم، أي مجرَّد إجراء تحكمه اعتبارات سياسيَّة واقتصاديَّة تاريخيَّة؟ وهل من المشروع أن نفصل العدالة الحقيقيَّة عن الأفق الأخلاقي أي عن معايير أخلاقية كُليَّة؟ نحن نستعيد هنا السؤال الذي طرحه ريكور في كتابه: «العادل» هل يمكن أن نستعيض عن التأسيس الأخلاقي للعدالة بتصوُّر إجرائي لها؟ يرى ريكور أنَّ هدف رولز هو تقديم حلٍّ إجرائي لمسألة العادل، أي بلورة إجراء مُنصِف لتنظيم المؤسَّسات على نحو عادل. ولكنَّ العدالة الحقيقيَّة ترتبط بالحقيقة وبالخير باعتبارهما قيمَتَين كونيَّتين. وهذا يدلُّ على حدود التصوُّر الإجرائي للعدالة. في هذا السياق يقول ريكور: إنَّ «المسافة بين مشروع يرمي إلى تحقيق المساواة، أي الحدّ من الهيمنة، ومشروع ينشُدُ التسويغ، أي تسوية الخلافات بطريقة مُتعقِّلة ومتروِّية، تظلُّ مسافة كبيرة»[31]. ذلك هو رهان مشروع رولز في «نظرية العدالة»: تسوية الخلافات في مجتمع طبقي يتهدَّده الانقسام والاضطراب.

تصوُّر العدالة الإيتيقي:

لقد تمَّ نقد نظريَّة رولز من قبل مجموعة من المُفكِّرين، أطلق عليهم اسم «الجماعتيُّون» (communautariens)، ونذكر منهم خاصَّة ميكل صندل (Michael Sandel) وألسدير ماكنتير (Alasdair McIntyre) وميكل فلزر (M. Walzer). ولئن كانوا لا يُشكِّلون مدرسة فإنَّ ما يجمع بينهم هو توجُّه فكري محوره فكرة «الجماعة» بالمعنى العرقي والاجتماعي والثقافي. ومن هذا المنطلق فإنَّ تفكيرهم يتعارض جذريَّاً مع الليبراليَّة. يرى الجماعتيُّون أنَّ نقائص النظريَّات الليبراليَّة تعود إلى أنَّها تُعطي أوْلويَّة للعادل، أو للقواعد الصوريَّة للعدالة مقارَنة بالقيم الاجتماعيّة الأخرى، لذلك هي لا تبحث في شروط إمكان مجتمع أفضل. في هذا السياق يرى «ميكل صندل» (M.Sandel)[32] (أنَّ احترام القواعد الصوريَّة للعدالة لا يجعل المجتمع أفضل، لأنَّ تفكُّك الروابط الشخصيَّة وتحلُّلُ العلاقات المدنيَّة وانعدام الأخوَّة يُعَدُّ خسارة لا يمكن تعويضها بتحقيق العدالة، أي بتوزيع الخيرات الماديَّة بطريقة منصفة. إنَّ العدالة التوزيعيَّة كما تصوَّرها رولز محكومة بدوافع ذاتيَّة نفعــيَّة (تأويج الخير الشخصي أو استجلاب أكبر قدر من اللَّذة واستبعاد الألم). يرى الجماعتيُّون أنَّه عوض هذه النزعة الفردانيَّة الكامنة وراء مبادئ العدالة التوزيعيَّة ينبغي أن تسود روح الجماعة التي تُعدُّ نوازع الأثرة (الإيثار) أحسن تعبير عنها. لا يمكن إذن اعتبار العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسَّسات الاجتماعية. ثمَّة قيم اجتماعيَّة أخرى ينبغي أن تُؤخذ في الاعتبار، لأنَّها لازمة للوجود الأفضل لأيِّ جماعة بشريَّة.

يطرح صندل السؤال الأساسي وهو: هل هناك أسبقيَّة للعادل على الخير؟ ويؤكِّد على ارتباط العدالة بالخير، وهذا موقف يتعارض مع التصوُّر الليبرالي الذي يرفض كلَّ قيمة موضوعيَّة (الخير) من شأنها أن تحدِّد ما يجب على الفرد فعله، وبالتالي تَحُدُّ من حريَّته. يرى صندل أنَّ ثمَّة طريقتين للربط بين العدالة والخير: الطريقة الأولى تمثِّل جوهر التصوُّر الجماعيَّتي. تَستمدُّ مبادئ العدالة خصائصها الأخلاقيَّة، حسب ذلك التصوُّر، من بعض القيم التي تتبنَّاها جماعة معيَّنة، أي أنَّ العدل يتحدَّد بالنظر إلى الخير كما تتمثّلُهُ تلك الجماعة. طبعاً من اليسير استنتاج أنَّ العدالة حسب هذا التصوُّر ليست سوى اصطناع أو اتِّفاق اجتماعيّ، وبالتالي فإنَّها تكون فاقدة لكلِّ قيمة كونيَّة. وأمَّا الطريقة الثانية لربط العدالة بتصوُّر الخير فهي تقوم على إثبات مبادئ العدالة بربطها بالقيمة الأخلاقيَّة أو بالخيريَّة الداخليَّة للغايات التي من أجلها وُضعت تلك المبادئ. في هذا التصوُّر لا يُعترفُ بحقٍّ إلا إذا تمَّ توضيح أنَّ هذا الحقَّ يحترِمُ أو يساعد على تحقيق خيرٍ إنساني عامٍّ[33]. من الواضح إذن أنَّ صندل يختلف عن التوجُّه الجماعتي لتصوُّر علاقة العدالة بالخير. الخير في نظره ليس خير جماعة بشريَّة معيَّنة في ظرف تاريخي مُعيَّن، ولكنَّه الخير الكلُّي أو المطلق باعتباره غاية في حدِّ ذاته. في هذا الأمر يعود صندل إلى أرسطو وكانط، وتحديداً إلى فكرة الغاية: يجب تعريف الخير الأسمى أو الحياة الخيِّرة كغاية، كشرط للاتِّفاق على الحقوق الفرديَّة، ولوضع الدستور اللازم للتنظيم السياسي[34]. يمكن اعتبار تصوُّر صندل للعدالة تصوُّراً تليولوجيَّاً (téléologique)، بمعنى أنَّه يُؤكِّد على الغايات التي يتمُّ اختيارها، وانطلاقاً منها يُحدَّدُ ما هو عادل، لا على قدرة الإنسان كذات أخلاقيَّة على الاختيار[35]. وهو بذلك يتجاوز التصوُّرين السائدين، أي الليبرالي والجماعتي، فالليبراليُّون يعتبرون أنَّ الحقوق ينبغي أنْ تُحدَّدَ بمعزل عن كلِّ مرجعيَّة أخلاقيَّة أو لاهوتيَّة، كما أنَّ الحُجَج التي يمكن إيرادها لإثبات تلك الحقوق ينبغي أن تكون ذات طابع حيادي، أي ألَّا تُعبِّر أو تستند إلى أيِّ مذهب أخلاقي أو ديني. وأمَّا الجماعتيُّون فهم يرون أنَّ الحقوق تتأسَّس على القيم الاجتماعية السائدة. وعلى الرغم من اختلافهما البيِّن فإنَّ هذين التصوُّرين يشتركان في استبعاد الغايات القصوى أو القيم الكُليِّة التي من شأنها لا أن تُحدّد الحقوق فقط، بل أيضاً الوجود الإنساني.

يمكن أن يُفصَل تفكيرنا في العدالة، من جهة كونها مسألة فلسفيَّة، عن تصوُّراتنا المتعلِّقة بالحياة الخيِّرة وبالغايات القصوى للإنسان، ولكنَّ التداول حول العدالة والحقوق، من حيث إنَّه مسألة سياسيَّة، لا يمكنُ أن يتطوَّر دون الرجوع إلى تصوُّرات الخير التي تعبِّر عنها ثقافات وتقاليد متنوِّعة، في إطارها يتمُّ ذلك التداوُل[36]. يقول الليبراليُّون المدافعون عن التصوُّر السياسي للعدالة، ومن بينهم رولز، بأسبقيِّة العدالة على الخير، انطلاقاً من الإقرار بأنَّ المجتمعات الديمقراطيَّة تتميَّز بتعدُّد وتنوُّع تصوُّرات الأفراد المتعلِّقة بالخير وبماهية الحياة الخيِّرة، حسب اختلاف وتنوُّع اتجاهاتهم الفلسفيَّة والدينيَّة، ولذلك لا يمكن الاتفاق حول تصوُّر مُعيَّن للخير يكون مُحدِّداً لمبادئ العدالة. ما هو قابل للتحقُّق هو الاتفاق على بعض المبادئ الأساسيَّة للعدالة التي على ضوئها يُمكن ضمان حقوق جميع الأفراد واحترام حرِّياتهم. هذا هو معنى «التصوُّر الدينطولوجي» للعدالة (conception déontologique de la justice)، ولكن إذا قبلنا بتعدُّد التصوُّرات الأخلاقيَّة والدينيَّة التي من شأنها أن توجِّه ممارسات الأفراد وتحدِّد نمط حياتهم، فلماذا لا نقبل أيضاً بتعدُّديَّة معقولة في المسائل والتصوُّرات المتعلِّقة بالعدالة؟ وإذا كان ذلك ممكناً فسيكون صحيحاً الإقرار بعدم إمكانيَّة الاتفاق على أيٍّ من مبادئ العدالة.

إنَّ العدالة الحقيقيَّة لا تنفصل عن منظومة القيم الكونيَّة، وخاصَّة الخير والحريَّة والمساواة والكرامة. لا تخرج نظريَّة رولز في العدالة عن التصوُّر الليبرالي، التصوُّر الذي لا يهدف إلى إلغاء اللَّامساواة ولا إلى الحدِّ من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية. ينبغي إذن تجذير التفكير في مسألة العدالة الحقيقيَّة وبشكل خاص في العدالة الاجتماعية.

العدالة الاجتماعية:

لا تعني العدالة المساواة التامَّة والكُليَّة بين أفراد المجتمع الواحد، ولكنَّها تتمثَّل في التوزيع المنصف للخيرات الاجتماعية التي هي ثمرة التعاون والعمل الاجتماعي. كما يمكن أن نعني بها التوزيع العادل للثروات والخِدْمات داخل المجتمع الواحد، بحيث لا تتركَّز تلك الخيرات لدى طبقة أو بين أيدي فئة معيَّنة، كما هو الحال في النظام الرأسمالي. العدالة الاجتماعية هي إذن عدالة توزيعيَّة في إطار مجتمع لا يتساوى أعضاؤه في القدرات والمواهب والاستعدادات الطبيعيَّة. بما أنَّه لا مساواة طبيعيَّة بين الأفراد فقد يصحُّ اعتبار العدالة الاجتماعية تعويضاً أو إصلاحاً أو على الأقلّ للحدِّ من هذه اللَّامساواة. معنى هذا أنَّ مفهوم العدالة لا يتحقَّق بمجرَّد حدْسِه، أو لكونه حدساً أخلاقيَّاً كما ترى النزعة الحدسيَّة (intuitionnisme)، بل لا بدَّ من وجود مؤسَّسات وأجهزة اجتماعيَّة، وهذا ما أكَّد عليه رولز في «نظريَّة العدالة»، فالعدالة كإنصاف هي فضيلة المؤسَّسات الاجتماعية. نستطيع القول إذن إنَّ العدالة الاجتماعية هي التوزيع المنصف للخيرات والثروات والخدمات بين أفراد المجتمع وفئاته، بحيث لا يُحرم فرد أو فئة أو طبقة من الخيرات الاجتماعية الضروريَّة، ومن الشروط الماديَّة لوجود لائق بالإنسان كغاية في حدِّ ذاته. حسب هذا المعنى يمكن القول إنَّ العدالة الاجتماعية ليست سوى تجسيد الحقوق الأساسيَّة للشخص. ونحن لا نقصد بالحقوق الشخصيَّة هنا ما يفهمه اللِّيبراليُّون من عبارة «الحقوق»، أي حريَّة الفعل وحق التعبير والنشر والاجتماع والاقتراع ...إلخ، بل المقصود الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؛ مثل الحقِّ في التعليم وحقِّ الرعاية الصحيَّة وحقِّ السّكن وحقِّ الحصول على الوسائل الماديَّة للعيش. لا يمكن أن تتحقَّق العدالة الاجتماعية من دون الشرط السِّياسي. ولهذا فالسؤال الذي يتوجَّب طرحه هنا هو: ما النظام السياسي الملائم للعدالة الاجتماعية؟ وإلى أيِّ حدٍّ يستجيب النظام الديمقراطي لمطلب العدالة الاجتماعية؟

ينطلق اللِّيبراليُّون في دفاعهم عن الحريَّات والحقوق الفرديَّة، وخاصَّة حقّ المِلْكيَّة، من مُسلَّمةِ أسبقيَّة الحريَّة الفرديَّة على القيم الأخرى. فالحريَّة لديهم هي شرط الحصول على الحقوق الأخرى، وبالتالي فإنَّ كلَّ تدخُّل للدولة بواسطة إجراءات معيَّنة تهدف إلى تحقيق المساواة الاقتصادية أو العدالـــة الاجتماعية (توزيع الخيرات بشكل منصف بحيث يستفيد مَن هُم أقلُّ حظَّاً، أو من هم أكثر حرماناً) هو انتهاك للحريَّة الفرديَّة واعتداء على الملكيَّة الخاصَّة. ولكن هل يمكن الفصل بين الحقوق المدنيَّة والسياسيَّة من جهة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية؟ وبصيغة أخرى: هل يمكن المفاضلة بين الحقوق- الحريَّات (droits/libertés) والحقوق- القدرات (droits/capacités)؟

إنَّ إيلاء الحريَّة أولويَّة مقارنة بالقيم الأخرى فكرة يصعب تسويغها. فما الذي يمنع من إسناد الأسبقيَّة لأيَّة قيمة مهما كانت؟ لا شكَّ في أنَّ الحريَّة قيمة أساسيّة وضروريَّة بالنسبة إلى وجود الكائن الإنساني، ولكن ذلك لا يسوِّغ إنكار أو إهمال القيم الأخرى أو اعتبارها ثانويَّة مقارنة بالحريَّة. إنَّ الحقوق- الحريَّات (الحقُّ في التفكير وفي التعبير عن الرأي وفي النشر وحقُّ السفر وحقُّ ممارسة أسلوب العيش بحريَّة) هي جميعها حقوق تقتضي وسائل لكي تتحقّق فعليَّاً. إنَّها في غياب الوسائل مجرَّد حقوق صوريَّة كما سمَّاها ماركس. لا بدَّ إذن من التأليف بين الحقوق- الحريّات والحقوق- القدرات. من المعروف أنَّ هذا التعارض بين صنفي الحقوق يُحيل إلى تعارض بين نظريَّتين أساسيَّتين ميَّزتا الفكر السياسي الحديث والمعاصر، نقصد الليبراليَّة والاشتراكيَّة. في المجتمع الليبرالي يكون جميع الأفراد متساوين نظريَّاً في الحقوق، ولكن في الواقع يتمتَّع البعض فقط بحقوق فعليَّة. وأمَّا في المجتمع الاشتراكي فإنَّ جميع الأفراد يتمتًّعون بالخيرات الماديَّة والاجتماعيَّة (حقوق قدرات)، ولكنَّهم لا يتمتَّعون بحقوق الحريَّات أو الحريَّات الأساسيَّة. هل لنا أن نقول إنَّ الفرد في المجتمع الليبرالي هو المواطن الحقيقي أو الفاعل، ما دام قادراً على حماية حقوقه الطبيعيَّة من خلال مشاركته في إدارة الشؤون العامَّة عن طريق التمثيل السياسي؟ وهل لنا أن نعتبر الفرد في المجتمع الاشتراكي، الذي لا حقوق سياسيَّة له ولكنَّه يتمتَّع بخيرات وخدمات اجتماعيَّة، مواطناً منفعلاً؟[37] هل يمكننا التأليف بين الحريَّة الفرديَّة (الليبراليَّة) والمساواة (الاشتراكيَّة) في مفهوم المواطنة الاجتماعيَّة؟

لعلَّ الخاصيَّة المميِّزة للمواطنة الاجتماعية هي أنَّها لا تُختزل في البعد السياسي. ليس المواطن مجرَّد فرد يختصُّ بحقوق طبيعيَّة يصبو إلى تكريسها من خلال المشاركة في السلطة السياسية بشكل غير مباشر، أي عن طريق التمثيل، وهو جوهر التصوُّر التعاقدي للوجود السياسي. تأخذ المواطنة، حسب التصوُّر التعاقدي، دلالة سياسيَّة صرفة. ليس المواطن هو ساكن المدينة، بل هو جزء منها، ويتجلَّى ذلك من خلال مشاركته في الشؤون العامَّة اعتباراً للمصلحة العامَّة التي هي الشرط الضروري لتحقُّق المصالح الخاصَّة. إنَّ التَّحديد السياسي للمواطنة يجعل حقوق المواطنة حقوقاً سياسيَّة لا غير (حقُّ الاقتراع، وحقُّ تقلُّد الوظائف السياسيَّة) ويستبعد الحقوق الاجتماعية (الحقوق المتعلِّقة بالشروط الماديَّة للوجود وبالخيرات الاجتماعية الضروريَّة لحياة إنسانيَّة لائقة).

تحتلُّ الحقوق الفرديَّة والقيم الاقتصاديَّة في المجتمع الليبرالي المكانة الأرفع مقارنة بالحقوق والقيم الأخرى، بل إنَّ الاقتصاد هو الذي يحدِّد الحقَّ، فالحريُّة الفرديَّة التي يتغنَّى بها الليبراليُّون تؤول إلى حريَّة الملكيَّة وما يرتبط بها من حقوق التبادل والاستهلاك. صارت الوسائل الماديَّة (المال) في ظلِّ المجتمع الرأسمالي هي الغايات التي يتمُّ الصراع من أجلها. إنَّ كلَّ الحقوق المنسوبة إلى الفرد لا قيمة لها إذا لم تتوفَّر الوسائل الماديَّة لتحقيقها، فحتَّى الكرامة الإنسانيَّة صارت مشروطة بالحصول على هذه الوسائل. حسب منظومة القيم السائدة ذات الطابع الاقتصادي (المصلحة الخاصَّة، حريَّة العمل والتبادل والاستهلاك، الملكيَّة، المنفعة، المردوديَّة، المنافسة) فَقَدَ مفهوم حقوق الإنسان دلالته الموضوعيَّة والحقيقيَّة فأصبح يُحيل إلى إيديولوجيا تبرير المصالح الطبقيَّة والسلطويَّة.

ليست العدالة الاجتماعيَّة مفهوماً إجرائيَّا خالصاً، بالمعنى الذي وضعه رولز في «نظريّة العدالة»، إنَّها مفهوم معياريٌّ وغائيٌّ؛ أي إنَّه يرتبط بالخير وبالمصلحة العامَّة، وهو قابل للتطبيق عندما تتوفَّر الشروط اللَّازمة لذلك، أي المؤسَّسات السياسيَّة والاجتماعيَّة المناسبة. يجب عدم اختزال العدالة في الدلالة الاقتصادية، لتدلَّ على عدالة التقسيم والتوزيع فقط. إنَّ العدالة خاصيَّة من خاصيَّات كُلِّ المؤسَّسات، باعتبار أنَّ هذه المؤسَّسات هي التي تنظِّم تقسيم الأدوار والامتيازات وسحب الامتيازات بين أعضاء المجتمع الواحد[38]. لهذا يعتبر رولز أنَّ العدالة كإنصاف هي فضيلة المؤسَّسات الاجتماعيَّة، مثلما أنَّ الحقيقة هي فضيلة أنساق التفكير[39]. وبالإضافة إلى ذلك لا بدَّ من توفُّر شرط آخر وهو وجود مجتمع مدني ديمقراطي يكون مجالاً للمواطنة الاجتماعيَّة. يُحيل كلٌّ من مفهوم «المجتمع المدني الديمقراطي» ومفهوم «المواطنة الاجتماعيَّة» إلى براديغم وجود سياسي مغاير تماماً للبراديغم الليبرالي، وبالتالي فهو لا يستند إلى التصوُّر التعاقدي الذي يؤسِّس السيادة على تنازل الذوات الفرديَّة، ويفصل بذلك بين المجتمع المدني والسلطة السياسيَّة فصلاً نهائيَّاً. تتحدَّد حقيقة المجتمع المدني الديمقراطي من جهة علاقته بالدولة، فالدولة لا تُمثِّل سلطة مركزيَّة تهيمن عليه وتتحكَّم فيه تحكُّماً صارماً. هذا المجتمع هو مجال للتعايش بين مواطنين أحرار يديرون شؤون حياتهم بأنفسهم، وهم متساوون أمام القانون، كما هم متساوون في الخيرات الاجتماعية الأساسيَّة التي هي ثمرة التعاون الاجتماعي. الديمقراطيَّة هي إذن الشرط السياسي للمواطنة الاجتماعيَّة وللعدالة الاجتماعيَّة. ولكن يجب ألَّا نفهم الديمقراطيَّة هنا في معنى التمثيل السياسي المتناغم مع مركزيَّة السلطة السياسية وانفصالها عن المجتمع، وذلك ضمن تصوُّر سياسويٍّ للسياسة، بل علينا أن نحدِّد الديمقراطية باعتبارها الشكل الذي تكون فيه السياسة نمطَ وجودٍ اجتماعيٍّ تُحدِّده قيم موضوعيَّة وغايات كُليَّة.

 

المصادر والمراجع:

- Aristote, Ethique à Nicomaque, trad.fr. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990

- Platon, La République, Paris, Plon, 1966

- Lalande, Vocabulaires techniques et critiques de la philosophie, Puf /Delta, Paris, 1996

- Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale: Le libéralisme égalitaire de John Rawls, NATHAN, Paris, 2000, p. 33

- Rawls, Théorie de La justice, tr ad.fr. C. Audard, Paris, Éd. du Seuil, Paris, 1987

- Otfried Höffe, État et justice, Vrin, Paris, 1988

- Will Kymlika, Les théories de la justice, traduit de l’anglais par Marc Saint- Upéry, la découverte, Paris, 1999

- Michael Sandel, Le Libéralisme et Limites de la Justice, trad. Fr. J.F. Spitz, Éd. du Seuil, Paris, 1999

- Nozick Robert, Anarchie, Etat et Utopie, tard. fr. E. d’Auzac de Lamartine, Puf, Paris, 1988

- A. Philonenko, Théorie et Praxis dans la pensée morale et politique de Kant et de Fichte en 1793, Vrin, Paris1976

- Paul Ricœur, Soi-même comme un autre, Édition du Seuil, Paris, 1990

[1] - يتفكرون العدد10

[2]* أكاديمي من تونس

  ـ المُنصف عند أرسطو ضرب مُعيَّن من العدالة، وهو «وإن كان أرفع من صنف معيَّن من العدالة فإنَّه هو ذاته عادل (...) ثمَّة إذن تطابق بين العادل والمنصف، وكلاهما حسن، وإن كان المنصف أفضلَهما». انظر:

Aristote, Éthique à Nicomaque, (trad.fr. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990), 1138 a, p.268

[3]- Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990, 1131 a, p.225

[4]- Ibid. 1131a, p.225 -226

[5]- La justice» est une vertu complète au plus haut point, parce qu’elle est usage de la vertu complète, et elle est complète parce que l’homme en possession de cette vertu est capable d’en user aussi à l’égard des autres et non seulement pour lui-même«. Ibid., 1130 a, p. 219

[6] ـ يتمثّل التصوّر التليولوجي في تحديد الخير كغاية مطلقة، ويُعرَّف في إطاره على نحو منفصل عمَّا هو عادل، وحسب مثل هذا التصوُّر يعتبر العدل مجرَّد وسيلة أو طريق إلى الخير. التصوُّر التليولوجي هو إذن تصوُّر إيتيقي، لأنَّه يرتبط بطلب الحياة الجيدة والخيِّرة مع الآخر ومن أجله. انظر:

Ricœur, Soi-même comme un autre, Édition du Seuil, Paris 1990 p. 211.

[7] - La médiété» est égal, car en toute espèce d’action admettant le plus et le moins il y à aussi l’égal. Si donc l’injuste est inégal, le juste est égal, et c’est là, sans autre raisonnement, une opinion unanime«. (Éthique à Nicomaque, op. cit., V, 6, 1131 a).

[8]- Platon, La République, Plon, Paris, 1966, (liv. IV, 434c-435d).

[9] - Lalande, Vocabulaires techniques et critiques de la philosophie, (Justice).

[10]- Aristote, Ethique à Nicomaque, op.cit, 1137 b, p.266- 267: «En effet l’équitable, tout en étant supérieur à une certaine justice, est lui-même juste, et ce n’est pas comme appartenant à un genre différent qu’il est supérieur au juste. Il ya donc bien identité bu juste et de l’équitable, et tout deux sont bons, bien que l’équitable soit le meilleur des deux. Ce qui fait la difficulté, c’est que l’équitable, tout en étant juste, n’est pas le juste selon la loi, mais un correctif de la justice légale. La raison en est que la loi est toujours quelque chose de général, et qu’il y a des cas d’espèce pour lesquels il n’est pas possible de poser un énoncé général qui s’y applique avec rectitude«.

[11]- Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale: Le libéralisme égalitaire de John Rawls, NATHAN, Paris, 2000, p. 33

[12]- Rawls, Théorie de La justice, trad.fr. C. Audard, Paris, Éd. Du seuil, Paris, 1987.

[13] - Ibid. liv.1

[14] - Otfried Höffe, Etat et justice, Paris, Vrin, 1988, p.89

[15]- Will Kymlika, Les théories de la justice, traduit de l’anglais par Marc Saint- Upéry, la découverte, Paris, 1999, p.66

[16]ـ يعني مبدأ الإنصاف أنَّ كل شخص مُلزم بطاعة قواعد المؤسَّسة. أوّلاً يُشترط أن تكون المؤسّسة عادلة أو منصفة أي أن تحترم مبدأي العدالة. وثانياً يُشتَرط أن يكون قد قبل بحُريَّة الفوائد والمنافع التي توفّرها، وهكذا فمبدأ الإنصاف لا يمكن أن يربط الفرد بمؤسَّسات غير عادلة. انظر:

Théoriede la justice, trad.fr. C. AudardÉd., du seuil,Paris, 1987, p. 142,

[17] ـ يدلُّ مفهوم الوضعيَّة الأصليَّة على حياة اجتماعيَّة ممكنة. تتميَّز هذه الوضعيَّة بوجود أفراد يتعايشون في زمان ومكان ما، وبكون قدراتهم الطبيعيَّة والذهنيَّة متفاوتة، وبمحدوديَّة الموارد، وبضرورة العمل من أجل التغلُّب على مشكل الندرة.

[18] - «La théorie de la justice comme équité considère la société comme une entreprise de coopération en vue d’avantages mutuels. La structure de base est un système public de règles qui définit des formes d’activité conduisant les hommes à coopérer afin de produire une plus grande somme d’avantages et reconnaît à chacun des droits sur une partie de ce qui a été produit. Ce que fait une personne dépend de ses droits définis par les règles publiques, et ces mêmes droits dépendent de ce qu’elle fait. La répartition résulte de la satisfaction des revendications qui ont été déterminées grâce à ce que les personnes entreprennent à la lumière de ces attentes légitimes. Ces considérations suggèrent que l’on traite la répartition comme une question de justice procédurale pure«. (Rawls, Théorie de la justice, trad.fr. C. Audard, Éd. du Seuil, Paris, 1987, p.116).

[19]- «Donc, pour appliquer à la répartition la notion de justice procédurale pure, il est nécessaire de créer un système d’institutions qui soit juste (just) et de l’administrer impartialement. La juste procédure qui est donc nécessaire n’existe que si, à l’arrière- plan, la structure de base est elle-même juste, ce qui inclut la justice de la constitution politique et la justice de l’organisation des institutions socio-économiques«. Théorie de la justice, p.118

[20] - Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale, p. 80.

[21]- Rawls, Théorie de la justice, p.55

[22] ـ يجب أن نفهم عبارة «دينطولوجي» للدلالة على الأخلاقي، وعبارة «تليولوجي» للدلالة على الإيتيقي. الأخلاق Morale تدلُّ على معايير كُليَّة ومطلقة، وأمَّا الإيتيقا Éthique فتتعلَّق بالتوجُّه نحو تحقيق حياة جيّدة ومكتملة. يمكن العودة إلى كتاب بول ريكور: الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005.

«On reconnaitra aisément dans la distinction entre visée et norme l’opposition entre deux héritages, un héritage aristotélicien, où l’éthique est caractérisée par sa perspective téléologique, et un héritage kantien, où la morale est définie par le caractère d’obligation de la norme, donc par un point de vue déontologique«. Cf. Ricœur, Soi-même comme un autre, Éd. Du Seuil, Paris, 1990, p.200

[23] - Michael Sandel, Le Libéralisme et Limites de la Justice, trad. Fr. J.F. Spitz, Éd. Du Seuil, Paris1999 p.30

[24] - Ibid, p. 57

[25] - Aristote, Éthique à Nicomaque, trad. Tricot, Vrin, Paris, 1990, 1130 a, p.219

[26] - W. Kymlika, Les Théories de la justice, op.cit. p.86

[27] - Ibid, P.90

[28] - Nozick Robert, Anarchie, Etat et Utopie, tard. fr. E .d’Auzac de Lamartine, Puf, Paris, 1988.

[29]- Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale, Op. cit. p.110

[30]- Ibid, p.107.

[31] ـ انظر: بول ريكور، العادل، ترجمة منير كشو ومنيرة بن مصطفى، نشر بيت الحكمة، تونس.

[32]- يقول ميكل صندل في كتابه «الليبراليَّة وحدود العدالة» موضِّحاً موقفه من الوصف الذي عادة ما يلصق به وهو أنَّه «جماعتي» communautarien على غرار كلٍّ من ألسدير مكنتير (Alasdair McIntyr) وتشارلز تيلور (Charles Taylor) وميكل فلزر (M.Walzer)، يقول: «لست دائماً في صف الجماعتيّين». انظر:

Le Libéralisme et les Limites de La Justice, trad. fr. J.F.Spitz, Éd. Du Seuil, Paris, 1999, p.12

[33] - Ibid, p.14

[34] - Ibid, p.14

[35] - Ibid, p.30

[36] - Ibid, pp. 269 - 270

[37] ـ هذا التمييز بين المواطن الفاعل والمواطن المنفعل نجده لدى كانط، وتحديداً في كتابه: «نقد العقل العملي». المواطن الفاعل هو عضو في الدولة، وهو يشارك في الشؤون العامة نظراً لكونه مالكاً، وأمَّا المواطن المنفعل فهو مجرَّد جزء من الدولة، وليس له تبعاً لذلك حقُّ الاقتراع. انظر:

A. Philonenko, Théorie et Praxis dans la pensée morale et politique de Kant et de Fichte en 1793, Vrin, Paris, 1976, p.66

[38] - Ricœur, Soi-même comme un autre, Paris, Édition du Seuil, 1990, pp. 232 -234

[39] - Rawls, Théorie de la justice, Op. cit. p.29