كيف تؤثر الأيديولوجيات على انتشار التطرف والإرهاب؟


فئة :  مقالات

كيف تؤثر الأيديولوجيات على انتشار التطرف والإرهاب؟

لا يغير ما يقال من تفسير أو تعليق أو تحليل لظاهرة القسوة (التطرف والإرهاب والكراهية) في عالم العرب بخاصة والمسلمين بعامة، وسواء اشتغل المهتمون بالظاهرة بردها إلى فهم النصوص الدينية وتطبيقها أو البيئة الاجتماعية والاقتصادية أو النزعات النفسية، أو إلى الاستبداد والفشل السياسي أو بمزجها معا، أو كانوا مخطئين أو مصيبين، فإن حقائق أساسية تظل قائمة وتنشأ حولها أسئلة بديهية وتلقائية، وهي أن عشرات الآلاف من العرب والمسلمين يتطوعون للقتال مع الجماعات المسلحة، يذهبون بدافع قوي واستعداد مخلص للتضحية والموت لأجل معتقداتهم، ويعكس هؤلاء أيضا وجود جماعات تفوق عدد المقاتلين بأضعاف مضاعفة تؤمن بالعنف والقتل لأجل الدفاع عما تعتقده وتراه فرضا وصوابا، كيف يتحمس الناس للقتل والموت، وكيف تتشكل المعتقدات والأفكار التي تدفع الناس إلى تمجيد الموت والقتل؟ وكيف تسيطر على هؤلاء الناس مشاعر القسوة والكراهية والسادية واللامبالاة تجاه الضحايا من الأبرياء والأطفال والناس المشردين من بيوتهم وأوطانهم؟ وكيف تتحمس فئة من الناس لإثارة الفزع والخوف؟ وإذا كان صحيحا القول إنها حالة لا يفيد في مواجهتها إلا بقدر ضئيل الردّ الفكري والأدلة والبراهين العقلية؛ إذن كيف يمكن فهمها والاشتباك معها؟

يقول فيليبو مارتيني: "نمجد الحروب، فهي قاعدة سلامة وصحة العالم، والعسكرية والوطنية، وهي الفعل المدمر لمن يثور على السلطة من الفوضويين، هي الأفكار الرائعة التي من أجلها يموت الإنسان" وفي ذلك يجب أن نواجه أنفسنا بأن الحروب الأهلية والدينية القائمة في العالم اليوم وتعصف بالعرب، هي على نحو ما مصلحة لطبقات سياسية تجد في إدامتها فرصا للهيمنة.

وتترك الجماعات نفسها تنخدع أيضا، فتزود نفسها بالتبريرات والمعتقدات الزائفة لتجعل جرائمها مقبولة، أو تنشئ عواطف قوية ترى في الإرهاب والتطرف وحتى القتل العشوائي للأبرياء والعزل دفاعا عن النفس والدين! ولا يمكن بالطبع إغفال الصعوبات الاقتصادية أو العجز السياسي أو الفشل في تحريك الصراعات الداخلية أو البحث عن أسباب لتخفيف الفشل وألمه، وإن كان لا يمكن إغفاله أو تجاهله.

يبدو أن النظرة الشاملة المتفاعلة هي التي تساعدنا في الإجابة عن السؤال "كيف"؛ ففي تراكم الفشل والتجارب وتفاعلها مع النزوع والميل إلى القسوة والتبرير لأجل بناء التماسك الاجتماعي، ثم في الميل نحو الحلول البسيطة والسهلة والرخيصة والمتاحة، يكون الهرب إلى الأزمات المفتعلة أو الحقيقية، وتحمل كاثلين تايلور القادة السياسيين الملتزمين الذين يسعون للكسب الأكبر من إقصاء الغير مسؤولية كبيرة هنا ويتحملون الوزر، لأن الحلول التي تأتي من مصدر قوي وموثوق غالبا ما تكون فاعلة ويسهل تقبلها. ولسوء الحظ، فإن الحلول العملية والقانونية الفعالة لمشكلات العالم الواقعي ليست غالبا هي الحلول البسيطة أو قليلة التكلفة، وتستطيع المعتقدات الخاصة بإقصاء الغير ملء الفراغ بين التزود بالحقيقة وطلب الأمان.

وتكون المعتقدات الدينية والقومية حاجة ملحة؛ لأنها تشجع على الإقصاء، وتحول الجريمة إلى فضيلة، وتثير عواطف قوية مرتبطة بالتهديدات الصادرة من قوى خارج الجماعة (الخوف، الغضب، الاشمئزاز، ..) وكذلك العواطف المجزية من داخل الجماعة (الحب، الكبرياء، الفخر، السعادة، ..) وهذا أيضا يجعل الضحايا مثل المجرمين، ويقلل من التعاطف معهم... إن الأيديولوجيات والقواعد الأخلاقية تجعل القسوة شيئا معتادا في المجتمع، حتى تصير سلوكا مقبولا.

ويعاد بناء المعتقدات وترتيبها حسب الأهمية والحاجة إليها، فتعزل الأفكار والمعتقدات المشتركة مع الأعداء والخصوم، وترفع الاعتقادات التي تناقض الأفكار والمثل العليا الأساسية لمن يعارضونهم، بل وتمنح القداسة لمعتقدات لمتكن مهمة، ويمكن على سبيل المثال الملاحظة كيف أخذت مفاهيم حديثة لم تكن معروفة من قبل صفة القداسة وأنها فرض عين، مثل الدولة الإسلامية، والولاء والبراء، واستعلاء الإيمان، والمفاصلة الشعورية، أو المبالغة والتوسع في مفاهيم الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتركيز على العقوبات، والانتقائية في الفتاوى والتفسيرات والمواقف المتشددة للنصوص الدينية وبعضها بشري منح صفة دينية، لقد منحت القداسة لمعتقدات وأفكار عندما قررت الجماعة أهميتها وحاجتها إليها.

ما الدوافع التي تجعل الناس قساة؟

حسب كاثلين تايلور يقترح دانييل شيرو Daniel Chrot وكلارك ماكولي Clark McCauly (كتاب سيكولوجية القتل الجماعي) أن مرتكبيي الجرائم الفظيعة على نطاق واسع لديهم أربعة دوافع: "الفائدة، الثأر، الخوف، وخشية التلوث، وقد توجد كلها بدرجات متفاوتة في أي جريمة" وفي ذلك تحكم جرائم التطرف والقتل المنتمية إلى الأيديولوجيا كما تقول تايلور: "الفرصة المتاحة والخوف والغضب والاشمئزاز".

وتستشهد على سبيل المثال، بالجرائم التي ارتكبها المستوطنون الأوروبيون بحق السكان الأصليين في القارة الأمريكية المكتشفة، يقول جوليو روكا وزير الحرب الأرجنتيني 1843-1914 في إشارة إلى الهنود من السكان الأصليين للأرجنتين: "إن احترامنا لذواتنا كرجال يتميزون بالجسارة والحزم يلزمنا أن نقمع ونبيد بأسرع ما يكون وبالمنطق أو بالقوة هذه الزمرة من المتوحشين الذين يدمرون ثرواتنا ويمنعوننا نهائيا من أن نملك الأرض بالقانون وأن نتقدم ونحقق أمننا، إنها أكثر الأراضي ثراء وخصوبة في الجمهورية".

وفي الخوف مصدر لجرائم القسوة، فإنه يجري تصوير جماعة مستهدفة على أنها شديدة الخطورة، وأنها تهديد حقيقي للحفاظ على الذات، فيمكن للخوف أن يطلق أفعالا لا يمكن تخيلها. ويستخدم أيمن الظواهري المقولة السائدة "أصبحنا مثل الأيتام على مآدب اللئام" لتوظيف الخوف والتهديد، ولكن يجب القول أيضا إن الشعوب التي تعاني من رعب دائم تخاطر بأن تنهار وتصل إلى الهزيمة.

ويعتبر الغضب بما هو الانتقام أو الانجذاب المسموم إلى إنزال العقوبة مصدرا أو استجابة جمعية محفزة، وهناك شعارات تطلق دائما ونسمعها كثيرا مثل "لن ننسى جرائمكم أيها الطغاة المستعمرون" ولا يغير من الصراع ومحفزاته أن يكون هؤلاء المقصودون بالعبارة قد انتهوا منذ زمن طويل، ومن ولدوا بعدهم لا يمكن أن يكونوا مسؤولين عن هذه الأمور.. كما يوظف في الصراع السني الشيعي اليوم الصراع الذي جرى قبل ألف وأربعمائة عام بين الأمويين والهاشميين، ومن المضحك أنه لم يعد يعرف أحد ينتسب إلى الأمويين أو يراهم أئمة يقتدى بهم، ولكن الملايين يقتلون ويهجرون في حروب متواصلة على مدى مئات السنين بين الإمبراطوريات والقبائل والدول والشعوب والأفراد والمجتمعات لأجل هذا الصراع على الحكم بين شخصين وتحول إلى صراع بين عائلتين، ثم صار صراعا ممتدا عميقا لا تعرف له نهاية! وفي ذلك نقدم تطبيقا مثاليا نموذجيا لمقولة تايلور: "قد تمتد عضوية الجماعة بأسطورة مناسبة إلى مدى تاريخي لتدعم مفهوما عن تهديد وخطر قديم، وقد يكون هذا الفكر مصدره حديث نسبيا أو تكتنفه أفكار قديمة عن الشر، غالبا ما تكون دينية". ولكن في البعد السياسي، فإن الجماعة المسيطرة ترى ضرورة إخضاع الجماعات التي تمثل تهديدا حتى تستسلم، وإن لم تكن إحدى الجماعات خطيرة، فلا بد من اكتشاف مؤامرة، أو ابتكار الأعداء والنبش في الاتهامات القديمة!.

وتجري أيضا في تحريك الصراعات والتحريض على القتل إثارة مشاعر التميز الذاتي والاستعلاء والفوقية والنظر إلى الآخر بأنه تلوث فكري أو رمزي أو مهدد للهوية، فتقع القسوة غالبا بدون مبرر على فئات أقل قوة، ولا يستحقون الأذى ولا يشكلون تهديدا. ويمنح المتطرفون والقتلة الإسلاميون اليوم مجالا واسعا لبناء مفاهيم وأفكار الخوف من التلوث، والتي تمتد بطبيعة الحال إلى جميع المسلمين، وتكون مشاعر التقزز والاشمئزاز عاطفة مثالية لجعل الجرائم الفظيعة تبدو ضرورية وقانونية، وتحظى بتأييد كبير يقترب من الإجماع، ولأنها تهديدات غير مرئية، فذلك يساعد على التهرب من إثباتها. وتستخدم على نحو ناعم تجاه فئات أو أقليات تعيش بين الأغلبية المختلفة، فتدفع الأقلية إلى الانزواء "الجيتو"، فيتجمعون معا، وقد يمتد النبذ والحصار إلى العمل والتجارة والرعاية الصحية والاجتماعية والمصاهرة.

إن مشاعر التقزز مفيدة في تكريس قسوة القلب والاندفاع إلى القتل والأذى بلا تردد، فيتعرض بعض الناس أكثر من غيرهم للقسوة والنبذ، وترد هذه القسوة إلى غلظة القلب المبرر عادة بمبررات دينية أو قانونية أو مبتكرة أو لأسباب طبيعية، مثل الفشل والحقد والانتقام. ويحاول قادة سياسيون أن يقودوا أتباعهم إلى إقصاء الآخر بغرس الخوف المرض والرهاب والفوبيا، وقد يصعب في هذه الحالة إنقاذ الضحايا.

عندما يعتقد الأقوياء لأي سبب أن الحل الوحيد هو إقصاء جماعة معينة من الناس، فإن منطق الإقصاء لن يكون صعبا، وستكون الطريقة الوحيدة لأن تكون واثقا أن تلك الجماعة لا يمكن تلافي تهديدها إلا بإبادتها، وسوف يساعد الخوف والغضب في إطلاق عدوان ارتدادي كرد فعل من الجماعة، فإذا كان التهديد معقولا وحقيقيا، ويمكن تصديقه تحدث الصراعات التي يخطط لها أو يتمناها قادة عنصريون أو متطلعون إلى البطولة والزعامة أو لأجل فرصة للمنافسة مع قادة آخرين، .. وقد يلزم لتحريك المواجهة قدر من الاشمئزاز، وكما تجلب القسوة عواطف سلبية، فإنها تجلب أيضا عواطف إيجابية مثل دعم التماسك والصلات الداخلية والانتماء والاندماج.

ثم تتحول المنظمات والموارد المتشكلة حول هذه الغايات إلى مصالح شخصية للقائمين عليها، فيكتسب التطرف والصراع محركات ومحفزات جديدة، إن تحول المنظمات إلى مصالح شخصية كما يقول الفيلسوف الاجتماعي الإيطالي غايتانو موسكا لا مفر منه عاجلا أو آجلا.

تبدأ المواجهة الحقيقية مع التطرف بأن نعرّف العدو والصديق تعريفا صحيحا ونزيها، ولكن حتى نعرف ذلك يجب أن نعرف من نحن؟ ربما يجد الغرب سهولة وبداهة في تعريف العمل "الجماعاتي" المسلح ضد مصالحه ومواطنيه عدوا، ويمكنه أيضا أن يحشد الرأي العام ودافعي الضرائب في مواجهة هذا العدوّ، هناك تحديد واضح لـ "نحن" و"هم" ولكنا في عالم العرب والمسلمين لا نقدر على هذا التمييز بين "نحن" الدول والمجتمعات و"هم" الإرهابيون، فنحن ليس لها معنى واحد متفق عليه، وهم أيضا يشاركهم الرأي والموقف فئات اجتماعية واسعة ترى نفسها تتعرض للتهيمش والإقصاء، وترى نفسها وعقائدها مهددة بالإبادة والإخفاء، وليست المواجهة بين دول تشاركها مجتمعات وبين خارجين على القانون أو جماعات وأفراد تستهدف الدول ومصالحها بقوة السلاح، حتى وإن بدا الأمر كذلك قانونيا، ولكنها حروب وصراعات تأخذ عناوين ومعاني أخرى راسخة في ضمائر المتصارعين، هي صراعات طائفية ودينية وإثنية وطبقية، وتملك أطراف الصراع جميعها معتقدات راسخة، وهذه المعتقدات المهيمنة أنشأت واقعا قائما أو متخيلا لا مجال فيه للعيش المشترك أو التسويات، ليس هناك إلا قاتل أو مقتول، ولا خيار سوى أن يغير الواقع ليلائم المعتقدات أو تغير المعتقدات.

نحن "الأوليغارشيا" المهيمنة على الموارد والفرص نرى الصواب والتقدم فيما يخدم هذه الهيمنة ويرسخها، أصبحت الهيمنة هي الشرعية والقانون والدين والأخلاق، ويجب على المجتمعات وسائر الطبقات أن تتبعنا وتؤيدنا، وفي ذلك نمنح ونمنع ونعز ونذلّ وندني ونبعد، ولا حق لها في المقابل سوى ما نمنحه، ونقدر لأجل الولاء ويحق لنا أيضا أن نبث الخوف والجوع والنفايات، ونعطل المصالح والمرافق والخدمات.

ونحن "الجماعات" نحارب الطواغيت الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ويحولون بين الناس وبين الهدى والصواب (كما نراه ونعتقده بالطبع) ولا يمكن تغيير أفكارنا ومعتقداتنا، وليس لنا خيار سوى ما نفعله من قتل وتدمير وأذى، ونحن أقوى مما يظنون وقادرون على المواجهة والمفاجأة.

ونحن (المجتمعات والطبقات التي ليست النخبة المهيمنة ولا الجماعات المقاتلة) ليس لنا خيار فيما نسلكه أو نفكر فيه أو نؤمن به أو لا نؤمن، ننتظر أن ينتصر أحد الفريقين ليحكمنا ويستولي على مواردنا وأرواحنا وضمائرنا.

نحن (الأوليغارشيا) نعلم أن المجتمعات وسائر الطبقات تكرهنا حتى وهي تظهر الولاء لنا، وندرك أنها مستعدة لقتلنا ومحونا من الوجود أو على الأقل حرماننا من مكتسباتنا، ولا يحمينا في الواقع سوى القوة والتسلط، ولا يدفع المجتمعات والطبقات إلى التحالف معنا والولاء لنا سوى الخوف، الخوف منا أو من الجماعات المتطرفة والمقاتلة، والحال أننا نحتاج إلى الإرهاب ليظل الخوف، فبغير الخوف سوف ننقرض ولأجل أن يظل الخوف يجب أن يظل الإرهاب!

نحن (الجماعات المتطرفة والمقاتلة) ندرك أننا نمثل ضرورة للأوليغارشيا وأننا حليف خفي، وربما مكروه (لسنا متأكدين) للأنظمة السياسية في ظل هذه الحرب الدائرة، فلا معنى للسلطات والجيوش والأجهزة الأمنية والاستبدادية والإعلامية في غيابنا، ولا مبرر بدوننا للهيمنة على الموارد أو الاتجاهات السائدة في الإنفاق والأفكار والمشاعر والمعتقدات، .. إننا ندرك حدود اللعبة ومسارها، ونحاول أن نلعبها كما نقدر أفكار وأهداف اللاعب المنافس، هي لعبة يجب أن تستمر بلا توقف.

نحن (المجتمعات والمدن والطبقات) لا نعرف من نحن ولا نؤيد من أو نحارب من، ربما نكون مثل البطة التي تلجأ إلى مناطق الصقور هربا من الثعالب .. وفي ذلك تدير البطة (التي نحن مثلها) بقاءها؛ فالصقور تطرد الثعالب وتفترس من البط قدرا تظل معه قادرة على التكاثر واحتمال البقاء أكثر بكثير من العيش في مناطق الثعالب، حيث تزيد أو تتأكد احتمالات الفناء.

إن الأمم والجماعات والطبقات تدير صراعاتها حسب اجتهادها لتقدير حاجاتها واعتمادها على بعضها بعضا، ولذلك غلب على الصراعات مجموعات من القوانين والقيم التي تسمح بتسويتها على نحو يترك المجال دائما إلى التعاون والتنافس السلمي وتقليل المخاطر والمهددات إلى أدنى حدّ ممكن، وبطبيعة الحال، فإن اليأس من الوصول إلى تسوية سلمية مقبولة يحول الصراع إلى عمليات إلغاء وإبادة للآخر بالنظر إلى أن وجود جماعة أو بقاءها لا يمكن ضمانه إلا بالقضاء على الجماعة الأخرى وإلغاء عقائدها.

وتنشأ تبعا لهذه المخاوف والمشاعر المعتقدات والأفكار وحتى القواعد والقيم الأخلاقية نشأت لحماية الأقرباء وتضامنهم في مواجهة الغرباء، ويتشكل الواقع تبعا لهذه المخاوف والمعتقدات والأفكار، وعلى سبيل المثال، فإن كثيرا من الناس يرفضون تصديق الحقائق التاريخية؛ لأنها تناقض الواقع الذي شكلوه وفق تصور وخيال ناشئ عن الشعور بالتهديد، ما يعني بالضرورة دفاعا مستميتا عن المعتقدات التي تحمي الواقع المرغوب والرفض القوي للحقائق غير المرغوب فيها، وتنشأ أيضا حول الواقع المتشكل والقضايا التاريخية مقولات المؤامرة الشريرة التي تحرك الناس لارتكاب أسوأ أعمال العنف والجرائم ضد المتهمين والمتآمرين، ويتجاوز العنف بأصحابه من القتل الشامل إلى تطهير وتصفية المعتقدات والأفكار!

ولذلك، فإن الأمم والجماعات تمجد الحروب، فهي بالنسبة إلى السلطات والجماعات والجيوش والنخب فكرة رائعة يموت لأجلها الإنسان، وفي ذلك تدمر السلطات والجماعات أعداءها، وتحرك وتثوّر أتباعها ومؤيديها، ولم تستطع بعد أو لا تريد أن تجد بديلا للأعداء والمهددات والمخاطر محركا لبناء أسطورتها وحشد الناس وراء أهدافها.

وفي ذلك، فإن السؤال البديهي والتلقائي كيف ندير الصراع مع الأعداء والمخاطر؟ أو على نحو أكثر بداهة من الأعداء وما المخاطر والمهددات التي تحيط بنا اليوم؟ ولكنه سؤال برغم بداهته وبساطته صادم، من هم أعداء السلطات والنخب المهيمنة اليوم ومن يهددها ويشكل خطرا عليها؟ ومن هم أعداء الناس والمجتمعات؟ هل هو عدو واحد؟ أم أنهم (السلطات والمجتمعات) أعداء بعضهم بعضها؟ ثم وباقتباس تشكل المخاطر ومسارها هل يمكن أن نسأل بأن المجتمعات والسلطات والطبقات دخلت في صراع لم يعد ممكنا تسويته إلا بإلغاء أحد الأطراف اللآخرين والقضاء عليهم وعلى آثارهم وأفكارهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن الإرهاب يشكل حاجة سلطوية ونخبوية لإعادة تشكيل الواقع بطبقاته ومكوناته وموارده لصالح النخبة المهيمنة، ويمثل في الوقت نفسه الوسيلة الوحيدة المتبقية للمستضعفين والمهمشين واليائسين للدفاع عن وجودهم أو ما تبقى من وجودهم.