لسنج بين الأرثوذكسية والأنوار


فئة :  مقالات

لسنج بين الأرثوذكسية والأنوار

يُعَدُّ القرن الثامن عشر قرن الأنوار بامتياز، ويمكن اعتبار فلسفة الأنوار من أفضل ما أنتجه هذا القرن، حيث اعتلت الصدارة، فنصّبت نفسها عنواناً عاماً للفكر الأوروبي. غير أنّ هذا الراهن الأوروبي خرج من صلب الإصلاح الديني، الذي عرفته أوروبة، إبّان القرن السابع عشر، هذا الإصلاح ما كان ليكون كذلك لولا عصر النهضة، في القرن السادس عشر؛ العصر الذي بدأت فيه الإرهاصات الأولى لنقد الأرثوذكسية. فكيف انتصرت لحظة الأنوار للفلسفة على المعارف التقليدية العتيقة، التي قام عليها الفكر الأوروبي؟ ولماذا اتّجهت فلسفة الأنوار، نقداً، إلى ضرورة التحرّر من السلطة الدينية والأبوية التقليدية؟ وما الذي جعل فلاسفة أمثال لسنج (Lessing) ينتقلون من النقاش الديني إلى النقاش الأنواري؟

لسنج الأرثوذكسي* ومحك الأنوار:

إنّ الحديث عن فلسفة الأنوار لا يمكن عزله عن عصر النهضة، وما أعقبه، فالأنوار استمرار وتحقيق لعصر النهضة؛ إذا لم نقل نهضة ثانية عرفتها أوروبة. فما عرفه القرن السادس عشر من أحداث سياسية، وعلمية، وفلسفية، حطّم اللحظة الوسيطية، وما شهده القرن السابع عشر من تمجيد للعقلانية، وإثبات الذات الإنسانية، من حيث هي فكر، وبروز منهج كاشف، من حيث هو بحث حرّ، ما كان ليعطي من نتيجة غير فلسفة الأنوار بشكل خاصّ، وعصر الأنوار، بشكل عام، في القرن الثامن عشر. "بهذا الشكل عرفت مفاهيم وقضايا القرن الثامن عشر الميلادي، الذي يظهر أنّه ورثها من الماضي، تغييراً جوهرياً. لقد انتقلت من كونها مفاهيم وقضايا ثابتة مكتملة، لتصبح قضايا فاعلة؛ أي مبادئ للفعل"[1]. ومن بين القضايا والإشكالات الأولى، التي فجرتها فلسفة الأنوار، علاقة العقل بالوحي، لكن يجب ألا نفهم من هذا أنّ العصر الوسيط سيعيد نفسه في القرن الثامن عشر؛ لأنّ المسألة، هنا، ليست مسألة التوفيق بين العقل والوحي، أو العقل والنقل، كما ذهب إلى ذلك الفلاسفة المسلمون والمسيحيون في العصر الوسيط، وإنّما هي مسألة الفصل والتخصّص؛ "فكانت الأرثوذكسية تعطي الأولوية للنقل على العقل، وتجعل النقل حشواً للأسرار، والمعتقدات، والطقوس، فكان الهجوم عليها من التنوير والقنوط؛ الأوّل من أجل العقل، والثاني من أجل التقوى؛ الأوّل يعطي البديل العقلي، والثاني البديل الصوفي، ومن ثمّ يمكن إعادة الدين على العقل والقلب"[2].

هذا التصوّر الجديد يجعل للدين مدخلين أساسيين: مدخل العقل، حتى لا ينزلق المتديّن وراء الأهواء والتخيّلات الوجدانية، ومدخل القلب، حتى لا ينقاد الإنسان إلى الإلحاد والكفر. فاللحظة الأنوارية، إذاً، هي لحظة من أجل العقل، العقل المحكوم بهاجس التقدّم قائماً على الشرعية العلمية، التي مثلتها العلوم الحديثة، مطلع القرن السابع عشر. بهذا المعنى، تمثّلت الأنوار ذاتها كبداية جذريّة قامت على تأصيل مفاهيمها حول الطبيعة البشرية، والتاريخ، والنقد، والسياسة، والأخلاق، والجمال، وغيرها. كلّ هذا، وأكثر، جعل الحداثة الأنوارية لا تقتصر على تقدّم العلوم، وبروز تقنيات جديدة؛ بل تتّسع إلى ضرورة الدفاع عن الكرامة والحرية الإنسانية. إنّ تحقيق هذا الأمر يبقى رهناً بالنقد الحرّ والشامل؛ فالتقدّم لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا كان مبنياً على حرية النقد. "مع فكر الأنوار سيُعاد اكتشاف الإنسان من جديد، لن يتعلّق الأمر بـ «اكتشاف ميتافيزيقي»، كما كان الأمر مع ديكارت؛ بل باكتشاف تاريخي وأنثربولوجي للإنسان. داخل هذا الاكتشاف، سيصبح إصلاح الطبيعة البشرية أمراً ضرورياً. لكنّ ذلك لن يتحقّق ما لم يتمّ النقد الشمولي لكلّ المؤسسات، والقيم، والرموز، التي تشدّ المجال الإنساني إلى سلطة الماضي"[3].

من هذا المنطلق، ستضمّ فلسفة الأنوار تيارين أساسيين؛ الأوّل تيار جذري راديكالي، يسير مع العقل إلى ما لا نهاية، فلا يضع أمام العلوم أيّ قيود أو حدود، وينهج قطيعة مع الماضي، ولا يقبل أيّ مساومة معه، ويرفض المحافظين والسلفيين، دون الخشية من أن يُتّهم بالكفر أو الإلحاد. وهو تيار وجد ضالّته، مطلع القرن السابع عشر، مع مجموعة من الفلاسفة، أمثال: باروخ اسبينوزا (Baruch Spinoza) في هولندا، واستمرّ، في القرن الثامن عشر، مع فولتير Voltailre)) وغيره في فرنسا، وهيرمان صامويل ريماروس (Hermann Samuel Riemarus) في ألمانيا، ليجد المجال خصباً لاستمراريته، في القرن التاسع عشر، مع أرنيست رينان Ernest Renan))، وأمثاله.

أمّا التيار الثاني، فهو معتدل لا يميل إلى القطيعة مع الماضي كلّه، ولا يقبل بهدم الأرثوذكسية كاملة، كما أنّه لا يرفض الأنوارية، باعتبارها لحظة فتنة ومؤامرة على الأرثوذكسية؛ بل حاول أن يربط بين التقليد والحداثة، بين الأرثوذكسية والأنوارية الجذرية المتعارضين". وهو ما حاوله لسنج برفضه الأرثوذكسية دون انتسابه إلى التنوير الجذري، ما سبب قلقَ فلاسفة التنوير (أمثال: مندلسون) عليه، ولا مانعَ، عند لسنج، من استعمال بعض أفكار التنوير الجذري لنقد الأرثوذكسية، ثمّ استعمال بعض الآراء الأرثوذكسية لنقد التنوير الجذري. وهذا هو التيار الذي مثله لسنج، وهاردر، وكانط، وفلاسفة التنوير في ألمانيا، في القرن الثامن عشر، بوجه عام"[4].

علاقة الوحي بالتربية:

من المعلوم أنّ التربية كانت الشغل الشاغل لفلاسفة عصر الأنوار، وذلك بغية القضاء على الجهل، والاهتداء نحو طريق الحقيقة والسعادة. إنّ الإنسان لا يكتسب كينونته الثقافية إلا في خضوعه لعملية التربية، فهذه الأخيرة هي التي تسمح له بالتأقلم والتكيف مع محيطه الخارجي من جهة، وتدفعه إلى التعلّم المستمر، والتقدّم نحو الخير والرفاه، من جهة ثانية. ويكفي أن نذكر، بهذا الصدد، لسنج وكتابه (تربية الجنس البشري). كان لسنج، من خلال كتابه هذا، يهدف إلى تحقيق التربية ليس على مستوى العقل وحده، كما حدث في القرن السابع عشر، ولاسيّما في فرنسا مع الديكارتيين، الذين أرادوا بناء الإنسان الصالح والمستنير بناءً على العقل وحده، وليس على مستوى الإنسان وحده، كما حدث، بعد ذلك، في القرن الثامن عشر؛ بل الأمر، عند لسنج، يتعلّق بالجنس البشري كلّه؛ أيّ أن تتحقّق التربية في التاريخ؛ لأنّ الوعي البشري وعيٌ تاريخي، وعملية التربية عمل تاريخي، والاستكمال لا يحدث إلا في التاريخ. "لم يعد العقل هو، فحسب، مناط التربية؛ بل أصبح الإنسان كلّه عقلاً وإرادة، الإنسان من حيث هو وجود إنساني حيّ، في علاقته مع الله، ومع العالم على حدٍّ سواء"[5]. وما دام لسنج -كما سبق الذكر- لم يتخلَّ عن الأرثوذكسية بتاتاً، وظلّت تؤرّقه طيلة حياته في علاقتها بالعقل، فإنّه جعل، في آخر كتبه (تربية الجنس البشري)، مسألة الكتاب المقدس مسألة أساسية لكتابه؛ إذ كيف يمكن التوفيق بين مضمون الوحي، وبين مقتضيات الضمير الأخلاقي؟

إنّ الخروج من هذا المأزق يفرض التضحية بأحد طرفي هذا الصراع. فإمّا أن يتمّ منع العقل من التدخل في الشؤون الدينية، والعقائد اللاهوتية، ومن ثمّ حظر نقد النصوص المقدّسة، وقراءتها قراءةً عقلية علمية، وإمّا أن يتمّ التخلي، بكلّ بساطة، عن تلك الكتب المسيحية الصفراء، ونذهب، مع فولتير، بتصوره الطبيعي للدين والأخلاق، "ولكنّ لسنج يحترم التاريخ، ولا يريد التخلي عن شيء، ويريد أن يجعل الوحي يتّفق مع العقل، ويريد تبرير ذلك بحجج عقلية تبريراً بعدياً، وجدها في التطوّر، وفي نقد الجنس البشري نحو الكمال. فالتطوّر، لديه، حلٌّ للصراع بين الأرثوذكسية والتنوير، فهو يعترف بما تؤمن به الأرثوذكسية، ولكن كإحدى مراحل التطوّر الأولى، ويعترف بما يؤمن به التنوير كإحدى مراحل التطوّر التالي، فكلاهما على حقّ، على درجة متفاوتة من التطوّر"[6].

من هنا، يمهّد لسنج لدراسة التربية، مثله مثل باقي فلاسفة القرن الثامن عشر، لكنّه لن يتحدث عنها، أو يدرسها، بمعزل عن الوحي، كما فعل روسو في كتابه (إيميل أو في التربية)؛ إذ تناولها من معالمها الطبيعية، أو كما فعل العقلانيين، الذين يجعلون من العقل أساس كلّ المعارف، والخبرات، والمكتسبات؛ بل سينسج لسنج علاقة جديدة بين التربية والوحي، وبتصوّر أنواري جديد؛ لأنّ الوحي -حسب لسنج- مهمته تربوية محضة؛ فالغاية من الوحي ليست تربية الإنسان تربيةً عقائدية، عبر إقامة الشعائر، وسنّ الطقوس، وتشييد المؤسسات الدينية؛ بل الوحي مجموعة من البواعث، التي تولّد النشاط والحركة، وترتقي بالإنسان إلى كائن تربوي، يقود نفسه بنفسه دون وصاية أحد. "والتربية، في جوهرها، إذكاء للشعور، وإظهار له. التربية كشفٌ عما هو موجود، وليست فرضاً من الخارج على ما هو موجود. تربية الإنسانية اكتشاف لشعورها، وإيقاظ له. فالإنسانية الخاملة لم يعمل فيها الوحي بعد، والإنسانيّة التي تفرض الوصاية عليها تزيح الوحي وتستبعده، والإنسانية، التي ترجع إلى الوراء للقضاء على عقلها، ومحو إرادتها، إنسانيّة تعمل ضدّ الوحي، وعلى النقيض منه، وتقف مناقضة له. إنّ الأمّة التي تتلقى وحياً، وتتخلّف، وتتأثّر، أمة تناقض نفسها، وتقضي على وجودها، بالقضاء على مقوّمات حياتها في شعورها"[7]. يتّضح، إذاً، أكثر أنّ لسنج يضع علاقة وطيدة بين الوحي والتربية، والتربية، هنا، ليس المقصود فيها ذلك المعنى الضيّق، الذي يحصرها في الجانب الخلقي؛ بل هي تلك القدرة الشاملة والكامنة في الوحي، والتي تستطيع رفع الوصاية عن العقل والإرادة، أخلاقياً، وسياسياً، وعقائدياً. فـ "التربية وحيٌ يُعطى للفرد، والوحي تربيةٌ تُعطى، وما زالت تُعطى، للجنس البشري"[8]. فبوساطة التربية، يكشف المرء عن جوهر ذاته، فيُخرج ما بداخلها، ولا يُفرَض أيّ شيء من الخارج على طبيعته. أمّا الوحي، فما هو إلا تربية للإنسانية، وما دام الإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد، الذي يحتاج إلى التربية، إلى الانسجام مع محيطه، فهذا يعني أنّه في أمسّ الحاجة إلى الوحي. فمهمّة الوحي مهمّة عملية، والوحي عمليّ، قبل أن يكون نظرياً، فهو محرّك النشاط، والحركة، والتقدّم، كما أنّ الوحي، قبل أن يكون إرسال الرسل، هو اكتشاف لذات وطبيعة الإنسان، واستخراج المبادئ والقيم من داخله. "وكل تربية للإنسانية وحيٌ لها؛ لأنّها تكشف عن ذاتها، وترقى بها، وتتقدّم. وكما أنّ الأنبياء مربّو الإنسانية، فكذلك المربّون هم أنبياؤها"[9].

على سبيل الختم، يمكن القول: إنّ فلسفة الأنوار كانت تتويجاً لمنعطف في تاريخ الفكر الأوروبي بدأ مع عصر النهضة، وستتبلور، مفهوماً واصطلاحاً، في القرن الثامن عشر، القرن الذي سيجعل من لسنج وأمثاله ينتقلون من البحث في مجال اللاهوت إلى مجال التربية، باعتباره مدخلاً لكلّ المجالات، التي تمسّ كينونة الإنسان بشكل مباشر، أو غير مباشر، "لا يستطيع الإنسان أن يصير إنساناً إلا بالتربية، فهو ليس سوى ما تصنع به التربية"[10]. من هنا، جاء مفهوم التربية بمعانٍ ودلالات جديدة، ففعل التربية فعل ناتج عن حرية الإنسان المتأصِّلة داخله، وليس مجرّد غريزة طبيعية داخل الإنسان. بمعنى آخر، التربية حاجة إنسانية خالصة، وليست مجرّد حاجة طبيعية. وعليه، وجّهت الأنوار نقداً لاذعاً للمؤسسات التربوية والتعليمية، التي سبقت القرن الثامن عشر، ولن تقف عند حدود النقد؛ بل ستعيد بناء التربية من جديد، ومن ثمّ إعادة تشكّل الإنسان الأوروبي الحديث في كلّ أبعاده الجسمية، والعقلية، والعملية.


لائحة المصادر والمراجع:

  1. إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص، تأملات في التربية، ما الأنوار، ما التوجه في التفكير، تعريب وتعليق محمد بن جماعة، دار محمد علي للنشر، صفاقس، الطبعة الأولى، 2005م.
  2. إميل برييه، تاريخ الفلسفة، القرن الثامن عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.
  3. لسنج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة العربية الأولى، 1981م.
  4. عبد الحق، منصف، الأنوار وسلطة الخبير البيداغوجي: دراسة في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011م.

* نقول لسنج) 1729م-1781م) الأرثوذكسي؛ لأنّه ينحدر من عائلة أرثوذكسية راعية للكنيسة، وقد تلقى تعليمه على يد مجموعة من الأساتذة المرموقين، أمثال هينتز، الذي كان متأثراً بفلسفة فولف، الذي أعطى الأولوية للوحي على العقل.

[1] عبد الحق، منصف، الأنوار وسلطة الخبير البيداغوجي، دراسة في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011م، ص 21

[2] لسنج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة العربية الأولى، 1981م، ص ص 15-16

[3] عبدالحق، منصف، المرجع السابق، ص 17

[4] لسنج، المرجع نفسه، ص 18

[5] الرجع نفسه، ص 78

[6] المرجع نفسه، ص 81

[7] المرجع نفسه، ص 121

[8] المرجع نفسه، ص 122

[9] المرجع نفسه، ص 122

[10] إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص، تأملات في التربية، ما الأنوار، ما التوجه في التفكير، تعريب وتعليق محمد بن جماعة، دار محمد علي للنشر، صفاقس، الطبعة الأولى، 2005م، ص 14