مأدبة أفلاطون: نحو إصغاءات جديدة


فئة :  مقالات

مأدبة أفلاطون: نحو إصغاءات جديدة

مأدبة أفلاطون: نحو إصغاءات جديدة

الملخص:

الورقة التي بين أيدينا موسومة بـ"مأدبة أفلاطون نحو إصغاءات جديدة"، هي بمثابة قراءة متواضعة في محاورة المأدبة لأفلاطون كمحاولة للوقوف على الآفاق الواعدة لهذا النص الذي ستظل له راهنيته على غرار النصوص المؤسسة التي لا يقاوم اللبيب جمالية لغتها وغنى معانيها، ولا يكون له خيار غير الارتماء بين سطورها كمحاولة للقبض على بصيص من أفكارها.

ما الباعث وراء اختيار نص المأدبة؟ وفي ماذا يهمنا اليوم؟ وإلى أيّ مدى يمكن المراهنة عليه في لمقاربة قضية الحب كرغبة في الكمال للاحتفاء بإنسانية الإنسان، ومجاوزة تجربة الجفاف العاطفي التي أصبحت تحايث وجودنا في ظل أزمة المشاعر وما يتسم به من الصلات العابرة واللامعنى والرتابة؟

على سبيل البدء

ورد إلينا تصور جدير بالذكر يؤول إلى أن بين الفلسفة والحب برزخ، وتعود جذور هذا التصور إلى الفلسفة الحديثة؛ فمنذ الفتح العقلاني الديكارتي تم السعي إلى استبعاد قدر الإمكان كل ما لا يخدم العقل، والحب في سياق هذا الفتح لا يعدو أن يكون مجرد حالة سيكولوجية فردية لا يعول عليها في طموح التأسيس لمنهج فلسفي – علمي. لذا لا يليق به أن يشاركنا الحضور إلا بالغياب. ولكن ليست كل الفلسفات تدير ظهرها للانشغال به، فهو يحتل حيزا مهما من تاريخ الفلسفة، كما عرف مجهودات قصية قبل الحداثة وبعدها، وتبقى الفلسفة اليونانية لحظة مؤسسة لأرضية النقاش له (الحب).

النمط الذي اعتدنا على تسميته باسم الإيروس ((Éros هو الحب الجنسي، وليس المحبة الروحية المتعالية عن الملذات الحسية. "لو تصفحنا أي كتاب عادي من كتب الحب، لوجدنا أن كلمة إيروس تستعمل عادة للإشارة إلى الحب الجسدي، في حين جرت العادة باستخدام كلمة أجابيه Agapè للإشارة إلى الحب الروحي. والأصل في هذا الاستعمال أن اليونانيين كانوا يجمعون بين <<إيروس>> إله الحب و<<ديونيسوس>> إله الخمر، فكانوا يسرفون في الحب والشراب، وكانوا يتخذون من الحب مطية إلى الاستمتاع بمباهج الحب. ومن هنا أصبح الإيروس لفظا جنسيا يشير إلى معاني العشق الحسي العنيف"[1].

إن هذه التحديدات اللغوية تضعنا أمام جملة من الأسئلة المشكلة لفحو هذه المقاربة الفلسفية، أهمها: ما الباعث وراء اختيار نص المأدبة؟ وفي ماذا يهمنا اليوم؟ وإلى أي مدى يمكن المراهنة عليه في مسألة الحب كرغبة في الكمال للاحتفاء بإنسانية الإنسان ومجاوزة تجربة الجفاف العاطفي التي أصبحت تحايث وجودنا في ظل عصر أزمة المشاعر وما يتسم به من العلاقات العابرة ومد الرتابة واللامعنى؟

تعتبر محاورة المأدبة كتابًا افتتاحيًا في موضوع الحب، "وتنتمي إلى مرحلة النضج"[2]. رسم أفلاطون من خلالها معالم الرؤية الغربية لهذا الموضوع، وتحوي في طياتها آفاقا واعدة تجعل حضوره حضورًا أبديًا، وتفتح أمامنا باب الانخراط الجدي لاستشكال ذواتنا عبرها ومن خلالها نأمل معانقة الإنساني فينا.

تمثل المأدبة جلسة السكر الجماعية التي دارت في منزل أغانون بمناسبة فوزه في مسابقة الشعر التراجيدي، حضرها ستة شخصيات، إلى جانب كاهنة* غائبة جسديا إلا أن حضورها الرمزي كان حضورا قويا، ولكن ما الداعي إلى استدعاء المرأة للحديث عن الحب؟ أنسلم بمسلمة زمننا مفترضين جدلا أن الاستدعاء بديهي لأن المرأة تمثل رمزا للحب، وموطن المشاعر الجياشة والوجدان الخالصة والعاطفة الزائدة؟ هذا السؤال فرض علينا نفسه كما يفرضه سؤال آخر لماذا انتعل سقراط على غير عادته؟ ألأن الحب ظل مرتبطا بجمالية الجسد؟ أسئلة وأخرى ستظل معلقة على ما يبدو.

سؤال آخر مرتبط بزمن المحاورة، سنترجمه في الملاحظة التالية:

إذا كانت جل المحاورات وقعت تحت أشعة شمس أثينا، فإن أحداث المأدبة استغرقت الليل وامتدت إلى طلوع الشمس، ولكن ما الباعث وراء هذا الاختيار الاستثنائي؟

هناك تقليد يقر أن طبيعة الموضوع هو الذي يتحكم في زمان ومكان الحكي؛ فالمواضيع ذات البعد الشفوي والخيالي لا يمكن أن تثار إلا في السمر، والسمر مرتبط بالليل لا محالة، كما أن الليل لا ينفك عن الخداع؛ "الخداع موصول بالليل، بالقمر. أما الصدق، فموصول بالنهار، بالشمس"[3]. كيف جاز لي أن أربط القمر بالخداع والكذب، بينما المشهور عن هذا الكوكب حسب الجرجاني هو المعول عليه في الغزل والمدح؟ سؤال نعيد طرحه مع عبد الفتاح كيليطو، وجوابه كالعادة يجعلنا نعيد النظر في ما نحن واثقون فيه، مقتبسا من ابن المعتز:

"يا سارقَ الأنوارِ من شمسِ الضحى      يا مُثكلي طيبَ الكرى ومُنغِّصي

أما ضيـاءُ الشـمــسِ فـيـك فـنـاقـصٌ       وأرى حـرارةَ نـارِها لـم تنقـصِ

لم يظـفـر التشـبـيـهُ مـنــك بطـائـــل       متسـلـخ بـهـقـا كـلـون الابـرصِ

سارق الأنوار ليس للقمر نور يخصه، ليس له ضياء ينبع منه، كل ما هناك أنه يعكس أشعة الشمس، يستعير نورها"[4]. الشمس مكتفية بذاتها لا تحتاج إلى غيرها، بخلاف القمر الذي يرتبط وجوده بوجود غيره. إنه عالة عن الشمس، وجوده مشروط بوجود غيره، لأنه لا يمتع بالاستقلالية الذاتية، فالنقص هو خاصيته، ولتعويض نقصه يلجأ إلى الاستعانة بالغير. النقص هو التعريف الذي يليق كذلك بإيروس، فما هو إلا انعكاس للحرمان، ورغبة في تعويض النقص الذي يقيده. علاقة المحب بالمحبوب هي كذلك على غرار علاقة القمر بالشمس، علاقة تبعية، تطمح إلى الكمال وتجاوز النقص.

أتينا لذكر هذه الملاحظات لبيان عمق المحاورة الأفلاطونية، واعتمادها على الرمزية، ومعلوم أن النصوص الكبيرة تتوارى خلف الحروف، عادة ما تكتب بشكل مختلف، كتابة لا تقتصر على الحروف فقط، بل توظف أنماط متعددة من الكتابة، إنها تكتب بالبياض، بالحذف، بالجسد، بالكلام كما بالصمت. عناد لا مثل له في التعبير بأنماط مختلفة من الكتابات، والنص بهذا المعنى يعبر عن نفسه من خلال آلية الاخفاء بدل التصريح لهذا سنلتجئ إلى التأويل لاستنباط المعنى المخفي.

لمحة عن النص:

"إن الشخص الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة".

أفلاطون

وعلى العموم، يعود أفلاطون في محاورة المأدبة إلى النبش في تاريخ الحب بوصفه رغبة (إيروس) ما تفتأ تعترض الكائن وتلازمه على نحو دائم وأبدي كانفعال ونقص، حيث تطفو إلى السطح لقبر لعنة النقص واسترجاع الكمال/ الحلم الضائع. يتمخض عن هذا القول أن الحب رغبة نابعة من نقص تبحث عن الكمال، فأن أرغب في شيء ما يعني أنني أفتقر إليه وأفتقده ويسكنني نزوع وميول نحو اكتسابه. يتمخض عن هذا القول أن الحب محاولة العبور من فرد ناقص إلى كائن كامل. ولكن إذا كان الحب شيطان وسط الرباني والإنساني، مزدوج الخصائص، ليس شيئًا جميلاً ولا خيرًا وهو بين الاثنين، على حد تعبير، فهل بإمكانه حقا أن يسمو بنا إلى بلوغ مرتبة الكمال الإنساني؟ ألا يمكن القول إن قوة الإنسان وتميزه تكمن في هذه المرتبة الوسطى؟ وكيف يمكن قراءة قضايا وإشكالات عصرنا على ضوء محاورة محاورة المأدبة؟

تعالي الحب:

"إن الفوضى سادت الكون ثم خلقت الأرض فكانت أساسا ثابتا لكل شيء وتلاها الحب".

هيزيود

يضع "فيدروس" الحب موضع إعجاب وتقدير، فهو منبع أعظم المنافع، باعتباره أقدم الآلهة، فليس له والدان؛ تميزه هذا يبعده عن المحدودية في الزمان ويرتقي به إلى مرتبة ما فوق التاريخ - الأبدية، مما يلح بشكل أو بآخر إلى نزوحه نحو الانفلات من شتى أنواع التبعية لغيره أبا كان أو ابنا؛ لأن علاقة الأول بالثاني علاقة تبعية توهم نفسها بالامتداد في الزمان. يفيد التصور اللاتاريخي للحب الفيدروسي أن أنطولوجيا إله الحب المقتدر أنطولوجيا قائمة بذاتها لا تحتاج لغيرها لإثبات وجودها، لا يتغيا غير الخير الأسمى في الكوسموس، ويكد لنفي الشر الطارئ على الوجود كلما اختلت موازن القوى.

يمدنا الحب بفعالية محفزة على القيام بجملة من الأفعال النبيلة والإتيان بالأعمال الجليلة، يعني هذا أنه أقدر على جعلنا نرى الحياة بمقلة الحبور لا اليأس والكآبة، كما يقيظ فينا عاطفة سامية تتجلى في مستويين؛ عاطفة الخجل من السقوط في هوة العار: إذا اقترف المحب فعلا مخجل في حضرة المحبوب، يكون ألمه من الخجل من محبوبه أشد وأقسى مما لو كان مع سائر الناس. ثم عاطفة التفاني: تؤدي إلى القيام بكبار الأعمال وعظائم الأمور. هذه القاعدة لا تتواءم مع الفرد فقط بل تنطبق على الجماعة كذلك، فكلما كانت هذه الأخيرة قائمة على روابط الود والصداقة لا يكون هناك خلاف في بنيتها، حيث تحصن نفسها من الانشقاقات الداخلية المسممة؛ معناه أن الحب أساس السلم والسلام يستبعد الحرب وما يقتضيه منطقه من الخراب والرعب واليأس، أفول هذا المنطق مادام الحب هو المنطلق الذي يستكين إليه الكيان الجماعي للتجمع البشري كتجمع لأصدقاء لا يملك منهم العدو اربا لما بينهم من التضامن القوي. فضيلة الحب لا تترك الخيانة تقحم نفسها بين الأحباء، فخجل المحبوب فردا كان أو جماعة "أشد عليه وأقسى من ضربه بالسيوف أو الرشق عليه بالسهام"[5].

يحلينا فيدروس على ميتولوجيا الحب. "السستيس" و"أرفيوس" ضيوفا الحديث، الأولى مثال بارز للحب الخالص وللمرأة الصادقة في مشاعرها، أنقذتها الآلهة من العذاب الأليم تقديرا لفدائها المجيد في سبيل حبها لزوجها، بخلاف الثاني الذي عاد من الجحيم بصفقة المغبون لأن الآلهة لم يظهروا له سوى شبح تلك التي جاء من أجلها، هو أقل إخلاصا من "السستيس" التي لم تكترث للعذاب، لم يتجرأ على الانتصار للحياة عبر الموت بدل الموت عبر الحياة، إنها الفظاعة لا النباهة. إضافة إلى "أخيل": اسكنته الآلهة دار النعيم كجزاء لشجاعته وإخلاصه في صداقته.

وعليه، فالحب هو دوما دراما تستوجب من صاحبها التضحية، والمجازفة. إنه المجال الذي تصبح فيه الذات كيان هش ومهمش، باهت اللون لا يلمع إلا بانعكاس المحبوب، ولكن رغم ذلك يظل الحب أقدم الأرباب وأفضلها.

في معنى الحب:

"لو كانت الزهرة واحدة لكان الحب واحدا غير متعدد، ولكن الزهرة زهرتان لا زهرة واحدة، والحب كذلك حبان لا حب مفرد".

هيزيود

يدعو بوسانياس إلى توسيع مجال النقاش حول موضوع الحب وعدم الاقتصار على ذكر محاسنه دون مساوئه كما لو كان هذا الحب واحدا غير متعدد لا يحتمل غير دلالة واحدة ووحيدة. مقاومة كل أشكال الاختزال للحب في المعنى الواحد المنغلق بمثابة آلية نقدية للتصورات التي تقزمه في أحادية دلالية، الشيء الذي يحول بيننا وبين المعاني الحقيقية له؛ فالحب أنواع متعددة وليس مجرد نوع واحد، في هذا السياق يميز الحب الجدير بالمدح عن غيره.

شرع صاحبنا في الحديث عن الحب بإسهاب مع شرحه بشكل مستفيض، وفي هذا النحو يمكن التقاط تمييزا أساسيا بين نوعين من الحب، وهذا التمييز مبرر بالسمات النوعية المنتسبة لكل منها؛ "بانديموس": "هو الحب الذي تعرفه العامة وتهتم به كالبَهْمِ لما فيه من الشهوات الدنيئة وهذا النوع خصيص بالطبقات النازلة من البشر"[6]. إله أرضي تتألف طبيعته من نقيضين الذكر والأنثى، يتهافت نحو إضفاء نيران الشهوات عبر تحقيق إشباع الملذات الجنسية. أما "أرانوس"، فهو إله سماوي له سمات أخرى وطبيعة مغايرة "يوحي الاخلاص والنقاء ويربأ بنا عن مواطن الاندفاع فيما تسود عاقبته من الشهوات والفساد"[7]. ويماثل هذا التمييز في الحب تمييزا آخر للعاشق؛ إذ نجد "العاشق البنديمي" الذي ينساق وراء الجسد على حساب الروح، حيث لا يدوم حبه طويلا، ويزول بزوال الشيء المرغوب فيه، ثم "محب الخلال الفاضلة" يبقى مدى الحياة "لأنه وضع نفسه بانسجام ورغبة مع الشيء الثابت الذي لا يتحول"، جريء ومتريث، يأخذ الوقت اللازم للتأكد من حقيقة المحبوب. ينبهنا من الأول نظرا لنظرته التشييئية والتسرع المخل بالشرف.

الحب هو فضاء الحرية لأخيار مطهرين وشرفاء يعملون وفق ما تقتضيه طبيعتهم الخيرة وعاداتهم المستحسنة، كما أنه مساحة مسيجة لأشرار ذوي الطبائع المذمومة والتصرفات الدنيئة، أفعالهم تبقى معيبة، وكلما تصرفوا خارج المراقبة أفسدوا، "فأشرف أنواع الحب ما كان لأجل الفضيلة وكمال الجسم والحب الشريف"[8]. معناه أن أشرف أنواع الحب هو ذاك الفاتن بالفضيلة، "ولتسهيل بلوغ هذه الغاية أباح العرف للعاشق أن يستعطف محبوبه بوسائل عجيبة لا تخطر بالبال، لو استخدمها الإنسان في غير استعطاف محبوبه عرض نفسه لأقسى تأنيب وأشد ذم"[9]. ويضيف، "نحن نعتبر مذلة العاشق مفخرة لأن غايتها هي الفضيلة"[10]. لكن ماذا لو تعرضنا للخيانة والخداع؟ واقعة الخيانة والخداع شرف وليست عارا؛ لأن غاية المخدوع كانت نبيلة، وبعبارة شاعرية للبرغوثي: قالت غالبتك يا هذا فقلت لها/ لم تغلبيني ولكن زدتني كرما/ بعض المعارك في خسرانها شرف/ من عاد منتصرا من مثلها انهزما. سؤالنا هنا هل نفهم من تحرر الحب من جميع النواميس أنه منفلت من المسؤولية الأخلاقية ما دامت الأرباب والبشر تمنح العاشق أعظم ما يمكن من العفو والرحمة -على حد تعبير أفلاطون-؟

لقد انتبه "بوسانياس" لهذا السؤال الذي كاد أن يكون منزلقا سيظل يأخذ عليه عبر الزمان، يقول: "فالحب لا يمكن أن يعتبر بذاته شريفا أو غير شريف فإذا كانت طريقته شريفة فهو شريف وإن كانت الطريق غير شريفة كان الحب كذلك"[11]. أشرنا سلفا أن كل شيء مباح، نضيف هنا أن السياق العام من يحدد قيمة الفعل، وهو من يضفي طابع الشر أو الخير عن الأشياء.

على هذا المنوال وضح الرجل المعنى الحقيقي للحب مبيننا أنواعه مبرزا النوع الجدير بالمدح، حيث جعلنا نفكر معه في الحب كواقع محكوم بشروط خاصة، في أفق الانخراط فيه كتجربة عيش جديرة بالحياة.

بيوإتيقا الحب:

"لقد [تبلور] علم الطب بعد أن عرف سر التوفيق بين العناصر المختلفة".

إيسكاليبوس

يتوجه "أريكسماكوس" في مداخلته نحو الاعتراف مع "بوسانياس" بأن الحب ذو طبيعة مزدوجة، وأنه يتبوأ مقام الشرف بين الآلهة والبشر، إلا أن استئنافه – بوسانياس - لبدء بارع لم يدُم طويلا، مد وجز الخطاب أمحى البراعة وأساء للختام، فكل نهاية شنيعة لبداية جميلة تتنكر للفرحة الأولى وتخذل السعادة المستأنفة على خطأ والمستأنس بها استئناسا مؤقتا، تلك صرخة "شيلينغ" في إحدى روايته حين قال: "لا تخلص الذاكرة للسعادة حين تكون النهاية مؤلمة". الخطاب البوسانياسي مخروم من آخره ما جلب له تحاملا قويا من قِبل "أريكسماكوس"، حيث تطوع تطوعا فلسفيا - نقديا إلى إتمام المخروم سدا لثغره، وذلك من زاوية الطب.

مع الطبيب الفيلسوف أصبح الحب الجوهر المركزي الذي يحدد ملامح الفيزيقا في مختلف تجلياتها وعبر تمفصلاتها؛ بمعنى أنه حول الحب من التيه في عتمات الميتوس إلى كنف اللغوس، لذلك سيصبح الحب مع هذا الطبيب علة الوجود ومبدأ انسجامه وأساس جل الصنائع، ولاسيما صناعة الطب، "وقد روى لنا الشعراء أن "إيسكاليبوس" والدَ الأطباء الأعلى قد كون علم الطب بعد أن عرف سر التوفيق بين العناصر المختلفة"[12]. وفي مساق الحديث عن ماهية الحب انطلاقا من علم الطب سار يرصد مسارا دلائليا، وقد بيّن أن الحب يتوغل ويتغلغل في أعماق عمق الوجود، إذ إن كل من الفزيقا والميتافيزيقا مشيدتان بيد الحب ومشدودتان بتلابيبه. أمل انسجام وتناغم الكون مرهون بسيادة الحب، فهو المسؤول الذي يتولى زمام أمور عالم يسود فيه الرخاء والهناء لا العناء والبؤس، ومحاط بعناية السعادة، مناج من حصار التعاسة، ومسؤوليته هاته تمكن في إضفاء الانسجام، "والانسجام هو التوافق، والتوافق هو الالتئام والاتحاد، والاتحاد لا يمكن أن يكون بين الأمور المختلفة ما دمت مختلفة [...] واحد مخالف لذاته في الظاهر إلا أنه متفق مع ذاته كانسجام العود والوتر"[13]. تلك هي الإرادة العنيدة لهراقليطس، وإصراره على نسب التناقض للوجود، تناقض يضمن النظام، ولكن الاختلاف عنده عرضي لا يمت للجوهر بصلة.

إن الحب حبان؛ حب بندمي خبيث وحب أراني طاهر، والكوسموس بأكماله يسير طبقا لهذه القاعدة، فإن ساد هذا الأخير "جلب النضج والصحة للبشر، ولسائر أنواع الحيوان والنبات، أما إذا ساد الثاني انتشر الخراب وعم التلف فينتشر الوباء، وتصاب الكائنات بأنواع الأمراض والسقام"[14]. وبالتالي فصحة المجتمع في الحب ومرضه في تواره.

الحب ورحلة بحث عن الذات في الغير:

في بداية الأمر لم يكن النوع مقسما إلى جنس الذكر والأنثى، بل كان جنس ثالث مشتركا بينهما... وكان هذا الجنس المشترك أو الخنثى يشبه في شكله المرأة والرجل معا... وقد حاول الصعود إلى السماء لخلع الأرباب وإنزالها عن عروشها. وقد تشاور جوبيتر ومن معه من الأرباب فيما ينبغي عمله لإضعاف الجنس البشري وتقليل وقاحته دون الشروع في هلاكه، فشق كل واحد منهم إلى نصفين.

أسطورة انقسام هيرمافروديتوس

يستأنف "أريسطوفان" خطابه برغبة الوفاء للحب حقه ومستحقه، فقد ظهر له جليا من الارتسام الذي انطبع في مواقف المدخلين عدم انصافهم له، لا يحملهم كامل المسؤولية كما لا يبرؤهم؛ لأنها مجرد ورطة في أزمة الجهل بالحب، فلو عرف الناس حق معرفة معنى قوة الحب "لملأوا الأرض معابد وهياكل يقدسون ذكره فيها ويقدمون له الضحايا ويقيمون له أفخم الرسوم والشعائر؛ لأن الحب هو أحق الأرباب بالعبادة"[15]. يأخذنا "أريسطوفان" في رحلة ممتعة بغض الطرف عن مأساوية مضمونها تكشف لنا عن أصل الحب. فالإنسان في أصله كان عبارة دائرة لكن الإله زيوس قطعها إلى نصفين. "حين شطر الإنسان إلى نصفين أدخل بعدا مأساويا إلى كيانه؛ الرغبة في إيجاد النصف الآخر كي يعيد بناء وحدته"[16]. ومنذئذ ونحن نتيه في العالم بحثا عن نصفنا الآخر، "فكل منا نصف ناقص لواحد كامل، وغايتنا هي البحث عن نصفنا الآخر"[17].

جعلتنا رحلة البحث نتصور أنفسنا لحظة تحولنا إلى كائنات جنسية أدركت وحدتها ووضعها المأساوي، وضع التمزق والتصدع؛ أي لم يعد وجودها تاما بل يشترط حضور الآخر (النصف الثاني)، "هذا الحضور عصي على السيطرة. كيف نقبض بعيوننا على حضور يبقى خارج ذاتنا... حضور يشمل الغياب أيضا: إن غياب من نحب هو جزء لا يتجزأ من حضوره في حياتنا"، على حد تعبير فتحي المسكيني.

إن هذه الرحلة بمثابة ملحمة تراجيدية ترسم مشهد الانفصال عن الذات ومغادرتها بحثا عنها في الخارج بروح مهزومة، وبإرادة مكسورة تجد نفسها في مدارات الحزن واليأس، وهي باحثة عن توأم روحها وبعد تعذر العودة إلى الاتحاد / الكمال يعقبه اليأس، "إن إيروس يجعلنا نخرج من ذواتنا كي نفك رمزنا على خارجية وجه الآخر"[18]. كل انشقاق كشف عن ضعف وعري يضعنا على محك الانفتاح على الآتي المحفوف بمخاطر غير متوقعة. الحب إذن محاولة استعادة المفقود / الضائع من خلال لقيا النصف الآخر وعبره يتم معانقة الكمال، أي العودة إلى الوضع الأصلي، فالإنسان "كان حاضرا أمام ذاته كحضور يشكل الأصل لا المهمة المفتوحة على أفق المستقبل"[19]. ومنه فكل حب هو تمرين على الكمال ضدا في النقص.

شاعرية الحب

"شبيه الشيء منجذب إليه."

أغانون

"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".

النبي محمد

إن الحب وفق النبرة الشاعرية لأغانون لا يأوي إلى كل النفوس ولا يطرق باب كل القلوب، كما لا يطال كافة الناس إذ يبقى عالمه مفتوحا للخاصة، "لأنه إذا رأى طبيعة جافة أو نفسا خشنة، فإنه ينفر منها، ويبتعد عنها، ولا يألف إلا النفوس اللينة الرقيقة"[20]. هو استثناء مفرح، لا يحتمل وجوده إلا في ظل تحقق شرطي الرقة والجمال، معناه أن وجوده مشروط بعاطفة خالصة مفعمة بمشاعر الرقة والليونة واللطف، التي لا ترنو إلا للجمال.

الحب تجربة فريدة من نوعها ومرغوب فيها، رغم أنها محفوفة بمخاطر متعددة، ما تفأ تخترقنا كذوات محدودة، باعتبارها قوة تتخطانا بأشواط، وإن لم تخترقنا نظل حالمين بها، سنطرح هنا سؤالا فلسفيا مع هايدجر الذي لم يكتب عن الحب كفكرة ممكنة، بل كتب عنه وفيه رسائل غرامية بحروف نابعة من صميم تجربة حب كائنة عشها وهو في الأربعينيات من عمره مع شابة عشرينية مفتونة بالفكر الفلسفي، ومتعطشة للحياة كيهودية مضطربة ومغضوب عليها من طرف النازية كغيرها من باقي اليهود، نقصد المنظرة السياسية - كما تفضل أن تسمي نفسها - حنا أرندت: "لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثقلا حلوا بالنسبة إلى المحب؟ لأننا نتحول إلى من نحبه، لكننا نبقى أنفسنا"[21]. إننا نغادر ذواتنا منتظرين استعادة اللقاء من جديد، نفهم من هذا أن الانتظار ماهية الحب، لكن انتظار ماذا؟ انتظار أنفسنا، الشيء الذي يدفعنا نحو إبداع عوالم ممكنة لإيجاد ما ضاع منا ومعه فقدنا الحبور. هكذا يضع أغانون الفنون في قلب الحب؛ لأن معاناة هذا الأخير هي التي تفجر الألم وتحوله إلى الإبداع الفني والأدبي، "فأبولون تلميذ الحب وبواسطته اكتشفت عرائش الشعر"[22]. كل تجربة حب هي تجربة فن توسع الحدود الإنسانية رغم أنها تبقى محايثة للمعاناة، هذا ما يجعل المحب يتعاطى مع الشعر، "فالحب يستطيع أن يخلق شاعرا من رجل لم يكن كذلك... إنه بفضل الحب يصير شاعرا"[23]. الحب يحول اللقاء مع المحب إلى قصيدة، وفق العبارة الجميلة لفتحي المسكيني، والقصيدة موطن يخلق السلام الداخلي وعبرها يلتقي المحب بنفسه العميقة.

الحب والمرأة

"إن الحب ليس شيئًا جميلاً ولا خيرًا إنما هو بين الاثنين، إنه شيطان، والشيطان وسط بين الرباني والإنساني."

ديوتيما

"الشياطين كثيرون ومتعددون والحب أحدهم."

أفلاطون

"أيها الباقون! أعرف، أنا أعرف ألم الحب،

فهذا لا يشفى يسهولة

ولا يزيله من الصدر أي عناء مهدّئ

لأن أولئك الذين يعيروننا النار السماوية، الآلهة

يهدوننا أيضا الألم المقدس،

فليبق هذا إذن: أنا ابن الأرض أبدو،

للحب مصنوعٌ، وللآلام"

هولدرلين

يستدعي أفلاطون في حديثه عن الحب العرافة "ديوتيما" للكشف عن ولادة الحب، الأسطورة تقول: "حين ولدت أفروديت أقام الأرباب عيدا، وبين من حضروه الوفور (Poros)، فبعد العشاء رأت الحاجة (Penia) تلك الغزارة العميمة، فجاءت تسأل، ووقفت بجانب الباب، وكان الوفور قد سكر من شرب الرحيق... فخرج إلى الحديقة ونام نوما عميقا، فأرادت الحاجة أن ترزق من الوفور بغلام لضعف حالها فرقدت بجانبه، أغرته فضاجعها فولدت الحب"[24].

الأسطورة تعبر بطريقتها الفلسفية على رمزية الولادة والماهية؛ أي ولادة الحب وماهيته. لمَ المرأة بدل الرجل؟ استدعى أفلاطون المرأة في حديثه وكأن النساء وحدهن من يعرفن فن ممارسة الحب، هكذا تصبح هوية المرأة إغراء. "هناك هاجس ثابت لدى المرأة منذ طفولتها إلى مراهقتها وكهولتها وحتى حين يبدأ جسدها في الذبول أثناء الشيخوخة. وهذا الهاجس يتمثل في الاغراء. إن المرأة عندما لا تغري تعيش انمحاءً وجودياً. جسدها ميت. فكيف إذن يمكن إحياؤه؟

بالتمويه، بالنقش عليه؛ أي بإعطائه قناعا معينًا. والقناع يلتجئ إليه المرء لإظهار وجه ناقص أو كلام غير مكتمل نتيجة حذر. تحتاط المرأة من وجهها الحقيقي بإلباسه رسوما تجمله. هكذا تلغي المرأة الموت من جسد ميت، وتبرز للرجل وجها وجسدا يمكنه في الأخير، أن يعترف به"[25]. هكذا يطرح محمد نورالدين أفاية في كتابه <<الهوية والاختلاف: في المرأة، الكتابة والهامش>> - باعتباره دراسة الجسد الأنثوي - سؤال الكتابة كفعل وجودي إشكالي متعدد يترجم طرح الهوية والحقيقة الأنثوية وعلاقتها بالرجل في سياق تفكيك العلاقات النفسية والاجتماعية المتحكّمة في صراع الذكر والأنثى أو ما يمكن تسميته بالهيمنة الذكورية. فالمرأة تتخذ الكتابة كوسيلة لجعل ذاتها متحققة في داخل النسق الذكوري، "فهي لا تكتب من أجل السيطرة بواسطة القانون والأدب... [بل] ترمي من الكتابة والكلام إلى تفجير كل شروخ جسدها وتموجاته"[26]. يمكن القول إن القهر الوجودي هو الذي يدفع بالمرأة إلى الكتابة بعيدا عن رغبتها، فهي تصوغ كتاباتها بجسدها، وتضعها نصا بالحبر أو الوشم أو الرقص، وفي هذا الصدد سنغامر قائلين: "بينيا" كمرأة هي الأخرى عانت القهر ليس لها خيار للتخلص منه غير الكتابة بجسدها بصيغة إيروس. ومنذئذ صار حظ المرأة من الكتابة هو الحمل. ألا يمكن القول إن المرأة هي التي همشت نفسها، وعليها أن تتحمل مسؤولية اختياراتها؟ ولكن لما لا نقول إن الرجل هو من ورطها وما يفتأ يشعرها بخطئها حتى لا تتجرأ على الكتابة بصيغ أخرى؟ لما لا نتجرأ ونقول إن الرجل خدع المرأة حين وهمها بأن وظيفتها تتمثل في الولادة وإعادة الانتاج فقط، حتى لا تتعدى ذلك إلى ولادة من نوع آخر. "الرجل يعرف أن بطن المرأة بطن خصب، ولن يسمح لها بأن تحول خصوبتها من بطنها إلى عقلها. عليها أن تبقى أماً وحسب، وهو يتكفل بحيازة أمومة الأشياء الأخرى. بما في ذلك الكتابة"[27].

ولادة الحب ولادة غير شرعية، وقعت على هامش الأحداث كنشاز، الحب لعنة نقص، غطرسة الرغبة، سعي إيروس إلى طمس هويته الشنيعة، نقصه وحرمانه، واستبدالها بأخرى أقل بؤساً. "وكل واحد منا هو بينيا، ومثلها فإني بائس بسبب وحدتي أولا، ثم إني بائس بحقيقتي الموضوعية كلها وبحاجاتي، وبائس أيضا بسبب المسافة القائمة بين ما أريد أن أكون وما أنا عليه، وبائس بأن أكون بين عدم يسحقني ولا متناه يعذبني، وبائس قبل كل شيء بسبب وجود لا معنى له أجرّه معي في كل مكان"[28]. الحب إرادة ملحة في ترقي بينيا لتصبح بوروس بإصرار إيروس، لمجاوزة كل صفات النقص والقبض على سمات الكمال، كي يجد كينونة أتم، لكن يبدو وكأنه ينسى أو يتناسى ماهيته. إنه ما ليس بوسعنا تملكه، كما يقول أفلاطون، وبعبارة فاوست: "إن ما أملكه يفتقر للكمال". وضعه هذا دفعه إلى الخروج من البؤس واليأس رغبة في الثراء والغزارة والعطاء، مما جعله في معلقا في الوسط، الشيء الذي أكسبه طبيعة مزدوجة تتأرجح بين الفقر المدقع والغناء اللامحدود.

إن كان إيروس عبارة عن قوة تدفعنا ككائنات ثنائية الجنس منقسمة نحو الآخر كي نترقى، فإن هذه الترقية ليست مجرد تحسين وضع معين، بل أكثر من ذلك: "فإيروس في طيرانه لا يتوقف عند تمجيد الحياة لينسى الموت إلى حين، إذ إنه في وثبه يصعد حتى الوجود الذي هو كينونة مستمرة؛ أي إنه الإنكار الكلي للموت والنهائي"[29]. وبالأحرى "إن الحب هو رغبة في التناسل... فعلاقة الذكر بالأنثى في التناسل عمل مقدس إلهي، مع أن الحمل والوضع عملان خالدان في الفناء"[30]. وبين ثنايا محاورة "فيدروس" نعثر على استعارة جميلة للحب كرغبة جنسية تفتح أفق مغايرة أمام الجسد: "إن [الحب] لا يتلاشى في الإشباع الجسدي، بل هو يريد أن يحمل هذا الجسد نحو حدود جديدة"[31]. الدفع بالجسد إلى حدوده القصوى وبتحويله من عنصر محايد إلى آخر متورط تورطا فاعلا. "شيلينغ" هو الآخر يذكرنا في روايته القارئ بكل ما يعنيه الحب الجنسي للإنسان؛ "هانا" في سنها الثامنة والثلاثين، أقامت علاقة حميمة مع "مايكل"، الشاب اليافع ذو الخمسة عشر عاما، الطفل الذي كانت تحممه في حوض منزلها وتمنحه الدفء والحب مقابل وقراءته المذهلة بصوت عذب وبأسلوب مشوق للحرب والسلام، الحب والمكائد، أوديسية هوميروس وأشعار ريلكه. اللذة الجنسية (الجسد) مقابل المتعة الفكرية (الروح).

"ماكس شيلر" كذلك وضع في كتابه "طبيعة التعاطف وأشكاله" الحب الجنسي نقطة انطلاق تصوفه الحلولي/ الفناء الحياتي؛ "إلى ذلك الذي يقوده حياء كاذب سخيف أو أي سبب آخر فيرفض أن يعترف بأنه بفضل العمل الجنسي الذي يوحي به الحب، ينفتح أمام الإنسان المحتضر، لا أقول باب معرفة معينة بل مصدر لمعرفة ميتافيزيقية لا يمكن أن يستقيه من نبع آخر، إلى ذلك الذي ينكر أن التجربة الجنسية تزود الإنسان بنقطة الانطلاق الطبيعية لكل اتحاد وفناء كوني حياتي، إلى مثل هذا الشخص أقول فقط إنه غير قادر أن يطرح هذا القضية مع كل ما تتطلبه من جد"[32].

وانطلاقا مما سلف، فإن الإنسان كائن إيروسيّ ناقص، وضعه البائس دفعه إلى البحث عن نصفه الثاني؛ أي إن الحب يكون دائما حباً لشيء ينقصنا، ومرافق لكل أشكال الدراما واقتران بالكآبة والحزن. إنه انفعال يختلج مهجنا ونحن مسلوبي الإرادة، نتواجد خارج ذواتنا. وبعبارة جميلة لجورج الزيناتي: "الحب يطرح "الأنت" بوصفها قيمة تفوقني، فإن هذه "الأنت" تصبح سبب وجود الأنا العاشقة، ويصبح الكون بأسره مستمدا معناه من حضور الشخص المعشوق، وهذا الحضور هو الذي يصالحني مع نفسي والكون بأسره"[33].

يبدو أن غاية الحب هو نزع الأنا من الموت للعيش في كنف الحياة، من خلال تحيزات عاطفية تفترض الحدود المشتركة كخيار آمن. وهكذا فـ"الحب هو رغبة في الأبدية".

على مشارف الختام:

كيف ننتهي ونحن لم نتجرأ بعد على استئناف بداية القول في الحب عند أفلاطون، ولم نصغِ إلا لبصيص قول أفلاطوني متمنين أن نصغي للمزيد من غيرنا، فالنصوص المؤسسة دوما آتية، حاملة في طياتها ما يجعلها رهين كل عصر، تفترض اصغاء متجددا للكشف عن آفاقها الواعدة.

وباختصار محتشم، فالحب هو ضرب من ضروب الرغبة في شيء ينقصنا ونفتقره، والرغبة تعني الحاجة أو الافتقار لشيء، فلا يمكننا أن نرغب في ما نملك، لكن لطالما رغبنا وبشدة فيما ينقصنا. إيروس من جهته ما دام يسعى نحو الامتلاك فهو حرمان صادر عن نقص، فلا نطلب الجميل إلا ما نفقر إليه، ولا نرغب إلا فيما نحن محرومين منه، ولكن علينا أن نأخذ هذه الرغبة الجامحة في تعويض النقص من منزلة الإيجاب وليس السلب، ولاسيما أن العصر الراهن هو عصر الأزمات ومد السلبيات. مما جعل إنسان الأزمنة الحديثة يعاني من أزمة المشاعر المستوردة من الحب الإيروتيكي التي أعلنتها الرأسمالية المتوحشة، والتي غيرت معالم الحياة وأبادت إيروس البارئ، ما أدى إلى نسيان طموحه الشريف الذي يتمثل في البحث عن الذات في الآخر كأفق لإيجاد البكر المفقود ومعانقة توأم الروح.

لم يعد لإنسان في ظل العصر الرقمي وسيادة الرأسمالي جوهرا متميزا، بل أصبح مجرد عنصر جزئي غير متميز خاضع لمنطق السوق، ولا يعدو أن يكون أكثر من رقم اقتصادي في قائمة الاستهلاك التي لا تستحضر الجسد ككينونة وإنسانية، وإنما كآلة عمل تابعة للمتغيرات الزمنية (العمر)، فبقدر ما يكون هذا الجسد قويا بقدر ما يكون فاعلا مفيدا، وبقدر ما يكون عرضة للضعف والكهولة بقدر ما يصبح مجرد عالة على المجتمع، وعائق أمام التقدم يستحسن حذفه وجودا، دون النظر إليه كإنسان.

أصبح الجسد في المجتمعات الصناعية معطى متغير زمانيا تبعا لدوره في النمو الاقتصادي، بحكم هذا الوضع الطارئ على البشرية بات الجسد يعيش في قلق مرعب، فحتى مؤسسة الزواج المصطنعة لم تعد قادرة على حمايته من الازمات النفسية الدائمة التي تواجهه وتحاصره من كل النواحي، وقد انعكس هذا بشكل واضح على علاقاته الاجتماعية والعاطفية، حيث أصبحت هي الأخرى خاضعة لمنطق الفائدة، كما صار الجنس مهنة تحترف لا كعلاقة مبدئية، مما أدى إلى ذبول الحب الروحي وانقلابه إلى حب سائل لا جذور له كما تحدث عنه "سيجموند باومن".

هذه النزعة العلموية - التقنوية أفرغت الحياة من بعدها الإنساني وكرست البرجماتية المادية، مما أدى إلى إلغاء العلاقات القائمة على المشاعر الخالصة والعواطف النبيلة المتحررة من كل أنواع الاستغلال، وكان هذا سببا مباشرا في سيادة التصور التشاؤمي والنظرة العدمية للحياة. وبالأحرى نتج عن تسليع كل شيء وإخضاع كل أوجه الحياة للصفقات الاقتصادية إلى نسيان إنسانية الإنسان، واختزاله في الجانب المادي (الجسدي)، القابل للتوظيف في المعامل والمصانع كموارد بشرية أو كيد عاملة لتنمية الاقتصادي فقط، وقد فرض هذا انفصال بين الحب الجسدي والحب الروحي. هذا ما بعث باليأس وجعل الحياة روتينية ومملة، وأدى إلى فقدان الرغبة في الحياة بعد فقدان ما هو أقوى منها، وفق العبارة الأنيقة لأدرنو.

لقد أصبح الحب مجرد ميول جنسي لإشباع الرغبات واتصال الأجساد بهدف بلوغ المتعة واللذة دون أخذه بعين الاعتبار كفعل إنساني لا كسلوك حيواني، أو النظر إلى الممارسة الجنسية كلحظة حميمية إنسانية بامتياز، وليست كلحظة لتفريغ المكبوتات.

 

قائمة المصادر والمراجع:

-          أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، محمد لطفي جمعة (مترجم)، مجدى عبد الحافظ (تصدير ودراسة)، سلسلة ميراث الترجمة، ، مصر: المركز القومي للترجمة.

-          أفلاطون، مائدة أفلاطون، كلام في الحب، محمد لطفي جمعة (مترجم)، مؤسسة الهنداوي، 2021

-          مونيكديكسو، أفلاطون: الرغبة في الفهم، حبيب الجربي (مترجم)، تونس: المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا.

-          جورج زيناتي، الحرية والعنف، الطبعة الأولى، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018

-          حنة أرندت ومارتين هايدجر، رسائل حنة أرندت ومارتين هايدجر 1925-1975، حميد لشهب (مترجم)، الطبعة الأولى، بيروت: جداول، 2014

-          عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة للحريري، الطبعة الثالثة، الدار البيضاء: دار توبقال، 2007

-          محمد نورالدين أفاية، الهوية والاختلاف، في المرأة، الكتابة والهامش، افريقيا الشرق 1998

-          زكاريا ابراهيم، مشكلة الحب، مصر: دار مصر للطباعة.

[1]زكاريا ابراهيم، مشكلة الحب، (مصر: دار مصر للطباعة)، ص ص 130 - 131

[2] مونيكديكسو، أفلاطون، الرغبة في الفهم، حبيب الجربي (مترجم)، (تونس: المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا)، ص 34

* استدعى سقراط هذه الشخصية في سياق الحديث عن ولادة الحب.

[3] عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة للحريري، الطبعة الثانية، (الدار البيضاء: دار توبقال، 2007)، ص 7.

[4] كيليطو، ص 8

[5] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، محمد لطفي جمعة (مترجم)، مجدى عبد الحافظ (تصدير ودراسة)، سلسلة ميراث الترجمة، (مصر: المركز القومي للترجمة)، ص 221

[6]أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 225

[7] المرجع نفسه.

[8] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 227

[9] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 229

[10] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 230

[11] المرجع نفسه.

[12]أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، محمد لطفي جمعة (مترجم)، (مؤسسة الهنداوي، 2021)، ص 112

[13] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (مؤسسة الهنداوي، 2021)، ص 117

[14]المرجع نفسه.

[15]أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 236

[16] جورج زيناتي، الحرية والعنف، الطبعة الأولى، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 56

[17] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 239

[18] زيناتي، ص 55

[19] زيناتي، ص 55

[20] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 243

[21] حنة أرندت ومارتين هايدجر، رسائل حنة أرندت ومارتين هايدجر 1925-1975، حميد لشهب (مترجم)، الطبعة الأولى، (بيروت: جداول، 2014)، ص 43

[22]أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 245

[23] االمرجع نفسه.

[24]أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 250

[25] محمد نورالدين أفاية، الهوية والاختلاف، في المرأة، الكتابة والهامش، (افريقيا الشرق 1998)، ص 42

[26] أفاية، ص 35

[27] المرجع نفسه.

[28] زيناتي، ص 69

[29] المرجع نفسه.

[30] أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، (المركز القومي للترجمة)، ص 255

[31] جوج زيناتي، ص 69

[32]جوج زيناتي، ص 60

[33] جوج زيناتي، ص 65