محاولة في تصنيف العلوم عند ابن خلدون


فئة :  مقالات

محاولة في تصنيف العلوم عند ابن خلدون

لقد أخذ تصنيف العلوم حيّزاً مهمّاً لدى الفلاسفة والعلماء المسلمين، فقد كانت معرفتهم للعلوم بكل أنواعها لا تستقيم دون تصنيفها، فصنفوا هذه الأخيرة إلى علوم نقلية وعقلية. ومن بين العلماء المسلمين الذين اهتموا بتصنيف العلوم نجد الفارابي من خلال كتابه "إحصاء العلوم"، وأبو حامد الغزالي من خلال كتابه "إحياء علوم الدين"، وكذلك "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا" الذين خصصوا فصلاً من رسائلهم السابعة للبحث في أجناس العلوم، ثم الخوارزمي في كتابه "مفاتيح العلوم"، ثم ابن النديم في كتابه "الفهرست"، ثم ابن خلدون من خلال مقدمته المشهورة بـ "مقدمة ابن خلدون".

وموضوعنا هذا، سيقارب موضوع "تصنيف العلوم" من خلال مفكر وعالم يعتبر من أبرز المفكرين الذين أنجبتهم البيئة الفكرية الإسلامية في الغرب الإسلامي، ويكفينا في هذا السياق أن ندرج شهادة الأستاذ عبد الله العروي على حد تعبيره إن "ابن خلدون مفكرا مجتهدا يمثل في القضايا عديدة، قمة ما توصل إليه الفكر الإسلامي. وربما الفكر الإنساني في زمانه"[1]. واعتبرت مرحلته حلقة منيرة في تراثنا العربي الإسلامي.

ولا يمكن أن يتسنى لنا سبر أغوار موضوع تصنيف العلوم من خلال مقدمة ابن خلدون، دون الإشارة إلى حياة هذا الفيلسوف، وكذا نشأة العلوم وفضلها على الإنسان من وجهة نظره. لهذا ارتأيت أولاً أن أتحدث عن نشأة ابن خلدون وتحصيله، ثم ثانياً عن نشأة العلوم وفضلها على الإنسان عند ابن خلدون، وثالثاً عن تصنيف العلوم من خلال مقدمة ابن خلدون لأختم القول ببعض الملاحظات النقدية حول تصنيف العلوم عند ابن خلدون.

1- نشأة ابن خلدون وتحصيله (1332-1406م):

يعود نسب ابن خلدون إلى عرب الجنوب، و"يتصل نحوا من الاتصال بأمراء كندة الذين ملكوا عن بني أسد في نجد، وكان آخرهم حجر والد امرئ قيس"[2]، الشاعر الجاهلي الشهير، نزح جده الأكبر إلى الأندلس في آواخر القرن التاسع وبالخصوص إشبيلية، وفي منتصف القرن الثالث عشر هاجرت أسرة منهم إلى تونس فيمن هاجر من العرب إلى إفريقيا، وفي تونس ولد الفيلسوف والعلامة ابن خلدون يوم الأربعاء 1 رمضان 732 هـ الموافق 27 مايو 1332

كان أجداده من ذوي العلم والفضل، والمكانة السياسية المتميزة والرفيعة إذ التحقوا لخدمة بني حفص، وهم آنذاك أصحاب تونس، وكان بيت أبيه "بيت علم وأدب ودين، فنشأ في جو علمي ديني"[3]، حصل علومه الأولى على يد والده، ثم على كبار علماء تونس، ونبغ باللغة والأدب، وكانت له شهرة في الفقه المالكي الذي كانت عليه أسرته، وتولى القضاء فيه غير واحد من جدوده، فقد كان منشئاً بليغاً كما تشهد له بذلك مقدمته، فقد عين في شبابه كاتباً في بلاط التونسي، ثم عين أميراً للسر عند السلطان أبي عنان المريني، وتوفي ابن خلدون في الجمعة 28 رمضان 808 هـ الموافق لـ 19 مارس 1406 م[4].

2- نشأة العلوم وفضلها على الإنسان:

يعتبر ابن خلدون نشأة العلوم وتقدمها ظاهرة عامة من ظواهر العمران البشري، وأرقى ما نراه في المدن الكبرى والأمصار المزدهرة، واعتبر أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الفكر، حيث "إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغداء والكن (البيت) وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه"[5].

يعتبر ابن خلدون نشأة العلوم وتقدمها ظاهرة عامة من ظواهر العمران البشري

ولما كان ابن خلدون يرى أن طلب العلم فطرة الإنسان، صح عنده أن العلوم تنشأ عن حاجة فطرية يسعى الإنسان إلى تحقيقها، إما بالاقتباس عن الأولين أو بالاستنباط الفكري، وبناءً عليه يقسم ابن خلدون العلوم إلى قسمين كبيرين: الأول: يشمل العلوم النقلية والتي يأخذها طالب العلم من السلف كالفقه واللغة. والثاني: يضم العلوم العقلية، والتي يتوصل إليها بجهده الفكري والعقل كالطبيعيات والحكمة، وهذه العلوم العقلية طبيعية في الإنسان، ولذلك فهي ليست حكراً ومقصورةً على ملة أو أمة، مع تأكيده على وجوب الابتداء بتدريس العلوم النقلية، حتى يرتاض بها عقل الناشئ كان إقباله على العلوم العقلية أيسر مأخذاً وأسلم عاقبة.

3- تصنيف العلوم من خلال مقدمة ابن خلدون:

تعتبر مقدمة ابن خلدون من أهم ما خلفه في موضوع "تصنيف العلوم عن العرب والمسلمين"، والأكمل والأشمل لأي باحث ولى وجهه قِبَلَ هذا الإشكال، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يمكن اعتبار ابن خلدون شأنه شأن "المفكرين الإسلاميين الذين قدموا تصنيفات للعلوم، من حيث تقسيمهم العلوم إلى علوم شرعية وأخرى عقلية"[6]، فالعلوم حسب ابن خلدون صنفين: "صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه"[7].

  • الصنف الأول: هي العلوم العقلية التي هي حسب ابن خلدون 'العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقف نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر"[8].
  • الصنف الثاني: وهي حسب ابن خلدون "العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الوضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى إلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل، وهو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه"[9]. إذن حسب ابن خلدون هناك نوعان من العلوم؛ العلوم العقلية والعلوم النقلية.

1- العلوم النقلية وأصنافها:

إن أصل هذه العلوم كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة، وهي حسب ابن خلدون كتالي:

علوم القرآن من التفسير والقراءات: فالقرآن حسب ابن خلدون "هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين ضفتي المصحف، وهو متواتر بين الأمة، إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرائق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها، وتنوقل ذلك واشتهر إلا أن استقرت منها سبع طرائق معينة تواتر نقلها أيضا بأدائها واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الفقير، فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة"[10]. فالقرآن حسب ابن خلدون هو ما أوحي به إلى نبي الإسلام محمد (ص)، فتعامل معه الصحابة بطرائق مختلفة على مستوى أدائه في طريقة الحروف والكلمات، ويشير كذلك ابن خلدون إلى أن هناك سبع قراءات يتلى بها القرآن وأصبحت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة.

علوم الحديث: فعلوم الحديث حسب ابن خلدون كثيرة وغزيرة ومتعددة "لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه؛ وذلك بما تبث في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنه، باعتبار مصالحهم تكفل الله لهم بها. قال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ومعرفة الناسخ والمنسوخ إذا كان عاقا للقرآن والحديث إلا الذي له في القرآن منه اندرج في تفاسيره، وبقي ما كان خاصا لها بالحديث راجعا إلى علومه"[11]، إن هذا العلم لا ينبغي فهمه بأنه علم منفصل عن القرآن، وإنما هو متمم له.

علم الفقه وما يتبعه من فرائض: يعتبر ابن خلدون أصول الفقه "من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرا وأثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له"[12].

ففي عهد النبي حسب ابن خلدون كانت الأحكام تأخذ مما يوحى إليه من القرآن ويبنه بقوله وفعله بخطاب شفهي لا يحتاج إلا نقل أو إلى نظر أو قياس، ثم السنة التي أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب العمل بما يصلنا منها قولاً أو فعلاً بالنقل الصحيح. ولا يكون ذلك إلا عند مستند، لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماع دليلاً ثالثاً في الشرعيات من بعد القرآن والسنة.

علم الكلام: فيعرفه ابن خلدون بأنه "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية العقلية والرد المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد"[13].

وموضوع علم الكلام حسب ابن خلدون عند أهله، إنما هو الدفاع عن العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث إمكان الاستدلال عليها بالأدلة العقلية، فتظهر البدع وتزول الشكوك والشبه من العقائد...

علم التصوف: هذا العلم حسب ابن خلدون من "العلوم الحديثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاعتراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[14].

لقد اختص أصحاب هذا المذهب حسب ابن خلدون بالزهد والانفراد عن الخلق والإقبال عن العبادة بمآخذ مدركة لهم؛ وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوانات بالإدراك؛ أي إدراكه للعلوم والمعارف واليقين والظن والشك والوهم وإدراك الأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك.

علم تعبير الرؤيا: وهذا العلم حسب ابن خلدون هو جديد في الملة، وخصوصا عندما صارت العلوم والصنائع وكتب الناس فيها، "وإنما الرؤيا والتعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف، وربما كان في الملوك والأمم من قبل، إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بالكلام المعبرين من أهل الإسلام، وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق، ولابد من تعبيرها"[15]. واعتبرها ابن خلدون مدرك من مدارك علم الغيب.

2- العلوم العقلية وأصنافها:

إن التصنيف الذي قدمه ابن خلدون لا يخرج عن التصنيف الإسلامي الذي يميز بين العلوم العقلية والعلوم النقلية

يقول ابن خلدون في حق العلوم العقلية بأنها "هي طبيعة الإنسان من حيث هو أنه هو ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها"[16]، وهي موجودة مند أن كان عمران الخليقة، ويسميها ابن خلدون بعلوم الفلسفة والحكمة، وهي تشتمل حسبه أربعة علوم، وهي:

الأول: علم المنطق

الثاني: العلم الطبيعي الذي ينظر في المحسوسات

الثالث: العلم الإلهي الذي ينظر في أمور ما وراء الطبيعة.

الرابع: العلم الذي ينظر في المقادير وينقسم بدوره إلى أربعة تعاليم وهي: علم الهندسة وعلم الأرتماطيقي، وعلم الموسيقى، وعلم الهيئة.

وسنعتمد في عرض هذا التصنيف على نفس المعيار الذي اعتمده ابن خلدون في عصره، وهو معيار البدء بأكثرها منفعةً وصولاً إلى أقلها منفعةً.

العلوم العددية: وأولها حسب ابن خلدون هناك "الارتماطيقي، وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف، إما على التوالي أو بالتضعيف"[17]، مثل الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد، فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفيين بعدد واحد.

العلوم الهندسية: فهذا العلم حسب ابن خلدون "هو النظر في المقادير، إما المتصلة كالخط والسطح والجسم، وإما منفصلة كالأعداد وفيها يعرض لها من العوارض الذاتية، مثل أن في كل مثلث فزواياه مثل قائمتين، ومثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية"[18]، واعتبر ابن خلدون في هذا السياق أن الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة هو كتاب أقليدس.

علم الهيئة: هذا العلم حسب ابن خلدون "ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمحركة والمتحيزة، ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية"[19]؛ بمعنى أن هذا العلم يدرس حركات الكواكب والأفلاك، وهذا العلم هو ما يسمى حاليا بعلم الفلك.

علم المنطق: يعرفه ابن خلدون بأنه "علم قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في حدود المعرفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات؛ وذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس، وجميع الحيوانات مشتركة من الناطق وغيره"[20].

ومن بين الكتابات المنطقية المعروفة حسب ابن خلدون هناك:

الأول كتاب المقولات: في الأجناس العالية التي يتنهي إليها تجريد المحسوسات.

الثاني كتاب العبارة: في القضايا التصديقية وأصنافها.

الثالث كتاب القياس: في القياس وصورة إنتاجه.

الرابع كتاب البرهان: هو النظر في القياس المنتج لليقين.

الخامس كتاب الجدل: في القياس المفيد وقطع المشاغب.

السادس كتاب السفسطة: هو القياس الذي يفيد خلاف الحق.

السابع كتاب الخطابة: هو قياس يفيد ترغيب الجمهور.

الثامن كتاب الشعر: هو القياس الذي يفيد التشبيه والتمثيل.

علم الطبيعيات: هو حسب ابن خلدون علم يبحث "عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون، فينظر في الأجسام السماوية والعنصرية، وما يتولد عنها من حيوان وإنسان ونبات ومعدن، وما يتكون في الأرض من عيون والزلازل وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك، وفي مبدأ الحركة للأجسام، وهو النفس على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات"[21]، وقد اعتبر ابن خلدون أن من بين العلوم التي ترجمت في هذا الباب من علوم الفلسفة هي كتب أرسطو أيام المقتدر. ومن فروع الطبيعيات حسب ابن خلدون هناك:

علم الطب: وهي صناعة "تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح، فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين مرض كل عضو من أعضاء البدن وأسباب تلك الأمراء التي تنشأ وما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها على المرض بالعلامات المؤذنة بنضجه وقبوله الدواء أولا في السجية والفضلات والنبض محاذين لذلك قوة الطبيعة، فإنها المدبرة في حالتين؛ الصحة والمرض"[22].

علم الفلاحة: وهي كذلك فرع من فروع الطبيعيات، وهي "النظر في النبات من حيث تنميته ونشوؤه بالسقي والعلاج وتعهده بمثل ذلك، وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها للروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر، فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك"[23].

علم الإلهيات: وهو علم حسب ابن خلدون ينظر في الوجود المطلق، فأولا في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك، ثم ينظر في الموجودات وأنها روحانيات، ثم كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ.[24]

علوم السحر والطلسمات: وهي "علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر، إما بغير معين من الأمور السماوية والأول هو السحر والثاني هو الطلسمات"[25]، وهذا حسب ابن خلدون من العلوم المهجورة في الملة لما فيها من الضرر ولما يشترط فيها من وجهة لغير الله من كواكب أو غيره.

علم أسرار العلوم: وهو علم حسب ابن خلدون "المسمى لهذا العهد (عصر ابن خلدون) نقل ووضعه من الطلمسات إليه في الإصلاح أهل التصرف من المتصوفة، فاستعمل استعمال العام في الخاص"[26].

من خلال ما سلف نلاحظ أن ابن خلدون يقسم العلوم إلى قسمين علوم عقلية وعلوم نقلية، ويمكن تلخيص هذه العلوم على الشكل التالي:

على سبيل الختم:

بعض الملاحظات النقدية في تصنيف العلوم عند ابن خلدون

يقول محمد عابد الجابري في كتابه "نحن والتراث" في قراءته الأخيرة في الجزء الخاص بابن خلدون المعنون بابستومولوجيا المعقول واللامعقول في مقدمة ابن خلدون. بأن التصنيف الذي قدمه ابن خلدون لا يخرج عن التصنيف الإسلامي "بل يتبنى التصنيف الإسلامي المشهور الذي يميز بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، وفي ذات الوقت يوسع من دائرة العلوم، لتشمل الفلسفة والتنجيم والكيمياء وعلوم السحر جملة"[27].

غير أن هذا التقسيم حسب محمد عابد الجابري لا يوفي بأغراض ابن خلدون الذي كان يطمح إلى تفسير كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ لأن هناك في عالم الثقافة والفكر علوما وفنونا لا تندرج تحت الصنفين المذكورين، لأنها ليست علوم الشرع ولا علوم عقل، ولكي يجد ابن خلدون مكاناً لهذه العلوم في مقدمته تبنى تصنيفا إضافيا آخراً للعلوم، يقوم هذه المرة لا على أساس مصدرها المعرفي (العقل أو النقل) بل على أساس وظيفتها في عالم المعرفة بكيفية عامة.

ومن خلال هذه الملاحظة الجابرية، فأين يتموقع علم التاريخ وعلم والعمران، باعتبارهما علمين تبلورا مع ابن خلدون ضمن تصنيفه للعلوم؟

يقول محمد وقيدي في كتابه العلوم الإنسانية والأيديولوجيا، في حديثه عن تصنيف العلوم عند ابن خلدون، بأن هذا الأخير لا يدرج ضمن هذه العلوم "علم التاريخ وعلم العمران البشري"[28]. قد يكون الأمر مفهوم بالنسبة إ، لى علم العمران "بوصفه العلم الجديد الذي هو موضوع حديث ابن خلدون في مقدمته بأكملها"[29]، وهذا ما حاول ابن خلدون أن يثبت موضوعه وأن يرسي منهجه في البحث، ولكن إذا كان يمكننا أن نبرر، بهذه الصفة الموضوعية، عدم ذكر ابن خلدون لعلم العمران، اعتبارا منا أنه لم يذكر في تصنيفه إلا العلوم القائمة، فإننا لا يمكن أن نعمم نفس التبرير بالنسبة إلى علم التاريخ، وهو علم عريق كما يصرح ابن خلدون نفسه[30].

فيقول محمد وقيدي إن عدم تصنيف علم التاريخ ضمن العلوم العقلية والنقلية، أراد به ابن خلدون "أن يكتسب مكانة جديدة ضمن نسق العلوم، فيصبح ضمنها من بين العلوم العقلية، لأن مهمته إزاء الحدث التاريخي لن تعود مقتصرة على الرواية بل سيتجاوز ذلك إلى التعليل"[31].

أما بالنسبة إلى علم العمران فمنذ "بدايته فيعرف بكونه علما عقليا لأنه يتناول ظواهر الاجتماع الإنساني قاصدا البحث في العوارض الذاتية التي تخص هذه الظواهر"[32]، وفي نفس السياق يأتي تصور عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم العقل" معتبراً أن تصنيف العلوم عند ابن خلدون ظل حبيس التصور الكلاسيكي للعلوم، ولم يستطع الخروج عنه، وبالتالي ظل حبيس العقل المطلق المتحكم في المعرفة بكل أنواعها. وعلى كل حال، فإن مرحلة ابن خلدون لا تقل أهمية مما هي عليه حسب عبد الله العروي. فاعتبر ابن خلدون مفكراً مجتهداً يمثل في القضايا عديدة، وقمة ما توصل إليه الفكر الإسلامي. وربما الفكر الإنساني في زمانه[33].

 

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

o       ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م.

o       عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 2001

o       كمال اليازجي وأنطون غطاس كرم، أعلام الفلسفة العربية، دراسات مفصلة ونصوص مبوبة مشروحة، دار المكشوف مكتبة أنطوان ومكتبة لبنان، الطبعة الثالثة 1968

o       محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة 1985

o       محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 2011

 


[1] عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 2001، ص: 229

[2] كمال اليازجي وأنطون غطاس كرم، أعلام الفلسفة العربية، دراسات مفصلة ونصوص مبوبة مشروحة، دار المكشوف مكتبة أنطوان ومكتبة لبنان، الطبعة الثالثة 1968، ص: 808

[3] نفس المرجع، نفس الصفحة

[4] تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أننا اعتمدنا بشكل كبير في الحديث عن حياة ابن خلدون على كتاب كل من:

كمال اليازجي وأنطون غطاس كرم، أعلام الفلسفة العربية، دراسات مفصلة ونصوص مبوبة مشروحة، دار المكشوف مكتبة أنطوان ومكتبة لبنان، الطبعة الثالثة 1968

[5] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 350

[6] محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 2011، ص: 7

[7] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 354

[8] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 355

[9] نفس المصدر، نفس الصفحة.

[10] نفس المصدر، ص: 356

[11] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 359

[12] نفس المصدر، ص: 368

[13] نفس المصدر، ص: 373

[14] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 391

[15] نفس المصدر، ص: 400

[16] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 403

[17] نفس المصدر، ص: 406

[18] نفس المصدر، ص: 409

[19] نفس المصدر، ص: 411

[20] نفس المصدر، ص: 412

[21] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 415

[22] نفس المصدر، ص: 416

[23] نفس المصدر، ص: 417

[24] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار ابن الهيتم، القاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ/2005م، ص: 418

[25] نفس المصدر، ص: 419

[26] نفس المصدر، ص: 425

[27] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة 1985، ص: 270

[28] محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 2011، ص: 8

[29] محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 2011، ص: 8

[30] راجع مقدمة ابن خلدون "في فصل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها" ص: 9

[31] محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 2011، ص: 18

[32] نفس المرجع، نفس الصفحة

[33] عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 2001، ص: 229