مُحدّدات "الظاهرة الجهادية" في إفريقيا


فئة :  قراءات في كتب

مُحدّدات "الظاهرة الجهادية" في إفريقيا

لم تخرج الأقلام البحثية الغربية التي تشتغل على واقع القراءة الاختزالية للظاهرة الإسلامية الحركية، عن السائد في التداول العربي الإسلامي؛ أي غَلبة القراءات الاختزالية والنمطية لظاهرة معقدة، ونتحدث هنا بشكل عام، ولا نتحدث عن الاستثناءات، سواء في التداول الغربي أو العربي الإسلامي، وهذا ما حذرنا منه سلفاً في أرضية نظرية نحسبها نافعة لمن يريد طرق باب الاشتباك المعرفي مع الظاهرة[1].

إذا كان الأمر يتعلق بهذا الاختزال في معرض التعامل النظري والتأملي مع حركات وأحزاب الإسلام السياسي [Islam politique]، فلأن يكون كذلك مع الحركات الإسلامية القتالية أولى؛ أي مع ما يُصطلح عليه بـ"الجهاديين" أو حركات "التطرف العنيف" حسب الاصطلاح المعتمد رسمياً اليوم من طرف هيئة الأمم المتحدة.

من بين أحدث الاستثناءات، والتي تستحق التنويه والترويج[2] في آن، كتاب حديث الإصدار في التداول الفرنسي، وألفه الباحث مارك أنطوان بيروس دي مونكلو، وعنوانه: "الحدود الجديدة للجهادية في إفريقيا"[3]، وصدر في مطلع شهر أبريل 2018.

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة مطولة بعنوان: "ساحل ــ ستان وتحدي التضليل" وسبعة فصول وخاتمة، تطرقت لتجاوز الرؤى المتداول حول صعود الإسلام في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء (الفصل الأول)؛ التاريخ العريق للظاهرة "الجهادية" في إفريقيا (الفصل الثاني)؛ الدول الضعيفة والطلب على الشريعة الإسلامية في الحقبة الاستعمارية (الفصل الثالث)؛ "الجهادية المُعَوْلَمة" بين التخيلات ونظرية المؤامرة (الفصل الرابع)؛ مُحدّدات الحركية "الجهادية" (الفصل الخامس)؛ الفقر، المال والقرآن (الفصل السادس)؛ "المنطق القمعي ونبوءات متحققة" (الفصل السابع)؛ أما خاتمة الكتاب، فجاءت تحت عنوان "حدود الردود العسكرية على الإرهاب "الجهادي".

هناك مجموعة من المؤشرات التي تخول لناقد الكتاب التنويه بمضامينه، وفي مقدمتها توقف المؤلف عند تعدد الأسباب والمُحدّدات التي تغذي الظاهرة "الجهادية"، لأنه رفض منذ مقدمة الكتاب الإحالة على مُحدّد واحد دون سواه، كأن يختزل السبب الوحيد أو الرئيس في المُحدّد الديني، أو المُحدّد الاقتصادي والاجتماعي، أو المُحدّد السياسي والأمني، وإنما يستعرض مجموعة من العوامل والأسباب التي غذت الظاهرة، موجهاً عدة مؤاخذات نقدية صريحة إلى أغلب القراءات البحثية بلْه الإعلامية، بما فيها القراءات السياسية والأمنية، المحلية والإقليمية والدولية، التي تروج لهذا المُحدّد أو غيره، مع صرف النظر غير المتعمد أو المقصود عن باقي الأسباب.

تشعب أسباب الظاهرة "الجهادية"

من مُميزات الكتاب أيضاً، أن مؤلفه زار جميع الدول الإفريقية[4] المعنية بالظاهرة "الجهادية"، بمعنى أنه اجتهد في الجمع بين الحُسنيين: النظري[5] العملي، كما أنه التقى وأجرى حوارات مع أغلب الرموز الإسلامية الحركية (السياسية و"الجهادية")، من قبيل الراحل حسن الترابي أو مقاتلي "حركة الشباب" الصومالية وجماعة "بوكو حرام" النيجيرية وغيرهم، ومع أن العمل يتضمن وقفات مع أداء العديد من الجماعات الإسلامية الجهادية [أو "الإسلاموية القتالية"]، إلا أن المؤلف ارتأى التوقف بتفصيل أكثر مع ثلاث جماعات بالضبط: جماعة "بوكو حرام" في نيجريا، و"حركة الشباب" في الصومال، و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، في المنطقة المغاربية على الخصوص.

جاءت أولى إشارات الكتاب عبر دلالات الإهداء، وكان مُخصّصاً لـ"ضحايا الإرهاب وضحايا الإرهاب المضاد في إفريقيا"[6].

لعل إصرار المؤلف في أكثر من مقام على التذكير بتعدد أسباب الظاهرة في شمال إفريقيا، يُفسر إصرار المؤلف على الحديث عن جماعات متمردة أو قتالية أو انفصالية، عِوَض الحديث عن جماعات إرهابية، خاصة أنها "تحظى بحاضنة اجتماعية، تنتقد الأنظمة الحاكمة من منظور سياسي أو أخلاقي/ديني"[7].

ومن مفاتيح الكتاب كذلك، أن الأغلبية المسلمة الصامتة في إفريقيا لا زالت أغلبية غير مرئية، ولا تجد نفسها في أغلب أنماط التديّن الحركي في الإسلام، سواء تعلق الأمر بالطرق الصوفية والجماعات السلفية [الوهابية] أو مُجمل الجماعات المتشددة ذات النفس القتالي، أو الداعية إلى التطبيق الحرفي للشريعة من منظور متشدد[8]. (72)

توجد التجربة الإسلاموية في السودان، ضمن تطبيقات هذا المفتاح النظري، حيث يرى مارك أنطوان بيروس أن رحيل حسن الترابي كان إيذاناً بفشل المشروع السياسي ـ الديني الذي رُوج له في السودان، ولكن مع كارثة ذات أبعاد ثلاثة، طالت السودان السُّني، ويتعلق الأمر بفقدان الجنوب السوداني (أصبح لاحقاً دولة جنوب السودان، ابتداءً من 2011)، ارتفاع مؤشر الفتن في الأوساط السنية السودانية، والانخراط في تحالفات سياسية واستراتيجية غير طبيعية مقارنة مع خصوصيات المنطقة، من قبيل التحالف السياسي مع إيران الشيعية، أو مع جبهة قتالية مسيحية[9] في شمال أوغندا. (ص 93)

الدولة الدينية المستحيلة

توقف المؤلف عند ذكاء العقل "الجهادي" في توظيف بعض الأزمات المحلية أو الإقليمية، والتي لا علاقة لها بالمُحدّد الديني، من أجل خدمة مشروعه الجهادي، وبالنتيجة، وفي غياب معارضة ذات مصداقية، تتصدى للنخب الحاكمة في المنطقة، والحليفة للغرب[10]، انتهى الأمر بهذه الجماعات إلى استقطاب جزء من الرأي العام، مورداً لائحة من الأمثلة، نذكر منها، ما جرى مع الظاهرة "الداعشية" في سوريا التي تحالفت في بقايا النظام البعثي في العراق، أو "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" [AQMI] الذي تحالف مع الطوارق في شمال متالي ضد السلطة المركزية في باماكو، أو ما قام به فصيل منشق عن "حركة موجاو" [MUJAO] بقيادة عدنان أبو الوليد الصحراوي، والذي تزعم قبائل صحراوية تعرضت للتهميش والإقصاء من طرق دول المنطقة، أو جماعة "بوكو حرام" في نيجريا التي وظفت حالات الاستياء من التهميش الذي طال مناطق في شمال نيجريا بعد الانقلاب السياسي الذي قامت به هيئات سياسية مسيحية على السلطة المركزية. (ص 97)

يرى المؤلف أن التجارب الإسلاموية الفاشلة في المنطقة، وخصّ بالذكر، النماذج الإسلاموية في القرن الإفريقي (السودان والصومال، بين 2008 و2014)، أفضت إلى تغذية الانطباع العام السائد حول مآل الأنظمة الدينية في التداول الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالسنة أو الشيعة، حيث اعتبر في هذا السياق، أن التجارب سالفة الذكر، تسلط الضوء على حدود اليوتوبيات المرتبطة بالمثالية السياسية الدينية التي يتأكد للجميع أنها صعبة أو مستحيلة التحقق، كما لو أنه يستعير مصطلح "الدولة [الإسلامية] المستحيلة"[11] الذي بلوره وائل حلاق منذ بضع سنين.

فمن جهة، غذت هذه التجارب الانطباع السائد عن علاقة الدين بالسياسة عند البعض في المنطقة، ومفاده أن هناك حال نفور بين الدين والدولة، بخلاف ما تذهب إليه الأدبيات الإسلامية الحركية؛ ومن جهة ثانية، اتضح أنه عندما تتحكم جماعة إسلامية في زمام السلطة السياسية، غالباً ما ينتهي الأمر إلى الإساءة للدين، خاصة عندما يتم توظيف العلماء من طرف السلطة من أجل تقويض قوانين لا تنسجم مع الحقائق الإنسانية، كما جرى في حالة حسن الترابي مع عمر البشير. (ص 99)

كسب القلوب والعقول

يؤاخذ المؤلف على صناع القرار في الدول الغربية، وخاصة في واشنطن ولندن وباريس عدم الإقرار بالأضرار الجانبية الخطيرة للمقاربة الأمنية المُتبعة قديماً وحالياً في التعامل مع الظاهرة "الجهادية"، معتبراً أن التأخر في هذا الاعتراف، يصب في مصلحة الخطاب "الجهادي" الذي يوظف هذه المعضلة في المزيد من الاستقطاب، تحت شعار مقاومة الإمبريالية.

ومن بين أهم نتائج هذا المأزق، أن الدول الغربية[12]، بَلْه الدول الإفريقية المعنية بالمواجهة المباشرة مع الجماعات "الجهادية"، فشلت عملياً في معارك القلوب والعقول، إذا استعرنا بعض المصطلحات التي تم تداولها في زمن "الحرب الباردة" بين المعسكرين الغربي والشرقي، بالرغم من أن "غالبية الساكنة الإفريقية المسلمة، لا تجد نفسها في الخطاب الإسلامي "الجهادي"، أو الحركي بشكل عام، سواء كان يحمل اسم الوهابية أو السلفية أو المهدوية أو الصوفية أو الشيعة"، مضيفاً أن "صمت الأغلبية في شعوب المنطقة، لا يُفيد بالضرورة أي تأييد لهذه المشاريع الدينية".

ليس هذا وحسب، يرى المؤلف أن إصرار المؤسسات الدينية على استنكار ظاهرة الإرهاب، لا يجد صداه لدى شعوب المنطقة، بخلاف الترويج الإعلامي الذي يحظى به هذا الاستنكار لدى الإعلام الغربي، وبيان ذلك، أن هذه الشعوب تطمح التنمية الاقتصادية[13]، أكثر من الرهان على تبادل الاتهامات الدينية بين هذه المؤسسات وتلك الجماعات، بما في ذلك ترويج خطاب تأويل الخطاب الديني بين السلفية والصوفية. (ص 222)

بالنسبة إلى الفاعل الإسلامي القتالي، فلا يمكن اختزاله في صورة نمطية، غالباً ما تركز على المُحدّد الديني، بينما الأمر خلاف ذلك حسب المؤلف، حيث يرى أن هذا الفاعل يمكن أن يكون المدافع عن شرف القبيلة والراغب في الانتقام من اعتداءات ذات أسباب عرقية أو دينية؛ ويمكن أن يكون الفاعل الانتهازي والبراغماتي الذي يرغب في استغال أجواء الفوضى والخراب الذي يطال المنطقة من أجل الاغتناء؛ ويمكن أيضاً أن يكون الفقير المعدم الذي يُقلد "روبن هود" عبر سرقة الأثرياء لمساعدة الفقراء؛ وأخيراً، يمكن أن يكون الطفل الضحية، الذي يُنفذ عملية تفجيرية، انتقاماً من نفسه ومن المجتمع والدولة. وبالنتيجة، إذا استحضرنا مُجمل هذه الدوافع، لا يمكن اختزال أسباب ولادة الجماعات الجهادية، في المُحدّد الديني كما سلف الذكر أعلاه، ثم إن التحدي المهم الذي ينتظر الأفارقة اليوم، يكمن على الخصوص في صيانة الدولة، وتقديم خدمات عمومية في المستوى، توفق بين الميراث الإسلامي والطلب على العدالة الاجتماعية. (ص 224)

فشل الرهان على الخيار العسكري

من بين أهم خلاصات الكتاب، والتي جاءت في الخاتمة (من ص 215 حتى ص 225)، أن الرهان على الخيار العسكري للقضاء على الظاهرة "الجهادية"، أصبح خياراً فاعلاً في الأزمة، عوض أن يكون خياراً نوعياً في تسوية الأزمة، بل ذهب المؤلف إلى تحميل بعض الدول الغربية مسؤولية كبيرة في ولادة الظاهرة، بما في ذلك مسؤولية التأسيس لـ"حروب بالوكالة"، تقوم بها بعض الدول الإفريقية، وهي الحروب التي تخلف مجموعة من الأضرار الجانبية، والتي لا تختلف بعض نتائجها عما يُميز الأعمال "الجهادية". (ص 215) ويستشهد المؤلف هنا بمضامين تقرير صادر عن الأمم في المتحدة، في غضون 2017، اتهم فيها الانزلاقات التي طالت المقاربات الأمنية المتبعة من طرف بعض دول المنطقة، والتي أفضت إلى نتائج عكسية، كان من بينها، استقطاب الجمعات "الجهادية" للعديد من شباب المنطقة، وخصّ بالذكر جماعة "بوكو حرام"، و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".

وهذا هو السيناريو نفسه الذي عايناه في الحالة الصومالية مع بعض تبعات عملية "إعادة الأمل" [Restore Hope] الأمريكية، والتي أفضت لاحقاً إلى ولادة جماعات "جهادية" جنينية، سوف تصبح لاحقاً نواة "حركة الشباب".

هذه بعض المفاتيح النقدية النوعية التي جاءت في كتاب، نحسبُ أنه من أهم الأعمال النظرية التي تطرقت برصانة وعمق لظاهرة الحركات الإسلامية القتالية.

[1] انظر: منتصر حمادة، في المقاربة المُرَكبة للظاهرة الإسلاموية: منهجياً ومعرفياً، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث [mominoun.com]، 19 يناير 2018، على الرابط المختصر: goo.gl/QEwr4h

[2] يستحق هذا العمل أن يُترجم للقارئ العربي، ونحسبُ أنه يُفيد الباحثين العرب، لعلهم يستفيدون من الدروس المنهجية التي تميزه على باقي الأعمال التي تطرقت للظاهرة.

[3] Marc-Antoine Pérouse de Montclos? L'Afrique, nouvelle frontière du djihad? La Découverte? Paris, mai 2018, 239 pages.

[4] إضافة إلى أنه استقر لسنوات في كينيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا.

[5] جدير بالذكر، أن المؤلف كان من بين المشاركين في أشغال المؤتمر الدولي الذي نظمته "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، و"معهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا بإسبانيا" ـ في مدينة مراكش من 6 إلى 8 أبريل 2018، في موضوع "ما بعد داعش: التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف والتطرف العنيف".

[6] Marc-Antoine Pérouse de Montclos, op, cit, p 6

[7] Marc-Antoine Pérouse de Montclos: En Afrique, la lutte contre le terrorisme est la nouvelle rente des régimes autoritaires, (Interview), propos recueillis par Maria Malagardis, Libération Paris, 30 mai 2018

[8] واضح أننا إزاء مفتاح لا يتم الانتباه إليه كثيراً، كما تؤكد ذلك مضامين أغلب الدراسات التي اشتغلت على واقع التديّن الإسلامي في القارة السمراء.

[9] الإحالة هنا على "جيش الرب للمقاومة" [The Lord's Resistance Army].

[10] في هذه الجزئية، تكمن الفوارق بين النموذج التفسيري عند المؤلف، ونظيره عند أغلب الباحثين في التداول الأوروبي ــ الفرنسي على سبيل المثال ــ حيث تتضح الأرضية النظرية المُرَكّبة التي ينتصر لها المؤلف، مقارنة مع الأرضية النظرية الأحادية التي تنتصر لها أسماء بحثية أخرى، من قبيل الباحث جيل كيبل أو الباحث فرانسوا بورغا وغيرهم كثير.

[11] انظر: وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط 1، 2014، 352 صفحة.

[12] سبق للمؤلف في 2013، أن انتقد التدخلات الأجنبية في الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي، معتبراً أن الإرهاب الذي طال منطقة مالي مثلاً، يُترجم فشلاً مؤسساتياً للنظام.

[13] على أرض الواقع، يُضيف المؤلف، ضحايا الملاريا وداء الإيدز وحوادث السير أكبر بكثير من ضحايا الاعتداءات الإرهابية. ص 225