محصّلات الحداثة المعمارية في بلدان الجنوب في الخمسينيات من القرن المنصرم: الدار البيضاء وشانديغار


فئة :  قراءات في كتب

محصّلات الحداثة المعمارية في بلدان الجنوب في الخمسينيات من القرن المنصرم: الدار البيضاء وشانديغار

محصّلات الحداثة، المعمارية، في بلدان الجنوب في الخمسينيات من القرن المنصرم

الدار البيضاء وشانديغار*


تمهــيد

بَـعد الكتاب اللافت "الدار البيضاء: أساطير [كولونيالية] ومغامرات هندسية" (1998)[1] لكل من المهندس والمؤرخ المعماري جان لويس كوهن (Jean - Louis Cohen) والباحثة في علم النفس وعلم الاجتماع إليب دومنيك (Eleb Monique)، صار بالإمكان، ودائماً في إطار من مبحث "الهويّة المعمارية الكولونيالية بالمغرب"، التوقّـف عند كتاب ثانٍ مثير ولافت ـ بدوره ـ وبخصوص الدار البيضاء نفسها التي ارتقت إلى أن تكون المجلى الأنسب والأوضح لـ"التمثيل" (Représentation) المعماري الكولونيالي بالمغرب. هذا وإن كان التعاطي للدار البيضاء، في الكتاب الثاني، ينتظم في سياق بحثي معماري مغاير، موسَّـع وعالمي، هو سياق "الوصل" ما بين الدار البيضاء وشانديغار (Chandigarh) عاصمة البنجاب في الهند الجديدة والمستقّـلة، وكلّ ذلك من خلال كتاب دسم وماتع، موسوم بـ"الدار البيضاء وشانديغار: محصّلات تحديث"[2]. وللمناسبة: الكتاب صادر عن المركز الكندي للهندسة (CCA)، الذي تأسّـس العام 1979، وباعتباره مؤسسة ثقافية تخوض عبر أبحاث وعروض ومعارض في أهمية الهندسة في بناء الحضارات والشعوب، جنباً إلى جنب المخاطر الاجتماعية والسياسية والبيئية التي تهدّد الهندسة.

والكتاب من إنجاز وإعداد كل من توم أفرمات (Tom Avermaete) وماريستيلا كاسياتو (Maristella Casciato) ومن فوتوغرافيا يطو برادة (Yto Barrada) وتاكاشي هوما (Takashi Homma). وأهم ما يلفت الانتباه في الكتاب التحليل الأكاديمي المفتوح الذي يقع في أساس بنية الكتاب، إضافة إلى ارتكاز هذا التحليل على نصوص مدعمة بعشرات العناوين المركزية والفرعية. كما أنّ النصوص معزّزة بعشرات الصوّر والخرائط والقصاصات والجداول والرسوم والترميزات والبيانات والإحصائيات والوثائق... إلخ. وكلّ ذلك في دلالة على الحيّز الزمني والمجهود المعرفي اللذين تطلّـبهما إنجاز الكتاب.

ويقتضي التعامل المتكامل مع الكتاب، مراعاة "بنيته" التي لا يمكن الكشف عن عناصرها الأساسية إلا في ضوء مجموعة من الخطوات المنهجية التي تفرض علينا جملة من العناوين الفرعية التي تمضي بنا من البحث في "أسباب التأليف" إلى محاولة استخلاص "الطرح ما بعد الكولونيالي" الذي يؤطر الكتاب وفق عدة منهجية تصوّرية محدّدة تقوم على مطلب "الحداثة والانخراط في العصر" الذي أرجأناه إلى مختتم المراجعة. غير أنّ العبور إلى الطرح ما بعد الكولونيالي لا يمكنه أن يتّضح إلا بعد استخلاص أهم أفكار الكتاب. ومن هذه الناحية فقد بدا لنا أن نعرض أهم هذه الأفكار في إطار من المحاور السابقة، لأنّ الكتاب يعجّ بالأفكار التي يصعب استعادتها، سواء بالنسبة إلى مدينة الدار البيضاء ["الأخرى"][3] التي بصمها في فترة تاريخية محدّدة المهندس التعميري الفرنسي العبقري ميشال إيكوشار (Michel Écochard) بأسلوبه المعماري الجماهيري الوظيفي، أو بالنسبة لشانديغار التي كان في أساس بنائها المهندس التعميري العالمي (Le Corbusier) لوكوربيزييه (1887 - 1965) الذي بصم الهندسة المعمارية العالمية ببصمته في الثلاثينيات وما بعدها من القرن المنصرم.

في أسباب التأليف:

وتجدر الملاحظة إلى أنّ الجمع بين الدار البيضاء وشانديغار، وفي سياق تاريخي عالمي، ووفق اختيارات منهجية محدّدة، لا يخلو من أهمية بالغة بالنظر إلى التركيز على موضوع المدينة في ثقافات العالم، طالما أنّ هناك من يتصوّر أنّ "القرن الحادي والعشرين هو قرن المدن". ومن المفهوم أن تتأكّـد الفكرة أكثر في سياق الهند؛ لأنّ "فكرة الهند"، تبعاً لعنوان كتاب سونيل خيلناني (Sunil Khilnani)، ما كان لها أن تتبلور بمعزل عن مفهوم المدينة. وما تزال المدينة حتى الآن تكوِّن سياسة الهند. هذا وإن كانت المسألة تعود إلى ما قبل ذلك بعقود، وتعييناً إلى ما بعد العام 1947 الذي ستحصل فيه الهند على استقلالها، وحين سيشرع جواهر لال نهرو رئيس حزب "المؤتمر الوطني"، وبطموحه القومي الكبير، في بعث المدينة ولـ"أغراضه الخاصّة" أيضاً، كما تمّ التأكيد على ذلك؛ ممّا جعل من المدينة ليس رمزاً للسيادة الجديدة فقط، بل جعلها أيضاً محركاً فعّالاً لدفع الهند إلى العالم الحديث. ومن هذه الناحية كان نهرو الشخصية ذات التأثير الأرجح، مقارنة مع الجميع، على مستوى تطوير الإمكانات السياسية للهند المستقلة[4].

والبنجاب هي إحدى ولايات الهند التي تقع في شمال شبه القارة الهندية. وستقسّم هذه الولاية إدارياً، وبإرادة من السيخ، سنة 1947، بين باكستان والهند. وكان هذا المعطى التاريخي في أساس "الخلفية المباشرة" لبناء مدينة شانديغار في سياق عرض الحاجة إلى عاصمة جديدة لولاية البنجاب بعد أن منحت عاصمتها القديمة (لاهور) لباكستان المسلمة[5]. وعلاوة على أنّ شانديغار تمثّـل رداً جمالياً للهند المستقلة، على خسارة جمال مدينة لاهور، فقد تحكّـمت وبشكل أساسيّ أسباب جيوسياسية في بناء شانديغار التي ستوجد في حدود الهند وباكستان، إضافة إلى أنّ نموذجها التعميري سيتكيّـف مع التوتّـرات (Conflits) التي عرفتها الهند[6].

أجل لا يمكن مقارنة الدار البيضاء بشانديغار، إضافة إلى أنه لا توجد مدن مغربية تفرض ذاتها في أثناء الحديث عن الدار البيضاء، كما هو الشأن بالنسبة لشانديغار حيث مدينة بنارس العتيقة والمقدّسة، وحيث الأبهة الاستعمارية البالية لمدينة كلكتا، وحيث طوباوية البرمجيات لمدينة بنغال ور... وصولاً إلى العقلانية العالية لمدينة شانديغار أو "المدينة المفاهيمية" كما تنعت أيضاً. لكن بالرغم من ذلك ارتقت الدارالبيضاء بدورها، وفي بلد في طور التقدّم، إلى المدن "الطموحة" و"المشهدية" (Spectaculaire). ولعل الأهم بالنسبة إلى السياق المعرفي الذي نتحرّك فيه أنها ارتقت إلى تشكيل نموذجها التعميري (Urbain) الخاص أو المتفرّد وبمعنى محدّد[7]. مدينة خلقها الاستعمار عن طريق الهندسة المعمارية، وارتقت بطريقتها إلى أن تصير مرجعاً هندسياً وحداثياً عالمياً.

ويسعف نص التقديم المقتضب والكثيف الذي خصّ به (مدير CCA) ميركو زارديني (Mirko Zardini) الكتاب، على استنتاج أهم الأفكار التي كانت وراء التأليف. وفي مقدّم هذه الأفكار أنّ كلاً من شانديغار والدار البيضاء تزامنتا في الظهور أو بالأحرى في اكتمال الصورة العالمية في الخمسينيات. وهو ما حفّـز باحثين معماريين على توسيع دوائر التحليل والحديث على مدن قائمة بذاتها نتيجة تخطيط حضري، وعلى النحو الذي أعطى أيضاً وللغرب ذاته درساً في مجال المعمار والتعمير. إلا أنّ الحصيلة، وعلى مستوى الدراسة المعمارية الأكاديمية ذاتها والتي لا تخلو من مسحة ثقافية، كانت غير متكافئة. ومن هذه الناحية فقد تّمت دراسة شانديغار أكثر مثلما تمّ فتح نقاش عريض حولها، غير أنّ الحاجة إلى إيجاد طريقة لموضعتها ضمن سياق معاصر وموسـّع ظلت ملحّـة. من هنا كان منشأ وصلها بالدار البيضاء المغربية في دوائر التحليل والمقارنة والتقويم.

ويمكن التعرّف على المعمار الذي كان في أساس تشكّـل الدار البيضاء، وبشكل جامع كما يمكن أن يقال، من خلال الكتاب الأوّل الذي سلفت الإشارة إليه. والكتاب يرصد المعمار الكولونيالي منذ العام الذي خضع فيه المغرب لـ"نظام الحماية" إلى العام 1960 في دلالة على التاريخ الذي توقف فيه المعمار الكولونيالي أو بالأحرى توقفت فيه "المغامرة المعمارية الكولونيالية"[8]، وتحديداً بعد أربع سنوات من حصول المغرب على استقلاله. إجمالاً يؤكد الكتاب أنّ الدار البيضاء كانت أرضاً لـ"التجريب الاستثنائي" لمقاربات وممارسات جديدة في البناء وتهيئة المجال بالنسبة للتعمير والهندسة الحديثة[9]. ويؤكد ذلك عبر بنية شبيهة ببنية كتاب "الدار البيضاء وشانديغار" سواء من ناحية طبيعة اللغة التحليلية أو ما يرافق هذه اللغة من رسوم وخرائط ورموز... إلخ.

وأوّل ما يلفت الانتباه، في المقدمة التي أعدّها صاحبا كتاب "الدار البيضاء وشانديغار: محصّلات تحديث"، تسمية جميع من كان وراء تشييد كل مدينة على حدة جنباً إلى جنب استخلاص مجمل الشروط التاريخية التي تلبّس بها سياق التشييد والإحداث. وإذا كانت الدار البيضاء تمثّـل أقصى مثال لـ"حكومة كولونيالية" أخذت تبحث عن تقديم خدمات معمارية لتفادي النبذ الذي طالها في المنطقة، فإنّ شانديغار قدّمت الدليل على القدرة التنظيمية والتقنية لهند جديدة ومستقلة سقطت في عشق الخرسانة في الخمسينيات. وهذا في الوقت الذي كان فيه الاستعمار ما يزال يلوي بالمغرب في تلك الفترة، لكن مع استحضار "التغيّـر" الذي حصل في أطروحة الاستعمار بالمغرب منذ الأربعينيات النازلة نتيجة سياق عالمي ترتّـب عن الحرب العالمية الثانية. وأهم ما سيطبع السياق الأخير هو ارتفاع وتيرة الاعتراف بالحركات الاستقلالية واتساع دعاوى فكر "تصفية الاستعمار" (Décolonisation).

وكانت الدار البيضاء قد ظهرت، وباستحقاق، من قبل النظام الكولونيالي الفرنسي، غير أنّ الكتاب يركّز على الفترة اللاحقة التي ستبدأ فيها الدار البيضاء في التحوّل إلى أماكن حقيقية للانفجار. ومن ثمّ ضرورة التشديد على الدور الفيزيائي الذي تلعبه الهندسة والتعمير على مستوى التحكّـم في المجتمع من خلال زاوية التأثير في المجال وفي المدار ذاته الذي لا يفارق مناط التحكّـم في التزايد المهول للساكنة في المدن المغربية ككل. فمصلحة التعمير، في سياق تمثيل ما هو جوهري في هذا التأثير، اقتضت التحكّـم في مادة المجال.

إجمالاً إننا، وسواء في حال الدار البيضاء أو شانديغار، بإزاء مدن صارت مجلى للتأكيد والتعبير عن سياسات ونظريات اجتماعية للعصر وفي فترة محدّدة ومفصلية من التاريخ العالمي المعاصر ككل. ولذلك انطوى التركيز على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسياق الحرب الباردة، في حال شانديغار والدار البيضاء، على هدف مزدوج: أوّلاً: إظهار منظور إستوغرافي مختلف حول تعمير ما بعد الحرب، وثانياً: إغناء التفكير حول تأثير الممارسات العابرة للقوميات (Transnationale)، وتحديداً من خلال الأدوار والمناهج والأدوات والمنظورات المرتبطة بالمهندسين والمعماريين.

وكان الجامع بين التجربتين، وعلى النحو الذي كان في أساس إعطاء المدينتين طابعهما الهندسي والتعميري المغاير، في ما يصطلح عليه بمفهوم "الوحدة السكنية" (Trame Sociale) القائمة على مرتكز "الجوار" أو "اللحمة الاجتماعية". وكان هذا المفهوم قائماً على تصوّر وعلى فلسفة ممّا أفضى إلى شانديغار ودار بيضاء جديدتين. وسنعود إلى التوسّع في المفهوم وفي مرتكزاته فيما بعد.

أجل لقد كان وراء الترام ميشال إيكوشار في حال الدار البيضاء، مثلما كان وراءه لوكوربيزييه في حال شانديغار كما أسلفنا، غير أنّ ما حصل ما كان ليتضح أو ليأخذ شكله المعماري والاجتماعي إلا في إطار ما عرف بـ"المؤتمرات الأولى للهندسة المعمارية الحديثة" التي ستختزل فيCIAM (المؤتمرات الدولية للهندسية الحديثة). وفي هذا السياق يمكن استحضار مفهوم "الشبكة" (Grille) كما في حال Grille du GAMMA بالنسبة للدار البيضاء: أي "مجموعة المهندسين المعاصرين المغاربة" (Groupe d’Architectes Modernes Marocains). وكان لوكوربيزييه أوّل من قدّم الشبكة في المؤتمر V1 العالمي للهندسة الحديثة CIAM في بريدجواتر (Bridgewater) في المملكة المتحدة العام 1947. إجمالاً: يسعى مفهوم الشبكة إلى إيجاد حلول للمشاكل المطروحة، وبالقدر ذاته يسعى إلى تقديم بدائل طلائعية في سياق تصوّر مدينة المستقبل.

من الجلي ألّا تفهم الصورة المعمارية الإجمالية، للمدينتين معاً، إلا في ضوء دور المؤتمرات جنباً إلى جنب الأخذ بضرورة "عمل المجموعة" تحت إمرة مهندس تعميري بارع. لقد كان لهذه المؤتمرات دور حاسم على مستوى التخطيط الحضري العابر للقوميات، وكما كان لجمْع المعماريين وتوحيدهم وجعلهم يتبادلون آراءهم دوره على مستوى ربط تطوّر المعمار بالجهوية أو بمفهوم "الإقليم الثقافي" باعتباره "منطقة مركبة من أشكال موحّدة متميزة، مادياً وثقافياً على السواء"[10]. وكانت هيئة الأمم المتحدة الأبرز على مستوى المبادرة لعقد مؤتمرات في بلدان نامية، وعلى هامش هذه المؤتمرات كانت تعقد معارض حول تيمة السكن.

وكان للبعثات والتقارير، كأدوات مشتركة، دورها الفعّـال. وهو ما أخذ يتضح منذ بداية الخمسينيات تحت شعار "المساعدة على التنمية". وقد انطوت هذه المساعدة على صيغة عملية للتهيئة التعميرية والهندسية، لكن بعد أن تمّ إعادة تعريفها لتوسيع موضوعها ولجعلها تلعب دوراً جديداً في العالم ككل. وقد ارتكزت إعادة التعريف هاته على مناهج وتصوّرات جديدة، في مجال التعمير، بموجبها تمّ تهيئة القوميات لقابلية التحوّل، لكن مع مراعاة الحقائق الثقافية المحلية ومع إدماج الشروط المناخية في عمليات التخطيط.

وهذا ما أدّى إلى ظهور شخصية جديدة، هي شخصية الخبير في التنمية الدولية. ذلك أنّ التعمير بقدر ما طرح مشاكل هي في غاية من الوضوح بقدر ما طرح مشاكل هي في غاية من التعقيد في الوقت ذاته. وبما أنّ المشروع تجاوز القدرة الفردية للخبراء فإنّ عمل الفريق صار ضرورة لإشراك التخصّصات وتقاطع الخبرات. وقد كشف السياق الجديد، وبتوصيف المهندس المعماري الألماني أوتو كونيجسبيرجا (Otto Koenigsberger)، الذي سبق له أن اشتغل على تطوير ملف التعمير بإفريقيا أيضاً، عن ظهور نمط جديد لخبراء وليس من ناحية أعدادهم القابلة للارتفاع فقط، وضمن شبكات التخطيط العابر للقوميات لفترة ما بعد الحرب، بل أيضاً من ناحية "تدويل المساعدة على التنمية" سالفة الذكر؛ ممّا استلزم خبيراً في التنمية الدولية من أجل توجيه المشروع ومرافقة أصحابه. وليس هذا الخبير إلا ذاك الشخص الذي عمل على تغيير المعسكر: أي الانتقال من الاشتغال على أرض كانت مستعمَرة من قبل، ومن العمل في عاصمة استعمارية بمصالح ومنظورات الاستعمار، إلى الاشتغال في العالم الثالث. والمؤكد أنّ ملحوظة من هذا النوع تنطبق أكثر على شانديغار الهند التي كانت قد خرجت في العام نفسه من الاستعمار، مقارنة مع المغرب الذي كان ما يزال خاضعاً للاستعمار. غير أنّ أطروحة "العالم الثالث" تنطبق هنا على الدار البيضاء بدورها، إضافة إلى أنّ حدّة الصدام مع المستعمر كانت قد بدأت في الخفوت في تلك الفترة. ثم إنّ إيكوشار، وبمقاربته التعميرية الجماهيرية الوظيفية المرتبطة بمبادئ "ميثاق أثينا" Charte d’Athènes، كان لا يحفّـز على أي نوع من هذا الصدام.

الطرح ما بعد الكولونيالي:

تستلزم فكرة "الطرح ما بعد الكولونيالي"، وفي حال شانديغار تعييناً، تحوّطاً واضحاً. وفي هذا الصدد يشير سونيل خيلناني، في كتابه "فكرة الهند" إلى أنّ فرضية بناء مدينة شانديغار تطابقت مع نية نهرو في الابتعاد بالهند عن المدن الموصومة بالاستعمار، والملوّثة بالتقسيم، والخاضعة لقبضة البلديات الفاسدة في أكثر الأحيان. كان نهرو، كما يواصل خيلناني، يبحث عن طريقة لتجديد المدينة، ليستخدمها لغرض الحداثة الهندية المتميّزة والحرّة عن النسخة الاستعمارية. فشانديغار ليست كباقي المدن الهندية الاستعمارية مثل مدراس وبومباي وكلكتا... وغيرها من المدن التي كانت مجلى للاستعمار، وبما في ذلك التأثير التخيّلي للحكم البريطاني الذي برز بشكل أكبر في المدينة.

ولكن إلى أي حدّ يمكن القول إنّ شانديغار فلتت من الاستعمار؟ وهل بالفعل أنّ الاستعمار انتهى في الهند عام 1947؟ ومتى ابتدأ الاستعمار في تاريخ محدّد لينتهي في تاريخ محدّد؟ إننا لا نجد جواباً قريباً من غير الجواب الذي يقدّمه خيلناني نفسه حين يقول: "إنّ المدن الكبيرة للهند المعاصرة هي نتاج مباشر للاستعمار أو ردّ عليه"[11].

وكنّـا قد أشرنا، منذ مفتتح المراجعة، إلى طبيعة النصوص التي تنهض عليها "أطروحة" الكتاب التي لا تقدّم نفسها في شكل "بناء معماري" أو "أسلوب مسترسل". ويبقى الآن تأطير الأطروحة ضمن سياق النقاش الدائر حول "دور الحداثة في صيرورة "فك الاستعمار" (Décolonisation)، والإشارة إلى هذا النقاش مثبتة في الكتاب. فمن الجلي، إذن، أنّ "التعاطي المنهجي" للموضوع يستند بدوره إلى "مرجعية فكرية" تفيد من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي كان في أساس تفجُّـرها (المعرفي) الأكاديمي الأمريكي والمفكر والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، وتعييناً من خلال كتابه الإشكالي "الاستشراق" الذي لفت الأنظار إليه في تخصّصات متمايزة ومتباعدة في الوقت نفسه وضمنها تخصّص المعمار. وكان من المفهوم أن يتزايد الاهتمام بالكتاب في سياق "المنعطف المجالي" (Tournant Spatial) الذي فرض نفسه، بدءاً من مفتتح التسعينيات من القرن المنصرم، في الأبحاث ذات الصلة بالفكر الجغرافي وبالعلوم الاجتماعية بصفة عامة[12].

وللمناسبة، كان لكتاب إدوارد سعيد، وللتيار السعيدي (the Saidists) ككل، تأثيره الأبلغ هناك في الهند وليس في العالم العربي الذي تحدّر منه إدوارد سعيد. وحصل ذلك في الهند من خلال ما يعرف بـ"دراسات التابع" (Subaltern) التي سعت إلى إعادة كتابة تاريخ الهند (القومي) بطريقة مغايرة لطريقة النخبة (الهندية المتأنجلزة) التي تخرّجت في كبريات الجامعات البريطانية.

وأوّل ما يلفت الانتباه، في الكتاب، ليس الإشارة إلى النظرية بمفردها، وإنما الإشارة أيضاً إلى مدى قابلية استيعاب هذا النقاش من قبل البلدين المستعمِرين أو بالأحرى الإمبراطوريتين السابقتين. فدراسة "تأثير الاستعمار"، في السياق المعرفي والمنهجي للكتاب، تستلزم استحضار التساؤلات الأكاديمية التي تأخذ، ومنذ فترة وباصطلاح الكتاب، اسم "الدراسات ما بعد الكولونيالية" في العالم الفرنسي كما في العالم البريطاني. والغاية من الربط الأخير هي التأكيد على أنّ الاهتمام بالنظرية والتاريخ ما بعد الكولونيالي، وفي فرنسا تحديداً، لم يبدأ إلا مؤخراً وداخل أوساط جامعية لا أكثر، سعت إلى دراسة التنوّع والتعقيد خلال الفترة الكولونيالية وبعدها. وفي هذا الصدد تتم الإحالة على جيرار نوارييل (Gérard Noiriel) الذي استعمل تعبير "فقدان الذاكرة الجماعي" لوصف الغياب المثير للدهشة لمديح الهجرة الكولونيالية في الإستوغرافيا الفرنسية. ولهذا السبب كان ينبغي انتظار نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، حتى يشرع الباحثون الفرنسيون في البحث والتفكير في تأثيرات التاريخ الكولونيالي. وسيظهر ذلك من خلال دراسة تحليلية وتوثيقية موسومة بـ"الفجوة الكولونيالية" (La fracture Coloniale) على مستوى العنوان المحوري و"المجتمع الفرنسي من منظور الميراث الكولونيالي" على مستوى العنوان الفرعي (2005)، وتحت إشراف: باسكال بلونشار (Pascal Blanchard) ونيكولاس بانسيل (Nicolas Bancel) وساندريل لومير (Sandrine Lemaire)[13].

وفي الكتاب الأخير تمّ تخصيص حيّـز واسع لممارسات ثقافية واجتماعية وسياسية، وكذلك لمنشورات أدبية أو نظرية ولأفلام وجرائد ومجلات ومعارض...، في سياق تتبّـع ودراسة مشكلات الهجرة والمنفى والعنصرية والتهجين والغيرية والعولمة، وكل ذلك أيضاً في سياق أوسع هو سياق تتبّـع العوامل التي أثّـرت على بلورة وتحويل المناطق التي تخلّصت من الاستعمار لتدخل في "سياق ما بعد الاستعمار".

ويشير صاحبا كتاب "الدار البيضاء وشانديغار" إلى الباحثين في شمال إفريقيا الكولونيالية من الذين يأخذون بالقدر نفسه مكانتهم في تطوير هذا الاتجاه في مجالاتهم المخصوصة التي هي مجالات الهندسة والتعمير. وفي هذا الصدد يحيلان على كلّ من جون كوهن وإليب مونيك (وقد سلفت الإشارة إليهما)، وهما يحيلان عليهما من خلال الترجمة الإنجليزية لكتابهما (2003). ومعنى كلّ ذلك "موضعة" الكتاب ضمن تيار الدراسات ما بعد الكولونيالية.

الوضع في الهند، ومقارنة مع الدار البيضاء، مغاير جداً. ومردّ ذلك إلى أنّ البحث الجامعي الهندي في المجال نفسه خضع للتأثير المباشر للخطاب ما بعد الكولونيالي الذي كان سارياً وقتذاك ومن خلال الأعمال الحاسمة لمنظّرين هنود من الذين نشروا أبحاثهم باللغة الإنجليزية سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في الهند ذاتها. وحتى إن كانت المساهمات متعدّدة فإنها دشنت وأسّست، سياسياً وثقافياً، لوجهة نظر نقدية تمدح القيم الثقافية المتضمَّنة في كتاب "اكتشاف الهند" (1946) لصاحبه نهرو المتحرّر من السجن والمجبور على متابعة نظرة وأفعال سياسية بإمكانها إحداث تحوّل في توجّه الهند الألفية. لقد ارتقى صاحب الكتاب، الأخير، إلى طرح السؤال الأساس. وبالرغم من أنّ الكتاب لا يخلو من بلاغة فإنه يسمح وبشكل كافٍ بتقديم تلك القوة التي تبدو مجتمعة كعنصر حاسم لإحداث وإظهار هند حديثة وتأسيس إيديولوجيتها السياسية.

سنخرج بخلاصات أو سنكون على يقين، كما يواصل صاحبا الكتاب، ونحن نقارن قناعة الفاعلين الأساسيين لتاريخ الهند الحديث (ما بعد البريطاني) مع السؤال الأساس للنقد الغاندوي (Gandhienne) للمجتمع المدني، ثم مع موقف نهرو الذي يضع القومية في قلب إيديولوجيا الدولة. وهو ما سيقوم به باحثان هما: بارتا شتارجي (Partha Chatterjee) في الثمانينيات، وجيان براكاش (Gyan Prakash) حديثاً، وكلّ ذلك عن طريق موضعة فكر نهرو في سياق توسيع نظرة الدولة القومية. وتتيح هذه الملاحظة أحسن فهم لبعض الخصوصيات التاريخية والثقافية للأمّة الهندية، التي تؤثّـر في "تحليلنا" (بلغة الكتاب) للطريقة التي أفضى بها التصنيع والتحديث ـ جنباً إلى جنبٍ مع العلوم والتربية ـ إلى مجتمع جديد. فالأهم هو في تحليل هذه الطريقة التي كانت في أساس مجتمع جديد وفي أساس سياسته الجديدة.

في هذا الاتجاه، ستتأكد التحوّلات ذات التأثير في التصميم وفي بناء المجتمع الهندي ككل بعد 1947، وعلى النحو الذي عملت فيه الهندسة المعمارية على ابتكار صيرورة جديدة أساسية لتعريف الأمّة. وشانديغار هي أكثر من كلّ ما سلف، هي كذلك "مثال" في هذا المنحى الذي هو منحى التخطيط والتشييد. وهذا المثال بعيد عن أن يكون متفرّداً فقط، هو من الأمثلة الأكثر إقناعاً، وهو لحظة حاسمة من احتشاد (Confluence) أو تلاقٍ تاريخيٍّ بين الاستقلال الثقافي والإفادة من تجارب دول أخرى عالمية.

يندرج الكتاب في هذا السياق العريض، ويسعى إلى تشجيع نقاشات جديدة حول التعمير الحديث وحول سبل إرسائه في أماكن بلدان من الجنوب والشمال، وكما يسعى إلى بلورة نظرات تواجه الخصوصيات المحلية بالمبادئ الكونية موازاة مع الحرص على نزع المركزية عن "المعتمدات الكونية". ومن هذه الناحية يتمّ لفت الانتباه إلى عدد من المتنافرات التي تمّ تسريبها حتى في قوانين التاريخ الهندسي والمعماري التي أضفت على الحداثة الأورو ـ أمريكية سمة "الكونية". ووجهة النظر هاته تسننت وانكتبت في نظرية عامة للتعمير الحديث، وكما تمّ تسريبها من خلال كتب متناثرة.

وبالنظر إلى التمركز الغربي الأورو ـ أمريكي، وبالنظر إلى نوع من الإفادة من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، لا يبدو نشازاً أن تطرح مسألة "هندسة الجنوب". وميزة الكتاب أنه يشدّد على فكرة الخطابات العاصفة للحداثة خلال السنوات الأخيرة والخاضعة لدليل الاختبار النقدي، مثلما يشدّد على فكرة المعمار الحديث في بلدان الجنوب نفسها، الذي يظلّ خاضعاً لجدلية المركز والضاحية، النموذج الأصلي والنسخة، أو الحداثة والتقليد. وميزة الكتاب كذلك أنه يسعى إلى وضع هذا المنظور المهيمن موضع تساؤل مع اقتراح مقاربة تعلن ذاتها صالحة للمعمار والتعمير الحديث الخاص ببلدان الجنوب، وعلى أمل المساهمة في جغرافيا جديدة للمدينة الحديثة تحترم التعدّديات المعقّـدة المركّـبة، وتعتقد في جدوى التقييمات المتبادلة شأن التفاعلات العابرة للحدود والضرورية بدورها للمعمار الحديث.

يحرص الكتاب على اقتراح تعريف معدَّل لـ"الطليعة" مع وضع إضاءات متعدّدة للفعل. ذلك أنّ طلائعيات الموجة الأولى والثانية تشكل ظاهرة عابرة للقوميات، خليطاً من التقاليد والممارسات هي في الغالب متناقضة، ومموضعة من قبل ثقافات مختلفة في العالم بأجمعه، خاصة في إفريقيا، والشرق الأوسط، وشبه القارة الهندية وأمريكا الجنوبية. الكتاب يقترح مفهوماً للطليعة لا يمكن أن يكون قابلاً للمعالجة إلا إذا كان خارج حدود البراديغمات الأورو أمريكية.

ثمّة مقاربات وأدوار ووسائل بموجبها تمّ تشييد كلّ من الدار البيضاء وشانديغار كبلدان جنوبية أخرى، أسهمت في تطوير خبراء في مادة التعمير والهندسة الحديثة. وعلى النقاش، كما يلحّ الكتاب، أن يظل مفتوحاً في هذا الاتجاه.

ومن المفيد، وحتى نختم في جانب من موضوع "الطرح ما بعد الكولونيالي" في الكتاب، التذكير بأنّ الكتاب مدعم بعناوين تأسيسية تتأكّـد، وأوّل ما تتأكد، من خلال مفاهيم قاعدية في مجال الطرح "ما بعد الكولونيالي" بعامة مثل "التطوّر/التصادم" [وبخاصة بالمفهوم الأنثروبولوجي للكلمة، هنا] و"الغرب وبقية العالم" و"صناعة العالم الثالث" و"الإزاحات ما بعد الكولونيالية" و"التواريخ الإمبريالية" و"الجغرافيا السياسية"، وغير ذلك من المفاهيم، وبما في ذلك العناوين العملية، المنتظمة في مفهوم "التعمير ما بعد الكولونيالي" (Postcolonial Urbanism) الذي هو مدار الكتاب.

خلفية الحداثة والاندماج في العصر:

الظاهر أنه يصعب الفصل، وفي الكتاب ذاته الذي نحن بصدد "مراجعته"، ما بين الطرح ما بعد الكولونيالي و"خلفية الحداثة والاندماج في العصر"، لأنّ "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" ليست مجرد مقترب توصيفي تبسيطي، وإنما هي نظرية لا تخلو من "تحليل" قائم على تضافر "التشخيص" و"التدخّـل" في نطاق التعامل مع الغرب الذي كان في أساس "تشكيل العالم الثالث" عن طريق مقاربات ونظريات ومفاهيم تجسّـدت في أدوات وخدمات وقطاعات، منها قطاع المعمار. ومن ثم تجدّد النظرة لهذا القطاع، في سياق ما بعد الاستعمار، ومع استحضار الشروط الجديدة ذات التأثير على النظرة.

وأوّل ما يلفت في الكتاب هو رفضه لأن لا يكون هناك تقويم للنماذج والصيغ في مجال التعمير في السنوات التي تلت الاستقلال. وفي هذا الصدد تتمّ الإحالة على أنطوني كينج (Anthony King) الذي ضمّ مجموعة من أفكاره، التي تسمح بصياغة موقف نقدي بخصوص ملف المعمار، في كتابه "تصدير التخطيط: التجربة الكولونيالية والنيوكولونيالية" الذي صدر بعد فترة من تجربة الاستعمار (1977)[14].

ويسجّـل الكتاب الأخير أنّ المقاربات المعمارية للعالم الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، وعلاوة على كلّ ما ميّـَزها، تحكَّـمَ فيها منطق مخصوص لا يحيد عن تشكيل صيرورة لـ"التصدير" ـ من الغرب ـ بدلاً من تشكيل توجّـه جديد لـ"الاستيراد" من قبل الفاعلين المحليين لتلبية الحاجيات المحلية النوعية. وهذا التقاطب أو التراوح بين الاستيراد والتصدير هو ما سيشكل موضوع كتاب تالٍ موسوم بـ"التعمير: مستورداً أو مصدَّراً" (1988) لكلٍّ من جوي ناصر (Joe Nasr) وميرسيديس فولي (Mercedes Volait).

ولا يفارق الكتاب، الذي هو موضوع مراجعتنا، هذا السياق الفكري بخلفيته العالمية. وفي هذا الإطار يتمّ التعامل مع التجارب المعمارية، في الدار البيضاء وشانديغار، والمطبَّقة في سياق فك الاستعمار والحرب الباردة، باعتبارها إيضاحات ملحوظة لفترة من التجريب الاجتماعي والمجالي العابر للقوميات، وعلى نحو كاشف عن مشاريع التقاء ثقافتين مختلفتين لكنهما مؤثِّـرتان في بعضهما بعضاً بطريقة غير متناسقة في الغالب. يتعلق الأمر، إذن، بـ"حداثات مختلفة" على أرض تتحكّـم فيها مؤسسات محلية متصلّبة انطوت على محرّكات هامة لتوفير شروط القابلية لما أسماه سوسيولوجيون أمثال أنطوني غيدنز (Giddens) وبيك (Beck) ولاش (Lash) بـ"انعكاسية" أو "فاعلية الحداثة" (Réflexivité de la modernité)، ومدى قدرة هذه الأخيرة على تحيين أسسها الخاصة في الوقت ذاته.

والدار البيضاء وشانديغار، كما يعارض صاحبا الكتاب، ليستا مجرد تكييفات أو مستنسخات غير موائمة لما حصل في الغرب، وليستا مجرد تصديرات عرجاء أو تشويهات لـ"التنمية" الممارسة في الغرب. هما مدينتان مبنيتان على أساس من معرفة مؤسَّـسة على حقائق محلية، مدينتان لا يمكن تقويمهما إلا من خلال تعريف وظيفي متفرِّد وخلاّق للحداثة. لقد شكّـلتا حداثتين بديلتين ومرسوّتين بقوة في نسيج ثقافتين أهليتين. مقاربتان تؤكدان أنّ اللقاء الحاسم مع بلدان الجنوب، ومع فكر هذه الأخيرة [الحداثي] الانعكاسي المفترض، لم يلعب دوراً مركزياً في الثقافة الهندسية الحديثة لما بعد الحرب فقط، وإنما نقل دروساً هامة للممارسة الهندسية والمعمارية لليوم أيضاً.

ومهما كان فالهندسة المعمارية، وبالرغم من إفادتها من النظريات الغربية، فإنها تظلّ مشروطة بالجغرافيا وعوامل المناخ. ولذلك كان لا بدّ من أن يتحتّم على الحداثة سؤال التكيّـف مع مدن جديدة تقع على خط الاستواء. وفي هذا الصدد يثير الكتاب مفهوم الهندسة المدارية (Tropicale) الذي ظهر سنة 1950، من أجل اختبار مضامين التحديث في مجموعة من الأماكن المتواجدة خارج البلدان الغربية. وقد طرح المفهوم، وفي الفترة نفسها، من قبل مهندسين بريطانيين بعد أن اكتسبوا خبرة عملية توليدية في إفريقيا الغربية ساعدتهم على بلورة مشاريع على أرض الواقع في المناطق المدارية، يتعلق الأمر بـ"جدلية" طراز عالمي معدّل لشروط مناخية استثنائية في هذه المناطق من العالم.

والبناء، خلال هذه الفترة وفي المناطق المدارية، ليس ممارسة أو نقاشاً لا يعني سوى البريطانيين، وإنما هو فعل يشكّـل واقعة تمسّ أيضاً متدخّـلين أوروبيين آخرين كانوا في أعوامهم الأخيرة في مستعمراتهم القديمة. و"الخاصية اللاتسييسية" لمفهوم الهندسة المدارية، وعلى نحو ما ارتكزت على معارف علمية وتقنية، مكّـنت من الحفاظ على السلطة ومن الوصول إلى طلبات مناطق من العالم حصلت للتوّ على استقلالها. ومكّـنت، في النظر الأخير، من تشكيل "هويّة ما بعد كولونيالية" لهندسة بدت كحصيلة لعلم قادر على تجاوز الحدود. من الجلي هنا أنّ الهندسة المعمارية تفرض ذاتها باعتبارها خطاباً [بالنظر لارتباطها بـ"آخر خارجي" وبـ"حقائق اجتماعية" مغايرة].

ملازمة الحداثة للمعمار:

وتتأكد الحداثة، في ملازمتها للمعمار، أكثر في الخاتمة التي جاءت على قدر عالٍ من الاستقطار والتكثيف. ومن ثمّ فإنّ العناصر الهندسية المختلفة، التصنيفية والمورفولوجية للبنايات، وكذلك مختلف المناهج التي كانت وراء تشييد البنايات المكيَّفة في الدار البيضاء وشانديغار، كلّ ذلك يؤكد، وفي منظور الكتاب دائماً، ما اقترحه مؤرخ الأدب كارل نييكيرت (Karl Niekerk) من أنّ ما يصاحب الحداثة من عقلانية ونموذجانية (من النموذج أو الموديل) ليس دائماً في الملكية الإقطاعية للغرب. ثمّة صيغ حديثة بارعة للتصوّر الهندسي والمعماري، هي بعيدة تمام البعد عن أن تكون مجرد محاكاة بسيطة لما ينجز في الشمال.

لقد أبانت شانديغار والدار البيضاء، وبعد ستين سنة من ولادتهما، عن ديناميتهما الجيدة. ومرجع ذلك إلى المقاربات الحديثة التأسيسية والمستديمة التي تحكّمتْ في إبداعهما. إلا أنهما طرحتا، بالموازاة، أسئلة لا مفر منها تهمّ النظريات والممارسات المعمارية الحديثة في المدن التي هي قيد التوسّع في العالم بأجمعه. تجربة الحداثة في مثل هذه المدن تدعونا ـ بلغة الكتاب ـ إلى:

ـ موضعة جوهر المدينة، ليس في أمكنتها ومآثرها الاستثنائية، ولكن في نسيجها اليومي؛ ذلك أنّ الحداثة لا تعرّف من خلال العناصر المعمارية المتفرِّدة، ولكن بالأحرى من خلال الاستعمالات العادية لهذه الأخيرة.

ـ النظر إلى الهندسة والمعمار كمنجز جماعي، وكنتيجة لمفاوضات مجالية بين فاعلين متعدّدين؛ ذلك أنّ الهندسة ليست فعل متخصِّصين فقط، لكنها أيضاً ثمرة تعددية ثقافية، ونتيجة مبادرات وكفاءات ومعارف جماعية.

ـ إظهار الهندسة والمعمار، وأساساً، كمشاريع عطاء وسخاء وانفتاح، بدلاً من إظهارها من زاوية وحيدة وكتقيّـد لوصفة طبية وأمثلة جاهزة.

ـ ترجيح الفكر والممارسات الغربية التي كانت وراء تشكيل مدن حديثة ذات منظورات جديدة، وعلى نحو ما هي مجسَّـدة في بلدان من الجنوب، يمكِّـن من خلخلة المسلمات الراسخة حتى الآن حول المدينة الحديثة.

ـ إفساح المجال، من قبل المهندسين والمعماريين لعاملين آخرين في سياق تشييد المدينة، هو فعل يقع في صميم الطبيعة ذاتها للمعمار الحديث أو في صميم مفهوم المعمار الحديث ذاته.

مسرد الإحالات والهوامش:

 -Jean-Louis Cohen, Monique Eleb: Casablanca: mythes et figures d'une aventure urbaine, Hazan, Paris, 1998.

- Tom Avermaete & Maristella Casciato: Casablanca Chandigarh Bilans d’une modernisation, Centre Canadien d’Architecture, 2013.

- Casablanca: le rêve réalisé de Lyautey/ Mémoire et Vérité, Lyautey, Paroles d’action pour aujourd’hui (Hors- série)/ Asaf (Association de soutien a l’Armée Française), 2014

- Jean-Pierre Paulet: Géographie urbaine, Armand Colin, Paris, 2e édition, 2005

- Mohamed Chaoui: Colonisation et patrimonialisation de l'espace bâti, 1880-1960/ Histoires d'architectures en Méditerranée, XIXe et XXe siècles: écrire l'histoire d'un héritage bâti, Ed. de la Villette, Paris, 2005.

- Jean-Louis Cohen, Monique Eleb: Casablanca: mythes et figures d'une aventure urbaine, Hazan, Paris, 1998

- Paul Claval: Géographies et Géographes, l’Harmattan, Paris, 2007

- Pascal Blanchard et al., La fracture Coloniale. La société française au prisme de l’héritage colonial, Paris, Editions La découverte, 2005.

- Anthony King: Exporting Planning: The Colonial and Neo-Colonial Experience, Gordan E. Cherry, St. Martin’s Press, 1980.

ـ سونيل خيلناني: فكرة الهند، ترجمة: مجيب الرحمن، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة للترجمة)، 2009.

ـ مايك كرانغ: الجغرافيا الثقافية، ترجمة: د. سعيد منتاق، عالم المعرفة: العدد 317 يوليو 2005.


* Tom Avermaete & Maristella Casciato: Casablanca Chandigarh, Bilans d’une modernisation, Centre Canadien d’Architecture, 2013.

[1] Jean-Louis Cohen, Monique Eleb: Casablanca: mythes et figures d'une aventure urbaine, Hazan, Paris, 1998.

[2] Tom Avermaete & Maristella Casciato: Casablanca Chandigarh Bilans d’une modernisation, Centre Canadien d’Architecture, 2013

[3] تجدر الملاحظة إلى أنّ الدار البيضاء كانت قد اتضحت معالمها باعتبارها مدينة كولونيالية منذ العشرينيات من القرن الماضي. وتركيز الكتاب على مفتتح الخمسينيات فرضته طبيعة المقارنة بين شانديغار والدار البيضاء. ومن أجل الاطلاع على أهمية ليوطي على هذا المستوى ينظر دراسة الباحث المعماري رشيد الأندلسي:

Casablanca: le rêve réalisé de Lyautey/ Mémoire et Vérité, Lyautey, Paroles d’action pour aujourd’hui (Hors- série)/ Asaf (Association de soutien a l’Armée Française), 2014, PP34-45.

[4] سونيل خيلناني: فكرة الهند، ترجمة: مجيب الرحمن، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة للترجمة)، 2009، ص 150

[5] المرجع نفسه، ص 172

- Jean-Pierre Paulet: Géographie urbaine, Armand Colin, Paris, 2e édition, 2005, P282.

[6] المرجع نفسه، ص 272

[7] ينظر:

- Mohamed Chaoui: Colonisation et patrimonialisation de l'espace bâti, 1880-1960/ Histoires d'architectures en Méditerranée, XIXe et XXe siècles: écrire l'histoire d'un héritage bâti, Ed. de la Villette, Paris, 2005, PP 63-96.

[8] Jean-Louis Cohen, Monique Eleb: Casablanca: mythes et figures d'une aventure urbaine, Hazan, Paris, 1998, P7.

[9] المرجع نفسه، ص 441

[10] انظر: مايك كرانغ: الجغرافيا الثقافية، ترجمة: د. سعيد منتاق، عالم المعرفة: العدد 317 يوليو 2005، ص 33

[11] سونيل خيلناني: فكرة الهند، ص 115

[12] Paul Claval: Géographies et Géographes, l’Harmattan, Paris, 2007, P105.

[13] Pascal Blanchard et al., La fracture Coloniale. La société française au prisme de l’héritage colonial, Paris, Editions La découverte, 2005.

[14] Anthony King: Exporting Planning: The Colonial and Neo-Colonial Experience, Gordan E. Cherry, St. Martin’s Press, 1980.