قراءة في كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد خطاب الاستشراق وجدلية العلاقة بين الشرق والغرب


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد خطاب الاستشراق وجدلية العلاقة بين الشرق والغرب

قراءة في كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد

خطاب الاستشراق وجدلية العلاقة بين الشرق والغرب[1]

صدرت أخيرا في القاهرة ترجمة حديثة لكتاب "الاستشراق.. المفاهيم الغربية للشرق" للمفكر الفلسطيني العالمي الراحل إدوارد سعيد، عن دار "رؤية للنشر والتوزيع"، وقام بترجمته الدكتور محمد عناني. ورغم أن هذا الكتاب قد مرّ على صدوره أكثر من ثلاثين عاما، وترجم إلى أكثر من لغة حول العالم، إلا أنه ما زال قادرا على تقديم إجابات لأسئلة وجودية تدور في العقل العربي وعلاقته بالآخر، ويناقش قضية الأنا والآخر من منظور تاريخي وثقافي، ويخضع تلك الأسئلة التي تدور في العقل العربي للفكر ما بعد الكوليونالي. ويُعدُّ هذا الكتاب درة الكتب التي تناولت مفاهيم "الاستشراق" ورؤية الغرب للشرق الأقصى والأوسط، والعالم الإسلامي، وقد تصدى فيه إدوارد سعيد بالبحث والتحليل لشرح وتفسير المواقف المختلفة للغرب تجاه الشرق بعامة، والثقافة العربية والإسلامية بخاصة.

لقد مثّل كتاب "الاستشراق" ثورة في الدّراسات الإنسانيّة، ليس في الغرب، حيث صدر فحسب، بل في العالم أجمع لما أحدثه من كشف فاضح للعملّيات الثقافيّة الاستعلائيّة التي كان يمارسها مفكّرو الغرب ومثقّفوه تجاه عالم الشرق وحضاراته منذ قرون عديدة، كما أنه "أحدث انقلاباً في قلب المفاهيم الألسُنية والبنيوية. وينصبّ هذا التثوير للمعرفة حتى الآن على رجّ الثقافة الغربية وكشف آلية السّلطة والقوّة والسيطرة على "الخارج"([2]).

وهذا الكتاب ـ حسبما يرى الدكتور محمد عناني في تصديره ـ يعتبر الصورة التجريدية لمذهب إدوارد سعيد الفكري، فهو كتاب يحاول فيه سعيد أن يستجلي بعض القضايا الخاصة بالمنهج، مستفيدا من "النظرية الحديثة وناقضا لبعض جوانبها التي تتسم بالتطرف أو الغلو، فهو يصوغ نظرية كاملة تقوم على التكامل والدينامية، وتتضمن تطوير "التعارض الثنائي" الذي لا يقتصر على مفهوم التعارض بين الذات والآخر، أو حتى الذات والموضوع، وهو ما يقوله الناقد الإنجليزي كولريدج إن الأديب يلغيه في لحظة الإبداع، بمعنى صهر الطرفين معا في العمل الأدبي، بل يتعداه إلى التعارض بين كل منشئ أو مبدع وبين ما سبقه، وهو ما لا بد منه، حتى يستطيع المبدع أن يبدأ: إنه يشعر بانتمائه إلى الإنسان، وإلى ما أبدعه الإنسان من آداب وفنون وما اختطه من دروب وشعاب فكرية"([3]).

وحين وصف المترجم الكتاب بأنه بحث في المنهج، ربما كان يقصد أن الكتاب يمثل أسلوب استقراء كتابات المستشرقين للكشف عما يكمن فيها من مواقف ثقافية قد تتفاوت من كاتب إلى كاتب ومن عصر إلى عصر، ولكنها تتميز بموقف أساسي يرجع إلى ارتباط المعرفة بالسلطة واعتماد كل منهما على صاحبتها؛ فالسلطة بشتى أشكالها ـ السياسية والعسكرية والمالية، بل والعلمية ـ تحدد نوع المعرفة واتجاهاتها، كما أن المعرفة لازمة لقيام السلطة واستمرارها، وهو الموضوع الذي يخصص سعيد فصلا كاملا له في "تغطية الإسلام" (1981) بعد أن اتخذه أساسا للتمييز بين ما يسميه "الاستشراق السافر"، وبين "الاستشراق الكامن".

ارتكز إدوارد سعيد على عدد من الأسس في قراءته لبنية الاستشراق:

- أولا: اركز على الاتساق والتماسك الداخلي للاستشراق وأفكاره عن الشرق، أو كما يقول: "ديزرائيللي الشرق كحقل معين من النشاط، الشرق كحرفة أو مهنة، بغض النظر، أو بعيدا عن أية توافقات مع الشرق الواقعي أو الفعلي"([4]). ولعل هذا الاتساق والتماسك الداخلي هو ما يؤكد وجود بنية مسبقة ومهيمنة عند المستشرقين، لتناول الشرق ووصفه وصناعته، بغض النظر عن التحولات الفعلية والتاريخية التي يتعرض لها الشرق. وهنا، فإن المستشرقين "يتناولون الشرق كبنية جوهرية غير قابلة للتبدل والتغيير، إلا بما يضفيه ويحدده ويسمح به هؤلاء المستشرقون"([5])؛ أي إن سعيد لا يحاول عبر دراسته أن يبين التناقض بين ما يقوله المستشرقون من جانب، وبين حالة المجتمعات الشرقية التي يمثلونها من جانب آخر، بقدر ما يهتم بفهم وتحليل خطاب الاستشراق ذاته، كبنية منغلقة، مكتفية ومسلحة بعناصر القوة الإمبريالية التي تستمد منها استمراريتها وبقاءها. لذا تأتي أهمية هذا الكتاب من أنه يقدّم دراسة لكافّة البُنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربي. وتستخدم كلمة "الاستشراق" أيضاً للتّدليل على تقليد أو تصوير جانب من الحضارات الشّرقية لدى الرواة والفنّانين في الغرب. المعنى الأخير هو معنى مهمول واستخدامه نادر، والاستخدام الأغلب هو دراسة الشّرق في العصر الاستعماري ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

- ثانيا: العلاقة بين الشرق والغرب يجب أن تدرس بوصفها علاقة قوة وهيمنة؛ فالشرق تمت شرقنته من قبل الغرب، حيث يذهب سعيد إلى أن الغرب هو الذي حدد وفصل ومايز بين بنيتين تم تعريفهما على أنهما شرق وغرب. ففي افتتاحية كتابه، يورد لنا سعيد جملة دالة لكارل ماركس، حيث يقول عن الشرقيين: "إنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أنفسهم؛ إنهم يجب أن يُمثْلوا"([6]). وتمثل هذه الجملة حالة عامة عبر صفحات كتاب سعيد، حيث يعتمد على العديد من الكتابات الاستشراقية منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، مثل: موسوعة وصف مصر وروايات فلوبير، وشاتوبريان، ولامارتين وجان جاك جوتييه، وكتابات اللورد كرومر، وبلفور وديلسبس، وكيسنجر، وإدوارد لين... إلخ من هذا الزخم الضخم الذي يستعين به إدوارد سعيد؛ لكى يبرهن على علاقة القوة والهيمنة بخطاب الاستشراق منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، مطبقا ذلك بشكل رئيس على الأعمال المرتبطة بالاستشراق البريطاني والفرنسي، والأمريكي المعاصر لاحقا.

إن كتاب الاستشراق في جوهره هو بحث في العلاقة بين القوة والمعرفة، محاولة لرصد العلاقة القائمة بين الصعود الغربي الاستعماري، وارتباط ذلك بنشأة معارف وكتابات هدفها النهائي تأكيد سيادة الغرب الأوروبي على الآخر، كائنا ماكان موقعه وجغرافيته. المهم أن تتشكل المعرفة مصحوبة بالقوة العسكرية والسياسية، لتؤبد وتؤكد حالة الخصاء الوجودي للآخر، ليقبل باستعلاء واستعباد الغرب له. لذا، فدراسة الاستشراق يفسر علاقات الغرب بالشرق، ليكوّن فهماً للعالم الحديث يكون أكثر شمولية واشتباكاً في العالم. يدور الكتاب حول التصوّر الذهني الغربي للشّرق، كما أن سعيد يتحدث عن الغرب وإشكاليّاته الفكرية، الّتي اتسمت بالعنصريّة والإجحاف بحق حضارات الشّرق وإنسانه، وهو أيضاً يظهر الخلل الجوهري في ثقافة الغرب، بين ما يراه مبادئ لتطوّره الحضاري، والبحثي والعلمي، وبين الطّريقة التي يعاين بها الآخر، تلك الطريقة الاستعلائية المستعمرة والمستفيدة من مقدرات الشرق وخيراته. - ثالثا: ثم اعتماد سعيد على أفكار المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي التي طرحها في كتابه الأشهر "دفاتر السجن"، والخاصة بهيمنة ثقافة على ثقافة أخرى، يؤسس سعيد الفكرة الخاصة باستعلاء الثقافة الأوروبية على غيرها من الثقافات الأخرى غير الأوروبية؛ حيث يتضمن ذلك أيضا، استعلاء الأوروبيين ذاتهم على ماعداهم من بشر. وفي هذا السياق، يؤكد سعيد على ظهور بنية اسشراقية، ترتكز على الهيمنة الغربية منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى الآن.

ويرى سعيد أن الاستشراق يمثل بنية سياسية وثقافية؛ فهو بنية سياسية من حيث إنه رغم اعتماده بالأساس على الجهود الفردية المتناثرة هنا وهناك، إلا أن هؤلاء الأفراد ذاتهم حينما يذهبون لدراسة المستعمرات الشرقية المختلفة المستعمرة والمحتلة من قبل بلدانهم، فإنهم في هذه الحالة لايذهبون بصفاتهم الفردية، قدر ما يحملون معهم هوياتهم الخاصة بهم؛ فالمستشرق الأمريكي، لا يذهب بصفته فردا أو باحثا في شؤون بلد ما، قدر ما يذهب وهو مستدمج لهويته الأمريكية، وبالمثل يمكن قول نفس الكلام عن باقي المستشرقين الأوروبيين. المعنى المستبطن هنا هو أن حامل الهوية هذا، غير محايد. ففي ظروف عادية غير مشحونة بالاستعلاء الاستعماري، كان من الممكن أن يحمل الفرد هويته الأمريكية أو الأوروبية، أو غيرها من الهويات بدون أن يثير ذلك هذه الألغام المرتبطة ببنية الاستشراق، لكن في ظل الهيمنة الإستعمارية، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وحتى الآن، الأوروبية أولا، ثم الأمريكية لاحقا، فإن هذه الهويات المحمولة، تذهب إلى الشرق بصفتها السياسية، غير المعلنة أحيانا، والمعلنة في أحيان أخرى، وهي مرتدية أردية ثقافية مختلفة ومتعددة، لذلك، فإن سعيد يرى أن بنية الاستشراق هي حقيقة سياسية وثقافية في الوقت نفسه. من هنا، فإن سعيد يركز، في دراسته لبنية الاستشراق، على التبادل الدينامي بين المثقفين الأفراد والاهتمامات السياسية الأوسع التي تشكلت وفقا لمجال بحثه من خلال الإمبراطوريات الثلاث الكبيرة، البريطانية، والفرنسية، والأمريكية.

ويستقصي الكاتب كيفية توظيف أنواع الطاقات: الفكرية، الجمالية، البحثية والثقافية في خلق تراث إمبريالي كتراث الاستشراق، لذا عمد الكاتب إلى تعقب وتفنيد ظاهرة الاستشراق الثّقافيّة، التّاريخيّة بوصفها نمطاً من العمل الإنساني، دون أن يُخفق في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية والدولة والواقعيات الخاصة للسيطرة.

وعلى الرغم من تأكيد إدوارد سعيد الدائم على أهمية تاريخية الثقافة وموضعتها ضمن سياقات إجتماعية وإنسانية محددة، فإنه، وارتباطا مع نزعته الإنسانية، المضببة، لم يكن تاريخيا حقيقيا في تحليلاته، بقدر ما بدا لي بنيويا في تعاملاته مع النصوص الاستشراقية. فإدوارد سعيد الوافد على حقل الاستشراق، رغم رؤاه اللامعة، وتحليلاته المبهرة، استخدم التاريخ، في الغالب الأعم، بشكله الكرونولوجي، كمحطات وقوف تمنحنا بعض الفهم لقراءة وتحليل بنيوي نصي، أكثر منها تلك المحاولة التاريخية التي تضرب في عمق البنى الاجتماعية، بغية الوقوف على طبيعة القوى الاجتماعية المتصارعة، والقوى السياسية المهيمنة. لذلك، جاء تحليله لبنية الاستشراق، مؤديا كما يقول صادق جلال العظم إلى الاستشراق معكوسا.

وقد ساهم سعيد بهذه المفاهيم التي طرحها في مشروعه الفكري فيما سُمّي بالنقد الثقافي، وقد مهد كتاب الاستشراق لما أصبح يُسمّى نقد الاستعمار colonial critique)) أو ما يسميه سعيد نقد ما بعد الاستعمار (postcolonial criticism) ومن أهم ظواهره قيام أبناء البلدان التي تحررت من الاستعمار بإعادة النظر في التركة الاستعمارية، وهو ما يتجلى في آدابهم وما أتى به من مجالات جديدة للدراسات النقدية، إذ انتشرت في العالم الثالث الدراسات التي تناقش المواقف الثقافية الكامنة في نظرة أبناء هذه البلدان إلى ذواتهم، وهي نظرة دونية ترجع إلى ما ورثه هؤلاء من التركة الاستعمارية التي ساهم فيها المستشرقون، كما شجع النقد الثقافي ـ الذي يمثله الاستشراق ـ على ازدهار نظريات النقد النسوي التي تقوم على ضرورة إعادة النظر في صورة المرأة، لا في المجتمع فحسب على نحو ما ينادي به دعاة المساواة بين الجنسين، بل في مختلف مجالات النشاط الإنساني، إذ الاستشراق، ومن ورائه "الاستشراق الكامن" قد رسخ أو عمل على ترسيخ صورة المرأة القديمة وذلك بربطها دائما بصورتها في العهود السحيقة ورفض إمكان التغيير والتطور، فالمستشرقون ينطلقون دائما مهما اختلفت مذاهبهم من الإيمان بوجود صورة ثابتة جامدة للشرق، وفيها تظل المرأة كما هي للأبد كائنا مسلوب الإرادة والفكر؛ أي بإنكارهم عوامل التاريخ ينكرون التطور، بل ـ كما يقول إدوارد سعيد ـ "يسلبون الإنسان إنسانيته، وهذا فرع مهم من فروع النقد الثقافي، لأنه يعيد وصل ما انقطع من وشائج بين الكاتب الفرد وثقافة عصره، وهي الثقافة التي يرثها من الأسلاف مثلما يتشربها من المناخ الذي يحيط به، فصورة المرأة التي نراها في الأعمال الأدبية القديمة ليست مطلقة ومجردة، بل هي من ثمار عصر معين ومن نتاج ثقافة معينة، ولا مدخل لتفهمها بالأسلوب الصحيح إلا بدراسة هذه الثقافة"([7]).

يقسم إدوارد سعيد في هذا الكتاب المستشرقين إلى فئات وفقا لمدى "بنوتهم" لتقاليد الاستشراق، ويقصد هنا بالبنوة، انتماء المسشرقين لمجموعة القيم والمفاهيم والرؤى التي تبناها الفكر الاستشراقي، ومدى اتخاذهم بداية أصيلة، حتى لو عادت بهم إلى الانتماء من زاوية أخرى. إن إدوارد سعيد لا يدين المستشرقين جميعهم، ولكنه يدين تقاليد الاستشراق باعتباره الإطار الفكري والثقافي العام الذي يندر أن يخرج عنه حتى ذوو الأصالة من الأدباء والمفكرين، فقد يتمتع أحد الأدباء بخيال خصب يدفع دفعا إلى التحليق في أجواء غير واقعية، استلهاما لصور جديدة أو لأفكار مثيرة وما إلى ذلك، فيجد في صورة "الشرق" التي قدمها غيره من الأدباء والباحثين "الرواد" صورة مرفوضة بالنسبة إليه؛ لأنها صورة تنتسب للفكر القديم للمستشرقين الذين رسموا للشرق صورة تخصهم وحدهم وربطوها بلحظات تاريخية ماضوية، دون الالتفات إلى حركية التاريخ وتطوره، ويقرر ذلك الباحث أن يخلق صورا مفارقة للصور التقليدية بعين الشرق، بذا يضفي على تصوره ما يسميه كولريدج "التلوين الخيالي"، فإذا قرأ غيره ما كتب ظن أن هذه الكتابة، بسبب أصالتها الظاهرة ـ من الزاوية الأدبية الصرفة ـ وقوة تأثيرها الفني تقدم صورة صادقة وأمينة، فإذا تكاثرت أمثال هذه الكتابات أنشأت جوا أو مناخا نفسيا وفكريا معينا لا يملك الباحث العلمي أن ينجو من تأثيره.

ويقسم سعيد كتابه إلى ثلاثة فصول رئيسة تندرج تحتها محاور عدة؛ وهذه الفصول هي: نطاق الاسشتراق، وعلاقة الشرقي بمحيطه الجغرافي وميراثه التاريخي، وكيف تضفي الجغرافيا الخيالية وصورها الصفات الشرقية على الشرقي. في حين أن الفصل الثاني يتناول أبنية الاستشراق وإعادة بنائها، وعلاقة الكتاب الغربيين بالشرق وكيف أعادوا رسم الحدود وطرح القضايا من خلال رؤى ووجهات نظر خاصة بهم، ومن خلال هذه الرؤى التي اتسمت بالطابع الشخصي ساعدوا على قيام الأبنية الفكرية والمؤسسية المحددة للاستشراق الحديث. وفي الفصل الثالث والأخير حاول تعريف الاستشراق الحديث أو الذي سماه بالأنجلو فرنسي، وفرق بين الاستشراق الكامن والسافر.

لا يكتفي هذا الكتاب بتعريفنا برؤية الغرب لمجتمعاتنا وثقافتنا، وكيفية فرض هيمنة الفكر الاستشراقي علينا، بل يمنح القارئ ذهنا نقديا، كما يمنحه وعيا إيجابيا غير مستلب، تجاه كل ما يقوله الغرب، وينتجه. وإدوارد انتقد الثقافة الغربية والهيمنة الإمبريالية، وهو بين ظهراني الغرب، ولم يقدم خطابا يغازل فيه الخطاب المهيمن، بل قدم خطابا ناقدا للثقافة الغربية بعامة، والثقافة الأمريكية بخاصة.

والرهان الحقيقي لهذا الكتاب، أنه ينطلق من تفكيك المتعارف عليه المهيمن والسائد. وحتى ولو اكتسب هذا المتعارف عليه من المشروعية والمؤسساتية ما يكفل له عدم إمكانية التفكير في الاختلاف معه وعليه، فإن جوهر المثقف الحقيقي الذي يتعالى ويترفع على شرعية المتعارف عليه والمقبول والسائد اجتماعيا، وحتى أكاديميا، هى التي تسمح له بأن يقترح ويفكك، بل حتى ويهدم هذا المتعارف عليه. يعتبر إدوارد سعيد الاستشراق هو أسلوب التفكير المستند إلى التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب؛ أي إن الفكرة المحورية لكتاب "الاستشراق" تستند إلى فهم وتحليل وتفكيك هذه البنية الممثلة عن الشرق من قبل الغرب. وفي سبيل التمكن من هذه البنية، وتفكيكها، فإن إدوارد سعيد يتناول العديد من أصحاب التخصصات والأنشطة التي تدخل تحت مظلة هذا النشاط الواسع والعريض مثل الشعراء، والروائيين، والفلاسفة، والمنظرين السياسيين، والاقتصاديين، والإداريين الاستعماريين الذين يبنون أعمالهم وأنشطتهم على هذا التمييز المسبق بين ما هو شرقي وما هو غربي. ويرى سعيد وجود ثلاثة معاني للاستشراق؛ المعنى الأكاديمي، والمعنى الخيالي، والمعنى الخاص بهيمنة الغرب على الشرق؛ أي الاستشراق بوصفه معرفة ملازمة للقوة الغربية وهيمنتها الاستعمارية. وفي هذا السياق، يعتمد سعيد على كتابى فوكو، أركيولوجيا المعرفة، والنظام والعقاب، في تأسيس تحليل للخطاب الاستشراقي، وفهم أبعاده الاستعمارية المرتبطة بالقوة المادية وأشكالها الرمزية الاستعمارية. فالهدف الرئيس عند سعيد هنا هو تحليل الاستشراق كخطاب، حيث يمكن من خلال هذا التحليل معرفة الكيفية التي استطاعت من خلالها الثقافة الغربية أن تنتج وتستهلك وتؤبد وتقمع وتشكل وتمثل الشرق سياسيا، وسوسيولوجيا، وعسكريا، وأيديولوجيا، وعلميا، وتخيليا، في فترة ما بعد التنوير. وتجدر الإشارة إلى أن إدوارد سعيد لم يكن يهدف من وراء كتابه إلى أن يقدم صورة جيدة عن الشرق بعامة، وعن العرب والمسلمين بخاصة، كما أنه لم ينصب نفسه مدافعا عن الإسلام، حيث لم يهدف إلى ذلك قط؛ كل ماكان يعنيه فقط هو تناول هذه البنية الاستشراقية المستمرة والمتواصلة والمراوغة بالفحص والتحليل.

ولعل أهم ما قام به إدوارد سعيد أنه قدم قراءة ثقافية للتاريخ الإنساني، قراءة منبنية على وعي منهجي وعلمي للأحداث التاريخية، أسبابها ونتائجها، مما يسهم في تثوير المعرفة الإنسانية، ويكشف الآليات الذهنية المنتجة للثقافة الغربية التي لا تؤمن إلا بالهيمنة والسيطرة على الآخر؛ أجل استغلال مقدراته، فالاقتصاد طوال التاريخ كان المحرك الأول والأهم لمعظم الأحداث التاريخية الكبرى التي ربطت الغرب بالشرق، منذ الحروب الصليبية وحتى واقعنا الراهن.

فالغرب يحدد علاقته بالشرق وفق رؤى واشتراطات تاريخية، ودينية واقتصادية، ويبني تصوراته حسب تلك الرؤى ويؤسس مناهجه عن الشرق اللامتغير والشرق التاريخي. وهنا، قدم سعيد في كتابه أساليب جديدة في التحليل والقراءة العميقة، وتأمل المحددات والاشتراطات في الثقافة الكوليونالية والإمبريالية، محاولا ردم الفجوة في فهم الشرق وتشكلاته الثقافية.

إنها عملية تثوير للوعي الإنساني، تثوير للعقل العربي وحثه على أن يفهم ذاته ويحدد علاقاته بالآخر بعيدا عن اشتراطات الآخر المسبقة، ويهدف الكتاب إلى "تخطّي الهوة بين الشرق والغرب من خلال إثارة قضيّة التّعددية الثّقافية. ومن يره مجرد رد على الغرب يسيء إليه بهذا الوصف المبسط"([8]).

[1] -مجلة ذوات العدد 56

[2] إدوارد سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، ص4.

[3] المرجع السابق، ص6

[4] المرجع السابق، ص12

[5] المرجع السابق، ص13

[6] المرجع السابق، ص14

[7] المرجع السابق، ص86.

[8] المرجع السابق، ص189