مسألتانِ في قلب الدّرَاسَاتِ القرآنية المعاصرة: الأخْلَاقُ ومكانة المرأة


فئة :  مقالات

مسألتانِ في قلب الدّرَاسَاتِ القرآنية المعاصرة: الأخْلَاقُ ومكانة المرأة

مسألتانِ في قلب الدّرَاسَاتِ القرآنية المعاصرة: الأخْلَاقُ ومكانة المرأة

 

محمّد زكّاري

باحث مغربي

ملخَّص

تهدفُ هذه الورقةُ إلى الوقوف عند نقطتين رئيستين، ضمن مجال الدِّراسات القرآنيَّة في شقِّها المعاصر؛ الأخلاق ومكانة المرأة. وعلى الرَّغم مما يبدو عليه التَّباعُد بين المجالين، إلَّا أنَّهما يمتحان من النبع نفسه، ويصبَّان في بحر الإنسان وقضاياه. ولمَّا كانت الأخلاق تُعنى بدراسة السلوك الإنساني، وبناء المعايير التي يكون وفقها مراعياً لمبدأ "الخيريَّة"، فلا يستقيمُ ذلك إلَّا بالنَّظر في "الطبيعة الإنسانيَّة"، والحال ههنا؛ فإنَّ هذا النَّظر سيقتصرُ على موقعها من "القرآن" بوصفهِ نصّ المسلمين المقدَّس؛ وذلك من خلال التركيز على إشكالية جوهريَّة: ما هي آفاق المعيارية الأخلاقية في القرآن وحدودها؟ وفي هذا الصَّدد يمكنُ التَّساؤلُ، أيضاً، عن التَّأسيس النَّظريِّ للأخلاق من داخل دوائر المعرفة الإسلاميَّة. لا تنفصلُ هذه الرؤية الأخلاقية، في تحوُّلاتها، عن النظرة التي أحاطت بمكانة المرأة داخل المجتمعات الإسلامية، في تاريخها الطويل، حيثُ تصبحُ النظرة إلى المرأة مؤشراً على المعايير الأخلاقية السائدة داخل المجتمع.

مُقَدِّمة

ليسَ بوسعنا الحديثُ عن منحًى وحيد للأخلاق، في النّصّ القُرآني، أو تلك التي تُستمدُّ من خطابِ الوحي عُموماً. ويرجعُ هذا الأمرُ إلى ارتباطها الوثيق بالمتغيّرات الاجتماعيّة والثقافيّة التي تخضعُ لها المجتمعاتُ التي تَدِينُ بالإسلام. ولعلَّ النظرَ إلى الإسلام بحسبانه واقعة تاريخيّة، يلزمنا بتتبّع التّحوّل الذي خضعت له مسألة القيم، في سياقات وظرفيّات مختلفة. تقعُ المسألة الأخلاقيّة، في القرآن، على طرفيّ نقيض بين تيّارٍ يدّعي أنَّ "الأخلاق القرآنيّة" ليست بجديدٍ يذكر، وأنَّ ما جاء به القرآن كَانَ مَوجوداً، بالفعل، في الثقافة العربيّة قبل الإسلام، وفي الأدبيّات القديمة. وتيّارٌ آخرُ إسلاميُّ المنزع، يدافع عنِ "الأخلاق القرآنيّة" بوصفها حَدَثاً يتكشّف في التّاريخ لا مثيلَ لَهُ؛ غيرَ أنَّ التيّارين معاً يصدرانِ عن نظرة ثَابِثةٍ لمعنى الأخلاق، في حين ينبغي أن يكون تناولُ القضايا الأخلاقيّة في القرآن تناولاً تزامنيّاً، يضعُ في حسبانه التّحوّلات الطارئة على المجتمع والثقافة.

1- في المسألة الأخلاقيّة والطبيعة الإنسانيَّة

ألفَ فلاسفةٌ وأطبّاءُ وصوفيّون في موضوع الأخلاق على مرّ تاريخ الإسلام، ولكن قلّما نظرَ بعضهم إلى المسألة الأخلاقيّة في القرآن؛ وفي ذلكَ يشيرُ الباحث إبراهيم موسى (Ebrahim Moosa)، في مقال له ضمن "كتيب أوكسفورد عن الدّراسات القرآنية"، بعنوان: «الأخلاقيات القرآنية»([1])، إلى أنَّ أبا حامد الغّزالي وحده من تفرّد بهذه العمليّة؛ وذلك في كتابه: "جواهر القرآن ودررُه"، حيثُ يعملُ المؤلِّفُ على تقصّي الآيات القرآنيّة التي تتناول المسائل الأخلاقيّة، ويقسِّمها إلى فئتين رئيستين؛ الأولى، فئة تؤدّي إلى فهم الأوامر الإلهيّة، والمغزى من وراء الخطاب القرآنيّ؛ والثانية، تَهْدفُ إلى تقويم سلوك الفرد. أحصى أبو حامد الغزالي ثلاثاً وستين وسبعمائة آية عدّها من جواهر القرآنِ([2])، وعمَدَ إلى استخلاص الآيات التي تتعلَّق بالأخلاق. وعلى الرّغم من جديّة الأرضيّة التي وضعها الغزاليّ، إلّا أنّه لم يُستثمر من لاحقيه بالشكل الذي يسمحُ بتطوير هذه الأرضيَّة، مثلما أنّه لا يمثّلُ، في ذاته، مشروعاً متكاملاً في مَسْألة الأخلاق القرآنيّة.

تميلُ القواعدُ الأخلاقيّة، في القرآن، إلى أنْ تكونَ نُصْحاً ووَعْظاً، أكثر من كونها إلزاماً. وتَأْخُذُ، في صورتها العامَّة، صيغة التَّوجيه، وحثِّ المسلمين على اتباع السلوك السويّ، وإعادةِ بنائهِ في ضوء قَصَصِهِ عن الثَّواب والعِقَاب. ويقومُ المنظور الأخلاقيُّ في القرآن على مبدأين اثنين: أحدهما، أنّ الإنسان يعرفُ الخيرَ، ولكنَّهُ ينثني عن اتّباعه؛ والثاني، أنّ الخير لا يرتبطُ بالمنافع التي تتحقّقُ منه، بل هو خير في ذاته. و، هكذا، استطاع القرآن التنبيه على كثير من البنيات الأخلاقيّة التي كانت سائدةً قبل الإسلام، وركَّز على تعارضها مع النظام الأخلاقي القرآني الجديد. استُبدلَ النظامُ الأخلاقيُّ الهرميّ بِنِظَامٍ أفقيّ ينفي الفوارق، ويؤكّدُ على المسؤولية الفرديّة والجماعيّة للسلوك الأخلاقيّ. وتبرزُ بذلك القيمُ الأخلاقيّة القرآنيَّةُ كنموذج "ثوريٍّ"، في علاقتها بالقيم التي سادتْ شبه الجزيرة العربيّة في بِدَايَاتِ الوحي، وليس مردُّ ذلك إلى مضمونِ تلك العناصر الأخلاقيَّة، بل إلى الطرائق التي يدافعُ من خلالها النصُّ القرآنيّ عن شرعيَّتها.

تنبني التَّصوُّرات الأخلاقيّة جميعها على تمثُّل معيّن للطبيعة الإنسانيَّة، وإذا ما تعقّبنا الآيات التي تصف هذه الطبيعة في القرآن، فإننا سنجدُها متقلّبةً بين معاني الخَير والشرّ. لكنّ يُصِرُّ النصُّ القرآنيُّ على إمكانيّة إعمال العقل و"الفطرة السليمة"، من أجل إدراك الخَير وتتبّع سبيله، وتحقيق الفضيلة التي هي غايةُ الخطاب القرآني. وهكذا، يمكنُ أن تتّضح لدينا الصّورة عن الطبيعة الإنسانيّة المتوتّرة والقلقة التي يتهدّدها الشرُّ، وتسعى، في الوقت عينه، إلى تحقيق الكمال. كتبَ نظام الدّين النيسابوري (ت. 850ه)، في تفسيره المسمّى: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان"، ما نصُّه([3]): "إنَّ في كلّ خلق من ‌الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان، والحق هو الوسط والصواب؛ فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً، لكنه لا بدّ مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين؛ ففي القوة الشَّهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود". من يقرأ ما كتبهُ النيسابوري، سيلحظُ أنَّ هذا التّعريف ينهلُ من التّعريف الأرسطيّ للفضيلة، ويعيدُ تحديد معنى الأخلاق في ضوء التقسيم الثلاثيّ للنفسّ بين عَاقلة، وغضبيّة، وشهوانيّة([4]).

نجدُ في تفسير النيسابوري ما يزيد عن مائة وأربعين موضعاً ذكرت فيه مادّةُ الأخلاق، على امتداد أجزاء تفسيره الستة. وتدلُّ هذه النّصوصُ على سعة اطلاع الرّجُل وإلمامه بالقضايا الفلسفيّة، وإدراكه للبعد الأخلاقيّ في تربيّة النّفس([5]). لكن، المسألة الأخلاقيّة، في القرآن، ظلت مرتهنةً للوجود الإلهيّ المتعالي، وضمن ميثاق بين الله والإنسان، وبموجبه ينال الإنسان ثوابَ الله؛ إنْ أحسنَ واحترم بنوذ الاتفاق، ويعاقبُ إن أخلفَ وحاذ عن الطَّريق المستقيم. يُصبحُ الإنسانُ مسؤولاً عن أفعاله، متى تحقّقت لديه القدرةُ على استجلابِ المنافع ودفع المضارّ، وتبرزُ، تبعاً لذلك، النظرةُ البراغماتيّة في ماهيّة الفِعْلِ الأخلاقيّ؛ ففعلُ الخير ليس مرجوّاً لذاته، بل لما يعود به من ثوابٍ على المؤمن، وبالمقابل من ذلك؛ فتجنُّب الشرِّ ليس مقصوداً لذاته، بل خوفاً من العقاب، ومتى انهار المنظورُ الأخرويُّ المرتبط بالثَّواب والعقاب، ستنهارُ قيم الخير والشر المتّصله بهما.

تنفلُ الإشارةُ، في هذا المقام، إلى دراسةٍ للمستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو (Toshihiko Izutsu)، تحت عنوان: "مفاهيم أخلاقيّة - دينيّة في القرآن" "Ethico-Religious Concepts in the Qur’an" (2002)، والتي عملَ من خلالها المُؤلِّف وفق منهج تحليلي سيميائي، قادهُ إلى التركيز على التّحولات الدَّلاليَّة التي خضعت لها المفاهيم الأخلاقيّة المركزيّة في النّص القرآني، وفي علاقتها بالنظام الدّلالي السابق على الإسلام؛ وذلك بهدف الوقوف عند الحدود الفاصلة بين المفاهيم الأصليّة في الثقافة العربيّة، وما استحدثه القرآن من مفاهيم أخلاقيّة. قسّم إيزوتسو دراستهُ إلى أقسام ثلاثة؛ قسم أوّل، يعرضُ فيه الجانب النظريّ لدراسته، منطلقاً في ذلك من مقدّمةٍ بعنوان: "اللُّغة والثقافة"، حيثُ يشيرُ إلى تعدُّد المداخل التي يمكن من خلالها مقاربة المفاهيم الأخلاقيّة الدينيّة في القرآن، ومنها المدخل القانونيّ، أو المدخل اللّاهوتيّ، أو بالتّركيز على المعطيات الأخلاقيّة الواردة في النّص القرآني. ينبِّهُ إيزوتسو إلى المشكلات المتعلِّقة بالتدقيق "الإيتمولوجي" للمصطلحات؛ لأنّ للُّغة حياةً تربو وتزدهرُ بازدهار الحضارة النَّاطقة بها، ويأفل نجمها متى انهارت قيم تلك الحضارة([6]).

لكن كيف يَنْعَكسُ التَّحليل السِّيميائي - الثّقافي للمفاهيم الأخلاقيّة - الدينية، على تصوُّرنا لطبيعة المسألة الأخلاقيّة في القرآن؟ كتبَ توشيهيكو إيزوتسو، في القسم الثانيّ من دراسته: "من القانون القبليّ إلى الأخلاق الإسلاميّة"، محاولاً الإحاطة بالطبيعة النّظام الأخلاقي قبل-الإسلاميّ؛ ذلك أنّه قد يَقَعُ الظَّن بأنَّ العرب قبل الإسلام لم تكنْ لديهم دِرَايَةٌ بالأخلاق، أو أيُّ تمييزٍ بين الخير والشّر، ويشيرُ إلى كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وما يحملهُ من أخبار عن العرب قبل الإسلام، وعن قيمهم وحسهم الأخلاقيّ الثريّ. تتمثّل الإضافة الإسلاميّة على مستوى الجد والحرص الذي نقلت إليه الذِّهنيّة العربيّة، وذلك لإيمان رسالة الإسلام بدنوّ السَّاعة وقربها، وبذلك حوَّلت المعاني الأخلاقيّة التي كان العربُ، قديماً، يعتنقونها إلى نظام شَرعيٍّ ينضبطُ بقوانين محدّدة وصارمة؛ فالكرم، والشجاعة، والصداقة، والإحسان كلّها قيمٌ حثَّ عليها الإسلام، من دون أن يدّعي أنها لم تكن لدى قبائل العرب. يؤكّدُ إيزوتسو على ارتباط النِّظام الأخلاقيّ، في الإسلام، بمبدأ "التّقوى"؛ فمن يسعى إلى الخير، فإنّما يتقي الله في ذلك، ومثله من يسعى إلى اجتناب الشَّر.

**

لقد حصل تحوُّل في المنظور الأخلاقيّ القبليّ، حيثُ أصبحَ الله الضامنَ الوحيد للفعل الأخلاقيّ، وأضحت العلاقةُ الأفقيّة من الإنسان إلى الإنسان، علاقة عاموديةً بين الإنسان والله. ومن الأمثلة الدّالة على ذلك كلمةُ "نُبْل" التي تغنّى بها العربُ في أشعارهم، لم تكنْ لتأخذ المعنى عينه في الإسلام؛ إذ الشخصُ النبيل - إسلامياً - هو من يخافُ الله. لكنّ معنى "الخوف" هنا - عند إيزوتسو وكذلك أندريا تور - لا يرجعُ إلى المنطق الثنائي للفعل والأجر، أو علاقة الفعل بالثواب والعقاب، بل إلى الطبيعة الجدّية للحياة نفسها، فلا يمكن للمؤمن أن يكون مستهتراً أو مستخفًّا باللحظات الثمينة التي يقضيها، والتي سيكون مسؤولاً عنها يوم القيامة.

2- قضية المرأة، أم قضاياها؟

يبدو أنَّ الفترة الحديثة كانت مسرحاً لظهور مقاربة النَّوع في ميادين التَّفسير، والذي كان حكراً لزمن طويل على الرِّجال وحدهم، فقد أصبحَ بإمكان نساء كثيرات أن يبدين آراءهن في تفسير القرآن. لكنّ هذا التَّحول لا يزال في أوَّله، مثلما أنَّ السيطرة الذكوريَّة لا تزال تفرضُ نفسها على هذا الميدان وتحتكره. تظهرُ أسماء كبيرةٌ إذا ما تعلَّق الأمرُ بالتَّفسير النسويّ للقرآن، مثل عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، والإيرانية نصرت بيغم أمين، وغيرهما من النساء اللائي اقتصرت اهتماماتهن البحثية على مواضيع التّربية والإصلاح الأسري، وما إلى ذلك. وبالتالي، أتاحت كتاباتهن إمكاناتٍ كبرى للحدِّ من السلطة الذكوريَّة، وفسحت المجال أمام أسئلة حسَّاسة، تتعلّق بمقاربة النَّوع، وتحرير المرأة من ربقة الاستعباد الذي استفحل في ظل تردّي الأوضاع الاجتماعيّة العربيّة/ الإسلاميّة. كانت هذه الخطاباتُ محمولةً على رغبةٍ، قويَّةٍ، في الإصلاح الاجتماعيّ، والذي كان شرطه الأساس تعليم الفتيات، وتمكينهن من أساليب محاربة العنف الممارس ضدّهن. أضف إلى ذلك أنَّ هذا النِّقاش قد وصل ذروته حين واجه قوانين المجتمع، وتعديلها بما يتلاءم مع مصلحة النِّساء، وحقِّهن في العيش الكريم.

ليس بوسع المفسِّرين المعاصرين تجاوزُ النِّقاش الدّائر حول دور الجنسين، ولا أن يمتنع على الخوض في، إما بقبوله كواقع ينبغي تكييف النُّصوص للتماهى معه، أو برفضه رفضاً كلِّيًّا والتَّمسُّك بالقديم من الفهم؛ إذ لم يعُد من الممكن تجاهلُه، وذلك لما له من أثرٍ مباشرٍ في التَّحوُّلات التي صارت تعيشها التَّشريعات القانونيَّة، والحقوقيَّة الخاصَّة بالمرآة في الوقت الرَّاهن؛ فالمرأة لم تعد عبئاً على الرَّجُل، بل إنّها تتساوى معهُ في الحقوق والواجبات. راجعَ كثير من المفسِّرين المعاصرين المنظور التَّقليدي الذي أحلَّ المرأة مكانةً هامشيَّةً، ولا أقصدُ بالمنظور الكلاسيكي، في هذا المقام النَّصّ القرآنيّ، بقدر ما أقصدُ به تلك التَّصوُّرات التَّفسيرية التي نشأت حوله، وتحديداً في عصور الإنحطاط التي عاشها العالمُ الإسلاميِّ، واستفحال الصراع بين مكوِّناته السياسيَّة والاجتماعيِّة. نُظرَ إلى النَّشاط التَّفسيريِّ الذي ينهلُ من مبادئ حقوق المرأة، على أنَّه لا يعدو أن يكون "تأويلاً نسويًّا"؛ وذلك بالرّغم من أنَّ مصطلح "النسوية" نفسه، قد قُوبِلَ بالرَّفضِ حتّى من قبل المفكِّرات اللائي يتمُّ تصنيفهن ضمنهُ، مثل أمينة ودود.

لكن، ما هي المرَاجَعَاتُ التي أنجزها روَّادُ هذا التَّيار؟ أسهمت أمينة ودود من خلال عملها الرّئيس عن العلاقة بين تفسير القرآن والمرأة([7])، بإعادة مراجعة السرديَّات الخاطئة، والمرويَّات التي كرَّسها المفسِّرون التَّقليديون والفقهاء، وتشبَّع بها عامَّة النَّاس، ووضعوها كتفسير نهائيّ للنص القرآنيّ. يتعلَّق الأمرُ بما ذهب إليه المفسِّرون من أنَّ المرأة قد خلقت "من ضلع الرَّجل"، وأنَّ الضلع أعوجٌ، وبالتَّالي فإنَّ منزلتها ثانويَّةٌ، وهي دون الرَّجل مكانةً، أو حين يذهبون إلى تحميل "حوَّاء" المسؤولية عن خروج "آدم" من الجنَّة؛ فصارت بذلك النِّساء جميعهن مسؤولات عن خطيئة "حوّاء"([8]). لكنَّ التقليد الإسلاميِّ، الذكوريّ، قد أغفلَ جانباً مهمًّا في النّص القرآنيّ، يتمثّل في تلك النظرة الكونيَّة، والتي يخاطب من خلالها الله البشر على أنَّهم سواسيّة، وألَّا فَرْقَ بينهم([9]). لقد وقع آدم وحواء معاً في الخطيئة، وتاباً معاً، وطردا معاً، وشملهما العفو معاً.

تختلف الآراء التَّفسيريَّة المعاصرة حول القضايا المتعلِّقة بحقوق المرأة، وبالأخصِّ حين يتعلَّق الأمر بالمساواة بين الجنسين، داخل فضاء الأسرة، أو في الفضاء العامّ. كما تتأثَّرُ هذه النماذجُ التَّفسيريَّة بالمتغيِّرات المحليّة والإقليميّة. عُنيَ أكثر المدافعين عن حقوق المرأة بمراجعة النُّصوص المرتبطة، بتعدُّد الزوجات، ومسألة المناصفة في الميراث، وتصدَّوا للعُنف الذي يمارسُ ضدَّ المرأة في إطار الزوجيَّة، والذي يبرَّرُ بالقراءة الحرفية للنصِّ. وهكذا، فإنَّ الخطاب النسويّ يقومُ على عنصرين هامَّين؛ الأوَّلُ، وهو الاعتراف بالمُساواة بين الجنسين، وضمان حقوق المرأة والاعتراف بها دينيًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، وإخراجها إلى حيِّز الممارسة والتَّطبيق، لا الاقتصار عليها كقوانين عامَّة؛ والثاني، تحديدُ السُّبل التي تؤمِّن ممارسة تلك الحقوق من قبل النِّساء والرجال على حدٍّ سواء. وهكذا، أعاد الخطابُ النسويُّ قراءة النَّص القرآنيّ، وتفكيكه بما يتلاءمُ مع واقع جديد، مثلما أعاد طرح أسئلة، جوهريَّةٍ، تحترم الرُّوح الكليَّة للنصِّ، وتبلور أفكاراً جديدةً نتبعُ من صلب الانشغالات، والهموم التي تعيشها المرأة في الواقع المعاصر.

***

لم يكن التَّفسيرُ القرآنيُّ مجرَّد هوًى فَرْديّ، أو خطابٍ ينتمي إلى بيئةٍ محليَّة، ومجتمع خاصين. فعلى الرَّغم من كونه يعالجُ قضايا المجتمع والإنسان، إلا أنَّه يخاطبُ الأمة ويتَّصلُ بقضاياها المصيريَّة. لم ينشغل المفسِّرون المعاصرون بالمسائل القُطريَّة، ولا كان اهتمامهم منصبًّا على القضايا المحليّة، وإنَّما كانوا أشدَّ حرصاً على إعادة استدماج التجارب كلّها، في سبيل إعادة بناء التّفسير، وجعله أداة لإيقاض الهمم، وإعادة دور الدّين إلى الحياة بعدما حلَّ على هامشها لردح طويل من الزمن. وهكذا، أعادَ التَّفسيرُ المعاصر بناء عناصر الهويَّة المشتركة بين المسلمين الذين ضاعوا في دروب التّاريخ. لكن الإشكالات المعاصرة قد ألقت بثقلها على كاهل المفسِّرين، ولم يكنْ لديهم من سبيل إلا أن يواجهوها، ويبدوا أراءهم حولها، ومن تلك القضايا مثلاً ما يتعلَّق بمسألة المرأة ومكانتها ضمن النسيج الاجتماعيّ. يتيحُ لنا التَّفسير أرضيَّةً خصبة لمعرفةِ النظرة التي نشأت حول المرأة في مجمل تاريخ الإسلام، وحين يتعلَّق الأمرُ بالتَّفسير المعاصر، فحينئذ يكون رصدُ الصراع حول مكانة المرأة أبين وأظهر، فقد ظلت مكانتها أسيرةً للمشاحنات، والصِّراعات الأيديولوجيّة، واللاهوتيَّة، والمذهبيَّة، بل إنَّ الأمر تعدّى ذلك ليصير مسألة سياسيَّةً وظِّفت في سبيل السعي إلى السلطة.

[1] - Ebrahim Moosa, « Qur’anic Ethics », in Oxford handbook of Qur’anic Studies, Edited by: Mustafa Shah & Muhammad Abdel Haleem, Oxford University Press, 2020, pp464-471

[2] - انظر: أبو حامد الغزالي الطّوسي، جواهر القرآن، تحقيق: محمد رشيد رضا القبّاني، ط2، (بيروت: دار إحياء العلوم، 1982)، ص86-210

[3] - أنظر: نظام الدّين القمّي النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، تحقيق: زكريا عميرات، (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1995)، الج1، ص109

[4] - يقول النيسابوري، في هذا الصّدد، معرّفا بمطامح النّفس: "واعلم أنّ مطامح النفس في الدّنيا إحدى ثلاث خصال؛ روحانية، هي تكميل القوّة النظريّة بالعلم وتتميم القوّة العمليّة بتحصيل الأخلاق الفاضلة؛ وبدنية، هي الصحة والجمال؛ وخارجيّة، هي الجاه والمال". (التشديد من عندي). انظر: المصدر نفسه، الج1، ص568

[5] - يعرِّفُ النيسابوري النفس الأمّارة، مثلاً، بقوله: "‌النَّفْسُ الأمَّارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة، وترى أنها أولى الأولياء، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من ‌الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق". أنظر: المصدر نفسه، الج1، ص582

[6] - يرى توشيهيكو إيزوتسو بأنَّ العمل على المصادر العربيّة، وتفسير القرآن وحدهما غير كافيين لإنجاز قراءة، دقيقة، لمفاهيم القرآن الأخلاقية الدينية، ويقول، في هذا المعرض، ما نصُّه: "تعتبر اللغة العربية الفصحى إحدى أشهر اللغات في العالم، وقد تم استكشافها بأدقّ تفاصيلها، وقواعدها، ومفرداتها. وأضحت لدينا قواميس مهمّة، وقد تمّ إنجاز الكثير من العمل اللغوي. وأما في مجال التفسير القرآني على وجه الخصوص، فقد تم تزويدنا بالعديد من التفاسير القديمة الموثوقة. لكن، ولأسباب نظرية، يمنعنا مبدأنا المنهجي من الاعتماد، بشكل كبير، على تلك المصَادر، ونعدُّها ثَانَويةً. يجب استخدامها، في أقصى الحالات، كمصادر ذات قيمة، ولا يجب أن ننسى أنها قد تكون مُضَللة أكثر من كونها تنير الطريق، ما لم نتوخى الحذر الشَّديد في الاستفادة من الأدلة التي تقدمُها". أنظر:

- Toshihiko Izutsu, Ethico-Religious Concepts in the Qur’an, London, McGill University Press, 2002, p15

[7] - انظر:

- Amina Wadud, Qur’an and Woman: Readings the Sacred Text from a Woman’s Perspective, New York, Oxford University Press, 1999, pp 1- 15

[8] - يقول محمّد بن جرير الطّبريُّ، في خبر منسوب لوهب بن منبّه، ما يلي: «فلمَّا أَرَاد إبليس أن يستزلَّهما، دَخل في جوف الحيَّة، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، فَلَمَّا دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس؛ فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب (2) ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنَّك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء». تفضي بنا قراءة هذا النّصِّ إلى الكشف عن البناء الأسطوريّ، والخياليّ، الذي تتأسَّسُ عليه المرويّة الإسلاميَّة، فما الذنب الذي اقترفتهُ "حوَّاء" (= المرأة) حتّى تنوبَ عن آدم في معصيّته؟ وكيف يمكن للعدالة الإلهية أن تعاقبَ "حوّاء" على ذنبٍ، يفترضُ فيه أنَّهُ، مشتركٌ بينهما؟ يكشف هذا النَّصُّ، في تلابيبه، عن الصُّورة الدُّونيّة التي احتلّتها المرأة، في لحظات الانحطاط في الإسلامْ، فتصيرُ المرأة بذلك مثلاً "لأمِّها" حوّاء التي أخرجت "آدم" من الجنَّة وحرمتهُ من نعمها. أنظر: محمد بن جرير الطبريّ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الج1، ص526 (التشديدُ من عندي).

[9] - «‌يا أَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا». [النساء: الآية1]