مسار الأنثربولوجيا الاستعمارية الإسبانية بالمغرب


فئة :  قراءات في كتب

مسار الأنثربولوجيا الاستعمارية الإسبانية بالمغرب

مسار الأنثربولوجيا الاستعمارية الإسبانية بالمغرب[1]

كريم الديبوش

هشام الكتيري

تقديم عام

يتفق أغلب الباحثين والمهتمين بموضوع الأنثروبولوجيا على أنها نشأت وترعرعت في الغرب، وارتبطت بشكل وثيق بالحركة الاستعمارية التي دشنتها الدول الأوروبية خلال القرن 19 ومطلع القرن العشرين للسيطرة على الشعوب الضعيفة، وكانت الأنثروبولوجيا من ضمن الوسائل التي سخرتها من أجل اختراق الشعوب المزمع استعمارها لما يقدمه هذا الحقل من معطيات دقيقة عن هذه المجتمعات وعن ثقافتها ونمط عيشها وسلوكياتها الفردية والجماعية، وكل ما يدخل في نسيجها وبنياتها الذهنية من دين وعادات وتقاليد...، حيث ساهمت بشكل فعال في معرفة لغتها وقيمها، وكان المغرب من ضمن هذه الشعوب التي حظيت باهتمام الباحثين الأوروبيين بمختلف توجهاتهم وأهدافهم خاصة عندما أصبح البلد مجالا استعماريا تتنافس من أجل الظفر به القوى الاستعمارية الأوروبية خاصة فرنسا وإسبانيا، لكن تتبع مسار الأنثروبولوجيا الاستعمارية بالمغرب ظلت تختزل في تلك الأبحاث التي قدمها الأنثربولوجيون الفرنسيون مقارنة بنظيرتها الإسبانية خاصة في شمال المغرب.

وتكمن أهمية إنجاز قراءة في كتاب الدكتور محمد مرجان "مسار الأنثروبولوجيا الاستعمارية بالمغرب" الذي يعد مرجعا مهما للباحثين في هذا الحقل والتاريخ والدراسات الكولونيالية، وتكمن أهميتها أيضا في كونها تسلط الضوء على السياق التاريخي العام للأبحاث الأنثربولوجية الإسبانية حول المغرب والتراكم الكمي والكيفي الذي ميزه.

المؤلف

يعتبر الدكتور محمد مرجان أحد أبرز الباحثين والأكاديميين إشعاعا في حقل السوسيولوجيا، حاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع سنة 2005 بجامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع "مقاربة سوسيولوجية للمعرفة الكولونيولية الإسبانية بشمال المغرب 1860-2002" تحت إشراف السوسيولوجي المغربي الراحل محمد جسوس، وللكاتب أيضا اهتمامات علمية في مجال سوسيولوجيا المدينة وسوسيولوجيا الدين والتدين، وإلى جانب هذا الكتاب سبق للكاتب أن نشر مجموعة من المنشورات والمقالات من بينها:

  • الرحلة والمعرفة الكولونيالية: المغرب بعيون الرحالة الإسبان خلال القرن 19م (صدر سنة 2016).
  • مقاربة سوسيولوجية لآليات التغيير الاجتماعي بشمال المغرب (صدر سنة 2004).

إلى جانب اهتمامه بالدراسات الإسبانية، فإنه انفتح كذلك على مساءلة الدراسات الكولونيالية الفرنسية، وهو ما يتضح بجلاء من خلال هذا الكتاب.

الكتاب

يعد كتاب مسار الأنثروبولوجيا الاستعمارية بالمغرب من الأبحاث النادرة التي تتبعت مسار الأنثروبولوجيا الإسبانية في شمال المغرب؛ وهو عمل استقصائي واسع حاول من خلاله المؤلف تقديم قراءة عميقة وجديدة يتتبع من خلالها السياق التاريخي العام لبروز الأنثروبولوجيا الإسبانية وتطورها والأسس والأبعاد التي ارتكزت عليها، ويقع هذا الكتاب في 218 صفحة في طبعته الأولى 2021 صادر عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية بالمغرب، ويتضمن مقدمة وستة فصول تغطي الإشكالية المحورية التي طرحها الكاتب ومختلف الأسئلة الفرعية التي تفرعت عنها بأسلوب شيق وواضح ومكثف. كما يعرج الكتاب على جوانب قلما التفت إليها المهتمون بحقل الأنثروبولوجيا، وأيضا في منطقة لم تنل حظها الوافر من البحث والاستقصاء على غرار المناطق التي تعرضت للاحتلال الفرنسي.

دواعي التأليف

لا يُعبر الدكتور محمد مرجان صراحة عن دواعي تأليفه لهذا الكتاب، ولكن يمكن أن نستنتج أن هناك دوافع ذاتية تربط انتماء الكاتب جغرافيا ووجدانيا بمنطقة الشمال في المغرب، إضافة لمعطى آخر موضوعي أشار إليه ضمنيا، ويتمثل في سعيه إلى تسليط الضوء أكثر على أهمية الكشف عن دور الأنثروبولوجيا الإسبانية وثرائها المعرفي ومناهجها وميادين اشتغالها وتفكيك المركزية القوية للأنثروبولوجيا الفرنسية بالمغرب وهيمنتها شبه المطلقة على التصورات الأخرى حول المجتمع المغربي، والتي حظيت بنصيب أوفر من البحث كما وكيفا مقارنة بنظيرتها الإسبانية، ونقد المعرفة الأنثربولوجية الإسبانية [2]، وتبيان انحرافها العلمي (التشكيك في جدواها العلمية)، والسعي إلى استجلاء المعرفة الأنثربولوجية الاستعمارية والكشف عن طبقاتها وامتداداتها وتبيان غاياتها التي حددها الكاتب في ثلاث غايات أساسية:

  • الكشف عن حدود الخطاب الوصفي والتأويلي الذي تبناه رجال الدين أو غيرهم اتجاه الواقع المحلي؛
  • البناءات المنتجة من طرف المؤسسات الاستعمارية باعتبارها وسائل لإقرار السيطرة المعرفية؛
  • ابتعاد الجامعات الإسبانية بنفسها عن الإشكالات الاجتماعية والثقافية والسياسية بالمغرب التي تم التعرض لها من قبل الأبحاث الأنثربولوجية والسوسيولوجية خلال الحقبة الاستعمارية.

محتوى الكتاب

يقع الكتاب كما سلف الذكر في 218 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن ستة فصول تتوزعها عدة محاور فرعية، وقد خص الكاتب هذا المؤلف بمقدمة طويلة تحدث من خلالها عن حدود الدراسة ومبرراتها، كما هدف من خلالها تتبع السياق العام ومسار البحث الأنثروبولوجي الإسباني في شمال المغرب وامتداداته التاريخية وسماته الرئيسة وتطوراته حتى القرن 20 من خلال إشكالية صاحبته طيلة مراحل الدراسة؛ وهي الإشكالية التي دمجها الكاتب في سؤالين أساسيين هما:

-  هل بروز الأنثروبولوجيا يتوقف على نشأة الاستعمار كقوة اقتصادية وعسكرية فحسب؟ أم العكس من ذلك بروز المعرفة الأنثربولوجية بتجلياتها المؤسسية والنظرية هي المساهمة فعلا في اشتداد رغبة الشعوب القوية في سيطرة على غيرها؟

وللإجابة عن هذا الإشكال المحوري والإشكاليات المتفرعة عنه، سجل الكاتب في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "الأنثربولوجيا والنماذج المعرفية الأخرى" جملة من الملاحظات والتساؤلات حول الشروط التي ترعرعت فيها المعرفة الأنثربولوجية، والتي حصرها في شرطين؛ الأول يتعلق بمعرفة أنماط العيش واللغات والتفكير بالنسبة إلى الشعوب غير الأوروبية بغية تغييرها أو اجتثاثها، والثاني تحقق الممارسة الإثنوغرافية على خلفية الأوضاع اللامتكافئة بين الناظر والمنظور إليه؛ وذلك في محاولة لإثبات العلاقة بين الأنثروبولوجيا والاستعمار[3]، وخاصة منها المعرفة الأنثربولوجية الإسبانية المنتجة حول المجتمع المغربي من خلال تتبع أهم المفاهيم والأوصاف التي تبناها رجال الدين عن الشخصية المغربية. فهؤلاء يسجل الكاتب كانت لهم الأسبقية في التمهيد للمعرفة الأنثربولوجية الإسبانية حول المغرب من خلال توفرهم على إحدى الدعامات المنهجية في البحث الأنثربولوجي المتمثلة في الملاحظة "بالمشاركة" التي تحققت من خلال معايشة الأهالي ومعرفتهم الدقيقة، والتي ازدادت توسعا مع حركة الاستعراب إلى أن توقف مع بروز المد الأفريقاني كخيار سياسي وثقافي وإيديولوجي للدولة الفرنكوية خلال الثلاثينيات من القرن 20.

ويرى الكاتب أنه على عكس الأبحاث السوسيولوجية المنجزة حول المجتمع المغربي ارتبطت الأعمال الأنثربولوجية بالمجال الأكاديمي وبمتخصصين وأساتذة جامعيين شارحا ذلك في جدول يضم عناوين هذه الأعمال ومؤلفيها وحتى المهن التي كان هؤلاء يزاولونها وتاريخ إصدارها.

ويلاحظ أن هذه الأعمال قبل القرن العشرين كانت تنجز من طرف رجال الدين والمبشرين والمراقبين العسكريين، بل وحتى الأطباء[4]، لكن مع منتصف القرن العشرين أصبحت من نصيب أساتذة باحثين جامعيين، ويخلص في هذا الفصل إلى كون تأسيس الأنثروبولوجيا لم يأت بكيفية مباغتة، وإنما استندت إلى تراكمات تاريخية ومعاينات شخصية للعديد من الرحالة ورجال الدين والأسرى والبعثات الديبلوماسية التي جعلت من المغرب موضوعا لتفكيرها.

أما الفصل الثاني الموسوم بالإثنوغرافيا ذات الأساس الديني من المواجهة العقائدية إلى الإصلاح الاجتماعي؛ فالكاتب يفند الفكرة التي تعتبر أن ظهور الأنثروبولوجيا والعلوم المرتبطة بها أنها وليدة الحركة الاستعمارية، ولكنه يرى أن الحركة الاستعمارية شكلت فقط الأرضية الخصبة لتطورها، حيث يرجع ظهورها إلى فترة الاكتشافات الجغرافية(اكتشاف قارة أمريكا)، ويرى أن محاولة إنشاء معرفة علمية بالآخر امتزجت بالضرورات التي كانت تفرضها وظيفة التنصير بالنسبة إلى الرهبان المتطوعين في الأقطار الإفريقية النائية وخاصة المغرب، واعتنت بوصف الأسس العامة التي تحدد عادة البنيات الاجتماعية أو السلوكيات والمعتقدات، وحتى لون البشرة، وأصناف اللغات واللهجات، خاصة عندما أدركت المؤسسات المركزية المسيحية أن الدين الإسلامي يشكل نظاما ثقافيا شاملا ينافس إلى حد كبير طموح ما أسماه الكاتب بـ "العالمية" التي تصبو إليه المسيحية. لذلك فالمعرفة التي أنتجت في هذا السياق من الجانب الاسباني جاءت للتعبير عن انتعاش الحرب الدينية في المتخيل الاسباني واستراتيجية التصادم الثقافي العنيف من خلال النموذج الكلوني(حرب الاسترداد)، ويقوم على استنباط الروح العسكرية بالنسبة لرجل الدين الاسباني في مواجهة الموري الكافر وصورة سلطانه وحاشيته في وعي الأسرى بشكل عام، والتي ترتبط بكل أشكال القسوة والاستبداد (وهذه الصورة نجدها أيضا عند الأسير السويدي بكتاب وصف الاستعباد في مملكة فاس) والعنف كخاصية مشتركة بين جميع المغاربة[5]، حيث كان الرهبان الإسبان يلصقون بالمغاربة كل صفات التدني والانحطاط الأخلاقي كحب الرشوة والطمع وانتشار الخيانة بين المغاربة[6]. غير أن الكاتب يؤكد أن الإثنوغرافيا الإسبانية ظلت بعيدة جدا عن استيعاب وإدراك الخصوصية الثقافية للمجتمع المغربي، إذ يعتبرها تمثل واقعا ثقافيا غريبا وبعيدا كل البعد عن أشكال وملامح الثقافة المستقبلة.

لقد أدت محدودية نتائج سياسة التنصير التي ظلت معتمدة بشمال المغرب إلى تبني نهج جديد سماه الكاتب بالنموذج الإصلاحي الذي اعتمد على آليات ووسائل جديدة أكثر نجاعة وأكثر تأثيرا لتحقيق ما عرف بالتغلغل السلمي عن طريق كسب عطف المغاربة، ومنها الاهتمام باللغات المحلية والتعليم كخيار استراتيجي ميز جل رجال الدين الفرانسيسكان؛ إذ لم يقتصر اهتمامهم على تعلم اللغة العربية الفصحى، بل انصب الاهتمام باللغة الدارجة المحلية؛ أي لغة التداول والتواصل بين مختلف الفئات الاجتماعية ويقدم الكاتب مثال للراهب الإسباني "ليرتشوندي" الذي كان يرى أن الهدف من تعلم اللغة هو أن "يجد المبشر والموظف ورجل الصناعة والتاجر وكل أولئك الوافدين على هذا البلد وسيلة مساعدة تمكنهم من التفاهم مع الأهالي ..."، وهو ما مهد الطريق حسب الكاتب للعسكريين الإسبان الذين جعلوا من اللغة موضوعا أساسيا لهم، نفس الأمر بالنسبة إلى الطبابة التي لعبت دورا اختراقيا للمجتمع المغربي، سواء في المنطقة الشمالية أو الجنوبية، حيث حظي المغرب باهتمام الفرق الطبية لكسب عطف السكان المحليين واستمالتهم واعتبر الطب عنصرا مركزيا في الاستراتيجية الاستعمارية التبشيرية [7].

أما الفصل الثالث، فينطلق فيه الكاتب من إقامة مقارنة بين إدارة المراقبين كمؤسسة للفهم والسيطرة الفرنسية التي عرفت باسم الشؤون الأهلية والإسبانية، ويخلص إلى كون الفرق بينهما يكمن في تركيز الإدارة الاستعمارية الإسبانية على المجال القروي التي كانت مهامها أمنية واستخباراتية ومهام شبه علمية لتبرير المشروعية النظرية والسياسية لمثل هذه المؤسسة التي أنشئت ضمن الجو العام الموسوم بالإحساس القوي لدى العسكريين بضرورة معرفة واستيعاب الخصوصيات الثقافية واللغوية والتاريخية للأهالي، والتركيز على أعرافهم خاصة الأعراف القبلية وأبعادها الفلكلورية ومكانة الثقافة الشفوية في المجتمع القروي المغربي التي اهتمت بها الأنثروبولوجيا العسكرية الإسبانية باعتبارها بوابة صالحة للكشف عن أسرار هذه الأمة وأصولها العقلية والدينية والحضرية، ويؤكد المؤلف أن التركيز على الأعراف القبلية هو دعوة ضمنية إلى إحياء البعد القبلي بغية استثماره في السيطرة على المجتمع القبلي وتحديد قدراته التنظيمية والدفاعية مع التركيز على مكانة الثقافة الشفوية في المجتمع القروي باعتبار عادات وتقاليد المجتمع القروي المغربي بوابة صالحة للكشف عن أسرار هذه الأمة وأصولها العقلية والدينية والحضارية، ونفس الخلاصات التي انتهت إليها الإثنوغرافيا العسكرية الإسبانية خلال مرحة الخمسينيات؛ وذلك بغية تسهيل اختراق القبائل وذلك بعدم اعتبار القبيلة كمعطى تاريخي يتحدد ببعده الماكروسوسيولوجي فحسب، بل ينبغي الاهتمام بوحداتها الصغرى الجوهرية، والأكثر تمثيلية لوجودها، حيث لا يجب النظر إلى القبيلة من وجهة نظر الأنثربولوجيا الإسبانية على أنها تمثل الهوية المستقلة والنواة الحية للمجتمع القبلي، بل تعتبر أن التجمعات الصغرى المختلفة حسب القبائل والمناطق المغربية المتمثلة في (أجماعة، تيكيمي، الدوار، الدشار...) هي التي يجب التركيز عليها وخاصة أجماعة، مع الحرص على نسج علاقات جيدة مع هذه الأجهزة لمعرفة حاجياتها وتحقيق سرعة اختراقها؛ لأن طابع التجزئة أنفع وأهم بالنسبة إليهم من التعامل مع سلطة موحدة.

كما اهتمت الأنثروبولوجيا الإسبانية بأسلمة القانون العرفي ورسمت الخطوط العريضة للجماعات القادرة على تحقيق هذه المهمة حسب أحد الباحثين الأنثروبولوجيين، الذي رأى أن جماعة "الطلبة" والصلحاء والشرفاء والمرابطين شكلوا في نظره "شبه جزر إسلامية" عملت على نشر الإسلام انطلاقا من قناعاتها المتبناة تجاه هذه الزاوية أو تلك وبهذه الطريقة تم الإجهاز على القانون العرفي.

يلاحظ الكاتب أن السياق العام لهذه الملاحظات يخلص إلى إقرار البنية الثنائية التي تبنتها الإثنوغرافيا العسكرية الكولونيالية، لتظهر الطابع الانقسامي للمجتمع المغربي بين نصفه "الأصيل الذي يحتاج للدعم والاستمرارية، لكونه يمثل الجوهر الحقيقي لهذا المجتمع، ونصفه "الدخيل" الذي يقتضي إدراك خطورته وتأثيره السلبي على بقاء هذا الجوهر واستمراريته، وبالتالي يرى الكاتب أن التعريب والأسلمة شكل في نظر الأنثروبولوجي الإسباني خطرين كبيرين؛ لأنهما أديا في النهاية إلى تحويل البنيات السياسية والإدارية لمعظم القبائل من طبيعتها القبلية الخالصة إلى بنيات مخزنية ومأسلمة بشكل تام.

هذا التوجه طبع بشكل كبير اجتهادات الإثنوغرافيا العسكرية الإسبانية التي تبنت بدورها نظرية ثنائية العرب والأمازيغ على غرار النظريات الكولونيالية التي كانت سائدة حتى مطلع القرن العشرين، وهي دراسات كانت نتيجتها مسبقة حسب تعبير جرمان عياش، وهي أن المغرب لم يكن قادرا على القيام بذاته كدولة متحكمة في زمام أمورها وإظهاره كدولة كانت تعمها الفوضى والاضطراب، مما تطلب تدخل دولة أوروبية تضطلع بمهمة إدخاله للحضارة والتمدن[8].

أما الفصل الرابع، فكان فرصة لنكتشف مع المؤلف الأبعاد الثلاثة لدونية المرأة التي شكل موضوعها حقلا أساسيا بالنسبة إلى الدراسات الأنثربولوجية الإسبانية، حيث لاحظ الكاتب أن الاهتمام بموضوع المرأة اتسم بالضعف خاصة المرأة القروية، والتي يرجعها إلى صعوبة اختراق المجالات الأكثر حميمية في المجتمع من طرف الإسبان، والتي حصرها في ثلاثة أبعاد:

  • البعد السوسيو تاريخي الذي انطلق مع سنة 1886، والذي ركز على العامل الثقافي في ترسيخ موقف الرجل تجاه المرأة ويسجل الكاتب أنه اتسم بالاحتقار، حيث حاول الخطاب المنتج حول المرأة أن يظهرها على أنها مجرد أداة للمتعة والترفيه، وآلة العمل، وفي حالات أخرى وسيلة ضرورية لاستمرارية النوع، ويرجع ذلك إلى مسألتين اولهما: العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، وثانيهما: الدين الإسلامي الذي رأت فيه الكتابات الاستعمارية مشجعا على ترسيخ التفاوت بين المرأة والرجل، وأبرز الكاتب أن هذا النوع من الخطاب الذي ميز كتابات الأنثروبولوجيا الإسبانية حول وضعية المرأة بالمغرب، لم يستطع النأي بنفسه عن الانحياز، حيث إن المعالجة التاريخية لوضعية المرأة المغربية ركزت بالأساس على النسق القيمي الديني، وتحاول إلصاق تهمة الانحطاط الاجتماعي للمرأة بهذا الجانب أي الربط الميكانيكي بين الدين والتخلف أو بينه وبين السلطة الاستبدادية، وهو ما يعتبره الكاتب أحد مساعي الاستشراق الذي تم تداوله على نطاق واسع؛
  • البعد الفيزيقي وهو علم مختص في دراسة طبيعة الاختلاف بين الأجناس البشرية وبدراسة الصفات الجسمانية الموروثة، وقد تم استغلال هذا البعد من طرف دائرة الاستعلامات العسكرية منذ سنة 1925، والذي ركز بالخصوص إضافة إلى ذكره للاسم والدوار والفخذة والقبيلة على حجم القامة ولون الشعر والعين وشكل الرأس، وتم استغلاله بشكل مكثف مع الأربعينيات من القرن 20، ويؤكد الكاتب أن الأنثروبولوجيا الفيزيقية ارتبط بالمشروع العنصري الاستعماري للتأكيد على عدم تكافؤ الأجناس بهدف النيل من شرعية وحدة الهوية الثقافية والجنسية واللغوية للشعوب المستعمرة، حيث أنتجت عدة بحوث خاصة مع تنامي المد الفرنكاوي ومحاولته استغلال الخطاب العلمي من أجل التأكيد على مسألتين أساسيتين:

- إشاعة الفروقات الإثنية والفيزيقية والثقافية أحيانا لإقرار التفوق العرقي والحضاري للإسبان؛

- التأكيد على التفاعل "الفيزيقي" الحاصل بين الشعوب الإفريقية وغيرها من الدول "الغربية" بهدف إقرار التقارب الحضاري بين الشعبين، و"أنسنة" الوجود الاستعماري، مع فك العزلة عن النظام الفرنكاوي آنذاك.

يتضح من خلال هذه الدراسات أنها تصب في خانة دعم وتبرير التدخل الاستعماري الذي يمكنه أن يلعب دور المنقذ للمرأة المغربية من تخلفها ودونيتها التي دفعتها إليها التقاليد والأعراف التي تعزز مكانة الرجل على حسابها، وبذلك فالمعرفة الكولونيالية المنتجة حول المجتمع المغربي والمرأة بشكل خاص كانت تلعب دورا تبريريا للاستعمار ودعم وتنوير السياسة الاستعمارية.

  • البعد الأخلاقي الذي ركز على السلوكيات الجنسية للمرأة المغربية، والتي نعتتها الكتابات الإسبانية بالشاذة كرد فعل طبيعي ضد التهميش والاضطهاد الذي تعرضت له المرأة تاريخيا على يد الرجل، حيث تمدنا الدراسات الأنثروبولوجية المنجزة حول المرأة بمجموعة من الصور "السياحية" التي تؤكد على جمودها وعدم فاعليتها، ومدى تهميشها داخل مجتمع ذكوري بالأساس، فمن الناحية الأخلاقية يقدم الكاتب قراءة في بعض المقالات التي تناولت هذا الجانب، حيث يعترف أحد الباحثين صراحة أن النساء المغربيات هن في الغالب الأعم سحاقيات، ويعلق الكاتب على هذه الصورة بكون إلصاق هذه الصفات بالمرأة المغربية هي مجرد محاولة لإقناعنا أن الشذوذ الجنسي هو شكل من أشكال الصراع الاجتماعي الذي يعبر عن العلاقة اللامتوازنة بين المرأة والرجل، وإبراز مدى صعوبة انخراط المجتمع المغربي في عملية التقدم الحضاري التي يقترحها المستعمر.

وألقى المؤلف في الفصل الخامس المعنون بالأنثروبولوجيا الاجتماعية والنقد المزدوج نظرة شاملة على أغلب الكتابات الإسبانية التي أنجزت حول الفكر الخلدوني وتوظيفه لمعرفة الآخر، حيث شكل فكر محمد عبد الرحمان ابن خلدون أرضية لدى الأنثربولوجية الإسبانية لفهم التطور التاريخي بالمغرب الكبير، حيث كان المستعمرون الإسبان على علم بفكر ابن خلدون وأنتجت حول فكره عدة دراسات، إذ تحول النص الخلدوني في إطار القراءة الأنثروبولوجية الإسبانية من التساؤل المنطقي عن الآليات المتحكمة في نشأة السلطة والبنيات القبلية وطبيعة التغير الاجتماعي إلى عملية تجزيئ دقيقة للمضامين والمفاهيم المحورية التي اعتاد المفكرون على تناولها في قراءتهم لابن خلدون، كما تناول هذا الفصل أيضا انتقاد الإسبان للإنتاجات السوسيولوجية الكولونيالية الفرنسية التي حظيت بالاهتمام أكثر بنظيرتها الإسبانية، لكن بالرغم من ذلك، فهذه الأخيرة حسب الكاتب ساهمت في إزاحة العديد من الملابسات خاصة التي ارتبطت بالمؤسسة العسكرية وأغراضها التوسعية في المغرب.

على الرغم من الاختلافات والمفارقات بين الأنثروبولوجيا الإسبانية ونظيرتها الفرنسية في المغرب، فإنهما تتقاطعان في نقطتين تمثلان قاسمين مشتركين بينهما وهي:

- اعتقادهما أن المجال الأنثروبولوجي يتمركز بالضرورة في المناطق البعيدة عن الـتأثيرات الحضرية؛ أي داخل التجمعات القروية بالمناطق النائية التي تعتبر مناطق بعيدة عن المجال الحضري وتأثيره.

- تجلي الجزء الأساسي من الثقافة في المؤسسات التقليدية وحاضنها الفعلى العالم القروي، باعتباره مجالا خصبا لتجسيد ديمومة الماضي واستمراره.

ويخلص في الفصل الأخير الذي يعتبر بمثابة خاتمة لهذا الكتاب، إلى أن المعرفة الأنثربولوجية الإسبانية حول المجتمع المغربي بقيت ضعيفة جدا تاركة المجال أمام المثقفين العسكريين، ولم يحصل أي تطور فيها إلا بعد الاستقلال مع بروز تحديات جديدة أهمها مشكل الهجرة نحو الأراضي الإسبانية التي أحدثت اختراقا ثقافيا بالنسبة إلى المجتمعات المستقبلة، الأمر الذي دفع ببعض الأكاديميين للقول ب "الاستعمار المضاد"، والعض الآخر فضل استعمال "عودة المورو"، هذه الأسباب في نظر الكاتب كانت كافية للدفع بالجامعة الإسبانية للانخراط في مسلسل "معرفة الآخر" التي أصبحت من المفاهيم المتداولة في حقل العلوم الإنسانية، مما أدى إلى تراكم كمي في البحوث والأطروحات الجامعية التي أنتجت حول المغرب حتى نهاية القرن العشرين.

ملاحظات عامة حول الكتاب

v   عمل المؤلف من خلال هذا الكتاب على ربط جسور التواصل مع مختلف مناهج العلوم الإنسانية من أجل مقاربة هذا الموضوع من خلال تتبع السياق التاريخي العام لبروز علم الأنثروبولوجيا وأهم الأشواط التي قطعها عبر فترات زمنية سابقة لمرحلة الإمبريالية الأوروبية؛

v   يشكل هذا العمل ضربة قوية لكل البحوث الأنثروبولوجية التي نأت بنفسها عن خوض غمار البحث في تطور مسار الأنثروبولوجيا الاستعمارية الإسبانية في شمال المغرب بحجة غياب المعطيات والمادة المصدرية اللازمة لمقاربة هذا الموضوع وتناوله؛

v   استعمل المؤلف أسلوبا مكثفا في تناوله لأهم القضايا الأنثربولوجية، مما يجعل إنجاز قراءة أو مراجعة في صفحات قليلة شبه مستحيلة نظرا لغزارة المادة المعرفية التي يتضمنها الكتاب؛

v   سلط الكاتب الضوء على قضايا معرفية ظلت على هامش البحوث، سواء منها التاريخية أو السوسيولوجية؛

v   ذيل الكاتب حواشي هذا المؤلف بتعاليق وإحالات تتضمن شروحات إضافية تحيل على ضرورة العودة لأهم الكتابات التي لم يتسع البحث للتطرق لها بشكل شامل، واضعا في نهاية الكتاب أهم المراجع باللغة الإسبانية وأخرى باللغة الفرنسية واللغة العربية، وهي مرتبة حسب الحروف الأبجدية، ثم فهرسا شاملا لمختلف محاور الفصول الستة.

على سبيل الختم

عموما يمكن القول، إن كتاب الدكتور محمد المرجان يعد عملا استقصائيا لا غنى عنه للباحثين، سواء في حقل الأنثروبولوجيا أو الحقول المعرفية الأخرى خاصة حقل التاريخ، وعليه فهذا المرجع المهم يسلط الضوء على أهم مراحل المعرفة الأنثربولوجية الإسبانية حول المغرب ومضمونها وطبيعة خطابها كما يسمح هذا الكتاب برصد طبيعة النظرة التي كانت تحكم الاستعراب والاستفراق الإسباني تجاه المغرب والمغاربة والتحولات التي طبعت هذه النظرة حسب طبيعة المراحل التاريخية التي سبقت الاستعمار وصولا إلى مرحلة الاستقلال، وحسب طبيعة الأنظمة التي تعاقبت على الحكم الإسباني.

 

البيبليوغرافيا

  • أحمد المكاوي، الدور الاختراقي والاستعماري للطبابة الأوروبية في المغرب، منشورات الزمن، 2009، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء.
  • بوبكر بوهادي، ملاحظات عامة حول التأليف الكولونيالي الإسباني المتعلق بالمغرب، مجلة كلية الآداب بالجديدة، العدد الأول، 1993
  • بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912 – 1945، مطابع الرباط نت، الطبعة الأولى، 2013
  • جرمان عياش، اتجاه جديد للبحث التاريخي في المغرب، ضمن ندوة: البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات رقم 14، 1989
  • ماركوس بيرغ، وصف الاستعباد في مملكة فاس، مذكرات أسير سويدي على عهد السلطان مولاي عبد الله، ترجمة حزل، منشورات افريقيا الشرق، 2011
  • ماريا روسا دي مادارياغا، مغاربة في خدمة فرانكو، ترجمة: كنزة الغالي، تقديم: محمد العربي المساري، منشورات الزمن، سلسلة ضفاف، الطبعة الأولى، 2006
  • المجلة المغاربية للدراسات التاريخية والاجتماعية، العدد الثاني، يونيو 2010

[1] يتعلق الأمر بقراءة في كتاب: محمد المرجان، مسار الأنثروبولوجيا الاستعمارية بالمغرب، منشورات مقاربات للنشر والصناعات الثقافية – المغرب، الطبعة الأولى، 2021.

[2] بوبكر بوهادي، ملاحظات عامة حول التأليف الكولونيالي الإسباني المتعلق بالمغرب، مجلة كلية الآداب بالجديدة، العدد الأول، 1993، ص 157

[3] شكل غياب الدراسات التاريخية حول الشعوب التي كانت محط أطماع القوى الأوروبية الاستعمارية أحد الأسباب التي جعلت هذه الدول تستعين بخدمات الأنثروبولوجيين لدراسة المستعمرات. انظر في هذا الصدد دراسة لبوحسون العريي "بين التاريخ والأنثروبولوجيا: دراسة في الأنثروبولوجيا الاستعمارية"، المجلة المغاربية للدراسات التاريخية والاجتماعية، العدد الثاني، ص 166

[4] لعب الأطباء ومختلف الأجهزة الصحية دورا فاعلا في التغلغل حتى في المناطق النائية والتجمعات السكنية المغلقة التي عجزت الوحدات العسكرية عن اختراقها حيث لعبت دور الجلب والأخذ بآليات الناس بفعالية أقوى من طلقة البندقية أنظر في هذا السياق ما أورده بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912 – 1945، مطابع الرباط نت، الطبعة الأولى، 2013، ص، 280

[5] ماركوس بيرغ، وصف الاستعباد في مملكة فاس، مذكرات أسير سويدي على عهد السلطان مولاي عبد الله، ترجمة عبد الرحيم حزل، منشورات إفريقيا الشرق، 2011، ص، 51

[6] على الرغم من محاولة فرانكو تلميع صورة المورو والتغني بالأخوة بين المسلمين والإسبان فإن الصورة السلبية للمورو تم توظيفها حتى من طرف اليسار الإسباني الذي تبنى خطاب العنصرية والكراهية والعداء للمغاربة وخاصة الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية 1936 – 1939، التي أقحمهم فيها الجنرال فرانكو عندما أعلن تمرده على الحكم انطلاقا من الأراضي المغربية، التي كانت تحت نفوذ الاستعمار الاسباني. انظر في هذا الإطار كتاب: ماريا روسا دي مادارياغا، مغاربة في خدمة فرانكو، ترجمة: كنزة الغالي، تقديم: محمد العربي المساري، منشورات الزمن، سلسلة ضفاف، الطبعة الأولى، 2006، ص ص 242 – 243

[7] أحمد المكاوي، الدور الاختراقي والاستعماري للطبابة الأوربية في المغرب، منشورات الزمن، 2009، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، ص، 94

[8] جرمان عياش، اتجاه جديد للبحث التاريخي في المغرب، ضمن ندوة: البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات رقم 14، 1989، ص، 31