مفهوم العالم عند أفلاطون


فئة :  مقالات

مفهوم العالم عند أفلاطون

مفهوم العالم عند أفلاطون

مقدمة

عرض أفلاطونPlaton (347-427 ق.م) أفكاره حول العالم في محاورة طيماوس Timée، في حين اهتمت كل من فيدون والجمهورية والقوانين بموضوعي الفيزياء وعلم الفلك، وعليه فموضوع بحثنا حضر بالجوهر في المحاورة الأولى، وبالعرض في باقي المحاورات. ولبسط ما يكتنفه مفهوم العالم الأفلاطوني من تركيب وتواشج ينطلق من الفكر الفيثاغوري بالأساس من خلال علمي الحساب والهندسة كعلوم ضرورية لفهم العالم، على اعتبار أن المدرسة الفيثاغورية تعد بمثابة لغز غامض بالنسبة إلى مختلف الدارسين والمعلقين في الفترة الحديثة. ولحصر الموضوع، سنقاربه وفقا للإشكال التالي: كيف بنى أفلاطون عالمه الرياضي المنظم والمعقول؟

قدم السير طوماس هيث SIR THOMAS L. HEATH في كتابه علم الفلك اليونانيGreek Astronomy المعالم العامة لمفهوم الفلك عند اليونان بشكل عام والعالم على وجه الخصوص، متتبعا في ذلك مجموعة من الأعمال المنسوبة لأفلاطون على غرار طيماوس والقوانين. ويتخذ العالم عند أفلاطون شكلا كرويا تاما ومتكاملا كما أقرت بذلك المدرسة الفيثاغورية.[1] فالإله الصانعthe Creator تدخل لإحلال النظام والتناغم على الكون والخروج به من الكاووس (اللانظام) إلى الكسموس (النظام)، والإله الأفلاطوني خير يصنع وفق الشكل المثالي، لكنه يترك العالم يسير على حاله بعدما ينهي صنعته؛ أي لا يتدخل فيه لتوجيهه وتصويبه.

يقوم العالم الأفلاطوني على مسألتين أساسيتين: تتمثل أولاها في النموذج المعقول (عالم المثل)، حيث الثبات والوحدة والأصل، إنه عالم المعقولات والصور الأصلية التي لا تظهر إلا للعقل وحده، وثانيها متمثلة فيما يعرف بالنسخ أو عالم الصور المتغيرة والزائفة والفاسدة المدركة بالحواس والتابعة دائما إلى العالم الأول – عالم المعقولات - وعمد أفلاطون إلى الزيغ عن عالم المحسوسات نحو عالم المعقولات؛ لأن الأول غير كفيل بتحقق الشروط الموضوعية والمفهومية لقيام علم ميتافيزيقي يحوز كل المقومات العلمية والمنهجية، فالرهان الذي حاول الرجل بلوغه من خلال نظريته في المعرفة متمثل في وجود إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية حول عالم المحسوسات المتغير والفاسد، على اعتبار أن المعرفة الحقة كامنة في عالم المعقولات الذي لا يستطيع إدراكه إلا الناظر المتمعن.

شاع بين فلاسفة اليونان وعلمائها تقليد مهمّ، مفاده "لا يمكن أن يوجد شيء من لا شيء" وعلى هذا المسار تقدم أفلاطون وجعل من عالمه صنعا إلهيا خالصا من مادة أولى كان لها الاستعداد لهذا الصنع على حد تعبير أرسطو، فهاته المادة التي خرج منها العالم كانت غير تامة ومبعثرة، ليضع فيها الصانع "روحا بمقتضاها أمست تامة وواحدة مكتفية بذاتها ولا تحتاج لأي شيء آخر."[2]

للشكل الدائري على وجه العموم والدائرة بشكل خاص مكانة متفردة عند اليونانيين؛ باعتبارها أشد الأشكال كمالا وتعبيرا. وعلى هذا الأساس، ذهب أفلاطون على نفس المنوال وقرر أن يجعل من عالمه شكلا كرويا مصقولا وتاما، [3] بل إن نسقه لم يطرد بعض الأفكار السابقة عليه، إذ نجد أن هذا العالم يتكون من العناصر الأربعة التي سبق وأن تحدث عنها الفلاسفة الأوائل، وهي التراب والماء والهواء والنار التي صارت منظمة بفعل الإله بعدما كانت متفرقة، ولا يمكن لها أن تصنع كونا من تلقاء ذاتها، في هذا الصدد يقول أفلاطون في محاورة طيماوس "لا شيء يكون مرئيا، حيث لا يوجد نار، أو ملموسا إذا كان لا يمتلك صلابة، ولا شيء يكون صلبا بدون أرض. ومن أجل ذلك، فإن الله خلق جسم الكون في بدء الإبداع ليتألف من النار ومن التراب. لكن لا يستطيع وضع شيئين اثنين معا بشكل صحيح دون شيء ثالث. وبما أنا العالم ينغي أن يكون صلبا، وبما أن الأجسام الصلبة تكون متضامة بحدين اثنين على الدوام؛ فإن المهيمن وضع الماء والهواء في الوسط بين النار والتراب، وأنشأها كي تحوز النسبة عينها على قدر الإمكان، وهكذا أوثق ووضع معا سماء مرئية وملموسة. لهذه الأسباب ومن تلك العناصر الأربعة عددا، أبدع جسم العالم وكان جسما منسجما بالتناسب."[4] لم يترك الإله أي شيء خارج العناصر الأربعة؛ لأنه لا يوجد أي شيء خارجها أصلا. وعليه، فأفلاطون لم يكن منعزلا عن الأفكار والخصومات التي كانت قبله على غرار تصورات المدرسة الفيثاغورية حول الأعداد والأشكال الهندسية، وإنما استفاد من ذلك الإرث الذي خلفته الفلسفات السابقة عليه.

يقر أفلاطون على أن الزمن ومعه "الأيام والليالي والشهور والأعوام وجدوا حينما خلقت السماء"[5] وحدثت بعد ذلك سلسلة من الأمور في العالم، والزمن خلق مع السماء كونه مرتبطا بحركات الكواكب أو لنقل إن الزمن ما هو إلا حركات الكواكب، وتتخذ الحركة عند أفلاطون – بشكل عام - سبع أنواع، تأتي الحركة الدائرية في المقام الأول، وهي حركة العالم ككل وحركة الأجرام السماوية، حيث ينقلب فيها الجسم على نفسه، بعد ذلك الحركات الست وهي الحركة المستقيمة وتشمل الحركة من الأعلى إلى الأسفل، الحركة من الأمام إلى الخلف، ثم الحركة من اليمين إلى اليسار. وبغض النظر عن الحركات الست الأخيرة، أعطى الإله لعالمه الحركة الدائرية لكونها تناسب شكله الكروي.

يضع أفلاطون بين الإله الصانع وعملية تشكل الكون مادة غير متكونة وغير فاسدة تسمى ب khora، وهي المكان أو الموضع الذي تتحقق فيه الأشياء وأيضا الأصل الذي خرجت منه الموجودات المحسوسة، فدورها شبيه بدور الإله هرمس Hermes الذي يعمل كمبعوث للآلهة ورسولها المسؤول عن نقل وتبسيط الأشياء من قالبها الإلهي الغامض إلى فضاء التداولات البشرية العادية، وبمعنى آخر "إن عمل هرمس مناط بترجمة وتبسيط أقوال الآلهة الصعبة إلى لغة مفهومة للجميع."[6] غير أنها -khora- تظل مجرد وعاء للتغير والتبدل الخاص بعالم المحسوسات.

يقدم أفلاطون وصية مفادها أن النجاح في استكشاف عالم السماء وسبر أغواره رهين "بالصبر والمثابرة والتعلم المتواصل للرياضيات."[7]

خاتمة

إن الغلة التربوية التي يمكن أن نجنيها من نموذج أفلاطون الإنسان هي الصبر والعمل. أما على المستوى العلمي والفلسفي، فإن الرجل يظهر لك بالملموس أن طبيعة الأشياء وحقائقها تعرف بالنظر فيها وتأملها على نحو صارم، فأصالة أفلاطون وتفرده تكمن في خلقه لعالم رياضي عقلي تام ومتكامل لا يمكن اختراقه وفهمه إلا بالعقل والرياضيات، وهي محاولة فلسفية جريئة ومفهومية صاغها عقل بشري إبان البدايات الأولى لتاريخ العلم والفلسفة الذي لا زال إلى يومنا هذا يشعرنا بالدهشة والانبهار من كم الإبداع والرصانة اللتين ميزتا أفلاطون.

 

لائحة المراجع والمصادر:

أفلاطون، محاورة طيماوس (ضمن المحاورات الكاملة)، نقلها إلى العربية شوقي داوود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع 1994

سارتون جورج، تاريخ العلم العلم القديم في العصر الذهبي اليوناني، ترجمة محمد خلف الله وآخرون، المركز القومي للترجمة، الجزء الأول 2010

Sir Thomas L. Heath, Greek Astronomy, dover publication 193.

Pierre Duhem, le système du monde, histoire des doctrines cosmologique de Platon a Copernic, librairie scientifique A. Hermann et fils (tome premier) 1913

Hans-Georg Gadamer, la philosophie herméneutique, traduction et notes par Jean Grondin, presses universitaires de France.

[1] من الراجح أن الفكرة القائلة إن الأرض كرة تعود إلى فيثاغورس، أما كيف اهتدى فيثاغورس إلى مثل هذه النتيجة الجريئة فهذا موضع العجب. لعله لاحظ أن سطح البحر ليس مسطحا بل منحنيا، لأن السفينة كلما اقتربت من الشاطئ يرى الرائي أولا قمة السارية والشراع، ثم يرى بقيتها تدريجيا. ويمكن أن يوحى الظل المستدير الملقى في خسوف القمر شكل الأرض الكروي. انظر:

جورج سارتون، تاريخ العلم العلم القديم في العصر الذهبي اليوناني، ترجمة محمد خلف الله وآخرون، المركز القومي للترجمة، الجزء الأول 2010، ص. 433

[2] Sir Thomas L. Heath, Greek Astronomy, dover publication 1932, P. 79

[3] Pierre Duhem, le système du monde, histoire des doctrines cosmologique de Platon a Copernic, librairie scientifique A. Hermann et fils (tome premier) 1913, P. 54

[4] أفلاطون، محاورة طيماوس (ضمن المحاورات الكاملة)، نقلها إلى العربية شوقي داوود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع 1994، ص. 483

[5] Sir Thomas L. Heath, Greek Astronomy, P. 80

[6] Hans-Georg Gadamer, la philosophie herméneutique, traduction et notes par Jean Grondin, presses universitaires de France, P. 85

[7] Sir Thomas L. Heath, Greek Astronomy, P. 88